كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
غادرت غرفة تبديل الملابس بعد أن ارتدت بنطلوناً كحلياً
جميلاً من قماش ثقيل وفاخر له جيبان مقوسان عند خصره
العريض وبلوزة من الشيفون الثقيل لها ياقة مستديرة
متسعة من الأعلى وصيقة عند الخصر لتعود وتتسع في
الأسفل بقصة مثلثة الشكل تغطي وركيها وكانت بيضاء
بلون الثلج وقد رفعت شعرها بطريقة أنيقة تدلت منه
الخصلات البنية كنافورة صغيرة .
كانت تنظر لما أخرجته في يدها وهي حقيبة الحُلي التي لم
تفتحها حتى الآن ولم تعرف ما فيها ولا تنكر بأنه ينتابها
فضول غريب حيالها لا تعلم مصدره وأسبابه ! وصلت
لطاولة التزيين ووضعتها عليها وفتحتها وأخرجت أولاً
العلبة المخملية مستطيلة الشكل الموضوعة في الأعلى وما
أن فتحتها حتى شعرت بضربات قلبها ترتفع حتى كانت
تشعر بها تؤلم أضلعها وهي تنظر للصليب الموجود فيها
وكان بحجم سبابتها تقريباً مصنوع من الذهب الخالص
تزينه بأكمله فصوص من الألماس اللامعة ببريق أخاذ ،
امتدت أصابعها له ورفعته واكتشفت حينها بأنه لم يكن
مجرد صليب عادي بل قرط أذن مكون من قطعة واحدة فقط
تدلى معه سلسال ذهبي رقيق ينتهي بحبة ألماس تأخذ شكل
دمعة صغيرة .
نظرت ناحية الباب الذي طرقه أحدهم من الخارج قبل أن
يستدير مقبضه ببطء وانفتح كاشفاً عن وجه إيريكا الباسم
والتي قالت سريعاً
" صباح الخير آنستي .. أعتذر لإزعاجي لك كان عليا التأكد
إن كنتِ نائمة أم لا "
أهدتها ابتسامة مماثلة ترفض إبداء انزعاجها من
تصرفها وقالت
" لا داعي للاعتذار أنا أستيقظ باكراً دائماً "
دخلت حينها الخادمة قائلة وابتسامة أكثر اتساعا
تزين شفتيها
" كان عليك استغلال هذه الأوقات للراحة قبل العودة
لدراستك ... أتنوين الخروج ؟ "
لم تشاركها المزاج الباسم حينما همست
" لا "
ويبدو أنها فهمت تغير مزاجها حينها بشكل خاطئ فقد
قالت محرجة
" أعتذر لكثرة ثرثرتي .. لم يكن في نيتي التدخل "
حركت رأسها سريعاً وقالت بابتسامة ذابلة
" لا بأس أنا لست منزعجة "
بدا الامتنان واضحاً في ابتسامتها وقالت
" هل أجلب لك طعام الفطور هنا أم تريدين تناوله في
الأسفل أم في الحديقة ؟ "
حدقت فيها بتفكير لبرهة وقبل أن تقول متغلبة على ترددها
" هل غادر عمي ؟ "
قالت من فورها باسمة
" أجل وهو لن يرجع قبل وقت الظهيرة فاليوم هو موعده
المعتاد مع طبيب الأسنان "
حدقت فيها باستغراب ولم تستطع منع نفسها عن قول
" أيزوره أسبوعياً !! "
ضحكت الخادمة من فورها وقالت
" أجل فهو ليس مجرد طبيب فقط بل صديق له "
خرجت منها ضحكة صغيرة رقيقة تشبهها وقالت
" أجل فهمت "
وتبعها نظرها وهي تجتازها ناحية باب الشرفة الذي
فتحته قائلة
" السيد فاليريو سيغادر بعد قليل أيضاً "
وما أن فتحت المجال أمام النسائم الربيعية المنعشة للدخول
توجهت نحو السرير تزيل أغطيته بحركة سريعة
متقنة متابعة
" سيتغيب لعدة أيام كالعادة ولن يكون هنا قبل نهاية الشهر
القادم تقريباً "
وحين لم يبدر عن الواقفة مكانها أي تعليق وقفت على
طولها وقالت تحمل القماش الناعم الفاخر بين يديها بينما
كانت ابتسامة مرتبكة تزين شفتيها
" لم يكن غرضي التنصت لقد سمعت ذلك مصادفة "
وتابعت من فورها محرجة
" لا أريد أن يكون لديك صورة سيئة عني فأنا أحبهما
كعائلة لي كما أنّ أوليفيا لا تتحدث كثيراً بل وتصمت
لساعات دون أن يزعجها ذلك وهذا يشعرني بالملل ل
أني لا أشبهها أبداً "
وختمت كلماتها بعبوس مما جعل شفتا ماريه تبتسم
مرغمة وقالت
" أكنتما تعملان هنا من قبل ؟ "
قالت تلك من فورها وبابتسامة واسعة وكأنها تعود لذكريات
محببة لديها
" أجل فقد كان مالك هذا المنزل الكبير رجل إنجليزي ثري
وكان يُفضل المكوث فيه عن المدن وكان له ابنتان وابن
شاب وآخر هو ابن زوجته الثانية التي تزوجها بعد وفاة
زوجته الأولى وكانوا يزورونه في أوقات متفرقة لذلك كان
السكون هو المسيطر هنا أغلب الأوقات فيما عدا الأيام التي
كانوا يجتمعون فيها مع أطفالهم هنا و... "
قاطعت نفسها فجأة حين وقع نظرها وللمرة الأولى على
الصندوق في يديها وقالت مندهشة
" أوه يا إلهي إنه قرط السيدة أنيتا أم أخطأت ؟ "
نقلت نظرها منها له رجوعاً إليها وقالت باستغراب
" ومن تكون السيدة أنيتا ؟! "
تركت ما في يديها حينها وتوجهت نحوها قائلة
" إنها والدة السيد فاليريو "
وتابعت من فورها وهي تقف أمامها وتنظر له بفضول
" هو من أهداك إياه ؟ "
نظرت له بين يديها وقالت في حيرة
" وصل مع الأغراض التي أرسلها بالأمس !! "
" يا إلهي لقد أحسن صنيعاً "
رفعت نظرها بحركة سريعة نحو التي قالت ذلك تضم يديها
لبعضهما وعيناها تزهوان بسعادة لا مثيل لها بينما قابلت
ماريه كل ذلك بضربات قلب متوترة وعلامات كثيرة من
الحيرة ترتسم على ملامحها البريئة وقالت باستغراب
" هل تعرفينها !! "
قالت سريعاً تنقل نظرها لعينيها
" أجل لقد التقيت بها مراراً فالسيد ماكويد والمالك السابق
لهذا المكان كان والسيد غستوني صديقان وكان حين يزور
إنجلترا يزوره هنا وبحكم صداقتهما تلك باعه إياه بل
وتركنا نعمل هنا بتوصية منه "
وعادت ونظرت له مجدداً وقالت بابتسامة حزينة وقد عادت
تضم يديها معاً
" في جميع الزيارات التي رأيتها فيها كانت تقتنيه ولم
تكن تنزعه أبداً ، اختياره لك معناه أن لك مكانة كبيرة في
هذه العائلة وعليك أن تضعيه مثلها "
لم تكن تعلم ما نوع الرصاصة التي أصابتها بها حينها ولا
الصدمة التي كادت تسحق ملامحها وتحولها لصفحة واحدة
لأنها مدت يدها له وأخرجته من علبته قائلة
" سيحب السيد فاليريو هذا كثيراً "
جعلها تصرفها ذاك تتراجع خطوة للوراء دون شعور منها
وفي تصرف غريزي وقالت متلعثمة
" لكن ... قد يزعج هذا السيد غستوني ، أنا لا يمكنني
فعلها "
وعضت باطن شفتها موبخه نفسها فمن شدة صدمتها
وارتباكها نست أن تقول عمي ، ويبدو أن ذاك لم يكن
موضع اهتمام التي قالت مصرة تنظر لعينيها
" لا يمكن هذا فانتِ فرد من العائلة ، وإن لم يكن الأمر
كذلك ما كان ليعطيك السيد فاليريو إياه "
وتابعت من فورها وهي تقترب منها باسمة
" سيحميك دائماً وسيَسعد السيدان برؤيته مجدداً
