كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
ابتسمت عيناه ابتسامة حزينة وهو يراقبها تلاعب الطفلة
التي لم تتركها منذ اكتشفت بأنها معه .. تلاعبها وتقبلها
وتضحك نيابة عن كليهما كما أن تلك الرضيعة يبدو لم
تنساها لأنها لا تأنس الغرباء بل ومزعجة بسبب بكائها
طوال الوقت لذلك جلبها معه فلن يستحمل بكائها المتواصل
أحد غيره ، بينما اكتفى الآن بمراقبتهما فهي لم تجب ولا
على سؤاله الذي أعاده دون أن يتلقى أي جواب منها لا
يعلم سمعته وتجاهلته أم لم تسمعه أبداً ! لذلك قرر انتظارها
لأن هذا ما كان عليه أن يفعله بحكم معرفته الجيدة بها .
رفع كوب القهوة وانحرف نظره نحو الزقاق الذي بدأ يعج
بحركة المارة شيئاً فشيئاً وهو يرتشف السائل الأسود
الذي بات يفقد دفئه تدريجياً .
" مؤكد تركت لأزير مهمة العناية بالبقية ؟ "
أعاده صوتها الباسم للنظر لملامحها المسترخية الباسمة
مجدداً قبل أن يتبع به الكوب وهو يضعه مكانه قائلاً
" لا خيار آخر أمامي غيره وهو أكبرهم وإن كان ما يزال
طفلاً أيضاً "
تمتمت وهي تنظر للطفلة مبتسمة
" لكن يمكن الاعتماد عليه "
وتابعت بضحكة وهي ترفع نظرها له
" سيكون عليك العودة لتسجيل آلات المراقبة كلما شعرت
بالضيق وستضحك كثيراً على شكله ووضعه "
لم يستطع إمساك ضحكة صغيرة تغلبت على شفتيه وقال
يحرك رأسه
" إنه فتى صعب المراس "
قالت والابتسامة لا تفارق شفتيها
" أراه لا يألف سوى والده "
" والده !! "
همس بها مبتسماً بسخرية بينما قالت التي خبت
ابتسامتها تدريجياً
" ألا زال يزوره ؟ "
حرك كتفيه قائلاً
" في الآونة الأخيرة لم يفعلها ويبدو لي هذا سبب
انزعاجه الدائم "
وتابع من فوره ونظره يبتعد عنها لحركة المارة من خلف
زجاج المقهى بينما كانت كلماته هادئة منخفضة وشاردة
" أزير لا يجيد التعبير عن مشاعره ..هو كتوم جداً كطفل "
ابتسمت وهي تراقب ملامحه الواجمة ونظراته الشاردة
للخارج فهو يهتم بهم ويشغلون تفكيره حتى في تقلبات
مشاعرهم ونوعها ، قالت بصوت باسم
" أراه يشبهه كثيراً "
نظر لها سريعاً وخرجت كلماته مندفعة ومتضايقة حين قال
" بل هو من يصنع منه نسخة عنه "
اختفت ابتسامتها تماماً وقالت تنظر لعينيه
" تغير رأيك به منذ علمت أين كان يأخذه في رحلاتهما "
تنهد بضيق ولاذ بالصمت لبرهة وقبل أن يقول
وبذات ضيقه
"الفتى لازال طفلاً ومن الخطأ إخضاعه لتدريبات الرجال "
أبعدت يد الطفلة التي كانت ستبعد قبعة السترة عن رأسها
بسبب لعبها بها وقالت
" لكن بإمكانه أن يصرع رجلاً قوياً لا تنسى ذلك "
وكان لكلماتها مفعول عكسي تماماً فقد علا صوته وهو
يقول بضيق بينما يده تشير جانباً
" لكننا ومنذ البداية تعاهدنا معاً أن لا نترك أحداً يستغل
الأطفال الزُهريين يا دانيا "
تنهدت نفساً عميقاً وقالت بكلمات حاولت أن تكون هادئة
قدر الإمكان لاحتواء الموقف
" نعم لم أنسى لكن أزير ... "
ولاذت بالصمت تشد شفتيها حين قاطعها بنبرة حادة
هذه المرة
" وإن كان موافقاً ويريد هذا أو كان ذاك الرجل يخصه أكثر
منا ولم يفعل ما نخشى منه لكنه يبقى استغلالا "
تنهدت بقلة حيلة وقالت
" أترك هذه المسألة الآن يا زين فهذا ليس وقتها "
كانت تريد إنهاء الجدل العقيم في الأمر الذي لا حكم لكليهما
فيه لكن ذلك يبدو لم يعجب الذي قال ونبرته الحادة لم تتغير
" وقت الحديث والبحث عن والدتك أليس كذلك ؟ كلا
الأمران متشابهان "
زمت شفتيها بقوة قبل أن تحررهما وكأنها تمنع نفسها عن
الانفعال مثله وقالت ببرود لم تستطع إخفائه في صوتها
" لن يجدي مهما قلت وأعدت "
وكما توقعت لم تزد كلماتها غضبه إلا اشتعالاً وقال بنبرة
حادة لم تتغير
" أنا من لازلت أعيد وأكرر بأن تركها لك سابقاً لا يعني
نجاتك منها دائماً أو أنها لن تفعلها مجدداً "
شعرت بكلماته جرحت قلبها وانحرف نظرها جانباً وكأنها
تهرب من نظراته تلك وتمتمت ببرود
" لا نفع مني الآن فلم أعد طفلة "
قال مباشرة وبنبرة قوية جادة
" لكن يمكنك إنجاب طفل زُهري لا تنسي ذلك "
نظرت له حينها وقد تابع من فوره ونظره انحسر في
عينيها تحديداً بينما كان صوته بدأ ينحرف للغضب
" حين قامت بتزويجك بوالدي وأنتِ شبه طفلة مؤكد لم يكن
غرضها إسعادك ولا تأمين مستقبلك "
" زين !! "
قالتها مستنكرة وكأنها لا تعرفه هكذا من قبل بينما لم يهتم
هو بكل ذلك وقد تابع هجومه الحاد الغاضب
" أتعلمين ما كان سيحدث لو لم أكن هناك تلك الليلة ؟
لقد تسببتُ بموت والدي لإنقاذك فهل تستهينين بكل ذلك
بسبب عاطفتك الغبية نحوها الآن ؟ "
أخفضت رأسها ونظرها للطفلة التي هدئت في حضنها ولم
تستطع قول أي شيء .. بل لم تستطع إخفاء الحزن ولا
