كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
الفصل الثامن والعشرون
المدخل
بقلم Najat mahmoud
لجميع أبطال الرواية من الحالك
اتسألني كيف حال قلبي مع من عشق و هوى
و حال كل القلوب من بلاد الحالكِ حالكٌ
اتسألني! و انت ادرى بذاك الوادي و ما حوى
فسبيلنا للقاء الاحبة طويل و موجع و شائك
أتواسي منا الايتام و إنَّ اهون ما عاشوه اليتما
ففي كل ركن منفي او سجين او من هو للدنيا تارك
تلمَّس التراب في ازقتنا يعطِّرك مسكا و دما
و لاتغرنك البسمة ففي كل جوف قلب متهالكٌ
سرب أحلامنا مر في العلا و اكتفى بوداعنا من السما
و شغلنا عن وداعها حمل السلاح وقهرٌ ومعاركٌ
*********
****
لا توجد عبارة يمكنها وصف ما شعرت به حينها وهي ترى
مسدسه موجهاً نحوها ونظراته التي كانت لا تفهمها قبل
لحظات أصبحت ذاتها التي رأتها في عينيه حين طردها من
شقته فالأمر تعدى تهديد الواقفين في الأسفل كما يبدو !
بل ولا تهديدها هي بهم لتغادر معه فهو بهذا لا يهددهم
بقتلها بالتأكد .
تركت أصابعها سياج الشرفة ودخلت الغرفة بل وغادرتها
بخطوات شبه راكضة ونزلت السلالم ووجهتها باب المنزل
الذي اجتازته دون أن تسمح لعقلها ولا قلبها بالتردد
والتراجع ، بل ولم تهتم لكلمات فاليريو الذي كان يحاول
منعها حتى توقفت بسبب أصابعه التي التفت حول رسغها
موقفاً إياها وقال ما أن نظرت لعينيه
" ماري توقفي لا... "
لكن كلماته توقفت مع تحرر يدها منه ما أن شدتها بقوة
وقالت وهي تدير ظهرها له متابعة سيرها وبكلمات جادة
منخفضة
" الأمر بيني وبينه لا تتدخلوا رجاءً "
ونزلت عتبات الباب تحاول النظر فقط لعينيه دون تهرب ولا
خوف بالرغم من أنها وقفت أمامه وقلبها يرتجف كورقة
صفراء تدلت مفارقة شجرتها فمواجهة شخص تحبه
وادعاء القوة أمامه أشد صعوبة من فعلها حين يكون
الشخص الواقف أمامك عدواً لك ، لكنه ولحسن حظها لم
يكن يرى ذلك فيهما بل نظراته الغامقة الغاضبة كانت
موجهة نحو شيء آخر ظهر جلياً له حينها وهو الصليب
المتدلي من أذنها لتظهر أمامه الآن وكأنها تقتنيه متعمدة ،
ورغم كل ذلك شجعت نفسها وهي تحاول تنظيم أنفاسها
اللاهثة المضطربة وقالت بكل ما استطاعت لتكون نبرتها
جامدة قوية
" ها أنا أمامك ويمكنك قتلي دون أن تجلب
المشكلات لنفسك ولغيرك "
قالت آخر كلمة تشد على كل حرف فيها لعله يفكر في
الكثيرين الذين سيتسبب بالضرر لهم بسبب تصرفاته
المجنونة هذه بينما هي عدوه الوحيد حالياً ومهما كانت
الأسباب والمتسببين في كل هذا ، كي لا تذهب هي
وتضحيتها أدراج الرياح .
" ماري دفسينت "
لم تستطع تمالك ارتجاف يديدها التي كانت تشد أصابعها
بجانب جسدها بقوة حين همست شفتاه بتلك الكلمة
وابتسامة ساخرة تزين شفتيه ونظراته التي تبدلت للسخرية
أيضاً لم تفارق ذاك القرط وكأنه يوجه كلماته له بينما نزلت
يده والقاذف الذي يحمله فيها وكان يسنده على كتفه
ليصبحا بجانب جسده وكأنه لم يسمع او يهتم لأي كلمة
ممّا قالت !
وكاد ارتجافها أن يتغلب على أطرافها فهي أضعف من
مواجهة أمور كثيرة لا تخصه فكيف إن كانت تقف أمامه
هكذا المذنب والجاني والمعترف بخطيئته وبكل جرأة ؟
لكنهم من اختار لها هذا ولا خيار أمامها غير المضي فيه
لذلك رفعت رأسها بحركة خفيفة وكأنها تبعد خصلات
شعرها المتطايرة أمام وجهها بينما كل ما فعلته حينها هو
الهرب من ضعفها وهو ينقل نظره لعينيها ترتدي قناعاً لم
تعرفه سابقاً مدعية الصمود الهش مجدداً أمام رجل يسري
حبه كالدماء في عروقها وقالت بكلمات خرجت من عمق
مأساتها بالفعل وهي ترسم ابتسامة ساخرة أيضاً وإن كانت
لا تعبر سوى عن انكسارها ووقوفها في مواجهة حاضرها
القاسي وحيدة
" بل ماري مديتشي ، أليس هذا ما تم اختياره لي ؟ بل وما وجدته مارية هارون نهاية الأمر "
تبدلت نظراته للسواد الغائم مجدداً وكانت تعلم بأنه يفهم ما
تقول بشكل مغاير لما تقصده لكنها لا تهتم فهي تتحدث مع
أحدهم بصفتها مارية على الأقل فاليومين الماضيين استنزفا
مشاعرها حد الجنون .
كانت أنفاسها تختفي تدريجياً وهي تنتظر شفتاه التي
رحمتها في وقت أطول مما توقعت وقالها بدون سخرية ولا
استنقاص حينها ونظراته المخيفة لم تترك عينيها
" بل يبدو أنك من أراد هذا ومنذ البداية "
شعرت بكلماته ذبحت روحها قبل قلبها حتى لم تعد تستطيع
مواجهتها بالقوة الهزيلة التي كانت تدعيها وهو يتهمها بأن
الوصول إلى هنا هو ما أرادته من قبل مجيئها!