بالتأكيد "
عادت للابتعاد عنها مما جعلها تتوقف أيضاً وتنظر لها
مستغربة لكن لا خيار آخر أمامها ولا مخرج لها من هذه
الورطة فوقفت عاجزة عن فعل أي شيء تنظر لماساته
تلمع بين أصابعها ، هي تؤمن بنبيهم تُصدقه وتحبه أيضاً
لأن هذا ما يوصي به دينها وأحد ركائزه الأساسية لكن ذلك
لا يبيح لها تطبيق شرائعهم وتشعر بأنها في مأزق حقيقي
فهي على ديانتهم كماري ومن المفترض أن تسعد بهذا
وإن كرهت نفسها تقديساً له ، رفعت مقلتيها المتوترتين
نحوها ولم تجد خيار آخر أمامها غير النطق وإن لم تدرس
وتجهز عبارات مناسبة فقالت بصوت شبه هامس
" لا أستطيع ... فأنا ... "
وكالمتوقع في وضعها وحالتها تلك طارت الكلمات التي لا
وجود لها أساساً لكن عقلها استطاع فعلها في الوقت
المناسب وقالت أخيراً
" أنا أحترم ذكرى الأموات كثيراً ولا أحب ارتداء أشيائهم "
كان عذراً يشبه أفكار الأطفال لكنها لم تكن تملك غيره
حينها فحتى طردها لها الآن لن يكون أمراً طبيعيا وإن كانت
مجرد خادمة ومؤكد مع واحدة كثيرة التحدث مثلها ستخبر
العديدين بموقفها ورد فعلها هذا وقد يكون فاليريو أولهم
هذا إن لم يكن والده ، وأتاها دليل ذلك حين قالت بنظرات
حزينة وخيبة أمل
" ما الذي سيظنه السيد فاليريو وأنتِ تهملين ذكرى
والدته هكذا "
" أنا أهملها !! "
همست بها مصدومة ويدها تلامس صدرها ولم تترك لها
مجالاً لتقول أي شيء بل وأعجزتها عن الحديث فعلياً وقد
اقتربت منها بل ومن جانبها الأيسر تحديداً قائلة
" لا أعلم لما ترفضين ارتداء شيء جميل ومقدس مثله ! "
فاستسلمت لها متنهدة بيأس وقلة حيلة وهي تلبسها إياه
وشفتاها تردد بهمس تراتيل أو صلوات لم تفهمها
وأعجزتها عن فعل أي شيء وتيبس جسدها بأكمله من
مجرد الفكرة وهي ليست ديانتها وخشيت إن أبعدت يديها
وأوقفتها أن تشك بأمرها خاصة مع قدسية هذا الشيء
لديهم وها هي تورطت مع الخادمة الثرثارة التي كانت أيضاً
وكغيرها قد تغلبت عليها نهاية الأمر .
كان في نيتها التخلص من إزعاجها ونزعه بعد خروجها
ومن ثم إعادته لفاليريو في أقرب وقت تراه فيه ومؤكد
سيتفهم أعذارها أكثر من هذه المرأة اللحوحة الفضولية
والتي نظرت لها ما أن ابتعدت عنها قائلة بسعادة
" يا إلهي كم هو جميل وكم أنتِ رائعة به "
ارتفعت يدها لا شعورياً ولامسته بأصابع مرتعشة وشعرت
وكأنه جمرة متقدة متعلقة بها ليس لأنها تهينه أو تقلل من
قيمته بالنسبة لهم لكنه أمر مخالف لدينها ولم تتخيل يوماً
أن تتجرأ على فعلها لولا الضرورة ودمعت عيناها دون
شعور منها وهي تتصور نفسها تنساق مستقبلاً خلف أمور
أخرى ترفضها من أجل لعب هذا الدور الذي وجدت نفسها
مجبرة عليه ومنذ دخلت هذه البلاد فالتفت أصابعها حوله
وفي نيتها نزعه وبحركة واحدة ودون اهتمام لرأيها وما
ستقول لكنها توقفت مكانها كما اتسعت عيناها تنظر لعيني
الواقفة أمامها والتي لم تكن بحال أفضل منها والأصوات
الرجولية المرتفعة والمتداخلة تصلها من الخارج متسللة
من باب الشرفة المفتوح فقالت وعيناها الذاهلة لم تفارق
عيني المقابلة لها
" هل هو شجار بين الحراس ؟! "
حركت تلك رأسها بحركة خفيفة وقالت في حيرة
ونظرات وجِله
" لا هذا لا يحدث في العادة ! ثمة دخيل بالتأ... "
" مارياااا "
تيبس جسدها كما أطرافها وما كان يرتجف حينها هو قلبها
فقط وانقطعت أنفاسها مع امتلاء عيناها المحدقتان بعيني
الواقفة أمامها بالدموع ما أن وصلها الصوت الرجولي
الصارخ بغضب مجدداً
" مارياااااا "
كانت تكابد وبكل قوة السقوط مغشياً عليها لأنه لم يعد
بإمكانها التحكم في نفسها بينما قالت الواقفة أمامها
بهمس مصدوم
" من تكون ماريه هذه !! "
وكان صوتها ذاك بمثابة زر التشغيل لساقيها قبل حواسها
فتركتها وركضت نحو باب الشرفة ودون سؤال ولا استئذان
من عقلها وبالرغم من أنّ صوته كان غاضباً وهو يصرخ
باسمها لأنها لم تكن تنتظر أو تتوقع منه خلاف ذلك وهي
تقف عند سياج الشرفة وتنظر له في الأسفل ، فكل ما
توقعت أن تراه في تلك العينان الغاضبة حينها هو شوارع
وطرقات بلدة حجور التي سكنت قلبها وللأبد ويصعب
عليها انتزاعها ..
منازلها وحواريها والطفلة ذات الجديلتين بملمس الحرير
ولون العسل والفتى شديد الصمت والبرود ذو النظرات
المختلفة عن جميع أقرانه .. الأقدام الصغيرة الحافية
تركض فوق التراب الناعم وصوت ضحكاتها الرقيقة
وتعليقاته الساخرة المتفرقة .
لكنها لم تجد كل ذلك وهي تنظر للوجه الذي ارتفع فور
خروجها .. لا في تقاسيمه شديدة الوسامة ولا عيناه
الواسعة الحادة فلم يكن غضباً ذاك الموجود فيهما !!
لقد عرِفَته سابقاً في أقسى درجات الغضب وحينما يتعلق
الأمر بأقرب المقربين لقلبه وهي والدته لكنها لم ترى
هذا في عينيه ما أرجف أوصالها قبل قلبها وتذكرت
كل ما تناسته للحظات وأنفاسها تخونها تدريجياً .
( ابتعدي عني ماريا لا أريد أن أراك أمامي .. ابتعدي
قبل أن أقتلك )
( اذهبي لمن خنتِ زوجك لأجله )
( سمعت عنه الكثير سابقاً ومن قبل أن ألتقي به في منزل
الأميرال ولم أتوقع أبداً أن يكون عكس ما يُقال عنه ! )
( كيف لرجل الرصاصة الواحدة أن يكون ممن يفقدون
التحكم في انفعالاتهم هكذا ! )
( تيم إبني ولن أسمح لشيء ولا لأحد بأذيته أو أن يكون
سبباً فيها ولا أنتِ ماريه هارون )
( هو أهم لديا من كل شيء حتى الوطن ، ومن أجل سلامته
كنت لأرجعه للبلاد الآن وأبعده عن الخطر لولا تلك
المنظمة والرقاقة التي يزرعونها بداخله فاختفائه الآن
سيكون تهوراً وحماقة ستكون ثمنها حياته وسيموت أمامنا
ولن يستطيع أحد فعل شيء له )
( سأقتلك وأقتل نفسي ما أن أستوعب حقيقة هذا
ماريا قسماً )
( إلى أين فنحن لم نصفي حسابنا بعد )
( هذا ما قاله وبأن مكانك خارج البلاد .. )
( هذا ما قاله وبأن مكانك خارج البلاد .. )
امتلأت عيناها بالدموع وتقطعت أنفاسها أكثر فقد أنساها
غباؤها واندفاع مشاعرها كل ما حدث وبأنها فقدت ثقته
وخسرته وللأبد وبالتالي خسرت أمانها الوحيد وحلم
طفولتها وصباها وبأنهم أخرجوا الوحش الموجود في داخله
والذي لطالما حذرها منه ولم ولن ينسى ما فعلت بالتأكيد
وأنّ عقابها منه لم ينتهي بعد .