المرارة اللتان لمعتا في عينيها فهو عطب جرحها المفتوح
وهي التي عانت كطفلة زُهرية وكامرأة أيضاً فدماؤها كانت
تُشترى بالملايين من الأوراق النقدية ومن أجل كل ذلك
وجميع أشباهها وبسبب كل ما عانته وبمساعدة مطر
شاهين تم تأسيس ذاك المكان الذي تم اتخاذه كملجأ لهم
بعيداً عن بلادهم وعن الثنانيين والعرب معاً وحاربوا جميع
مهربي الآثار الذين كانوا يسعون باستماته للحصول عليهم
وأنقذوهم منهم ، هي لم ولن تنسى أبداً كل ما مرت به
خاصة ما فعلته بها والدتها تلك وهي تبيعها مقابل المال إن
كان قبل هروبها منها كطفلة أو بعد إمساكها بها وهي ابنة
الثالثة عشر وذلك يشمل ما لا يعرفه سواها وهو انقاذها لها
من الموت مرة فإن كانت تريدها ميتة حقاً لمَ فعلت ذلك؟
أغمضت عينيها ما أن وصلها صوته الحانق مقاطعاً
أفكارها
" سواء إن كانت تعلم بوجودك هنا الآن وتتجاهلك فقط أو
إن كانت لا تعلم أين تكونين فأنتِ ستقدمين عنقك لها
وبمحض إرادتك هذه المرة "
كانت تعلم بأنه يقول الحقيقة لكن لا يمكنها تجاهل الصوت
الصارخ في قلبها والذي ظهر جلياً في عينيها ما أن رفعت
رأسها ونظرت له قائلة بحزن
" إنه أمر يستحق المجازفة فعن طريقها يمكننا الوصول
لكبار أولئك المجرمين سافكي الدماء ، إن نجحت سيتحقق
هدفي وسيسهم ذلك في تقديمهم للعدالة وإنقاذ الجميع
وإن فشلت وقتلوني سنكون وصلنا للنتيجة ذاتها "
اتسعت عيناه قبل أن يقول بضيق وبعد أن ضرب بطرف
أصابعه على جبينه
" يا إلهي دانيا هم لن يقتلوك أبداً وأنتِ تعلمين ذلك جيداً
ولن يحدث ذلك قبل أن تقدمي لهم طفلاً زُهريا "
اكتسى عينيها الأسى وخيبة الأمل وتمتمت ببرود
" فهمت .. أنت لن تساعدني مجدداً "
كانت تعلم بأن لها أسلحة مجدية معه دائماً لكنها وللمرة
الأولى تفشل وهو ما لم تتوقعه فقد قال سريعاً وبنبرة
قوية حادة
" فعلت كل ما فعلت من أجلك ونزولاً عند رغبتك فقط وإن
لم أكن مقتنعاً ، وحتى تسليمك لابن كنعان ذاك والذي
يفترض بأنه موجود لحمايتك وهو لم يتساءل عن هويتك
أو مكانك يوماً "
قاومت بصعوبة التواء شفتيها بسبب ما قال وها قد فهمت
الآن فهو لازال غاضباً لذات المسألة ، قالت وهي تهرب
بنظرها منه للطفلة في حضنها
" أنا أثق في قرارات الزعيم مطر كما أنك تعلم جيداً لما أنا
في منزله الآن "
وارتفع نظرها باستغراب معه ما أن وقف على طوله وكما
توقعت تماماً لم تزده كلماتها إلا غضباً وقد صاح فيها بعنف
" وما الذي فعله الزعيم مطر غير أنه يحاول وبكل جهد أن
يدمج العرب والثنانيين متناسياً تماماً مصير أشباهكم ؟
ثم وسبب انتقالك لمنزل ذاك الرجل هو الدخول لقصر عائلة
ضرار السلطان فهل لك أن تخبريني كم مرة دخلته حتى
الآن ؟ "
وقفت أيضاً وقالت بهدوء تحاول التخفيف من حدة غضبه
كما تجاهلت النصف الأول من كلماته الغاضبة لأنها مسألة
تخص الثنانيين كما ترى
" لم تكن الظروف مناسبة أبداً لقد حدثت أمور كثيرة "
أبعد الكرسي بحركة غاضبة وقال بضيق وهو يتحرك
حول الطاولة
" لقد كرست نفسي لحمايتك يا دانيا لكن الآن توقف دوري
وباختيار منك وبالرغم من ذلك لا أريد أن أقول مستقبلاً
بأنني لست الملام على ما حدث معك "
وقال آخر كلماته وهو يقف مواجهاً لها فقالت تنظر لعينيه
الحانقة برجاء حزين
" لم أكن أريد أن نصل لهذا الخلاف ولم يكن هذا
رأيك سابقاً ! "
ابتسمت شفتاه بسخرية سريعاً وقال
" أنتِ اخترتِ المدعو شاهر كنعان لمتابعة ما بدأناه لذلك
انتهى دوري "
اتسعت عيناها بذهول هامسة
" زين !! "
لكنه لم يهتم بل ورفض النظر لعينيها وما أن مد يديه
للطفلة حتى سقطت في حضنه وتعلقت به وعاد ودسها
تحت معطفه كما كانت وقت قدومه متمتماً ببرود
" لا يمكنني إخفاء عينيها لذلك لا يمكننا البقاء في الخارج
أكثر من ذلك "
قالت تحاول النظر لعينيه التي لازالت تتجنبها بشكل متعمد
"لن أعتبر كلامك الذي قلت جدياً ولا بأنه قرارك النهائي "
أدار ظهره لها وتحرك قائلاً ببرود
" يمكنك التفكير كما تريدين "
صرخت ضاربة الأرض بقدمها
" زين يا أحمق !! "
لكنه لم يهتم ولم يتوقف وجسده الطويل يقترب من باب
المقهى فتحركت خطواتها نحوه وخرجت خلفه وكان حينها
قد عبر ممر ضيق بين بنائين كبيرين وكانت ستلحق به
لكنها تذكرت المكان الذي كان عليها الذهاب له وهو
المنزل الذي ستقابل فيه ماريه وذاك ما جعلها تقف مكانها
متأففة وغيّرت مسار خطواتها الغاضبة معلّقة آمالها على
طباعه الماضية فهو سرعان ما ينسى كل ما قاله في وقت
الغضب ولا يتحدث عنه مطلقاً كما أن مسألة والدتها كانت
نقطة خلاف بينهما دائماً ، لكنه الآن أضاف شاهر كنعان
للائحة أيضاً وترى بأن غضبه مختلف عن السابق !.