لم تكن لتتقبل إهانته تلك كمذنبة تستحق ما يحدث معها وكل
كلمة يقولها لها فهي تبقى امرأة ضعيفة ومعرضة لذاك
الموقف في أي وقت ورغماً عنها فهل سيقتلها ويدفنها
حينها ؟ ارتفع رأسها مجدداً عند تلك الفكرة وهمست
بكلمات ساخرة متأنية
" وها قد وصلتْ له "
رمشت عيناها بقوة مع إجفال جسدها وإن لم تتحرك من
مكانها حين امتدت يده لأذنها وبسرعة لم تتداركها إلاّ وهي
تشعر بالألم فيها حين أمسك بذاك الصليب وشده نحوه دون
اهتمام للألم الذي شعرت به حينها .. وهل سيهتم ؟
لا بالتأكيد ولا هي أيضاً فلم تكن تشعر بالألم في أذنها بل
في قلبها كما يفعل بها ويحدث معها في كل مرة آذاها فيها
أو تأذت بسببه ، لكن النظرة التي رأتها في عينيه كانت أشد
قسوة من مشاعرها كافة وهو ما جعلها تقول بما تبقى لها
من قوة وبكلمات جاهدت أن تكون باردة صلبة
" لا يمكنك فعلها فهو يمثلك أيضاً تيموثي لا تنسى هذا "
لم تستغرب قَط تبدل نظراته تلك اللحظة بسبب ماقالته لأننا
نحن البشر نكره فطرياً مهاجمتنا بالعيوب التي نمتلكها
والأخطاء التي نقترفها ونهاجم من يمتلكها متناسين ذلك
وهو ما جعلها تتابع سريعاً ولم تفارق نظراتها عينيه
الغارقة في ظلام موحش وبحركة قوية غاضبة من رأسها
بالرغم من الألم الذي تسببت به لنفسها بها تهمس بانفعال
غاضب كي لا يسمعها الواقفون خلفها بعيداً
" تيموثي الذي أباح له واجبه نحو وطنه فعل كل شيء
لأنه مجبر على هذا لكن مارية الفتاة المسكينة التي تركها
وحيدة في تلك البلاد لا توجد ظروف تجبرها على ما أُكرهت
عليه ؟ "
لا تفهم لما أرادت أن تبرر له بأن تلك العلاقة المزعومة
مع براء كانت رغماً عنها وكأن قلبها يبحث فقط عن سبل
تبرئتها في عينيه ومهما كانت الطريقة وهو ما كرهته في
تلك اللحظة وما جعلها تتابع وهي ترغم كل كلمة على
الخروج
" ولأنها عبء وعلى الجميع عليها فقط أن تموت إن بمسدسك أو بماري دفسنت والخيار لك "
لو أنه يجيد قراءة لغة العيون لفهم حينها أن كل ما تقوله
غير حقيقي وبأن قلبها ليس مصدره لكنه لا يجيد هذا
بالرغم من أنه كان ينظر لهما تحديداً ، للأحداق الذهبية
الغارقة في الدموع تقول ما عجزت عنه كلماتها وتودعه
الوداع الأخير لأنها كانت تنتظر فقط قراره فإما أن يقتلها
بالفعل أو أن يعترف بها كماري الفتاة الإيطالية ويتركها
وللأبد ، خياران كل واحد منهما أقسى من الآخر على قلبها
لكنها نهايتها المحتمة وعليها فقط تحملها وتقبلها من أجله
ومن أجل الجميع .
أغمضت عينيها بقوة تمنع صرختها المتألمة من الخروج
وإن كانت خرجت بصوت مكتوم داخل حنجرتها حين شدَّ
الصليب الألماسي من أذنها بحركة قوية جعلته يخترق
لحمها ليصبح في يده وأخفضت حينها رأسها ولازالت تقاوم
الألم بعينين مغمضتين بقوة كحال ملامحها المتألمة
وأنفاسها القوية تشعر بالدماء الدافئة تسيل على عنقها
ببطء بينما اشتدت أصابعه عليه بقوة قبل أن يرميه تحت
قدميها هامساً من بين أسنانه
" لك هذا إذاً ماري لأنه بالفعل ما يليق بك "
فتحت عينيها حينها تنظر له أمام قدميها تمسك نفسها عن
الانفجار باكية وكل الألم الذي كانت تشعر به في أذنها
أصبح في قلبها الآن ورفعت رأسها ببطء تكابد بقوة
دموعها من النزول وصراخها الباكي من الخروج وهي
تنظر له من بين الدموع السابحة فيهما وهو يبتعد عنها
يعيد تثبيت ذاك السلاح على كتفه كمحارب غادر أرض
المعركة منسحباً لأنه لا يؤمن بقوانينها ، بل كان ينتزع
قلبها من بين أضلعها ويأخذه معه .. مع تيم الطفل الذي
سكن قلبها وأحلامها لأعوام طويلة ، مع بلدة حجور
بشوارعها وطرقاتها .. والدته وصوتها الحنون والذكرى
التي جمعتهما بها ، بل وحتى مارية الطفلة وضحكاتها
أخذها معه ورحل ينتزعها من روحها انتزاعا ولا خيار
آخر أمامها .
ارتفعت يدها لوجهها ولامست بظهر كفها شفتيها الباكية في
صمت وهي تراه من بين دموعها وقد توقفت خطواته فجأة
وإن كان قد وقف مكانه ولم يلتفت نحوها أو يستدير بجسده
ولا تفهم لما شعرت حينها وكأنه يمنحها فرصتها الأخيرة !
وكأن أحلامها تمد يديها نحوها وتبني جسراً بينهما يأخذها
مجدداً إليه لتخبره بأنه ملاذها الوحيد .. مارية تعالي أنا
وطنك عائلتك ماضيك وحاضرك ومستقبلك لا تقتلي الحلم
مدعية إحيائه لأنه إن مات فلن يولد من جديد .
كانت روحها تتمزق مع كل عبرة تغادر أضلعها وهي تراه
واقفاً مكانه قد جمع كل أحلامها وأمنيتها في رجل عشقته
وبكامل تفاصيله عاش في قلبها طفلة وامرأة وحتى حين
كان بعيداً عنها ، وعليها الآن أن تتخذ قراراً قد تندم عليه
ما عاشت ، وكل ما تمنته لحظتها أن ركضت نحوه بالفعل
وحضنته وأخبرته بأنها لم ولن تحب رجلاً غيره ولم تخنه
يوماً لا بقلبها ولا مشاعرها ولا جسدها لكنها عاجزة ..
عاجزة عن فعلها ولا يمكنها أن تكون مثله حين اختار
لحظاتهما معاً بالرغم من كل الخطر المحدق بهما لأنها لا
تريده في حاضرها فقط بل وللمستقبل أيضاً وفي كل يوم لها
في هذه الحياة فهما لم يختارا هذا الواقع التعيس لكنه
اختارهما للأسف .
ولأجل كل ذلك لم تستطع فعلها ولم تمتلك الشجاعة لأن
ترمي بكليهما للمجهول فقط لتكون بجانبه ، واكتفت بأن
ودعته دموعها وهو يبتعد مجدداً ويختفي عنها قبل أن
تنهار جالسة على الأرض يداها تشتدان في قبضتين على
فخذها تنحني نحو الأرض تحتها تسقيها بدموعها والدماء
التي كانت تغادر أذنها نحو طرف وجنتها متجهة نحو
تربتها الرطبة .