ارتجفت أصابعها الممسكة بسياج الشرفة ما أن انحرف
نظرها قليلاً عن عينيه التي أسرتها كلياً وهي ترى القاذف
اليدوي الذي كان يحمله في يده ويوجهه نحو باب المنزل
والواقفين أمامه عند أعلى عتباته وشعرت بارتجاف يديها
ينتقل لأطرافها وصولاً لقلبها فهل يفكر فعلياً في ضرب
المكان به وتحويله لركام !
فلم تتخيل أبداً أن يصل تهديده وتهوره كما قال فاليريو
سابقاً لهذا الحد فهل هو على استعداد لأن يحمل إثمهم
جميعاً في عنقه قبل القضاء الذي سيقف أمامه فقط ليعاقبها
وينتقم منها ؟
كانت تعلم بأن الأمور ستنزلق للأسوأ خاصة مع عناد
الواقف تحتها مباشرة والذي صرخ بغضب
" غادر من هنا يا تيم فماري لن تغادر معك مجبرة وإن
أحرقت المكان بأكمله "
لكن نظراته لم تتركها لازالت مصوبة لعينيها عالياً نظرة
لازالت تجهلها وتخيفها وبشدة لأنها لم تستطع فهمها ولا
قراءتها متجاهلاً كل ما يقول وكأنه يضع الأمر بين يديها
فأصبحت أمام خياران وحيدان لا ثالث لهما فإما أن تغادر
معه وتوقف كل هذا أو أن ترفض وتترك له خيار فعل ما
يريد ويهدد به .
تعالت أنفاسها حتى كانت تعبر لرئتيها بصعوبة فهي تعلم
بأن الأمر الآن مختلف عن سابقاتها حين كان يأخذها من
منزل عمها الحارثة مُرغِماً الجميع على قراره وهي أولهم
لأنه الآن لا يريد أخذها بصفتها زوجته بل لأن عقابها لم
ينتهي بعد وعليها أن تغادر حيث المكان الذي اختاره كمنفى
لها ولازالت تجهله لتعود لمأساتها السابقة فماريه هارون
هي ذاتها لن تتغير في نظرهم جميعاً الفتاة الخانعة
المستسلمة التي يقرر الجميع عنها لأنها لا تجيد اختيار
مصيرها ولا تعرف ما هو في صالحها ولأنه الآن عليها أن
تتعلم درساً مفاده الخطأ معناه العقاب طويل الأمد .
قاومت ارتجاف أوصالها وهي تشد أصابعها على السياج
النحاسي بقوة وامتلأت عيناها بدموع الحسرة والألم وهي
تودع عيناه كما ودعت كل شيء فيه ويخصهما سابقاً وللأبد
لأنه لم يكن لها يوماً ولن يكون أمر تجاهلته متعمده سابقاً
وها هي حصدت نتائجها الآن ، وفي لحظة هي نفسها لا
تعرفها في نفسها تغلبت فيها على عقلها وقلبها وكل شيء
يمت لجسدها بصلة وحتى لسانها المتيبس الرافض وهي
تحركه مرغماً حين صرخت ونظراتها الدامعة لم
تترك عيناه
" لا أريد الخروج من هنا .. هذا هو مكاني وهم عائلتي "
لم تعرف حياتها الشعور الذي انتابها حينها وقلبها يكاد
يحطم كل ما حوله من شدة ضرباته حتى كانت لا تسمع
شيء غيره في أذنيها وهي تقول ما هي ليست مقتنعة به
أساساً وما تعلم بأنه يقرأه كعناد منها وفرار بفعلتها
المشينة تلك كما تعلم جيداً ما ستكون مغبته عليها قبل
الجميع لكنها تحمي نفسها منه بل وتحميه منها أيضاً
فكلاهما بات وجوده في عالم الآخر يعني الهلاك
الحتمي له .
انسابت أول دمعة فوق طرف وجنتها لتتلاشى بين خصلات
غرتها المتطايرة قربها تنظر فقط وبحزن وحسرة لعينيه ..
لأحلامها المنسية وأمنياتها الميتة ولآخر شيء يربطها
بالحياة والسعادة ها هي تفقده وللأبد تنتظر رد فعله التالي
والذي لا يمكن لأحد توقعه ولا هي نفسها وهي تزيد غضبه
اشتعالا بما فعلت ، لكن ما فعله حينها فاق فعلياً جميع
توقعاتها وهو يدس يده الحرة خلف خصر سترته الخاصة
بالمنظمة وأخرج من حزامها مسدسه الشخصي ورفعه
عالياً نحوها .
*
*
*
جلس من نومه بحركة واحدة منزلاً قدماه على الأرض
وكأنه ينتزع نفسه منه انتزاعا وحضن رأسه بيديه منحني
الظهر يتكئ بمرفقيه على ركبتيه وتخللت أصابعه خصلات
شعره الأسود الناعم متثائب ولازالت عيناه مغمضتان وكأنه
لم يفارق نومه بعد ، وما أن رفع رأسه واستوى في جلوسه
رفع ساعته الموضوعة على الطاولة بجانب السرير ونظر
للوقت فيها وكما توقع لقد فاته وقت الفجر وأشرقت
الشمس منذ وقت لأنه معتاد في قصرهم على صوت الأذان
المرتفع والذي إعتاد على الاستيقاظ عليه منذ كان طفلاً
لذلك ينسى أن يضبط منبه هاتفه كلما نام خارجه ونادراً
ما كان يفعلها وينام في الخارج .
وقف مستغفراً الله وتوجه نحو الحمام توضأ وصلى أولاً ثم
رفع هاتفه وفتحه ووضعه مكانه وتوجه ناحية الخزانة وقد
بدأت الرسائل الصوتية تُفتح تباعاً وقد ملأ أولاً المكان
الصوت الرجولي المتزن
( وقاص لقد زرت السيد رايمر وتحدثت معه كما اتفقنا لكن
لا جديد فيما قال يمكنك الإستفادة منه ، لقد قمت بتدوين كل
شيء لتطلع عليه بنفسك )
وتلاه صوت رجولي آخر بدا أقل جدية واتزاناً
( وقاص لقد قررت أنا و آنسون المغادرة اليوم
ل ﺳﺎﻟﺰﺑﻮﺭﻱ وسنكون في لندن وقت الظهيرة ، وتوقف
عن إغلاق هاتفك فهذه ليست طباعك )
توقفت أصابعه التي كانت تغلق أزرار القميص الأسود ونظر
نحو هاتفه ما أن خرج منه صوت زوجة والده
الهادئ الحزين
( وقاص لا أعرفك صاحب قرارات متهورة لكني أثق في
ثقة والدك بك فاعتني بنفسك وبزيزفون جيداً بني )
إبتسم بحب وهو ينهي إغلاق باقي الأزرار صعوداً ونظره
على ما يفعل قبل أن تموت تلك الابتسامة بسبب الصوت
الأنثوي الجديد والذي كان لجمانة والتي خرجت كلماتها
حادة مرتفعة
( وقاص لما تغلق هاتفتك ؟ أنا أعلم بأنك أخذتها من هنا
وغادرت وبشكل نهائي وكأنها هي زوجتك وليس أنا )
وقالت آخر كلماتها بنبرة باكية قبل أن يختفي صوتها بسبب
انتهاء الرسالة فأزال السترة من علّاقتها الخاصة بحركة
غاضبة من يده متأففاً فها هو خبر مغادرتها بدأ يتسرب
وخلال ساعات قليلة فقط ، لبسها وهو يتوجه نحو هاتفه
وكان يظن بأنها المكالمة الأخيرة لكنه فوجئ بصوتها مجدداً
يخرج منه وهو منحني فوقه ويده ممدودة نحوه وبما جعله
يتحجر مكانه مصدوماً
( وقاص إن كنت تريد معرفة هوية القاتل الحقيقي لشقيقك
علينا أن نتقابل اليوم )
*
*
*
خرج لردهة الجناح يحمل في يده كوب قهوة ترتفع منه
الأبخرة في سحابة متعرجة وما أن وصل للأريكة المقابلة
للتلفاز جلس وهو يضعه على الطاولة أمامه ورفع جهاز
التحكم وقام بتشغيله ونظره عليه ، وما أن رفع الكوب
لطرف شفتيه تجمدت يده بل وجميع أطرافه ينظر بذهول
للخبر الذي كان يُذاع مع صورة أبان الواقف أعلى منصة
الادعاء في القاعة ذاتها التي طُرد منها نهاراً !