وقفت عند طرف الرصيف وكانت سترفع يدها لتوقف سيارة
أجرة لولا منعها صوت رنين الرسالة الذي خرج من جيب
سترتها الطويلة فدست يدها وأخرجته منها وكل تفكيرها
بأنها من زين لكنها تفاجأت بأنها من شاهر الذي كتب فيها
( لا داعي لذهابك لها هي ليست هناك )
تنهدت بأسى بل وقلة حيلة وهي تعيد الهاتف لجيبها وتعود
أدراجها فهو لا يعلم بأنها غادرت المنزل أساساً بل وها
هي أضاعت فرصة اللحاق بذاك الأحمق الغاضب من أجل
زيارة تم إلغاؤها .
*
*
*
مر أكثر من ساعتين وهي مكانها لم تغادر السرير كما لم
تترك عيناها الشاردة الفراغ الذي كانت تهيم فيه تتكئ
برأسها على ساعدها الذي تدسه تحته فبسبب تلك الحبوب
باتت تنام طوال الليل دون أن تشعر بنفسها ولا أي شيء
حولها ولذلك عاد ذات الشعور الذي كانت تشعر به في
جسدها كما أعصابها ونشاطها الذهني بسبب هذه الأنواع
من الأدوية والتي كان تقرير طبيبها النفسي بأنها لن تتخلى
عنها أبداً بينما استطاعت تركها والنوم من دونها طوال
الفترة الماضية وتخلصت من جميع أعراضها المتلفة
للأعصاب قبل الجسد وها هي تعود خطوة للوراء بدلاً من
المضي قُدماً ، بل وعدة خطوات حتى أصبحت في المكان
الذي انطلقت منه .
لمعت عيناها الشاردتان بحزن وألم وهي تتذكر وجه شقيقها
توأمها ومؤنسها حتى في غيابه بل وهدفها الوحيد للبقاء
ومن كانت تحلم بمستقبله الذي أراد هو لنفسه وها هي
تراه أيضاً يفقد كل شيء وأوله أحلامه تلك .
ابتسمت بمرارة والذكريات تعود بها لذاك الزمان البعيد ..
للطفلين في العاشرة جسديهما النحيلان لا يتطابقان مع
سنهما أبداً يجلسان تحت شجرة التوت الكبيرة في مزرعتهم
وكل واحد منهما يحضن ركبتيه بيديه ينظران للأرض
مبتسمان بينما تراقب أحداقهم الزرقاء حركة النمل الصغير
بين الأوراق اليابسة المتناثرة على الأرض وقال الفتى
مبتسماً
" أتعلمين ما هو حلمي للمستقبل يا زيزفون ؟ "
نظرت نحوه حينها وكان لازال ينظر لحركة النمل العشوائية
وتابع وذات الابتسامة المشرقة المتفائلة تزين شفتيه
" أريد أن أقود طائرة عسكرية وأن أكون طياراً حربياً "
لاحت ابتسامة صادقة على شفتيها تبدلت لسعادة مماثلة
ما أن نظر لها وقال بحماس وعيناه تبرق كمياه البحر تحت
أشعة الشمس
" ظننت بأنه حلم لا يمكن تحقيقه وأنا أعيش مع تلك العائلة
كخادم لهم لكني الآن أراه سيتحقق وقد أصبح لديا عائلة
ولم أعد اللقيط الوحيد "
وتابع من فوره مبتسماً ينظر لعينيها بفضول
" وأنتِ يا زيزفون ما هو حلمك ؟ "
ماتت ابتسامتها ونظرت للأرض تحت قدميها وجمود غريب
اكتسى نظراتها وكأنها لم تسمعه فقال مجدداً
" ألا حلم لديك ! "
نظرت له وابتسمت تخفي كل تلك المشاعر قائلة
" بلى بات لديا حلم الآن وهو أن أراك طياراً "
تبدلت نظراته للاستغراب وقال
" وماذا عنك أنتِ لنفسك ؟ "
" لا شيء "
همست بتلك الكلمة ونظراتها الجامدة تعود للأرض تحتها ..
نظرة تبدلت للحزن والأسى ما أن وصلها صوته الحزين
" كيف يكون لا شيء ؟! ألم تفكري يوماً في المستقبل وما
تريدين أن تحققي فيه ! "
اشتدت أصابعها الرقيقة على قماش فستانها الذي يغطي
ركبتيها وخرجت الكلمات من عمق مأساتها وحقدها
قبل حنجرتها
" بلى أريد أن أرى من ترك والدي وجدتي للموت وتركني
هنا يتعذب مثلنا "
حدقت فيها عيناه بحزن وقال
" تقصدين جدنا ؟ "
نظرت له وقالت بحدة
" لا تقل جدنا هو ضرار السلطان فقط وبسببه حدث كل
هذا لك ولي "
لاذ كلاهما بالصمت وكانت نظراته الحائرة تنتقل بين عينيها
المدججة بالغضب والحقد والألم حتى ظهر على أنفاسها
التي باتت تخرج قوية متعاقبة وقال باستغراب
" لما تكرهين هذا المكان ومنزلنا يا زيزفون ؟ والدتي
تحبنا كثيراً "
لم تجب ولم تتحدث ولم ينتظر هو ذلك وقد همس بحزن
يبعد نظره عنها للفراغ أمامه
" أنتِ لم تعرفي معنى أن لا يكون لك عائلة "
أبعدت نظرها عنه أيضاً لكن للأرض تحتها وامتلأت عيناها
بدموع القهر وازداد اشتداد قبضتيها حول ركبتيها تخفي
انفعالها وارتجافهما ولم تتحدث لأنه لا يمكنها قول الحقيقة
كانت أسئلة منطقية تمنت لو لم يعرف أجوبتها يوماً ولم
يعرفها أبداً لتدمر طفولته ومستقبله مثلها فهي كانت تشعر
بعذابه طوال السنوات الماضية كما كانت تشعر بتعذيبه
لنفسه ليلاً .
