كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
حين اختفت الأصوات في الخارج مجدداً وأُغلق باب المنزل
كان الصغيران قد ناما وهي تحاول إلهاؤهما عن الطعام
الذي كانا يطلبانه بإلحاح فهما طفلان ويجوعان بسرعة
وهي لم تستطع الخروج للمطبخ ولا هاتف لديها لتطلب من
يمان إحضار شيء ليأكلاه ويبدو أنه غفل عن هذا الأمر لما
كان ليتوانى عن فعل أي شيء من أجلهما .
وقفت وغادرت الغرفة مغلقة الباب خلفها بهدوء بينما كان
نظرها على البابين اللذين أصبحا في مكانهما الآن ومغلقان
ومؤكد لن يُفتحا قبل أن يجف الإسمنت الذي يثبتهما .
تحركت خطواتها نحوهما ووقفت تنظر للباب الأيسر والذي
كان يفتح على الفناء الخلفي لمنزل أويس وشعرت
بضربات قلبها تضطرب من مجرد تذكر عيناه ونظراته لها
وتساءلت ما سيجلبه هذا الباب لحياتها مستقبلاً فلا يمكنها
تفاؤل الخير البتة بسبب كرهه العميق لمجرد النظر لها فلما
يفعلها وهو يعلم بأنها هنا !
تبدلت نظراتها الشاردة في الحديد الأسود للحزن وحارت في
أمرها فهي ابنة غيلوان يفترض بأنها تشبهه حاقدة قوية
ولا تعرف شيئاً اسمه صفح أو رحمة أو سلام لكنها لا تشبه
شعيب واخوانه في شرورهم ولا أويس في حقده وغله !
حتى أخوات شعيب مختلفات عنهم كما والدة أويس وهي
ابنة غيلوان فهل السر في الفرق بين النساء والرجال ؟!
أكانت ستكون كشقيقها جسار إن كانت هي رجل ؟
لكن هزار لم يكن يشبههم !.
حركت رأسها متأففة تطرد منه كل تلك الأفكار التي لا
جدوى ولا نفع منها فهي ذاتها ما الذي سيغيرها الآن ؟
لطالما كانت خادمة تحت جسار وزوجته لم تستطع التمرد
يوماً تنتظر حلم عودة هازار الذي لم يتحقق أبداً .
نظرت خلفها مجفلة ما أن انفتح باب الحمام وخرج منه
الذي كانت تظن بأنه غادر معهم كالمرة السابقة ولم تنتبه
لبابه المغلق ! تبعته نظراتها وهو يُنزل أكمام قميصه
متمتماً بالتشهد بالرغم من أن وقت العصر لم يحن بعد !
بينما لم ينظر هو نحوها وكالعادة لا شيء في يدها سوى
النظر والتحسر ، أبعدت نظرها عنه بحركة سريعة وأولته
ظهرها ناحية الأبواب الجديدة كما كانت ما أن نظر نحوها
وانحبست أنفاسها ما أن وصلها صوته الذي باتت تستغرب
سماعه لقلته مؤخراً
" لا أحد يقترب من الأبواب أو يفتحها قبل الغد "
أومأت برأسها في صمت وتحررت أنفاسها أخيراً وابتسمت
ببؤس على حالها وما أن قالت ولم تستدر نحوه
" لما .... "
قاطعها دون أن ينتظر تكملتها أو لم يسمعها والأقسى أن
يكون لا يهتم بها وهو ما حاولت التهرب من التفكير فيه
وهي تفرك يديها ببعضهما بقوة وكأن عقلها موجود بينهما
ولاذت بالصمت ما أن قال وبجموده المعهود مؤخراً
" لقد أضاف للمنزل غرفة من أجل الأولاد كما فتح بين
منزلينا باباً "
لم تستطع الاستمرار في الاستماع له وهي توليه ظهرها
خاصة أنه لم يغادر فاستدارت نحوه مستعدة لتحمل نظراته
ولامبالاته على معاملته بقلة احترام وبالرغم من كل ما
حدث ، وكما توقعت كان ثمة المزيد لديه لأنه أخبرها بهذا
سابقاً وقد قال مباشرة
" والدته أغمي عليها أكثر من مرة في غيابه بسبب ارتفاع
السكر لديها وأراد أن تكون تحت مراقبتنا الفترة الحالية
وحتى تصبح زوجته هنا "
شعرت بالأسى والحزن عليها فهي امرأة رائعة ولم تكن
تتخيل أن تكون كذلك حتى طرقت باب منزلها وتحدثت معها