*
*
*
طرق على الباب مجدداً ونادى بصوت أعلى من سابقاته
" تيما تحدثي على الأقل لنعلم بأنك بخير "
قال صقر الواقف خلفه وبنفاذ صبر
" توقف يا قاسم ... بما أنّها اختارت هذا فهي تريد أن تكون وحيدة "
استدار ناحيته وحرك يده قائلاً بانفعال
" وفيما سينفعها هذا ؟ أنا أخشى أن لا تكون بخير "
تنهد بضيق بسبب صوته المرتفع وأمسكه من ذراعه وابتعد
به من هناك وإن مكرهاً وقال
" هي بخير تعالى إلى هنا وارحم نفسك أيضاً "
وكانت النتيجة كما توقعها أن نفض ذراعه محرراً إياها منه
وقال بحدة
" أي رحمة هذه ؟ "
وتابع من فوره ويده تشير نحو المكان الذي كانا فيه
" وما سيجدي سجنها لنفسها سوى أن تتعذب وحيدة
وفي صمت "
حرك صقر رأسه متنهداً بعجز فهو لم يجني شيئاً سوى
إبعاده عن ذاك الممر ، وبالرغم من تفهمه لموقفه قال
بضيق وهو يشير نحو المكان ذاته
" وما النفع من خروجها فهو لن يغير فيما حدث شيئاً ،
أتركها تُقنع نفسها بالطريقة التي تريد "
وكان رد فعل المقابل له أن انتفض بغضب وصرخ ضارباً
بأصابع كلتا يديه على صدغيه
" لا إقناع ولا إقتناع في الأمر إنه ضرب من الجنون "
ولم يترك له مجالاً لقول أي شيء وهو يتابع من فوره
وبكلمات حازمة وسبابته تشير أمامه نحو ألا شيء
" أنا من سآخذ زوجتي من هنا ووالدتها معها أيضاً
وليحاسبني القانون حين يجدني فأنا لم أخالفه "
كان دور صقر حينها ليصرخ بغضب مصدوم
" أي جنون هذا يا قاسم !! "
صرخ من فوره وسبابته تشير نحو البعيد هذه المرة
" الجنون هو فعل ما يقوله أولئك الحمقى "
وتابع مباشرة ودون أن يترك له مجالاً لقول أي شيء
" أكنت ستمانع إن كان مطر من قرر هذا وليس أنا ؟
الجميع كان سيرضى دون أي اعتراض "
اتسعت عينا صقر لما سمعه منه وقال من فوره مدافعاً عن
رأيه ووجهة نظره
" لأنها ابنته والأخرى زوجته وابنة عمه "
وكالمتوقع تماماً فقد أشعلته تلك الكلمات وقال بحدة
يشير لنفسه
" وأنا إحداهما زوجتي والأخرى والدتها وابنة خالي "
واجهه صقر بالحدة ذاتها قائلاً
" هل سألت نفسك إن كانت ستوافق هي أو والدتها على
هذا ؟ أم ستجبرهما وتتشتت العائلة مجدداً "
نظر لعينيه بصمت للحظات وهو يتذكر كلماتها في الخارج
ورغم ذلك قال بضيق ينظر لعينيه
" وهل ستجتمع بهذا ؟ أتراهن على أن مطر سيسلمهم عمه
ليبقي العائلة مجتمعة ؟ لا تحلم بذلك خالي أبداً "
كان رد فعل صقر الصمت التام ينظر لعينيه لأنه لا يمكنه
نكران ذلك بالتأكيد ولا تكذيبه بينما لم ينتظر هو منه هذا
وقد تابع من فوره وبحدة
" لن يسلم خالي دجى للموت أنا أعرفه جيداً وسيختار
أبسط الحلول وهو موافقة شرطهم ذاك وتعلم جيداً ما
سيكون الناتج عنه "
كان رد فعل صقر الصمت مجدداً أمام الحقيقة التي لا مناص
منها وشد على أسنانه وكأنه يفرغ كل ما يشعر به بهم بينما
لم تترك نظراته عينا قاسم التي دمجت الغضب والأسى معاً
في مزيج لا يحكي سوى عن قسوة عجز الرجال ومرارتها
ويفهم جيداً ما يشعر به وما يعنيه وهو الوصول للنتيجة
ذاتها وهي تشتتهم أيضاً وبطريقة أبشع وأشد قسوة من
وجود كل واحد منهم في بلاد ومكان .