أغمضت عينيها وسالت دمعة وحيدة من طرف إحداها
مروراً بالأخرى تشعر بها تحرق حاضرها ومستقبلها
متسللة من ماضيها الأسود فلم تشعر يوماً بالراحة
والسكينة لأنه لم يشعر بها وتعلم جيداً بأنه عليهما أن
يسعدا كليهما معاً أو لن يحدث ذلك أبداً وأحدهما
يتألم ويتعذب .
جلست تجمع شعرها عند جانب واحد من كتفيها ومسحت
عينيها بحركة قوية سريعة وغادرت السرير بل والغرفة
بأكملها تمسك دفترها في يدها فتذكر تلك الأمور لن ينفعهما
في شيء ، تؤمن بذلك بل وتطبقه دائماً فهي لم تخسر
شقيقها بعد بل وموقنة من أن محاولة قتله تحمل سراً كبيراً
وهذا ما كانت تشعر بأنه يحاول إيصاله لها أي أنه لم يفقد
صلته بما حوله بعد ولم يمت دماغياً وثمة أمل .
توجهت نحو الستائر التي كانت تغطي الواجهة الزجاجية
الكبيرة كنافذة محمية لا قفل لها ولا مقبض وسحبته بيدها
بقوة وعمّ النور القوي المكان يتسلل له عبر خيوط أشعة
الشمس الدافئة وما أن استدارت مولية ظهرها له وتقدمت
خطواتها قليلاً وقفت مكانها تنظر تحت قدميها الحافيتان
حين شعرت بشيء غريب على بشرتهما وتراجعت للخلف
خطوة تنظر بعينين متسعتين للتراب الرمادي اللون الذي
كان يغطي الأرضية البيضاء اللامعة بطبقة رقيقة فوقها
وارتجفت يداها وسقط الدفتر منها للأرض ويدها الأخرى
ترتفع لا شعورياً لعنقها ولآثار الخدوش فيه وأغمضت
عينيها وتقطعت أنفاسها مع ارتجاف جسدها تشعر بما
حدث وكأنه الآن .
انتفض جسدها والتصقت بالجدار خلفها مفزوعة تنظر لباب
الجناح وسبب الصوت الذي أرعبها فوق ذعرها لتوقعها
إياه في مكان آخر وكان وقاص الذي وقف مكانه دون أن
يتحرك نحو الداخل ينظر لعينيها باستغراب ولنظرة الخوف
فيهما .. نظرة لم يراها أو يعرفها فيهما سابقاً ولا ليلة
مقتل نجيب وحين طلبت منه نقلها إلى هنا ! بل لم يتوقع أن
يراها في تلك العينين ولا الملامح أبداً فلم يعرفها إلا قوية
لا مبالية باردة وساخرة !!
تقدمت خطواته نحو الداخل ونظراته لم تفارقها تتنقل بين
عينيها ويدها الممسكة بجانب عنقها وما أن وقف على بعد
خطوات فقط منها همست وأنفاسها لم تنتظم بعد كما لم
تزل يدها عن عنقها
" لم تنم هنا البارحة ؟ "
اضطربت ضربات قلبه لا شعورياً بسبب وضعها ذاك
ومشاعره التي فقد السيطرة عليها تماماً وقال بتوجس
" لا .. جئت للتو ! "
وكان جوابه ذاك ما جعل الخوف والتوتر يتحكمان
بإنفعالاتها أكثر وإن أخفت كل ذلك بانحنائها لرفع دفترها
من الأرض لكن ذلك لم يقنع الذي قال ما أن استوت واقفة
" ماذا حدث يا زيزفون ؟ ما بك ! "
" لا شيء "
همست بتلك الكلمة وهي تتوجه ناحية غرفتها لكنها توقفت
عند بابها لبرهة قبل أن تستدير نحو الواقف مكانه ونظراته
تتبعها وقد نظر لعينيها التي لازال يعجز عن فهم تلك
النظرة فيهما وكأنها تقاوم ذعرها من شيء ما ! وما يقتله
وموقن منه بأنها إن رفضت التحدث فلن يجبرها على ذلك
ومهما حاول ، كان يتوقع بل وينتظر أن تدخل وتغلق بابها
في وجهه ككل مرة لتصفع قلبه وواقعهما به لكنها خانت
جميع توقعاته تلك حين تحركت شفتاها ورحمته أخيراً وإن
بكلمات مترددة منخفضة
" أنا ... أنا لا أريد البقاء هنا "
حدق فيها باستغراب فهي من طلبت هذا سابقاً وأصرت
عليه تغير رأيها فجأة ! اقتربت خطواته منها وقال
والاستغراب لم يغادر ملامحه بعد
" لا تريدين البقاء في جناحك هنا ؟! "
وما أن وقف أمامها مباشرة نظراته المستفهمة لم تترك
عيناها قالت ونظراتها تراقب عينيه بترقب وكأنها تبحث
عن الرفض فيهما
" بل في القصر بأكمله "
وكان رد فعله المبدئي أن حدق فيها بذهول وتجمدت
ملامحه وكأنه تحول للوحة زيتية معلقة على الجدار وقال
ما أن استفاق من صدمته هامساً
" من القصر !! "
وتذكر فجأة الحالة التي وجدها عليها وقت دخوله وذاك ما
جعله يتقمص دور التمثال الحجري فعلياً وكأنه يحاول
البحث والتفتيش عن جميع تلك الأسئلة في عينيها ، وكانت
المفاجأة الأكبر له أن استدارت ناحية غرفتها مجدداً وكأنها
فهمت رفضه دون أن يتحدث أو هكذا فهم هو فتحركت
أطرافه حينها قبل حواسه وأوقفها ممسكاً يدها وأدارها
نحوه قائلاً
" زيزفون ماذا حدث ؟! "
لم يحصل على جواب ما أراد منها بل قالت بكلمات جادة
منخفضة تنظر لعينيه
" أنت وعدتني عند شاطئ البحر بأن تحقق لي طلبي
ومهما كان وكان هذا طلبي حينها وأنت وافقت إن
كنت تذكر "
يذكر بالتأكيد وكيف ينسى تلك الليلة وتلك اللحظات ؟ بل هو
لم ينسى شيئاً ولا كلمة قالاها منذ عرفها كما يذكر بأنه
استغرب حينها أن كان طلبها بأن يُخرجها من هنا حين
تطلب هذا وهو وافق ووعدها لكنه اعتقد بأنه نوع من
التعجيز منها لعلمها بأن جده يمنع عنهم شراء العقارات
والسكن في غير هذا القصر ولا بشكل مؤقت وهو انصاع
لأوامره طوال السنوات الماضية بالرغم من تنقله بين لندن
ومكتبه هنا وعودته متأخراً أغلب الأوقات لكن أن تكون
كلماتها تلك نابعة عن حقيقة وستطالبه بها يوماً فهذا ما لم
يتوقعه ! قال بجدية ينظر لعينيها
" بلى أذكر جيداً "
قالت من فورها
" حقق لي هذا الآن ... "
ولاذت بالصمت لبرهة وكأنها تقاطع نفسها وتعالت ضربات
قلبه ما أن تابعت بتأني
" فوحدك من يرضى بمساعدتي "
لو كان الأمر بيده ولولا حظه السيء والذي لم يبتسم له
يوماً لكان حضنها الآن بل وحلق بها عالياً يصرخ بسعادة
بدلاً من محاربة نفسه ومقاومتها فحتى السعادة التي داعبت
روحه لسماع هذا منها ولأول مرة لم يستطع أن يظهرها
وإن كان موقناً بأنه لم تخفيها عينيه اللتان لمعتا بالسعادة
التي غمرت قلبه وأخفاها لسانه ، سعادة سرعان ما انطفأت
وتلاشت كأحلامه جميعها وهو يتذكر حديث جده البارحة
وما جعله يقضي الليل خارجاً في سيارته كعادته كلما ضاق
الخناق عليه وقرر الهرب من كل ما يُذكّره بواقعه وتذكر
العقبة الجديدة والتي وضعها ذاك الجد في طريقه لتحول
بينه وبين كل هذا ، وذاك ما لم تخفيه عيناه أيضاً ويبدو
أنها قرأته جيداً كما يعلم حدة ذكائها وبأنها ستفهم الأمر
سريعاً كما حدث في المرة الماضية حين لجأت إليه .