ويؤلمها أن يصيبها أي كرب بعد كل ما ألم بها ، تبدلت
ملامحها للجمود ما أن قال وهو يبعد نظره عنها
" كما أنه طلب بأن لا تدخلي المنزل "
لا تنكر بأن الأمر آلمها بالرغم من توقعه بل تستغرب أنه لم
يطلب منه إخراجها من المنزل حتى الآن ، أنزلت نظرها
للأرض وقالت بسخرية ومرارة
" لن أتوقع منه غير هذا .. ومؤكد يرى بأن زيارتي لها
سابقاً سبب تدهور صحتها "
لم يعلق كما لم ينفي ذلك وذاك ما جعلها تتأكد من ظنونها
واشتدت قبضتاها بجانب جسدها لازالت تنظر للأرض تحتها
بوجوم كئيب ولا تفهم إلى متى ستتحمل ذنب ما لا يد لها
فيه ؟ كم تتمنى من الله أن يُنزل القصاص العادل بكل من
آذاها وساهم في تحويل حياتها لسواد .
أغمضت عينيها بحزن ما أن سمعت خطواته تبتعد بينما
وصلها صوته البارد مغادراً نحو باب المنزل
" لديا عمل في المزرعة وقد لا أعود باكراً "
ملأت الدموع عينيها وألمتها يداها من شدة ما كانت تعتصر
أصابعها داخل قبضتيها وحارت أتصنفه من ضمنهم أم لا ؟
وكان الجواب سريعاً ومؤلماً أيضاً فلا يمكنها فعل ذلك ولا
التفكير فيه فهو من جعل واقعها يشرق يوماً وليس العكس
وعاملها معاملة أميرة لم تحلم يوماً بها قبل تلك الليلة
الحالكة كماضيها البائس الكئيب ولن تُجزم بأن قلبها قادر
على فعلها والدعاء عليه ومهما فعل بها لأنه احتل مكانة لم
يصلها غيره .
مسحت عيناها بقوة وحركة سريعة وعادت نحو الغرفة
وابتسمت بحزن ما أن دخلتها وظهر لها اللذان أصبحا
ينامان في اتجاه معاكس بسبب تقلبهما ، اجتذبها ذاك
المشهد وتركت فكرة إعداد الطعام لوقت لاحق وسحبت
فراشها قربهما واضطجعت عليه أيضاً يدها تداعب شعر
عَنان الحريري وتراقب مبتسمة تغضن جبينه واقتراب
حاجبيه الصغيران حتى وهو نائم فطباعه لا تشبه شقيقه
التؤام والنسخة المطابقة عنه بل وحتى يمان ! .
ضحكت بصمت ما أن مسح على وجهه بحركة متضايقة
حين قبّلت وجنته بالرغم من أنها بالكاد لمستها بشفتيها
واستلقت تنظر له حتى أخذها النوم ودون شعور منها ولم
تفق إلا على صوت ارتطام المطر القوي بالأرض وجلست
مسرعة حين اكتشفت بأنها تنام في الغرفة وحيدة وصوت
الضحك والصراخ في الخارج يصلها بوضوح فوقفت
وركضت مسرعة نحو الباب تناديهما ووقفت مصدومة ما
أن وصلته ورأت منظر الطفلان المبتلان بالكامل يركضان
تحت المطر صارخان بمرح فخرجت راكضة دون تفكير
نحوهما ودون حتى أن تلبس حذائها لتدخلهما بينما
وجداها هما فرصة للتسلية واللعب وهما يهربان منها في
جميع الاتجاهات والمياه تغمرهم من الأعلى للأسفل
*
*
*
ما أن دخلت سيارته شوارع العمران مجتازة بوابتها
الواسعة وأسوارها العالية أنزلت زجاج نافدتها حيث
المنازل والمباني البيضاء وسط خضرة الطبيعة الجميلة
وأغمضت عينيها تستنشق هوائها المنعش والمشبع برائحة
الأزهار تتكئ برأسها على مسند الكرسي وتنظر جانباً ناحية
نافذتها وابتسمت بحزن تتذكر كل يوم عاشته هنا ومنذ
انتقالهم لها قبل قرابة العشرة الأعوام أو يزيد وقد شهدت
مراحل تطورها وازدهارها لتصبح مملكة النساء كاملة
وشعرت وكأنها فارقتها منذ وقت طويل وليس عدة
أيام فقط ! وها هي كما غادرتها بقلب جريح دخلتها بآخر
مكسور وترى بأن النهاية التي كانت تتوقعها باتت قريبة
وقريبة جداً بل وأقسى مما كان عقلها يرسم من أحداث .