تنهد نفساً عميقاً قبل أن يقول وبكل ما استطاع من هدوء
وإن بدا الحزن جلياً في كلماته
" لن يكون أمامنا سوى الرضى والتسليم لأنه من اختار هذا
وهو أهون من فقدان دجى وللأبد "
لكن لا هدوءه ذاك ولا كلماته جعلت العدوى تنتقل للواقف
أمامه والذي كان يحمل قلب عاشق التفكير بغيره أمر لا
وجود له لديه لذلك قال سريعاً وبانفعال واضح
" لكنهما سيتطلقان وللأبد أيضاً وستنتقل حضانة الأبناء
له ... "
أبعد صقر نظره عنه متنهداً بأسى بينما تابع هو ملوحاً بيده
وكأنه يشير بها لمن يتحدث عنهما
" وإن رضي هو بهذا ووافقته غسق تحت مسمى الكبرياء
وأيًّا ما يكون ذاك فماذا عن هذه ... ؟ "
وقال أخر كلمة وهو يشير بيده هذه المرة ناحية الممر
المجاور لهما وحيث باب الغرفة الذي تركاه قبل قليل وتابع
بأسى وحرقة دمجت الرفض أيضاً في نبرة صوته
" ماذا عنها وهي لا تفكر في شيء في الوجود كالتفكير
فيهما وفي أن يكونا معاً وأن ترى وتشعر بالعائلة التي لم
تعرفها يوماً ؟ "
كان يقول حقيقة لا جدال فيها لكن ذلك لم يؤثر أيضاً في
هدوء صقر المزعوم فقط لتهدئته عن التهور وقال
" لنترك مطر يقرر أولاً يا قاسم ونرى قراره وما سيفعل
لا نريد أن ... "
وتوقفت كلماته مجبراً لأنه قاطعه قائلاً بضيق هذه المرة
" ولما دائماً على مطر أن يتحمل عبء كل شيء ؟ يقرر
ويجد الحلول وماذا كانت النتيجة ؟ هو الخاسر الأكبر
والملام الوحيد دائماً "
وكانت حينها لحظة انفجار صقر مرة أخرى وقد صاح
ملوحاً بيده
" وما الذي تريد فعله أنت ؟ تقرر وتنفذ دون علمه ولا
موافقته وماذا ستكون النتيجة برأيك ؟ "
شد قاسم على فكيه بقوة وغضب وما أن قال
" أنا ... "
وتوقف عند تلك الكلمة بسبب هاتفه الذي رن فجأة ولأن
الوقت متأخر لم يستطع تجاهله ولا إتمام حديثه ونظره يتبع
يده التي دسها في جيب سترته بحركة سريعة وأخرجه
ونظر للاسم على شاشته قبل أن يجيب قائلاً
" مرحباً يا بِشر "
وابتعدت خطواته عن صقر الذي كان ينظر له بفضول تبدل
للتوجس ما أن قال مصدوماً
" ماذا ....!! "
وكان ذاك ما جعله يتحرك نحوه وقد نظر لعينيه ما أن وقف
أمامه وقال
" متى حدث ذلك وما هو وضعه ؟ "
أنهى الاتصال بعدها قائلاً باختصار
" حسنا أنا قادم "
وما أن كان سيجتازه أوقفته يده الممسكة لذراعه وقال
" ما بكم !! ماذا حدث ؟ "
نظر لعينيه وقال بنظرات مشوشة ضائعة
" عمير تعرض لحادث بسيارته "
اتسعت عينا صقر وهمس دون شعور
" وما هو وضعه ؟ "
حرك قاسم رأسه في حيرة وقال سريعاً
" لا أعلم ، قال بأنهم ابلغوه للتو وبأنه يتصل بمطر ولا
يجيب ، عليّا الذهاب واللحاق بهم للمستشفى "
اشتدت أصابع صقر على ذراعه يمنعه من التحرك من
مكانه وقال
" ألن تخبر مطر ؟ "
قال وهو يجتازه متحرراً منه
" لا .. سأرى وضعه وحالته أولاً وسنتركه يرتاح بما أنه
لم يعلم ولا يريد الرد على هاتفه "
وغادر ناحية الباب بخطوات سريعة فتبعه من فوره قائلاً
" انتظر إذاً سنغادر معاً "
وما أن عمّ المكان الصمت التام بعد خروجهما تخلله صوت
صرير باب من بعيد انفتح ببطء كاشفاً عن صاحبة العينان
الدامعة المجهدة والملامح الحزينة التعسة وقد غادرته
بخطوات بطيئة كسيرة وخافتة بسبب قدماها الحافيتان
تخترق الصمت الأشد منها سكوناً والظلام الأكثر وحشة
وعتمة في عينيها وتوجهت من فورها ناحية السلالم وحيث
كانت نظراتها الحزينة موجهة نحوه تحديداً وصعدت عتباته
بخطوات بطيئة وكأنها تجتاز سنوات حياتها الواحدة بعد
الأخرى والأمنية تلو الأمنية والحلم تلو الحلم تودعهم في
حزن حتى كانت أمام الواقع المرير وهو باب غرفته ووقفت
تشد بيديها أكمام قميصها القطني الناعم ونظراتها التعسة
عليهما حتى تغلبت على ترددها أخيراً ومدت أصابع يمناها
ناحية مقبضه ببطء وشجعت نفسها وهي تديره كي لا
تتراجع وينتصر ترددها عليها .
وكما توقعت فما أن ابتعد الباب من أمام نظراتها قليلاً وهي
تسحبه نحو الداخل ببطء حتى ظهر لها صاحب الجسد
الطويل الجالس على الطرف الآخر للسرير يولي الباب
ظهره وقد انحنى جسده قليلاً لإتكائه بمرفقيه على ركبتيه
بينما كان رأسه مرتفع وموجه نحو الأمام وكأنه ينظر
للفراغ المظلم أمامه دون اهتمام لما يكون فازداد لمعان
عينيها بسبب تكدس الدموع فيها واشتدت أناملها البيضاء
الرقيقة على مقبض الباب الذي لم تتركه بعد وشعرت بقلبها
ينفطر ويئن في داخلها دون توقف .
كانت تعلم بأنه لن ينام وسيختار أن يكون وحيداً لأنه هكذا
دائماً يفكر في الجميع قبل نفسه ويفعل كل شيء ويضحي
ويدفع أثماناً باهضه لتجتمع عائلته بينما يكون هو وحيد
ولا يطلب مثقال ذرة مقابلاً لما يقدمه أو مماثلاً له .
تركت يدها مقبض الباب وتوجهت نحو الداخل بخطوات
بطيئة وقد شجعت نفسها أكثر من السابق لأنه يعلم بوجدها
بالتأكيد ولم يأمرها بالمغادرة وهي لن تفعلها وإن طلب هذا
منها ولن تتركه لوحدته بعد أن أصبح بين أربعة جدران
فيومه بأكمله كان ممتلئاً بالمصاعب والكوارث ، بل ومنذ
ولد في هذه الحياة وعاش فيها ومؤكد كان هذا اليوم من
أصعبها وأشدها عليه ، لكن وجوده هنا بمفرده لن يشبه أي
ثانية أخرى في الساعات الماضية .
حملتها خطواتها حول السرير وما أن أصبحت تقف بقربه
وهو على حالته ذاتها شعرت بالعبرة تخنقها لكنها تمسكت
بصمودها فهي لا تريد أن توصل له رسالة مفادها بأنها
تشعر بالخوف من المستقبل وبالضياع والوحدة في
مواجهته ببكائها وضعفها وإن كانت لا تقصد إيصال ذلك
له لكنه لن يفهمه بغير تلك الطريقة بل تريد بالفعل أن
تكون قوية ليشعر من خلال ذلك بأنها تستمدها منه ومن ثقتها به .
أخلت أسر أصابعها التي كانت تكاد تتمزق من شدة شدها
لها وامتدت يدها اليمنى ناحية كتفه ببطء حتى لامست
قماش قميصه وشعرت بدفء بشرته من تحتها بينما لم
تفارق نظراتها الحزينة المغرورقه بالدموع المتحجرة فيها
جانب وجهه وظلال النور الخفيف المرتسمة عليه ،
وارتسمت ابتسامة دافئة على شفتيها تخللت حزنها وتعاسة
ملامحها حين استوى في جلوسه وإن لم ينظر ناحيتها
أو يتحدث بكلمة واحدة وقد فرد ذراعه لها فجلست ملتصقة
به سريعاً ونامت في حضنه وأغمضت عينيها بقوة لتتدلى
الدمعة اليتيمة من بين رموشها ما أن طوقتها ذراعه
فارتفعت أصبع يدها لقميصه وشدتها عليه بقوة ناحية
صدره ودفنت وجهها فيه لازالت تكابد وبكل ما لديها من
قوة كي لا تنهار باكية تتنعم فقط برائحة حضنه ودفئه ،
الحضن الذي تجد فيه رائحة تراب وطنها وشوارعه وأبنيته
وأزقته ، وأنفاسه عبارة عن ضحكات شعبه الآمن المستقر
بعد أن عانا ويلات الحروب لأعوام طويلة ، أجل هنا يوجد
كل هذا وفخورة بأنه يمكنها التنعم بالمعنى الحقيقي له .