شعر بجفاف مريع في حلقه وبرودة قاسية تتسلل من
أطرافه بينما انتقلت حدقتاه تلقائياً لشريط الأخبار أسفل
الشاشة وحيث كانت عيناه تتسع بذهول مع كل كلمة يقرؤها
وخارت قواه حتى بات يشعر بأن الكوب الخزفي في يده
أثقل من العالم بأسره فأنزله للطاولة بينما لم يفارق نظره
الكلمات التي لازال يقرؤها بالتتابع ووضعه عليها هامساً
بعدم تصديق
" يا إلهي "
كان الخبر لازال يتصدر القنوات جميعها وبقوة بالرغم من
تأخر الوقت فلم يفصلهم عنه سوى ساعات معدودة ولأنه
لم يجد وقتاً اليوم ولا مزاجاً لتصفح الأخبار عبر الإنترنت لم
يعلم عنه إلا الآن .
مسحت يده على فكه تتخلل أصابعه لحيته الخفيفة وهمس
من بين أسنانه
" تباً لهم .. ألهذا ترك البلاد ورجاله معه ! "
صوت رنين هاتفه هو ما انتشله من كل ذلك وسرق نظره
نحوه وغضن جبينه ينظر باستغراب للاسم على شاشته
وشعر بالتوجس فلما يحدثه في هذا الوقت وما يريد !!
رفعه من أمامه بحركة بطيئة وكأنه يخشى انفجاره بين يديه
وفتح الخط ووضعه على أذنه ولم يتحدث بينما وصله
الصوت المرتخي العميق سريعاً
" مرحباً يا قائد "
عادت نظراته لشاشة التلفاز ما أن احتلتها صورة ثابتة
لمطر وبالكاد استطاع أن يقول وبأحرف متشنجة فعقله
لازال مشوشاً حتى اللحظة
" مرحباً عمير "
قال سريعاً
" أخفض صوت التلفاز قربك لا يمكنني سماعك جيداً "
رفع جهاز التحكم وأغلقه نهائياً بينما وصله صوته مباشرة
" أتصل بجليلة وهاتفها مغلق ؟ "
لم يستطع التحدث بادئ الأمر فهو بات يعلم بما حدث ومن
البديهي أن يحاول عقله التفسير أولاً فجليلة يبدو تنتظر
حقيبتها لا اتصاله !
ومن البديهي أيضاً أن يرسلها أو يأتي بنفسه فلما يتصل بها
وما يريد ؟!
وهل تغلق هي هاتفها لتخمينها باتصاله أم أنها
تفعلها دائماً ؟
ارتفع نظره لا شعورياً ناحية الساعة المعلقة على الجدار
وقال بهدوء
" قد تكون نائمة .. "
" أنت في العمران الآن ؟ "
فاجأه سؤاله وكان بمثابة لغز جديد بالنسبة له وقال دون
أن يترك لعقله فترة تفكير أكبر
" نعم لكني لست في منزل والدتي "
كان تعليق عمير الصمت وكأنه يحاول قول شيء ويعجز
عن صياغة عبارة مناسبة له مما جعله يقول ما كان يرفض
فعلياً قوله والسؤال عنه
" لا يبدو لي أن الأمور تسير على ما يرام بينكما ..
أثمة مشكلة ما ؟ "
كان ينتظر تعليقه بفضول وتوجس بينما يضع نُصب عينيه
كلماتها الأخيرة والاختبار الذي تضعه فيه بل وطلبها منه
عدم التدخل لكنه لن يُظهر له بأنه علم بما حدث كان يريد
فقط أن يعلم مدى تكتمه عن الأمر أيضاً .
لم يكتشف بأنه كان يحبس أنفاسه من شدة الترقب إلا حين
تحررت ما أن وصله صوته المنخفض العميق
" لا .. لا شيء مهم "
ورغم ذلك تغضن جبينه وتبدلت نظرة الفضول والترقب في
عينيه للحيرة فهو لم ينكر بأنه ثمة شيء ما بينهما لكنه
أيضاً لم يبدي رد فعل تناسب شدة الموقف الذي مرا به
اليوم !!
كان من المفترض أن لا يتدخل أكثر لكن صمته الآن سيؤدي
للنتيجة ذاتها لذلك قال ما كان سيقوله لو أنه لم يكن يعلم
"لا أعرف عروساً تترك منزلها لأمر صغير وغير مهم!! "
حدث حينها ما انتظره منذ البداية وتوقعه وهو الضيق
الحقيقي في صوته وقد قال
" ليس ثمة أمر صغير وكبير في الحياة نحن البشر من
نحدد حجم هذا بتصرفاتنا وأفكارنا .. إنها مسألة بين
العقل والقلب "
ارتفع حاجباه في حركة لا إرادية ولم يعلق مجبِراً نفسه
على ذلك فهو يبدو بأنه يراها مشكلة صغيرة وجليلة هي
من تعطيها أكبر من حجمها !!
لا يعلم أيغضب لاستنقاصه لغضبها أم يسعد لتصغيره لحجم
المشكلة التي تُعد كارثة فعلية !
فهل هو مستاء لمغادرتها ؟!
كان عقله يقوده لنتيجة واحدة أراد فقط التأكد منها ليتمكن
من تحليل موقفه ورد فعله على الأمر لذلك قال بتوجس لم
يستطع إخفائه في صوته
" لا يبدو لي أنك تريد التحدث عن الأمر لذلك
سأسألها هي "
" لا .. لا تفعل "
كانت كلماته سريعة بل وآمرة وإن كان صوته لازال يحتفظ
بنبرته المرتخية العميقة وكأنه يقاوم التعب والنوم ، واتخذ
قائد وضع الصمت حينها ليس ليفكر ويحلل ردة فعله فقط
بل وينتظر تتمة كلامه التي باتت متوقعة وقد قال أخيراً
" اترك الأمر بيننا يا قائد لا أريد أن يتدخل أي أحد "
أومأ برأسه تزين طرف شفتيه ابتسامة مائلة وقال
" حسناً كما تريد "
" وداعاً "
كان ذاك فقط ما سمعه منه قبل أن ينهي المكالمة فأبعد
الهاتف عن أذنه ونظر له ولم يستطع إمساك ضحكة صغيرة
أُفلتت منه وقال
" مستاء منها وتريد أن تتفاهم معها هي فقط !!
يتعسر فهمكم فعلاً يا رجال مطر شاهين "
وحرك رأسه مبتسماً ووضع الهاتف على الطاولة وأعاد
تشغيل التلفاز بينما من كان يحدثه قبل قليل لم يفارق هاتفه
يده مثله وهو يحاول مجدداً للرقم الذي كانت نتيجة الاتصال
به ذاتها فرماه على الكرسي بجانبه بحركة غاضبة
واشتدت أصابعه على المقود بينما عادت ذات العبارات
والمشاهد للتكرر في رأسه الذي يكاد ينفجر بها وكأنه
يسمع صراخها وكلماتها الآن الآن
( كااااذبة ... سأقتلك يا كاذبة)
( " هذا لا يكذب " )
( لا بل أريد الذهاب معك )
( تحدثت وعمير عن الأمر لكنه منشغل ولا يستطيع
المغادرة الآن )
ضربت يده المقود بغضب وأداره عند المنعطف الجبلي الذي
وصل له واتسعت عيناه وهو يرى الضوء القوي أمامه
والذي كان مصدره الشاحنة التي ظهرت فجأة من خلف
المنحدر ، وفي حركة سريعة لا إرادية حاول إدارة السيارة
بعيداً عنها لكن ذلك لم يمنع الصدام الذي تجاوز إدراك
كليهما وصوت اصطدام الحديد القوي وحده ما سُمع حينها
في المكان الشبه منقطع .
*
*
*
شدت يديها ببعضهما ونظرها لم يفارقهما بالرغم من
سماعها لصوت الخطوات التي كانت تقترب منها تُسمع
بوضوح فوق أغصان الأشجار المتكسرة فهي باتت تعلم
صاحبها وتعرفه وتميزها من بين جميع الأقدام الأخرى
وأينما كانت .