ما أن توقفت السيارة أمام باب منزلهم نظرت للذي كان
ينظر ليديه الممسكتان بأعلى المقود في صمت وقالت
" ألن تسلم على والدتي ؟ "
كانت ترى تردداً واضحاً في عينيه ما أن نظر لها وتعلم
سببه جيداً وهو سيارة وثاب المتوقفة تحت ظل شجرة
السنديان المطلة من طرف سور المنزل وتعلم جيداً بأنه
سيتجنب تواجدهما معاً في المكان ذاته فهو وإن خالف
شقيقه التوأم بزياراته القليلة لهذا المنزل لكنه لم ينسى أبداً
ما حدث في الماضي وطرده لهما وأمامهم جميعاً ، قال وهو
يبعد نظره عن عينيها مجدداً
" سأمر بها وقت مغادرتي من جويداء وأراها "
لم يعجبها قراره البتة ولا تأثرهم بما يقول ويفعل وثاب
فقالت ودون يأس
" سلم عليها فقط على الأقل فهي ستعلم بأنك من أوصلني
وبأنك ذهبت دون رؤيتها وسيحزنها ذلك "
وما أن نظر ناحيتها قالت سريعاً ومن قبل أن يعترض
" بما أنه توجد سيارة بجوار سيارته فسيكون ثمة ضيوف
هنا متواجد معهم في مجلس الرجال لأني أعلم بأنك تتجنب
فقط ملاقاته "
لاذ بالصمت للحظة قبل أن يتخذ قراره ويفتح بابه وينزل
ونزلت هي معه وقد حمل حقيبتها عنها ودخلا معاً سور
المنزل الواسع الذي اجتمعت فيه أشجار الزينة المنسقة مع
الأشجار المثمرة العالية وسارا خلال الممر الضيق بين
الأشجار تجنباً للمرور بالقرب من باب مجلس الرجال
المفتوح .
وما أن دفع باب المنزل الداخلي والشبه مغلق وأصبح
بداخله ابتسم للتي كانت خارجة حينها من ناحية المطبخ
والتي أشرق وجهها وابتسامة حقيقية تزين شفتيها لرؤيتها
له وهو الوجه ذاته الذي يعشق وتقابله به في كل مرة
لكثرة غيابه وانشغاله وقلة زياراته .
لكن تلك الابتسامة خبت تدريجياً ما أن وقع نظرها على
التي دخلت خلفه وانتقل نظرها باستغراب بين ملامحها
المتعبة والحقيبة في يد ابنها قبل أن يستوعب عقلها ما
تراه عينيها أمامها ونظرت لقائد نظرة من يريد سماع أي
شيء يشرح هذا لكنه توجه نحوها في صمت ووضع
الحقيبة على الأرض وسلم عليها مقبلاً يدها ثم رأسها
وقال مبتسماً برقة ينظر لعينيها
" كيف حالك أمي ؟ "
تجاوز قلبها حينها كما مشاعرها كل ذلك وقالت بحنان وحب
ويدها تمسح على ذراعه تنظر لعينيه الباسمتين
" بأفضل حال بعد أن رأيت هذا الوجه يا قلب والدتك "
وكانت ابتسامته هي الضحية حينها ومن قبل أن يعلق بأي
كلمة ونظره ينتقل إلى شقيقه من والدته وهو وثاب والذي
خرج من باب المطبخ حينها يحمل صينية بها أكواب شاي
كبيرة وقد توقفت خطواته فجأة بينما نظراته توجهت
وفوراً ناحية شخص واحد هناك وهي جليلة والتي انقبضت
أصابعها تشد يديها ببعضهما بقوة بسبب النظرة المخيفة
التي وجهها نحوها والحاجبان المعقودان باستغراب مخيف.