انسابت دمعة أخرى من عينيها حين شعرت بملمس يده
الأخرى على شعرها وقبّلت شفتاه رأسها وحينها فقط لم تعد
تستطيع التحكم في كلماتها وهي من قررت الصمت التام ،
وخرجت الأحرف من حنجرتها الحزينة تخترق بحة البكاء
الذي لم ولن تخرجه
" أحبك أبي كما لم تحب فتاة والدها في الوجود ، وإن كنت
ابنة لرجل آخر لنظرت لابنتك بعين الحسرة والحسد "
كان ذاك فقط ما استطاعت قوله وعبّرت فيه عن كل ما
يمكنها لوصف ما تشعر به فعلاً ، وتقاطعت أنفاسها ما أن
شدها لحضنه أكثر ودون أن يتحدث فالتفت ذراعها حول
جسده تحضنه بقوة ولم تنتظر منه ذلك ولا تريده أن يتحدث
ولا أن يقول شيئاً ، تريد فقط أن تنام هكذا في حضنه وأن
تكون بجانبه ليعلم بأنه ليس وحيداً وإن كانت لا تفيده أكثر
مما تسببه له من مشكلات بكونها ابنة له .
*
*
*
انتابه الشك بأنه قد فقد أنفاسه وهو يستمع لرسالتها مجدداً
وكأنه يريد التأكد من أن ما سمعه حقيقي ولم يكن يتوهم !
وحين تبين له حقيقة ذلك لم يشعر بنفسه إلا وهو يتصل بها
وكرر اتصاله لثلاث مرات متتابعة وتأفف وهو يعيد للمرة
الرابعة هامساً من بين أسنانه
" تباً لك يا جمانة أتتعمدين هذا ؟ "
وضعه على أذنه ما أن فتحت الخط أخيراً ووصله صوتها
الساخر مباشرة
" لازال رقم هاتفي موجوداً لديك إذاً ؟ "
رفع حدقتيه عالياً مهدئا نفسه بضيق بينما تابعت هي حين
لم يبدر منه أي تعليق وبنبرة متأسية هذه المرة وكأنه الدور
الوحيد الذي تجيده لتعود له في كل مرة
" وتتصل لأجلها فقط وكأني لست زوجتك "
مرر أصابع يده الحرة في شعره متأففا وقال بضيق ما بات
يكره قوله وتكراره
" سبق ووضعت الإختيار في يدك وأنتِ من اختار يا جمانة وخيارك لم يكن أنا "
قالت ونبرتها تتحول للبكاء
" أنت ... "
لكنه قاطعها من قبل أن تبدأ السيمفونية التي بات يحفظها
عن ظهر قلب وسمعها لثلاثة أعوام متتالية وقال بضيق أشد
من سابقته
" جمانة هل لديك شيء حقيقي تتحدثين عنه أم هو مخطط
فقط لأجيب ؟ "
قالت مباشرة ونبرة البكاء لم تغادر صوتها وإن كانت
كلماتها قوية مندفعة
" بلى موجود وحقيقي أيضاً "
قال بجمود وإن ملأ التوجس نظراته المحدقة في الفراغ
" من هو ؟ "
وصله صوتها سريعاً
" لا يمكن التحدث عن الأمر في الهاتف علينا أن نتقابل "
قال مباشرة
" أنا من سيحدد المكان إذاً "
كان صوتها ساخراً حين قالت
" لا تقلق لن يؤذي أحد تلك الأميرة غيرك "
تغضن جبينه باستغراب وقال
" ماذا تقصدين بهذا ؟ "
قالت متجاهلة سؤاله
" أين تريد أن نتقابل ؟ "
تنهد بضيق وقال يدس يده في جيب بنطاله
" سيحتاج الأمر لبعض الوقت لتصلي للندن ونتفق حينها "
قالت مباشرة
" أنا موجودة فيها الآن "
ارتفع حاجباه وتمتم ساخراً
" غريب ..! ما الذي تفعليه هنا !! "
قالت مباشرة وبضيق
" أمور كثيرة بدأت تتغير لكنك لا تهتم "
عاد لتأفف وقال بضيق مماثل
" جمانة أنا أعرفك جيداً فما الذي تخططين له ؟ "
اندفع صوتها بقوة يضرب طبلة أذنه ما أن صاحت
" أنا لا أخطط لشيء غير إظهار الحقيقة المخفية عنك
يا وقاص "
وهو ما جعله يبعد الهاتف قليلاً بملامح متجعدة قبل أن
يعيده وقال بجدية وحزم
" كل ما يعنيني الآن هو معرفة الفاعل الحقيقي فقط "
وصله صوتها الساخر سريعاً
" ولأجل من فيهما ؟ شقيقك أم تلك المرأة "
تمتم بجمود
" كلاهما "
قالت مباشرة وبحزن
" لو أجد لديك فقط نصف ما تقدمه لها "
أدار مقلتيه جانباً وتنهد بضيق نفساً طويلاً ولم يعلق على
ما بات يكره تكراره وتبريره إياه وهو ما جعلها تتابع
وبنبرة واثقة
" أمور كثيرة ستتغير بعد اليوم يا وقاص ، صدق هذا "
شرد نظره باستغراب وهمس
" ما الذي تلمحين له ! "
قالت مباشرة
" نلتقي وتفهم كل شيء "
تنهد بنفاذ صبر وقال
" حسناً نتقابل في ﺑﻴﺮﻓﻮﺭﻙ "
أنهى الاتصال معها بعدها ودون أن يسمع منها كلمة أخرى
وتوجه ناحية باب الغرفة يلبس سترته وتفكيره بأكمله مع
ما قالت وسمع منها فهي تبدو واثقة تماماً وهذا ما جعله
يرتاب ويوافق على مقابلتها .