توقفت تلك الخطوات ما أن وصل صاحبها للمكان الذي
كانت تجلس فيه والجهة الخلفية لمنزلهم تحديداً وحيث
الكرسي الحجري ينظر لملامحها التي تكاد تخفيها خصلات
شعرها المتطايرة أمام وجهها دون أن تهتم لها وكأنها
فقدت صلتها بما حولها أو الرغبة في فعل أي شيء وإن
كان يسبب الإزعاج لها !
حين أخبره خاله صقر بأنه سيجدها هنا لم يصدق حتى دخل
سور المنزل وأخبره أحد الحرس بأنهم لم يقتربوا من هذه
الجهة لأنها تجلس فيها فصدّق كلمات خاله حينها وبأنها
تشبه والدتها في هذا فهو ليس نوع من العناد ولا الدلال
وإجبار الغير على ما تريدان بل نوع آخر من العزلة وقت
الحزن ومهما كانت حالة الطقس في الخارج وقتها .
تحركت خطواته مجدداً وجلس عند الطرف الآخر للكرسي
واتكأ بمرفقيه على ركبتيه ينظر ليديه التي كان يشبك
أصابعها معاً وكانت الدقائق التالية بمثابة الساعات لديه
حتى قال أخيراً وبنبرة عميقة جوفاء ولم يرفع رأسه
ولا نظره
" حينما تم أسري وإدخالي للهازان ... "
وتوقفت كلماته فجأة بالرغم من أن الجالسة بقربه رفعت
رأسها ونظرت له حينها لكنه لم يتابع حديثه ذاك بل نظر
لها أيضاً وإن لم يستوي في جلوسه أو يبعد مرفقيه عن
ركبتيه وتبدلت نبرته للضيق وهو يقول
" أنا لن أسمح بفعل ما يريده أولئك الحمقى وإن فررت بك
لخارج البلاد ولن يعلم ولا والدك عن مكانك كما أني لا أهتم
لتوثيق قانوني لزواجي بك فهو شرعي تماماً "
ساد الصمت من ناحيتها للحظات وقبل أن تهمس بخفوت
تنقل نظراتها المستفهمة بين عينيه
" كنت تقول عندما كنت في الهازان ؟ "
حدق في عينيها للحظات ولا ينكر بأنه لم يتوقع أن تعود
لكلماته السابقة بل وأن تتجاهل كل ما قال بعدها ! كما لا
يعلم كيف قال هو ذلك لأنه لم يفكر يوماّ في قولها لأحد ولا
والدها ولا حتى تيم أقرب الأشخاص له حين كان
مهاجراً هناك !!
أبعد نظره عنها للأرض مجدداً وقال بجمود
" لا طائل من الحديث عن ذلك فثمة ما هو أهم منه الآن "
وكان ذاك ما زاد الأمر سوءاً بدلاً من معالجته وقد وصله
صوتها الحانق سريعاً
" أن أرحل معك دون علم والدي وأترك والدتي وجدي
يواجهان هذه المصيبة وحدهما هو الأهم ؟ "
نظر لها واستوى في جلوسه وقال بجدية
" والدتك ستكون معنا وعمي دجى لا يمكنهم إثبات أنه
لازال على قيد الحياة لأنه ميت تماماً قانونياً ويعيش بهوية
أخرى لن يجدوا أي ثغرة فيها وإن فتشوا العالم بأكمله "
اتسعت عيناها وكأنها ترى شخصاً آخر أمامها لا تعرفه
وقالت مستنكرة
" ووالدي ؟! أنا لا يمكنني .... "
قاطعها بضيق يرمي بحقيقة أفكاره عنها في وجهها
" أنتِ يمكنك فعل كل شيء من أجل البقية لكن من أجل
نفسك لا "
ولم يترك لها أي مجال لتهاجمه أو تدافع عن نفسها أمام
هجومه وهو يتابع بضيق أشد
" إن قرر والدك إخراجك من دونه لن تمانعي
أليس كذلك ؟ "
كانت الدموع قد بدأت تتجمع في عينيها لكنها لم تكن تعبر
عن الحزن ولا الألم بل الغضب والذي ظهر واضحاً في
صوتها حين قالت بانفعال
" لا ولن أسمح بأن يعيش كل واحد منا في بلاد مجدداً ولن
أبتعد عن كليهما "
أبعد نظره عنها للفراغ أمامه بينما التصقت نظراتها هي
بنصف وجهه المقابل لها هذه المرة وقد انعكس النور
القوي فوقهما وظلال الأشجار على ملامحه وأنفه المستقيم
وخصلات شعره القصيرة التي تدلت فوق جبينه بسبب
نسمات الهواء المتحركة لتحوله لما يشبه لوحة فنية رائعة
وشعرت بالألم بسبب كلماتها التي كانت متأكدة من أنها
آلمته ويكتمها في داخله كعادته الدائمة فقالت بأسى حزين
" أريد أن أكون معك لكن ليس بعيداً عنهما "
نظر لها بحركة سريعة حينها وقال بضيق
" إذاً لن تكوني معي بل مع أولئك الرجال "
شعرت بقلبها انقبض بشدة حتى كانت تشعر بالألم القوي
فيه بينما تابع هو من فوره وبنبرة حادة قوية
" وهذا ما أرضى بالموت على السماح به فليقتلوني أولاً
إن لم يجدوا حلاً غيره "
كانت تنظر لعينيه في صمت استصعب عليها مغادرته سريعاً
بسبب الأفكار التي اجتاحتها حينها وهمست بتوجس
وكلمات متأنية
" ماذا حدث ؟! "
كانت ضربات قلبها تتعالى وبشكل جنوني فهي تعلم بأنه لن
يقول أو يقترح تلك الأفكار المجنونة عبثاً ! كما أنها لم
تشاهد بقية الأحداث في التلفاز واعتصمت عن كل ما له
صلة بالأمر بل وقضت أغلب الوقت مع جدها تنام في
حضنه فقط دون أن تتحدث عن أي شيء كي لا يكون
وحيداً وكي لا تؤلمه أكثر بالتحدث عن الأمر .