وكان اقترابه منهم هو ما شتت ذاك الاجتماع الصغير
ابتداء بجليلة التي توجهت نحو السلالم ودون أن تنطق
بأي كلمة ولا أن تسلم على والدتها التي تبعتها نظراتها
باستغراب وريبة وصولاً لقائد الذي كان يرى فعلياً بأن
وجوده هنا قد انتهى ولولا إصرار شقيقته ما فعلها ودخل
المنزل وهو يعلم بأنه موجود فيه ، لكنه وقبل أن يغادر
كان عليه فعل شيء ما يُجنب شقيقته ما يتوقعه جيداً من
نظرات شقيقها لها فرفع حقيبتها وأعطاها لوالدته قائلاً
" زوجها يعلم بأمر قدومها وهو منشغل قليلاً لذلك جلبتها
أنا في طريقي وبموافقته "
وما أن أمسكت والدته يد الحقيبة منه استأذنها مغادراً
بالرغم من أنه لم يرى علامات الاسترخاء على وجهها
بسبب ما قال لكنه أكثر ما يستطيع فعله لأنه يبقى دائماً ابن
عائلة أخرى في نظر شقيقها ووالدها ففعل فقط ما طلبته
منه لذلك انتهت مهمته هنا أحب هذا أم رفضه .
أغلق باب المنزل خلفه بهدوء وترك نظرات والدته الحزينة
تودعه وهو حالها كلما جاء ورأته لدقائق قليلة وغادر
وكأنه ذاك اليوم ذاته يتكرر أمامها في كل مرة فمنذ ذاك
اليوم وما حدث فيه وهذا حالهما قائد يزورها لدقائق
معدودة يتغيب بعدها لفترة طويلة ووسام لم تعتب قدماه باب
المنزل بعدها مطلقاً يقف بسيارته أمام باب المنزل ليأخذها
لمنزله وتقضي لديه وعائلته يوم واحد فقط تراهم فيه ولا
يتكرر بعدها قبل وقت طويل ، أخرجها من شرودها الحزين
صوت الذي قال من خلفها بحدة
" ما الذي جاء بابنتك من منزل زوجها ؟ "
تنهدت بقلة حيلة قبل تستدير نحوه وقالت
" وما يدريني فهي دخلت للتو أمامك "
وما أن كان سيتحدث بما تعلمه جيداً ولا تخفيه عيناه
الغاضبة قاطعته قائلة بتحذير
" وثاب شقيقك قال أمامك الآن بأن زوجها يعلم وموافق
فجنبنا المشاكل لأن والدك هنا "
حرك رأسه ناحية باب المنزل بطريقة غاضبة وقال
" وذاك المغرور ابنك لما يجلبها وإن كان زوجها موافقاً
وهي تزوجته قبل أيام فقط ؟ "
لامست فمها بيدها بحركة حانقة وقالت بصوت منخفض
غاضب
" أخفض صوتك فلسنا وحدنا في المنزل وغادر لضيوفك
واتركني أفهم منها ما يجري فليس عيباً أن تزور المرأة
عائلتها وإن كانت عروساً "
قال بحدة ودون أن يهتم لكلامها
" قولي هذا لشخص آخر وليس لرجل تزوج أكثر من مرة
ومن يعلم عن عناد ابنتك جيداً ، كنت أعلم ومنذ خرجت
من هنا بأنها تنوي فعل هذا "
وتابع من فوره ومن قبل أن تفكر في قول أي شيء مهدداً
" وقسماً برب العزة وأخبريها بهذا ولتحفظه جيداً بأن
طلاقها منه معناه دفنها حية هنا "
اتسعت عيناها بصدمة وقالت بضيق
" ومن تحدث عن الطلاق الآن يا وثاب ؟! "
تحركت خطواته حينها وقال مغادراً حيث مقصده وضيوفه
" ابنتك وتعرفينها أكثر مني وها أنا حذرت "
وابتعد عنها ونظراتها الحانقة تتبعه حتى اختفى خلف باب
المجلس الداخلي وتحركت خطواتها حينها ناحية السلالم
مستغفره الله بهمس يائس وهي تصعد عتباته وقلبها يدعو
في صمت بأن تخيب ظنون ابنها ذاك ومخاوفها هي
فحدوث ذلك معناه مشكلات لا نهاية لها في هذا المنزل
ستدفع ابنتها تلك ثمنها وحيدة وهي تعرف عنادها جيداً كما
عصبية ابنها ذاك وطباعه السيئة .