وكان ذاك ما جعلها تخطو للخلف خطوة واحدة حينها وما
كان يراه في عينيها ويفهمه جيداً وهو الشعور بالخذلان
فأمسكت يداه بذراعيها قبل أن تفكر في الابتعاد عنه
بل وفي تأكيد أفكارها تلك وقال بجدية
" سأفعل كل ما تريدين يا زيزفون "
وتابع من فوره وهو يرى نظرة التفكير في عينيها
" سأفعلها وإن لم تطلبيها سابقاً ولم أعدك بها ..
سأفعل كل شيء لأجلك "
سمع كثيراً عن أن القلب يرقص فرحاً لكنه لم يعرف ذلك إلا
لحظتها وما أن ابتسمت له ابتسامة لم يعرفها في شفتيها
سابقاً وتخصه بها ! ابتسامة سرعان ما سرقتها منه وهي
تستدير نحو غرفتها لتتركه يتلاطم في مشاعره فتمنحه
الحياة في لحظة ثم تعود وتسلبها منه مبتعدة لتأخذ
روحه معها .
" لا تغادر من هنا "
كان ذاك فقط ما قالته وهي تغلق باب الغرفة مسرعة
وتركته واقفاً أمامه ومواجهاً لنظراته المستغربة فهي رمته
في دوامة طويلة من التساؤلات والأسئلة التي لا يجد لها
أي أجوبة لتضاعف من صعوبة مهمته !
غرس أصابعه في شعره يشده للخلف وتنفس نفساً عميقاً
يرفع رأسه للأعلى وتمتم بأسى
" ساعدني يا رب لأساعدها فأنا وحيد في هذه المعركة "
*
*
*
ما أن غادر مكتب الطبيب كانت وجهته المكان الذي جاء
منه قبل قليل وكان صوت خطوات حذائه على الأرضية
الرخامية يشبه نقر الأفكار في رأسه وكأنه مسمار طويل يتم
ضربه في قطعة خشب قاسية وتمنى أن كان يملك شيئاً
يفعله غير ذلك لكنه عاجز حاله حال أي شخص غيره فما
الذي قد يفعله يوقف كل هذا ؟
حين وصل ممر غرفتها ظهر له الواقف مكانه حتى الآن
ووحيداً هناك وقد نظر له بدوره فتباطأت خطواته كما توقف
عن الشعور بها في رأسه لأن أفكاره كما يبدو اتبعت منحى
آخر وإن كانت تصب في الأمر ذاته .
توقف أمامه مباشرة ونظراته بحثت حوله في حركة لا
شعورية وقال
" أين هي المرأة التي كانت هنا ومن تكون ؟ "
وكان ذاك بمثابة زر التشغيل للذي أشاح بوجهه جانباً
وقال بضيق
" لا تسألني عنها فلن أتحمل مسئولية مختلة مثلها
وليغضب مطر كيف يشاء "
نظر له رعد باستغراب ولم يفهم ما علاقة مطر ولما هي
هنا وما الرابط بينها وبين مبنى المحكمة الذي جاؤوا
منه ! لكنه لم يجد الفرصة المناسبة للسؤال أكثر لأن
الواقف أمامه تملص من ذلك بما معناه لا تسأل مجدداً
وقد قال ما أن عاد بنظره له
" هل غادرت تيما ؟ "
أومأ برأسه وهمس ونظره ينتقل نحو النائمة خلف
الجدار الزجاجي
" أجل مع الكاسر "
كانت نظراته تراقبها في صمت بالرغم من أن داخله لا
يشبه ذلك البتة وذاك ما جعله يهرب بنظره بعيداً عنها وعاد
ونظر للواقف أمامه ما أن طال صمته وقال ببعض التردد
" لم تسأل ما الذي حدث في المحاكمة ! "
كان رد فعله المبدئي ابتسامة ساخرة وقبل أن يتمتم ببرود
" ومن سأسأل ؟ "
تنهد نفساً عميقاً وقال
" تبدو لي مستاءً ؟! "
كان رعد يستشعر سابقاً بروداً في علاقته معه لم يفهمه
بالرغم من أنه لم يبدر منه أي تصرف سيء حياله لكنه
يشعر بأنه ثمة فجوة بينهما وبأنه يضع مسافة تعيق اتجاه
علاقتهما نحو المصاهرة وإن لم تكن برابط دم ولطالما
احترم ذلك ولم يبدي نحوه أي نوع من العداء أو الاستياء
لكنه يرى الآن أن الأمر مختلفاً تماماً وتأكد من ذلك ما أن
أبعد نظره عنه متأففاً وقال بضيق
" رأسي سينفجر بسبب تلك المعلولة نفسياً "
وكان ذاك بمثابة لغز جديد جعله يحدق فيه بتساؤل وإن كان
لا ينظر له وقرر عدم السؤال هذه المرة فالأمر فيه امرأة
لا تربطه بها صله وعليه احترام ذلك فاتجه للسبب الثاني
لوجوده هنا وقال وهو يطيل النظر له
" القضية سقطت يا قاسم "
جعلته كلماته تلك ينظر لعينيه لكن نظرته كانت تتسم
بالجمود التام ولم يستطع قراءة أي شيء فيها ، وأتاه
تفسير ذلك ما أن تمتم بجمود