كانت وكأنها تعيش ساعات وجودها في تلك القاعة مجدداً
وهي تنتظر أن يرحمها ويقول ما قد يجعلها تندم على
سؤالها عنه أيضاً حتى رحمتها شفتاه أخيراً وما أن أبعد
نظره عنها وقال يشد قبضتيه بقوة وكأنه يفرغ ما به فيهما
" طلب السيد عقبة أن يتركوا قاعة المحكمة ويجتمعوا في
منزله وقد أقام مأدبة عشاء من أجلهم "
حدقت في جانب وجهه باستغراب وهمست سريعاً
" وأنت لم تذهب معهم ؟! "
شدّ على أسنانه وفكيه بقوة وإن قال بشيء من البرود
" لن أحتمل الوجود بينهم هناك ، عمي صقر ووالدك
يفيان بالغرض "
اكتسى الحزن ملامحها وعيناها الجميلة وفهمت الآن بأن
السيد عقبة استغل الموقف ليجمعهم لديه في محاولة لإيجاد
حل للمسألة ، جاهدت نفسها بصعوبة وهي تقنعها لتقول
" وهل انتهى اجتماعهم ؟ "
همس بجمود بينما عاد لطريقة جلوسه السابق ولازال
يتجنب النظر لها
" ليس بعد "
تنفست بما يشبه الارتياح وهي تبعد نظرها عنه فهو حررها
من كابوس معرفة ما حدث وهي التي كانت تتوقعه سيئاً فقد
تأخر الوقت ولم تكن تتوقع بأن اجتماعهم ذاك لم ينتهي
بعد ! عادت ونظرت له وقالت بتردد ونبرة حزينة
" وماذا سيحدث الآن ؟ "
حرك رأسه بشرود وقال
" لا أعلم لكنهم سيحاولون إيجاد حل يرضي أولئك الرجال
للتّنازل وإن قليلاً عن شروط العقد "
" ليس جميعها تقصد ! "
همست بتلك الكلمات مصدومة فاستدار رأسه ونظر لها
وقال وابتسامة ساخرة تزين شفتيه
" لن نطمح بذلك فلا يبدو أنهم ينوون فعلها "
عادت ضربات قلبها للتوتر حتى ظهر ذلك جلياً على أنفاسها
ولمعت الدموع في عينيها وقالت بصعوبة
" هذا يعني إما أن يتنازلوا عنّا أو عن عنق جدي ؟! "
هرب بنظراته مجدداً محدقاً بالأرض تحت قدميه فرؤيتها
بهذا الحال كفيل لوحده بقتله لكنه ورغم ذلك قال الحقيقة
التي لا يجدي تضليلها ولا إخفاؤها بينما كان صوته شديد
التجهم والجمود
" هذا في حال قرروا ذلك "
ارتفعت يدها لصدرها واغرورقت عيناها فعلياً بالدموع وإن
لم تفارق رموشها الكثيفة تنظر من خلالها للذي قال وقد
أشاح بوجهه للجانب الآخر
" من الجيد أنّ ابن جوزاء حاصرهم بالقانون لما خرجوا
من تلك القاعة بدون وثيقة موقعة جديدة "
اتسعت عيناها اللامعة بذهول وهمست
" أيفعلها والدي !! "
استوى في جلوسه مجدداً ونظر لها وقال بجدية
ينظر لعينيها
" والدك رجل عادل يا تيما وقد حاصروه بكبار رجال
الجنوب الذين كان يجلس بينهم سابقاً كزعيم لهم يُنفذون
أوامره وأحكامه ومهما كرهت أنفسهم لأنهم يثقون بعدله
ونزاهته "
حركت رأسها بعدم استيعاب ولا تصديق وانسابت أول دمعة
من طرف عينها نزولاً لوجنتها وهو ما جعله يشتعل أكثر
من الداخل وأبعد نظره عنها بحركة غاضبة تشبه كلماته
حين قال
" هو رئيس للبلاد الآن وبإمكانه قتلهم دون أن يحاسبه
أحد لكنه لا يفعلها بالرغم من كل ما فعله به شعبها "
لم تستطع منع عينيها من التحديق فيه باستغراب وقالت
" الشعب لا علاقة ولا علم له بما حدث "
نظر لها مجدداً وقال بضيق يشير بيده أمامه
" والخونة الذين باعوه لدول الغرب منهم أيضاً "
أبعدت نظرها عنه تبعد خصلات غرتها بيديها للخلف
تتخللها أصابعها ببطء تنظر للظلام بعيداً بحزن وألم وعادت
الدموع للتكدس في عينيها وهمست بضياع
" إذاً هو أساء الأمور بدلاً من تحسينها "
قال مباشرة
" لا .. بل هو أشغل العامة بقضية المعاهدة وسبب سفر
والدك ورجاله عن أمر الوثيقة وقضية الثأر "
أبعدت يديها وتحررت الخصلات الحريرية منها مجدداً
ونظرت له وقالت بضيق وعينان دامعة
" وهذا كانت نتائجه مشكلات أعظم أقلها اتهامه بأنه وراء
عملية اغتيال جدي شراع لأن بموته سقطت تلك الاتفاقية ،
هذا غير الاتهامات التي وجهت له بأنه يحاول تأجيج وضع
البلاد وبأنه نقض اتفاقية سرية بإخراجها للعلن
وغيره الكثير "
تنقلت نظراته في ملامحها وكأنه ينسخ صوراً لها وقال
بجدية وكلمات واثقة ما أن استقرت على عينيها ومقلتيها
الزرقاء اللامعة
" والدك لا يهمه كل ذلك فهو لم يسعى يوماً لحكم البلاد ولا
الثناء على أفعاله أو تمجيده هو فكر في عائلته فقط .. أنتم
أهم لديه من كل ذلك "
حركت رأسها بقوة وقالت بنبرة متأسية
" لا هو لم يكن يوماً ليتنازل عن مبادئه ووطنيته
ولا من أجلنا "
وأشارت لنفسها متابعة بحرقة وألم وعيناها تلمع مجدداً
بالدموع الحبيسة بين رموشها الطويلة
" وضع مصلحة الوطن قبلنا حينها وحُرمنا جميعنا من
بعضنا ولم نجني من ذلك سوى القلوب المحطمة "
وأبعدت نظرها عنه بل وأشاحت بوجهها للجانب الآخر تكتم
عبرة ترفض البقاء أكثر حبيسة أضلعها فقال بنظرات حزينة
لم تفارق خصلات شعرها الطويل والحائلة بينهما
" لم أتصور يوماً أن تتغير نظرتك له يا تيما !! "
جعلتها كلماته تلك تدير رأسها نحوه بحركة سريعة تغير
معها مسار ذاك الحرير الأسود من ظهرها لكتفها وصدرها
وقالت بكلمات قوية مندفعة معاكسة تماماً للدموع السجينة
في زجاج عينيها
" نظرتي له لم ولن تتغير أبداً ، صحيح بأنه لم يطلقها وكان
يظن بأن سفرهم لن يتعدى الأربعة أعوام لكن هذا لا ينفي
بأنه اختار الوطن حينها "
اشتدت أصابعه وتحولت لقبضة متكورة في حركة لا إرادية
وكأنه يفرغ كل ما يكبته فيها وقال بحزم ينظر
بتركيز لعينيها
" وإن لم يفعل ماذا كان سيحدث ؟ ألكِ أن تتصوري هذا ؟ "
وأشار بيده بعيداً وهو يتابع مباشرة وبلهجة اكثر
حزماً وجدية
" كانت ستشتعل حرباً لا نهاية لها بين صنوان والحالك
وكان رجاله سيُقتلون أمام عينيه وتحت قصف طائرات من
يسمون أنفسهم دعاة السلام وسيخسر البلاد وجيشه
ويخسركم أيضاً "
لم تجعلها كلماته الواقعية تلك تهدأ أو تغير مفهومها
ونظرتها للأمر بل صاحت بحرقة وقد ضربت بظهر كفها
على فخذها
" لكن البلاد استنزفته لآخر قطرة دماء فيه وتشتت عائلته
ولم يعرف معنى السعادة .. أهذا يكون جزاؤه ؟! "
امتدت يده نحو يدها تلك وشدت أصابعه عليها بقوة فهو
يفهم ما تمر وتشعر به بل ويشعر بأضعافه المضاعفة وقلبه
يتمزق ولا حل أمامه ولا خيار في يديه ، ورغم ذلك استمر
في دور القوي الذي أراد فقط أن يمدها بالقوه وقال بكلمات
جادة ويده لازالت تضغط على أصابعها الباردة الناعمة
" هو مختلف عنّا يا تيما لأنه لا يفكر بمثل تفكيرك ولا مثل
تفكير أي أحد منا ولا يمكنه التخلي عن مبادئه ولآخر يوم
في حياته .. هذا هو رجل الوطن ورجل الحروب "
وترك يدها ما أن رفعتهما كلاهما لوجهها مجدداً تبعد بهما
خصلات غرتها المتطايرة بنعومة مع الريح وكأنها تعطي
النسائم الربيعية مساحة أوسع من بشرتها الناعمة بينما
خرجت كلماتها مختلطة بعبرة حبيسة لازالت تقاومها حتى
اللحظة بينما كان صوتها حانقاً وبشدة
" تباً لهم .. ما الذي سيجنونه من كل هذا ! أشقائهم ماتوا
منذ زمن لما لا ينظرون لما فعله والدي من أجلهم ؟ "
عاد لإبعاد نظره عنها وهمس بكلمات شاردة تشبه
نظراته تلك
" هدفهم جدك .. هم لم ولن يروا والدك عدواً لهم "
أبعدت يديها ونظرت له وقالت بجدية
" أنت لم ترى نظراتهم له يا قاسم .. أنا لا أصدق بأن
هدفهم هو جدي وسلالته فقط "
اتسعت عيناه في حيرة ونظر لها بل ولعينيها بتفكير لبرهة
وكأنه يحاول تفسير ما تقول وقال ما أن عجز عن فعل ذلك
" مستحيل ..! قد يكون لأنهم يظنون بأنه يخفي أمر
وجوده حياً "
حركت رأسها بعجز عن تصديق ذلك وهي تتذكر ما حدث
في تلك القاعة بعد دخولهم وهمست بأسى حزين
" أجزم بأنهم لن يكتفوا وإن سلمنا لهم ثلاثتنا "
همس دون شعور منه
" ولماذا !! "
نظرت للفراغ أمامها بشرود وضياع وقالت بكلمات متأنية
" لا أعلم لكن عيناه ونظراته المخيفة كانت وكأنها تقول
بأنه يريد فقط الوصول لغاية ما بكل ما يفعله "
زادته كلماتها تلك حيرة وضياعاً حتى أعجزته عن النطق ،
يعلم بأنها حادة الذكاء سليلة عائلة الشاهين لكن يصعب
عليه استيعاب أن يكون ذلك صحيحاً فلا شيء آخر قد
يطمحون له !