ما أن غادر الغرفة تباطأت خطواته وهو ينظر للباب
المجاور لها والمغلق تماماً يلفه الصمت التام لا يعلم بسبب
نومها حتى الآن أم كالعادة لا تصدر أصواتاً حتى وهي
مستيقظة ؟ توقف أمامه ونظر له متردداً وكان سيتابع
طريقه لولا تذكر كلماتها البارحة وسؤالها عن بقائه
هنا اليوم .
تنهد بعمق ورفع يده وطرق عليه بهدوء فعليه إخبارها
وهو لن يتأخر ولن يبتعد أيضاً ، عاود الطرق مجدداً وبلا
فائدة ولا يمكنه الدخول دون استئذان فقد تكون نائمة خاصة
إن كانت ما تزال تتناول الأدوية التي تساعدها على النوم
دون كوابيس فقد لا تشعر بطرقاته ومهما ارتفعت ، تنهد
باستسلام وقلة حيلة وغادر من هناك ولا حل أمامه فهو لن
يتأخر كثيراً على أية حال وبطاقات الباب موجودة لديه ولن
يستطيع أحد الدخول في غيابه .
ما أن أصبح في الأسفل توجه ناحية طاولة الاستعلامات
ووقف أمام الفتاة التي نظرت له وقالت مبتسمة
" صباح الخير سيدي ، بماذا يمكننا مساعدتك ؟ "
نظر ناحية الباب الزجاجي البعيد قبل أن يعود بنظره
لها وقال
" أريد سيارة أجرى أمام الباب هنا وفي أسرع وقت
ممكن "
لم يستغرب النظرة التي رآها في عينيها لأنه يملك سيارة
موجودة لديهم لكنه لن يستخدمها وعليه أن يكون حريصاً
خاصة أنه يتركها هنا ويغادر وحيداً ، قالت مبتسمة وهي
ترفع سماعة الهاتف قربها
" طلبك موجود ، دقائق فقط "
أدار ظهره لها مبتعداً عدة خطوات وأخرج هاتفه واتصل
بالذي أجاب من فوره فقال
" سأرسل لك عنواناً ورقم شقة أريد رجلا أمن موثوقان
يقومان بحراستها ولا يغادرا الباب مطلقاً حتى أكون هنا "
وصله صوته مباشرة
" على الفور سيدي "
قال ونظره يتجه نحو الباب مجدداً
" في أقل من عشر دقائق سأنتظر هنا حتى يأتيا "
وأبعد الهاتف عن أذنه على صوت قال في الطرف الآخر
" بالتأكيد سيدي كن مطمئناً "
وبالفعل لم يستغرق الأمر أكثر من دقائق معدودة ودخلا من
الباب بلباسهما الخاص ، وما أن وصلا لديه تركهما يجتازاه
دون أن يتحدث معهما ويعلما من يكون وتبعتهما نظراته
حتى دخلا المصعد الكهربائي ، نظر لساعته وانتظر مرور
دقيقتان ثم توجه ناحية المصاعد أيضاً وصعد لذات
وجهتهما وما أن انفتح الباب غادره ونظره يتوجه نحو باب
الشقة مباشرة وكانا يقفان أمامها ويتحدثان باسمين فتوجه
نحوهما حتى وقف أمامهما ونظر لهما أولاً وكأنه يستغرب
وجودهما ثم قال
" أنا صديق صاحب هذه الشقة ونسيت محفظتي
في الداخل "
قال أحدهما على الفور
" المعذرة لا يمكنك عبور الباب "
بينما قال الآخر سريعاً
" ولا يمكننا مساعدتك فلا مفتاح لدينا "
اومأ برأسه موافقاً وقال
" سأطرق الباب ويفتح لي من في الداخل وأخذ المحفظة
فقط وأغادر "
قال الذي دس يديه في جيبي بنطلونه
" يمكنك انتظاره حتى يأتي لن تدخل ولا باتصال منه
يطلب إدخالك "
أومأ برأسه مجدداً ونقل نظره بينهما بينما اخفض صوته
وهو يقول
" كم تريدان ؟ حددا المبلغ الذي يناسبكما "
نظرا لبعضهما قبل أن يعودا وينظرا ناحيته وقال من أشار
برأسه بعيداً
" غادر من هنا قبل أن نستدعي الشرطة يا هذا "
ابتسم وربت بيده على كتفه وهو ما جعلهما يتبادلان نظرة
استغراب وغادر وتركهما دون أي توضيح فهو بات
مطمئناً الآن وكان عليه فعل هذا تحسباً لأي طارئ
يجعله يتأخر .
حين وصل للمقهى ذو الواجهة الخشبية السوداء المميزة
والمدعمة بالزجاج وقف أولاً أمام بابه في الداخل واستطاع
أن يجد سريعاً الجالسة في زاوية بعيدة تشرب القهوة بينما
كان نظرها للخارج وكانت تلبس بنطلون ضيق من الجلد
الطبيعي الأسود اللامع وقميص من الشيفون الثقيل وتنصب
ساق على الأخرى تجلس منتصبة الظهر وهذا يعد تغييراً
جذرياً في شخصيتها القديمة وإن كان من الخارج فقط فمن
حركة قدمها على الأرض علم بأنها متوترة كثيراً ولا يفهم
حقاً من أين علمت بما تتحدث عنه ! وإن كان حقيقي أم
مجرد حيلة غبية منها أو من شقيقتها تلك بمعنى أدق فهي
من كانت تحاول توجيهها طوال الوقت ؟!
تنهد بعمق وتحرك نحوها فهو لا يشعر بأنه في وضع أفضل
منها فالتفكير فقط في أنها قد تملك معلومة حقيقة تساعده
يشعره بكم هائل من التوتر .