" توقعت هذا "
أومأ برأسه في صمت متنهداً فهو كان يتوقع ذلك بالفعل أو
واثق منه ويحار فعلياً في نوع العلاقة التي تربط مطر
شاهين برجاله ! وكل يوم يتضح له أمور كان يجهلها
واليوم تحديداً علم بأنها علاقة فريدة من نوعها ومميزة
عن أي نوع مشابه وتأكد بأنهم رجال ينظرون لقائدهم نظرة
القلب للعقل ، اشتدت أصابع يمناه في حركة لا شعورية
ولازال يحدق في عينيه التي شردت ناحية النائمة في
الداخل وكأنه يربط المعلومة بالواقع أمامه وقال بترقب
" لكن ليس هذا هو الأسوأ وما جعل حالتها تصل لهذا "
نظر ناحيته بحركة سريعة حينها وقال مباشرة
وبتوجس كبير
" ماذا حدث ؟ "
حاول أن يهرب من عينيه لكنه لم يفلح وازداد شد أصابع
قبضته أكثر وكأنه يعتصر قلبه بينها بل تمنى خنقهم بها
وقد قال أخيراً ورحم نفسه قبله
" وصلت أوراق القضية لأبناء غيلوان وعلموا بأنهما
ابنة وحفيدة دجى الحالك "
كل شيء توقعه منه حينها إلا هجومه الجسدي نحوه وهو
يشد ياقة سترته صارخاً
" ما هذا الذي تقوله يا ابن شراع ؟ "
أمسك بقبضته تلك ونزعها عنه بالقوة قائلاً بضيق
" أنا أتفهم تفاجأك بالأمر لكن لا أقبل أن تهينني "
كان رد فعله الصمت التام بينما كانت أوردة نحره نافرة
وعضلات فكيه تنبض وكأنه يكتم إعصاراً قوياً بداخله ولن
يستغرب هذا وأن يكون تأثير الصدمة عليه قوياً هكذا ،
بينما كانت نظراته معاكسة لذلك تماماً فكانت عيناه
كالضائع المشتت والمفجوع في ذات الوقت ولم يكن يعلم
بأنها تترجم أفكار عقله حينها وهو يستجلب تصرف تيما
الأخير معه ويربطه بما علم منه الآن وما حدث وتحركت
شفتاه أخيراً وإن خرجت الكلمات منها ميتة تائهة
" لم يخبرني بالأمر ؟! "
كان تعليق رعد المبدئي الصمت وقبل أن يقول بشيء
من الهدوء
" لو فعلها حينها ما كنتَ لتأتي إلى هنا وتكون معهن .. هو
يعلم ذلك جيداً "
أبعد نظره عنه وبدأت نظراته تتشتت في المكان حوله وكأنه
وجد نفسه في صحراء خالية وحيداً يحاول فهم واستيعاب
أين يكون بينما كان وكأن كل وريد في جسده سينفجر
بالدماء فجأة فقال رعد الذي كان يفهم جيداً ما يعانيه حينها
وبذات نبرته الهادئة
" يمكنك المغادرة سأبقى هنا بقربها "
نظر لعينيه بصمت وكأنه لم يغادر تنويم الصدمة له حتى
الآن فتابع مؤكداً ومشجعاً لأنه يعلم بأن عقله الباطن
سيرفض تلقائياً مخالفة أوامر زعيمه
" جميع رجاله لحقوا به لأنه عاد للمحكمة ومن الأفضل
أن تكون معهم أيضاً "
وكما توقع كان ذاك ما جعله يتحرر من جميع القيود التي
كانت تكبل عقله قبل ساقيه وغادر بخطوات مسرعة بل
وشبه راكضة يُخرج هاتفه من جيبه ونظراته تراقبه حتى
احتفى واطلق حينها تنهيدة خافتة تحاكي قلة حيلتة وتوجه
لباب الغرفة أمسك مقبضه وأداره ببطء وهو يفتحه وكأنه
يخشى إزعاج التي لا تعلم عمّا يحدث حولها شيئاً وإن
أسقط الباب بركلاته القوية .
أغلقه خلفه وتوجه نحوها وجلس على الكرسي قرب
سريرها وعيناه ملتصقتان بملامحها الفاتنة المتعبة ..
شفتاها جافة ووجنتاها المتوهجتان تنام عليها رموشها
الطويلة دون حراك واعتصر الألم قلبه فهذه هي وصية
والده والاسم الذي لم يتوقف عن ذكره قبل أن يموت ..
ليس أحد أبنائه ولا شقيقته الوحيدة ولا حتى حفيده الوحيد
وابن ابنه المتوفى بل هي فقط من أوصاه عليها مراراً
وتكراراً وكل ما يخشاه هو الوقوف أمامه يوم الحساب وقد
خان أمانته وتخاذل ناحيتها .
اشتدت قبضتاه فوق ركبتيه بقوة وشعر بالغضب من نفسه
والعجز ذات الوقت فهو أمّنه على ما لا يمكن تأمينه لأنه
كان دائماً في المرتبة الثالثة بعد زوجها ووالدها الحقيقي ،
بل وجميعهم كانوا خلف استقلاليتها فهي لم ترضى يوماً
بأن يكون ثمة شخص وصي عليها تأتمر بأمره بعد
والدها شراع .