قال ولازال ينظر بتركيز لنصف وجهها المقابل له
" لا أعتقد هذا فإن كان لا يريد المال ولا المنصب ولا الجاه
فهو لن يسعى لأمر آخر بالتأكيد "
حضنت نفسها بيديها وكأنها تحميها من مجرد التفكير في
الأمر فعينا ونظرات شعيب لا تفارقها أبداً وكأنها تراه
أمامها في كل مكان ، ارتسمت التعاسة على ملامحها وقالت
بشرود حزين
" أخشى فقط أن يكون الثمن أشد قسوة من أخذنا
ثلاثتنا معاً "
أبعد نظره عنها للسماء السوداء عالياً وتخللت أصابعه
شعره يشده للوراء قبل أن تنتقل من قفا عنقه لفكيه وقال
ونظره لم يفارق النجوم المتناثرة فيها بينما كانت كلماته
جوفاء كئيبة
" سنرى ما سيخرج عنه اجتماعهم في منزل السيد عقبة
ثم لكل حادث حديث "
نظرت له ولازال ينظر عالياً بعينين حزينة شاردة وتعلم ما
يشعر به الآن فأصعب ما في الوجود أن يعجز الرجل عن
مساعدة من يحبهم ، ملأت الدموع عينيها ونظرت ليديها
اللتان عادت لشدهما بقوة في حجرها واختلط صوتها بنبرة
بكاء واضحة لم يعد يمكنها كتمه أكثر من ذلك ما أن قالت
" قلبي يحترق عليهم جميعهم .. والدي ووالدتي وجدي ،
أشعر به يتمزق دون توقف "
وكان ذاك هو الخيط الرفيع بينها وبين صمودها الذي
تمسكت به لساعات وأمام الجميع .. جدها والكاسر وحتى
الجالس بجوارها الآن بل وحتى نفسها وانهارت باكية نهاية
الأمر ما جعله يقف سريعاً ويجلس ملتصقاً بها وشدها
لحضنه وأحاطتها ذراعيه يحضنها بقوة ومسحت يده على
شعرها وقال يحاول الصمود رغم ضعفه المميت أمام
دموعها وبكائها
" لنا قدر محدد يا تيما الله رسمه لنا لا يمكننا السير على
غيره ولا تغييره إلا بالدعاء "
تمسكت أصابعها بطرف سترته وقالت باكية تدفن
ملامحها فيها
" لا يمكنني تصور أن يموت جدي ونصبح أنا ووالدتي
لديهم .. لا يمكنني فعلها فمجرد التفكير فيها يقودني
للجنون ، سيكون والدي ميتاً بالتأكيد ليحدث ذلك "
واختلطت آخر كلمات قالتها بعبراتها المتلاحقة فشدها
لحضنه أكثر يشعر بكل كلمة قالتها سكين يذبح قلبه
وروحه ، اشتد سواد نظراته الغاضبة والمحدقة في الفراغ
أمامه وقال من بين أسنانه
" ليس والدك فقط بل وأنا أيضاً لأني لن أسمح بهذا
ومهما حدث "
ازداد بكاؤها حدة وقالت
" لو أن الوقت يعود للوراء لما سمحت لتلك المحاكمة
أن تحدث وبأي طريقة كانت وإن قتلت نفسي "
مسحت يده على شعرها وقبّل رأسها وكأنه يحمد الله أنَّ تلك
الأمنية لا يمكن تحقيقها الآن والتي نتيجتها أن يفقدها هي
وللأبد ، اتكأ بذقنه على رأسها يحضنها أكثر وقال بحزن
" لا شيء في الحياة يمكن تغييره هو قدرنا ولا مهرب
لنا منه "
شعر بكلماتها سكين يخترق صدره حيث تدفن وجهها
وملامحها ما أن قالت باكية وبحسرة وألم
" كم أتمنى أن يعود كل شيء كما كان بعد أن توضحت
الأمور الخفية وينسيا كل ما حدث سابقاً "
عاد ودفن شفتيه في نعومة شعرها وقبّله مجدداً وكأنه
يشجع نفسه على قول الحقيقة التي لا مهرب منها وما
يرفضه قلبه ويوافقه عقله الذي كانت له الغلبة نهاية الأمر
وقال بكلمات متأنية حزينة ونظرات شاردة واجمة
" الرجل يا تيما حين يُطعن في كبريائه وكرامته يضع كل
شيء تحت حذائه ويدعسه به ويمضي .. وحتى قلبه
ومشاعره "
جعلتها كلماته تلك تبتعد عن حضنه بحركة سريعة وقالت
بكلمات غاضبة باكية تنظر لعينيه
" ولما أنتم هكذا ! "
ابتسم رغماً عنه بسبب تفكيرها وكلماتها الطفولية تلك
وأمسك وجهها بيديه يمسح إبهاماه الدموع عن وجنتيها
وقال بكلمات هادئة ينظر لعينيها
" لأنه شيء في تكويننا ولا نختلف فيه البتة "
أبعدت نظرها عنه وتبعه وجهها مما جعله يبعد يديه عنها
وحدقت في الفراغ أمامها بعينين حزينة دامعة فتنهد
بعمق وقال
" تيما ... "
وتوقفت كلماته لأنه وكالعادة سرقها منه ما هو أهم من
وجوده ومن كلماته وارتفع نظره معها وهي تقف على
طولها ما أن سمعت صوت السيارة التي دخلت من بوابة
المنزل متوجهة نحو الداخل فهمست بخفوت تنظر
لتلك الجهة
" هذا أبي "
وتركته وسارت راكضة حول المنزل لتدركه فهي لم تنم ولم
تستطع فعلها تنتظره وقد ادعت النوم لينام الكاسر لأنه
قرر أن لا ينام قبلها .
حين وصلت لباب المنزل كانت سيارته فقط الموجودة هناك
فركضت نحو الداخل مسرعة وكما توقعت كان يصعد
السلالم حينها سترته في يده وخطواته البطيئة كانت تصف
حالة التعب والإرهاق التي وصل لها فلحقت به وقالت وهي
تصعد أول العتبات
" أبي "
وتوقفت خطواتها بسبب توقفه ونظرت لوجهه بل ولعينيه
تحديداً ما أن استدار رأسه نحوها وشعرت بقلبها يتمزق
حين لم يبدر منه أي كلمة وكأنه يرفض قول أي شيء
ولأي شخصٍ كان ! ولأنها تتفهم شدة الموقف قررت أن لا
تسأله عمّا حدث وما نتج عنه اجتماعهم ذاك وإن كانت
تحترق لمعرفة ذلك لكنها هنا من أجل أمر آخر .
اشتدت قبضة أصابعها على السياج الخشبي للسلالم في
حركة لا إرادية بسبب توترها .. لا بل ترددها الذي كان يكاد
يفقدها النطق وقالت نهاية الأمر متغلبة على كل ذلك بينما
كانت كلماتها حزينة تشبه نظراتها لعينيه
" لقد أخذها خالي رعد من المستشفى ولا نعلم حتى
الآن أين هما "
تجنبت ذكر كلمة والدتي ولا تعرف لما ! وكانت ضربات
قلبها ترتفع بشكل جنوني لشدة ترقبها وتمنت في لحظة
يأس أن خالف جميع مخاوفها بل وكلمات قاسم التي لازالت
تنخر في رأسها وتعذب قلبها ، واكتشفت حينها بأنها مجرد
أمنيات ميتة تُضاف لدفتر ذكرياتها الأليمة ورأت كلماته
تلك أمامها وبكل حرف فيها وكأنها تسمعها منه الآن وهي
تراه يدير ظهره لها دون أن يعلق بشيء بل ولم تتغير
ملامحه البتة وكأنه لم يسمعها !