ما أن وصل لطاولتها سحب الكرسي المقابل لها في صمت
وجلس بملامح جامدة لكنها قابلت كل ذلك بابتسامة متسعة
وقالت وعيناها ملتصقة بملامحه
" كيف حالك وقاص ؟ "
نظر لعينيها بصمت وملامحه لازالت تحتفظ بجمودها كما
تجاهل الرد عليها ، إن كانت امرأة غيرها لخمّن أنها تحيك
حوله مكيدة ما لكنه يعرفها جيداً ليست من ذاك النوع الذي
ينجح في هذا ، وحتى إن قررت فعلها بسبب تحريض
شقيقتها تلك لها تفشل سريعاً بسبب ضعف شخصيتها
المسيطر عليها دائماً لذلك قال مباشرة ودون تمطيط
لا طائل منه
" ما المقابل الذي تردينه ؟ "
ظهر الاستغراب واضحاً على ملامحها بل والصدمة إن صحّ
التعبير وقالت
" مقابل ماذا ! "
كتف ساعديه على الطاولة تحته وهو ما جعل وجهه يقترب
نحوها أكثر وقال بجدية ينظر لعينيها
" لنتحدث بوضوح يا جمانة فلن أصدق أن تعطي معلومة
كتلك وتنقذيها من السجن دون مقابل "
شعرت بتوترها يطفوا للسطح دون تحكم منها ليس فقط
لأنها لم تعتد التحكم في انفعالاتها بل ولأن قوة شخصيته
وحضوره يشعرانها بذلك دائماً وكأنها تراه للمرة الأولى
وطريقة جلوسه هذه زادت وضعها سوءاً فهي كانت تمنع
نفسها بالقوة من مغادرة المكان بسبب ترددها لكن عزمها
على استعادة ما كان لها وأضاعته بيديها يجعلها تقاوم
وتحارب وإن وحيدة بعد أن فقدت أقوى سلاح ترى بأنها
تملكه وهو شقيقتها جيهان ، ظهر الحزن في عينيها واضحاً
حين قالت تنظر لعمق عينيه
" ليس لديا طلب غيرك وأعلم بأنك لن تقدم نفسك مقابلاً
لذلك كما أني لا أريد أن يكون ذلك فقط من أجلها "
وسرعان ما لمعت الدموع في عينيها وهو ما جعله يعود
لجلوسه السابق يريح ظهره لظهر الكرسي مبعداً نظره
عنها ودون أن يعلق ولم تتوقع غير ذلك منه لأنها السبب
الوحيد في كل هذا ، رفعت يدها ومسحت عيناها بحركة
سريعة ورفعت رأسها ونظرت له قائلة
" لكن كل شيء سيتغير بعد الآن "
عاد ونظر لها مجدداً والحيرة واضحة في عينيه وقال
" ما معنى ما تقولين ! "
تنفست بعمق تستجمع قواها مجدداً وقالت بجدية
" أعني حين ستعلم من هو قاتل شقيقك ستتغير أمور كثيرة
بالنسبة لك "
تعالت ضربات قلبه ودون شعور منه ونظر لعينيها بصمت
وتفكير لبرهة وقبل أن يقول بجدية
" من هو يا جمانة وكيف علمتِ وما هو دليلك ؟ "
قالت مباشرة
" من يكون جوابها لدي لكن الدليل هو ما ستبحث
أنت عنه "
ظهرت السخرية واضحة في عينيه وقال باستهزاء
" تتحدثين عن فرضيات إذاً ؟ "
غزا الضيق ملامحها كما كلماتها حين قالت
" بل حقيقة رأتها عيناي لكنها بمثابة لغز حتى الآن ولأني
أثق في ذكائك جيداً فستجد الأجوبة عمّا لم أجد جواباً له
وسيكون لديها هي "
تغيرت نظرته للإستغراب وهمس
" زيزفون ! "
شعرت باسمها من شفتيه سكين ينغرس في قلبها وهو ما
جعل أنفاسها توتر وقالت بصعوبة وإن تمسكت بقوتها
" أجل هي .. ألست من يصر على وجود شخص ثالث
وقت الجريمة ؟ "
حرك رأسه رافعاً يديه وقال بضيق
" هل جلبتني إلى هنا لأسمع منك ما أعلمه جيداً ؟ "
قالت مباشرة وبجمود
" لا بالتأكيد "
نظر لعينيها وقال بأمر حازم
" قولي ما لديك يا جمانة "
ابتلعت ريقها وشجعت نفسها بل وأجبرت الكلمات على
الخروج من شفتيها دفعة واحدة قائلة
" الذي قتل شقيقك هو عشيق زوجته "
نظر لها بعينين متسعة قبل أن يرتفع رأسه وعلت ضحكته
التي جعلت بعض الجالسين حولهما يلتفتوا ناحيته فقالت
بضيق وصوت منخفض لأنهما باتا مركز اهتمام البعض
" وما الذي قلته يضحكك ؟ "
حرك رأسه مبتسماً بسخرية ورفع كوب الماء الموضوع
بينهما وشرب منه القليل ووضعه مكانه قائلاً بسخرية
" لأنه تحليل غير منطقي "
ازداد ضيقها حدة بسبب تجاهله بل وعدم تصديقه لما تقول
وضربت قبضتها على الطاولة تحتها قائلة
" ولما وأنت من يؤكد وجوده وقت مقتل نجيب ؟ "
قال والإبتسامة الساخرة لازالت تزين شفتيه
" قلت شخص ثالث ولم أقل رجل أو من خارج القصر
أساساً فالجميع يعلم بأنه لم يخرج أي شخص بعد سماع
صوت الرصاص "
حاولت كل جهدها أن تبقى ثابتة وعلى موقفها وقالت
" وماذا إن كنت رأيته بعيني ؟ "
لم يفتها تبدل نظرته ولا اختفاء السخرية من ملامحه
وشفتيه وهو ما جعلها تتابع مؤكدة بجدية
" وفي جناحها أيضاً "
كانت نظرته حينها قد تبدلت للتوجس والإستغراب بينما لم
تترك عيناها وهو ما جعلها تبتسم بسخرية قائلة
" لم أراك تضحك هذه المرة "
لم يهتم لملاحظتها تلك لأنه كان في دوامة أخرى من الأفكار
وقال متسائلاً
" كيف ومتى ذلك ؟ "
قالت من فورها
" ليلة أول أمس "
شرد بنظره للفراغ وبدأ عقله يحاول جمع الخيوط معاً فتلك
هي الليلة التي قضاها خارج المنزل بعد النقاش الحاد مع
جده وحين عاد صباحاً طلبت منه إخراجها من هناك وكانت
تتصرف بغرابة بل وسألته أولاً إن نام في جناحها أم لا !!