انتقلت نظراته الحزينة ليدها المستقرة بجانب جسدها
ولأصابعها البيضاء الشاحبة المرتخية ومد يده نحوها بتردد
فهم ومنذ أن عرفوا حقيقة أنها ليست شقيقتهم كان ثمة
حاجز ديني قوي بينهم لطالما حافظت هي عليه واحترمه
هو بالرغم من أنه لم ولن يراها إلا شقيقته ، لامست
أصابعه نعومة يدها واشتدت عليها وعيناه تعود لملامحها
وقال بصوت حزين كئيب
" سامحيني يا غسق وليسامحني والدي فلم أكن يوماً الكفؤ
لتحمل الأمانة "
تركت يده يدها بحركة سريعة ووقف على طوله ما أن انفتح
باب الغرفة ووقفت الممرضة التي ابتسمت له من فورها
وعلم بأنها ستكون من تحدث عنها مدير المستشفى
لتلازمها ، نظر للنائمة مكانها لا تعلم عن شيء مما يحدث
حولها قبل أن ينظر لها مجدداً وقال
" أزيلي الأجهزة والمغذي عنها "
ماتت ابتسامة الشابة الجميلة فجأة وظهر التوتر واضحاً
على ملامحها كما صوتها حين قالت
" لا يمكنني فعل ذلك لأن ... "
قاطعها سريعاً وبحزم
" لن يعترض أحد افعلي فقط ما أطلبه منك "
شدت يديها ببعضهما وظهر الخوف واضحاً على
ملامحها وقالت
" أعذرني سيدي لا يمكنني تحمل مسئولية هذا "
تنهد بنفاذ صبر وقال
" لن يُحملك أحد المسئولية "
قالت سريعاً وبرجاء
" بلى ذاك ما سيحدث وسأخسر عملي سيدي أرجوك
لا يمكنني هذا "
قال من فوره وبجدية
" ثقي بي وإن حدث هذا فسأوفر لك عملاً آخر
وأفضل منه "
تبدل التوتر والخوف في ملامحها للتردد لكن ولعلمها من
يكون وما يستطيع فعله انصاعت نهاية الأمر وتوجهت
نحوها وفعلت ما أمرها به كما أعادت لف حجابها بإحكام
وما أن انتهت ابتعدت عن السرير خطوة واحدة فانحنى
نحوها ودس يديه تحت جسدها ببطء ورفعها برفق وخفة
وسار بها نحو باب الغرفة يخفي وجهها وملامحها في كتفه
وصدره وما أن اجتازه نحو الخارج أشار برأسه للحرس
الواقفين بعيداً والذين اقتربوا منه سريعاً واستدار نحو
المرضة التي خرجت من خلفه وقال
" أوصليني لباب الطوارئ "
*
*
*
مرت دقائق قليلة لم يشعر بها أبداً قبل أن ينفتح الباب
مجدداً وخرجت التي باتت ترتدي بلوزة بيضاء ناصعة
مطرزة عند ذراعها وكتفها بأزهار حمراء وأوراق خضراء
متداخلة ولها أزرار شفافة لامعة وبنطلون أسود من قماش
فاخر يتخلله حزام عريض وقد جمعت شعرها للخلف في
جديلة منخفضة تمسكه بمشبك مطاطي خلف عنقها ، نظر
لعينيها ورفع يديه جانباً وقال مبتسماً
" مؤكد حالتي يرثى لها لذلك عليا أن أستحم وأبدل ثيابي "
" سأكون معك "
قالتها مباشرة وبجمود بل وثقة مما جعل عيناه تتسع وهو
يحدق بها فتمتمت ببرود
" لما تنظر إليا هكذا ؟ "
لم يستطع إمساك ضحكته التي ملأت المكان يرفع رأسه
عالياً وذاك ما جعل مزاجها يتبدل للضيق وقالت
" ما المضحك في الأمر ؟ "
نظر لها وقد قطع ضحكه يجاهد نفسه بالقوة وقال
" أخشى إن أخبرتك يتغير رأيك في الرحيل من هنا "
لم يغادر الاستياء ملامحها الجميلة كما صوتها حين قالت
" هذا ليس وقت المزاح يا وقاص وأنا لن أغير رأيي"
فرد يديه وقال مبتسماً
" لم تتركي لي خياراً غير المزاح "
وتابع من فوره وابتسامة جانبية تزين شفتيه
" أنتِ لا تعلمين تبعات ما سنفعله يا زيزفون لذلك ... "
قاطعته وكأنها لا تهتم لما يقول أو تعلمه سلفاً قائلة ببرود
تكتف ذراعيها لصدرها
" لا أظنك تهتم لو فقدت هذا المكان أم أنك تخشى فقدان
شيء آخر "
حدق فيها باستغراب وقال
" شيء آخر مثل ماذا ؟ "
أشاحت بوجهها جانباً ولازالت تكتف ذراعيها لصدرها
وتمتمت ببرود
" أخشى إن تحدثت تغير أنت رأيك "
أمسكت أصابعه بذقنها وأدار وجهها ناحيته حتى نظرت
لعينيه وتركه حينها قائلاً بجدية
" أعلم بأنك أبعد الناس عن المزاح يا زيزفون لكنك لا
تعرفينني أيضاً وإن قلت أمراً لن أتراجع عنه "
لاذت بالصمت لبرهة تنظر لعينيه قبل أن تتحرك شفتاها
قائلة بجمود
" أنا مغادرة في جميع الأحوال وإن قفزت من سياج
سور القصر "
كان رد فعله المبدئي أن حرك رأسه مبتسماً ينفي اقتناعه
بالفكرة وقبل أن يقول
" أعلم بأنك أذكى من أن تفكري في فعلها وأنتِ لا تملكين
نقوداً ولا هاتفاً ولا أحد تذهبين إليه "
وما أن كانت ستتحدث سبقها قائلاً بجدية ويداه
تمسك بذراعيها
" زيزفون أنا قلت بأني على استعداد لمساعدتك وسأفعل
هذا لآخر يوم لي في هذه الحياة ولن أتركك أبداً "
كان ينظر لعينيها بتصميم تؤكد عيناه كل كلمة يقولها وذاك
ما كان يريد إيصاله لها وما فهمته تماماً فقالت بتأني
تنظر لعينيه
" أريد أن أبتعد عن هنا فقط وحيث لا يعلم أحد "
تنهد نفساً عميقاً يبعد يديه عنها وحرك رأسه بأسى قائلاً
" لو أنك تنطقين فقط يا ابنة عمي الوحيد "
قابلت كلماته تلك بالبرود وقالت وهي تبعد نظرها عنه
" هيا اذهب وأقنع زوجتك بسبب تركك للمكان سأنتظرك
في الأسفل لن أبقى هنا "
حدق فيها بصمت لبرهة بل وضيّق عينيه وإن كانت لا تراه
إن كان لا يعرفها جيداً لفهم الأمر بشكل آخر لن يحلم به
مع هذه المرأة .. لكن لما تفعلها ! هل تستفزه مثلاً ؟
أمال شفتيه بطريقة رجولية أنيقة تشبه شخصيته وهو يقول
" ومن قال بأني سأترك القصر ؟ "
نظرت له حينها وقالت والبرود لم يغادر صوتها بعد
" لأني أعرفك جيداً كما أعرف جدك "
ابتسم بسخرية وأولاها ظهره وهو يبتعد قائلاً
" لا يعنيني ما سيقول فالقضية في يدي والقبض عليك
لن يكون إلا بقرار مني "
وتوقف فجأة بعد عدة خطوات واستدار نحوها يدس يده في
جيبه وأخرج شيئاً رماه نحوها قائلاً
" خذي مفتاح السيارة إن كنتِ تريدين انتظاري فيها "
التقطته بسهولة لوصوله عندها تماماً بينما راقبته عيناها
وهو يبتعد متمتماً
" سأنزل سريعاً "
واختفى خلف باب الجناح المفتوح فنظرت له في يدها وكان
مفتاح واحد لا شيء معه سوى جهاز الإنذار الخاص
بالسيارة ، حدقت فيه بصمت لبرهة قبل أن ترفع نظرها
ناحية الجدار المقابل لها بعيداً وارتجف جسدها لا شعورياً
وانقبضت أصابعها على حديده البارد وضمتها لصدرها
الذي بدأت أنفاسه تتوتر وأبعدت نظرها سريعاً عنه
وتوجهت خطواتها نحو باب الجناح ترفض البقاء هنا لدقيقة
أخرى فعليها الخروج من هذا المكان ولا سبيل آخر أمامها .