فنزلت دموعها دون شعور منها وهي تودعه كوداعها لكل
شيء كان يربطها بالحياة وعادت كلمات قاسم لمهاجمتها
ودون رحمة وهي تسمع صوت خطواته مبتعداً
( الرجل يا تيما حين يُطعن في كبريائه وكرامته يضع كل
شيء .. تحت حذائه ويدعسه به ويمضي .. وحتى قلبه
ومشاعره )
حركت رأسها بقوة ورفض وصعدت العتبات راكضة خلفه
ما أن اختفى تماماً عن نظرها فهي تعرف والدها جيداً يحبها
كما لم يحبَ رجل امرأة من قبل ، لكن كل ذلك تلاشى ما أن
صفعها الواقع بمرارة حقيقته وتوقفت خطواتها مع انتفاض
جسدها بسبب صوت باب الغرفة الذي ضربه خلفه بقوة
ليرسل لها رسالة واضحة مفادها بأن باب قاعة المحكمة
ذاك سيكون أمامها كلما قررت فتح باب آخر بينهما .
فودعته عيناها الدامعة كما ودعت جميع أحلام طفولتها
ونزلت عتبات السلالم بخطوات بطيئة وجسدها ملتصق
بالجدار تسحب قدماها فوقها بصعوبة بينما عيناها الحزينة
التعسة والتي يحفها جفنين حمراوين بشدة كانتا تحدقان في
الفراغ بحزن وكأنها فقدت صلتها بالعالم وكل شيء من
حولها حتى أنها لم تنظر ناحية الباب ولا للداخل منه والذي
كان صقر وقد وقف ينظر لها باستغراب وهي تجتازه
وكأنها لا تراه متوجهة ناحية ممر غرفتها .
" ماذا حدث ؟ "
توقفت خطواتها فجأة وحين وصلها صوت قاسم الذي دخل
أيضاً ووجه ذاك السؤال لصقر دون أن ينتبه لوجودها
هناك ، وكان ذاك ما أعاد حواسها للحياة وللشعور بما
حولها مجدداً ، وما أن استدارت نحوهما كان صقر ينظر له
قبل أن ينظر لها ثم يعود وينظر له مجدداً في رسالة صامتة
لم يكن لذكائها الفطري أن يتجاوزها بسهولة وهو ما جعلها
تعود أدراجها حتى وقفت أمامهما وقالت ببحة وترقب
" ماذا طلبوا في المقابل ؟ "
نقل صقر نظره بينها وبين قاسم باستغراب والذي تنهد بقلة
حيلة رافعاً يديه وكأنه يقول له
( لا جدوى من تغيير أفكارها )
ولا يعلم بأنه لم يكن يتساءل عن هذا بل كيف خمّنت أن
يكون هذا ما حدث !!
تهرب من النظر لها وقال وهو يجتازها
" لا شيء مهم .. أنا متعب وأريد أن أنام "
لكن ذلك لم يُقنعها ولم يعطيه الفرصة أيضاً للتخلص منها
لأن ذراعه كانت في قبضتها سريعاً وأدارته ناحيتها وقالت
بإصرار تنظر لعينيه
" بل ثمة ما حدث وعليك إخباري به "
نقل نظره من عينيها الحزينة المجدة والمتورمة بشدة
والتي كانت السبب الرئيسي لصمته رأفة بحالها ليستقر
على عيني قاسم الذي خان توقعاته حينها وهو يومئ له
برأسه متنهداً بقلة حيلة ليفهم بأنه عليه التحدث وقول ما
حدث وبأن إخفائه عنها لا جدوى منه فهي ستعلمه إن منه
أو من غيره وإن اليوم أو في الغد ولن يزيد إخفائه عنها
وضعها إلا سوءاً ، فكان دوره حينها للتنهد بقلة حيلة
وبؤس وقال بعد حرب طويلة مع نفسه وبكلمات جوفاء
متجهمة كتجهم ملامحه
" لقد وضعوا شرطاً للتنازل عن سلالته فقط "
جعلت كلماته تلك عينا تيما تتجمدان بتوجس وجعلت
الواقف خلفها يتقدم بضع خطوات حتى أصبح يقف بجانبها
ومقابلاً له فكما توقع تماماً لن يفكروا في التنازل عن عنق
قاتل أشقائهم أبداً ، ولم يكن يعلم بأنهم يحملون المزيد حتى
تحرك رأس صقر في عجز وملامحه لا تعبر سوى عن
الذهول وعدم التصديق الذي لم يغادره بعد مما جعل مشاعر
كليهما تهوي للقاع ، وكان قاسم الأشجع على التحدث
والنطق حينها كعادة الرجال وقد قال بكلمات هامسة
متوجسة
" وما يكون هذا الشرط ؟ "
كان رد فعل صقر المبدئي ابتسامة ساخرة وفرد كفه أمامها
تحديداً وقال وكأنه يستهزىء بالأمر وإن كانت نظرته لا
تقول ذلك البتة
" طالب بأن يزوج شقيقتاه التوأم بي وبجدك "
لم يستغرب حينها النظرة التي رآها في عينيهما والتي كانت
تعبر عن عدم التصديق وكأنها نُسخت ووزعت عليهما وإن
كان في موقف غير هذا الذي هم فيه لضحك حتى خارت
قواه ، ولأن الأمر لم ينتهي بعد ولم يتجاوزاه أيضاً تابع
بضيق وقد بدأ يعد بأصابعه ابتداء بإصبعه الصغرى
" زواج لا طلاق فيه ولا تشاركها زوجة أخرى معه
لا سابقة ولا لاحقة ، وزواج تام وبدليل طبي "
كانت عينا تيما لازالت تعيش الصدمة التي لم تغادرها بعد
وقد حولتها لتمثال حجري بينما نقل قاسم نظراته الذاهلة
بينهما وكأنه يتأكد من أن ما سمعه حقيقي وفهمه بشكل
سليم تماماً وقبل أن يغادر صمته مجدداً وقال بضيق وقد
استقر نظره على عيني صقر
" هذا ليس تنازلاً بل تعجيز ! فخروج خالي دجى معناه
موته بسبب الشرط الآخر بينما عدم الموافقة عليه معناه
إلغاء عملية التفاوض معهم برمتها "
كان رد فعل صقر الغير متوقع ابتسامة ساخرة وكأنه يخفي
المزيد وما هو أشد قسوة من ذلك ! وذاك ما حدث فعلياً
حين قال بسخرية
" هذا يكون تفكيري وتفكيرك يا قاسم وليس شعيب
غيلوان "
تحركت يد تيما حينها ولامست صدرها في شهقة صامتة
بينما اتسعت عينا قاسم وقد همس بتوجس وريبة
" وما يكون إذاً ؟! "
ضرب صقر كفيه ببعضهما وكأنه ينوي قتلهما بكل ما يفعله
بينما هي ليست سوى فاجعة لم تغادره بعد ليستوعبها أيضاً
وقال أخيراً وقد علا صوته في المكان الساكن المظلم ويده
تشير عالياً
" اشترط في تلك الحال أن يكون الزوج بدلاً عنه هو مطر"
المخرج : ~
بقلم / Maraam Al-Maraam
من غسق إلى مطر
تلومونني... و تلومون انهياري
و كأنكم قد تناسيتم أن ما حدث كان نتيجة لجرحي و انكساري!!!
كم قد شكوت ألمي فلم ألقَ سوى صمت أو أسوأ الأعذار...
انظروا جيداً فأمامكم عاشقة متيمة في محراب العشق كانت تتبتل ليل نهار...
و ما كنت على موعد مع الحب و إنما اقتحم قلبي كعاصفة بل كإعصار...
و كم رسمت أحلاماً و زينتها بأجمل الورود و الأزهار...
فاستيقظت على واقعٍ قاسٍ فاق العلقم بطعم المرار...
و كلما ذكرت اسمه في عزلة... فاضت عيناي شوقاً بدمع مدرار...
و ما نهرت القلب أن كفاك عشقاً إلا و أجابني: و هل تكتفي الصحاري من الأمطار؟!!
أجل -يا من تستنكرون فعلتي- ها أنا ذا أقف في وجه زعيمكم المغوار...
يا غيث قلبي كم أموت لحضنك شوقاً لكنه بات مليئاً بأشواك كالصبار...
قد نحيت قلبي و أسلمت رايتي لحكم عقلي بعزم و إصرار...
ما فادني القلب سوى بخذلان موجع فلأتبع حكم العقل الصارم البتار...
و حتى -يا صفي الروح- لو كان في الفراق موتي... لكنه الآن قد بات قراري...
نهاية الفصل
|