عاد ونطر لها وقال
" لا يمكن هذا فلا أحد يملك رمز باب الجناح ولا وجود
لنافذة ولا مدخنة فيه ، قولي ما يصدقه العقل ! "
ولأنها توقعت هذا قالت سريعاً
" أسماء رأته أيضاً "
عقد حاجبيه بقوة وقال
" وكيف دخلتما لترياه ؟ "
توترت بوضوح وهي تصل لما كانت تخشاه وترددت في
إخباره بسببه وهو هذا السؤال تحديداً ولم يكن أمامها من
خيار سوى التهرب فقالت
" أعلم بأنك لا تصدق هذا بل وتسخر مني لكنها الحقيقة
وثمة شاهد لدي أي أني لم أراه لوحدي "
تجاهل هو أيضاً كل ما قالته وسأل مجدداً وبنبرة جادة آمرة
" كيف دخلتما ؟ "
حاولت إخفاء توترها بل والحقيقة أيضاً بالإنفعال قائلة
" لا يهم كيف المهم أنه رجل داخل جناحها "
نظر لعينيها لبرهة وكأنه يحاول الوصول لعقلها من
خلالها وقال
" أريد سماع كل شيء ومن البداية يا جمانة .. "
ورفع سبابته هامساً بتهديد
" من البداية "
ابتلعت ريقها ولم تجد حلاً غير التحدث وبدأت تسرد عليه
ما حدث لكنها لم تخبره عن ذاك العقار وهو ما جعله
يقاطعها قائلاً بنفاذ صبر
" وماذا كانت تريد لتفعل كل ذلك جمانة أجيبي ؟ "
تأففت وقالت مجدداً تحاول أن تتماسك لتكون طبيعية
" كانت تريد التحدث معها وحدهما ، وهو ليس المهم فيما
نتحدث عنه الآن "
أشار بيده جانباً وقال بضيق
" تدخلا جناحها ليلاً متسللتان فقط لتتحدث معها ؟ قولي ما
يصدقه العقل "
رفعت حقيبتها من فوق الطاولة وفتحتها وأخرجت هاتفها
منها، قامت بتشغيل مقطع الفيديو ووجهته نحوه قائلة
" أنظر لتصدق .. هذا هو الرمز اليس كذلك ؟ "
نقل نظراته المستغربة منه لعينيها فقالت بجدية
" ما يهمك لم نتحدث عنه بعد فاتركني أكمل ما لدي "
تبعتها نظراته الحائرة الشاردة وهي تدس هاتفها في
الحقيبة مجدداً فهو يعرفها لا تكذب وإن حاولت إخفاء سبب
تواجدهما هناك ويعلم جيداً بأن سبب تلك الزيارة سيكون
مجرد مكيدة جديدة تحاك حول زيزفون وسببها سيكون
أسماء بالتأكيد لأنه يعرف كلتاهما ، كان ينظر لعينيها
بإنتباه بينما بدأت تسرد له ما حدث تشد يداها بقوة فوق
الطاولة تحتها بسبب تذكرها لما لازالت عاجزة عن نسيان
جميع تفاصيله
" حين دخلنا سمعنا حركة ما عند الجدار المحاذي للنافذة
والمواجه لباب الغرفة وحين قامت أسماء بتوجيه النور
نحوه وجدنا رجلاً يقف هناك "
اتسعت عيناه وقال
" واثقة ممّا تقولين ؟ "
أومأت برأسها وقالت
" كامل الثقة وهو ذاته ما رأته أسماء "
نقل نظراته الضائعة بين عينيها وكأنه انفصل عن العالم
تماماً لبرهة من الزمن وقبل أن يقول في حيرة
" من يكون !! ما هو شكله ؟ "
قالت مباشرة
" لم نراه جيداً لأن الغرفة كانت مظلمة لكنه رجل حقيقي
وله شعر أشعث وكان يغطيه الغبار ووجهه أيضاً "
شردت عيناه بعيداً عنها في تفكير عميق وحين طال وضعه
ذاك قالت
" أقسم بأنه ما حدث يا وقاص وأنت تعرفني جيداً منذ
أعوام لا أكذب أبداً "
دفع الكرسي بجسده للوراء ينوي الوقوف فمدت يدها نحو
ساعده ومنعته قائلة
" أين ستذهب ؟ "
وقف وقال
" عليا أن أعلم كيف وصل إلى هناك "
وقفت أيضاً وقالت تنظر لعينيه وكأنها تحاول قراءة رد
فعله منهما
" وهل هذا يحتاج لجواب ؟ هي من أدخلته مثل ليلة مقتل
نجيب تماماً وحين أمسك بهما قتله "
أنهت كلماتها تلك وأطبقت شفتيها ما أن تبدلت نظراته بل
وملامحه ونبرة صوته وقد قال بضيق
" جمانة أنتِ تقذفين محصنة بهذا أتدركين معناها ؟ "
اتسعت عيناها وأشارت لنفسها قائلة
" أنا أقذفها ! "
قال من فوره وبحدة
" أجل ولا دليل لديك وهي مجرد تكهنات "
انتفض جسدها وانفعلت قائلة
" رأيته بعيني يا وقاص كم مرة سأعيد ذلك ؟ "
قال بضيق متجاهلاً أيضاً جميع الأعين التي باتت
تحدق بهما
" علينا التحقق أولاً ثم نحكم عليها لا بمجرد وجود
رجل هناك "
أشارت لنفسها وقالت بحدة
" إن وجدته في جناحي كنت ستقول وتفكر في ذات الأمر؟
"
حاول خفض صوته هذه المرة وإن خرجت كلماته غاضبة
ينظر بقوة لعينيها
" توقفي عن هذه التلميحات يا جمانة فأنا رجل قانون
وتعلمين أكثر من غيرك طريقة تفكيري فأنا لا أؤمن إلا
بالدليل القاطع وإن رأيته بعيني في جناحك أو جناحها ، أنا
لا أستسلم لخيالي وللفرضيات مطلقاً "
تكابدت على نفسها وهي تتلقى كلماته التي لم تتوقعها
وقالت بابتسامة ساخرة
" ورجل القانون بشر أيضاً وثمة ما لا يحتاج تفسيراً
بالنسبة له "
وضع كفه على الطاولة ومال ناحيتها وقال بحزم ينظر
لعينيها
" ليس أنا ولن أحكم دون دليل حي أمامي ومهما كان لديك
من أدلة "
كتمتها مجدداً في نفسها ورفعت رأسها وقالت ولازالت
الابتسامة الساخرة تزين شفتيها
" لك ذلك وستعود لذات النتيجة فليس ثمة رجل غريب
يدخل جناح إمراه دون أن يعلم عنه أحد ولا أن يراه أحد إن
لم تكن هي من يدخله ويخفيه هناك "
وختمت كلماتها تنظر بتصميم لعينيه وكأنها تقول له لا
تفسير آخر ومهما حاولت لكنه غادر وتركها دون أن يهتم
بالرد عليها وعيناها التي بدأت تتشبع بدموع الغضب لم
تتركه بينما صرخت ليصله صوتها قبل أن يبتعد
" لقد ظهرت حقيقتها نهاية الأمر ويمكنك الهرب كيفما
شئت "
كانت تعلم بأنه يسمعها وإن تابع طريقه ولم يهتم لها ، وما
أن اختفى خلف الباب الذي غادر منه مالت لحقيبتها
وأخرجت منها ورقة نقدية ووضعتها على الطاولة بحركة
قوية متمتمه
" لا يمكنك تصديق هذا يا وقاص ؟ سيؤمن عقلك به نهاية
الأمر فلا حل أمامك غيره "
*
*
*
|