ما أن نزلت السلالم الخاص بالطابق الذي تسكنه توجهت
للسلالم المؤدي للأسفل حتى كانت في البهو الواسع ووقفت
في الجهة الأقرب للباب تراقب نظراتها المكان حولها كمن
لا شيء أمامه يفعله غيره قبل أن تنتبه للباب الضخم الذي
فُتح جانباً قرب السلالم وتبدلت نظراتها للجمود القاتل تنظر
لعيني الذي خرج من مكتبه ووقف ينظر لها ، كان كل
واحد منهما وكأنه ينظر لعينيه في المرآة لقوة تشابه تلك
النظرة وكأن كلاهما يرسل رسالته في صمت وعناد .
نظرة لم يقطعها سوى انحراف الأحداق الزرقاء ناحية
السلالم بسبب الذي ظهر فجأة ينزل عتباتها بحركة سريعة
وكان وقاص الذي تبدلت ثيابه بأخرى مشابهة لها في اللون
وإن اختلفت في التفاصيل كما برق شعره الرطب المصفف
تحت أنوار الثريا الضخمة المعلقة أعلاه بينما كان نظره
كما تركيزه على الأوراق التي كان يقلبها بين يديه وكأنه
يتأكد منها في أقصر وقت ممكن حتى كان أسفل السلالم
وتباطأت خطواته حينها وما أن وقع نظره على جده والذي
بات ينظر له أيضاً وعاقداً حاجبيه فعلم بأنه ربط الأمور
سريعاً بوقوفها هناك ونزوله ، وكل ما فعله حينها أن تابع
طريقه وبعد أن تمتم ببرود
" صباح الخير "
وتركه وراءه فلم ينسى بعد ليلة البارحة كما لم تسمح له
نفسه بتجاهله دون أن يلقي عليه التحية ، ويعلم جيداً أي
غضب أسود ينتظره منه ما أن يعلم بما ينوي فعله لكنه لن
يتراجع ولن يفعلها مجدداً ويخسر ثقتها به كما فعل سابقاً
وللسبب ذاته وهو إطاعة جده وإن من أجلها وكانت
النتيجة أن فقد فرصته الوحيدة التي منحته إياها في اللحظة
الوحيدة التي شعرت فيها بالوحدة والضعف ولجأت إليه
وهو خذلها لذلك لن تتكرر تلك الأخطاء وتحت أي سببٍ
كان خاصة بعد حديثهم البارحة ونيتهم نحوها فقرار
ابتعادها بات مسلماً به وكان سيفعلها وإن لم تطلب منه
ذلك فلن يسمح بإرجاعها للمصح وها هي اختصرت عليه
الطريق وإجبارها على الذهاب معه .
ما أن وقف أمامها وكان سيتحدث قاطعه الصوت الجاد
العميق من خلفه
" أين تذهب بها ؟ "
نظر لعينيها أولاً وللنظرة التي لم تحمل أي تعبير فيهما
سوى النظر لعينيه وبصمت وهو من توقع أن ترميه بنظرة
تحدي كعادتها في المواقف المشابهة ! فهل تخشى أن يغير
رأيه ويخضع له ؟!
أمال جانب وجهه ليصير مقابلاً له خلفه وقال بجمود
" لمبنى النيابة العامة "
كان ذاك فقط ما قاله ويده تلامس ظهرها وخرج بها من
هناك لم يفكر ولا في النظر خلفه وأراحه أنه لم يسمع أي
اعتراض منه وإن لم يكن يعلم مدى رضاه عن الأمر
وتقبله له ومؤكد سيفهم بأنه يأخذها إلى هناك من أجل
القضية وسيرجعها ، وهذا أفضل بالنسبة له فليس هذا
الوقت المناسب للمواجهة خاصة في وجودها .
ما أن وصلا السيارة مدت مفتاحها له فأخذه منها ونظر
لعينيها ما أن قالت
" لما أخبرته بأننا ذاهبان إلى هناك ؟ "
حرك جهاز الإنذار بين أصابعه وعلا صوته المتكرر مرتين
متتابعتين مع إضاءة أنوارها الخلفية الحمراء وتحرك
مجتازاً إياها ليفتح الباب لها متمتماً
" لأنها الحقيقة "
ووقف هناك ومقبض الباب المفتوح لازال في يده ينظر لها
حتى تحركت نحوه ووقفت أمامه تنظر لعينيه وكأنها تنتظر
شرحه وتبريره فقال
" لا يمكننا الذهاب لأي مكان غيره الآن فثمة أعمال
تنتظرني وعليك تحمل هذا قليلاً فقط "
اومأت برأسها في صمت وركبت السيارة فأغلق الباب
وتحرك حولها بخطوات مسرعة وركبها وغادرا فلا يمكنه
التأخر أكثر من ذلك وسيجد حلاً لكل هذا فيما بعد .
*
*
*
|