ما أن وصلت باب غرفتها سابقاً طرقته أولاً ثم أدارت
مقبضه وفتحته فكانت خالية تماماً سوى من عباءتها
وحجابها المرميان على السرير ونظرت باتجاه الحمام
وحيث صوت المياه فوضعت الحقيبة وغادرت مغلقة الباب
خلفها لأنه لديها أعمال في المطبخ لا يمكنها تأجيلها اكثر
من ذلك .
*
*
*
لامست أصابعها الزجاج البارد أمامها تراقب بعينين دامعة
مجهدة قد اكتحل جفناها باللون الأحمر النائمة دون حراك
فوق السرير داخل الغرفة عيناها مغمضتان وجسدها خائر
القوى .. أمر واحد فقط يجعلها تعلم بأنها لازالت على قيد
الحياة وهو صدرها الذي كان يعلو وينزل بحركة بطيئة
بسبب تنفسها الذي بدت وكأنها تستجديه من رأتيها
استجداءً ، وها هي المرأة الصامدة والتي تلقت الصدمة تلو
الأخرى انهارت نهاية الأمر وكل ما تخشاه الآن أن ترفض
التمسك بالحياة وتحرمها منها وللأبد .
تحررت الدمعة من رموشها وانزلقت كنصل سكين حاد على
وجنتها المشتعلة بشدة وهي تتخيل أن يحدث ذلك ، لا
يمكنها ولا تصديق وتصور هذا كما تعجز حتى اللحظة عن
استيعاب أو فهم ما حدث وما رأته عيناها كما تخشى أنه
ليس ثمة أمل أن تجتازه النائمة هناك عكس ما حدث مع كل
فاجعة مرت بها سابقاً ، وتذكرت مجدداً ما حدث بعد ما
قاله ذاك الغيلواني للعلن وبأنه عليهم استرداد حقهم الآن .
نزلت دمعة جديدة من عينيها ما أن تذكرت صوت الصرخة
الأنثوية التي اخترقت صمت المكان حينها وحين توجهت
أنظار الجميع ناحيتها وقد بدأت ترفع المقاعد المرتبة
بجانب بعضها وترميها باتجاههم بعشوائية رغم المسافة
بينهم صارخة بهستيرية وقد تحرر كل ما كبتته داخلها منذ
اللحظة التي بدأت الحقائق فيها تتوجه نحوها كقذائف قاتلة
وخناجر مسمومة وتحرر صوت المرأة المكلومة والأمومة
المذبوحة ومعاناة عمرها أعوام طويلة من الفقد وخيبات
الأمل والانكسار حتى أصبحت لا ترى أي شيء غير كل
ذلك أمامها لأن عقلها بات يدرك ما ينتظرها مستقبلاً بل
وطفليها معها وهي الملام الأول فيه فتبدل الرفض في
داخلها لحالة من الهستيرية والصراخ جعلت جميع العقول
هناك تتشتت كما الأنظار وحتى هي ابنتها سوى من الذي
استطاع تجاوز ذلك سريعاً هو يتوجه نحوها وحرسه
يتراجعون للوراء معه وكأن هدفهم تغير من حجز أولئك
المجتاحين بعيداً عنه لحماية ظهره منهم وقد أخرجوا
أسلحتهم باتتابع وما أن صرخ أحدهم بأمر موجهاً سلاحه
نحو الواقفين مكانهم
" أي واحد منكم يخرج هاتفه فهو هدف لنا "
ومنعوا بذلك أي توثيق لما يحدث هناك ومن ثم تداوله بين
مواقع التواصل يحمون الذي ما أن وصل لوالدتها
وبخطوات سريعة أمسك يديها وقيد حركتها قائلاً
" غسق توقفي "
لكن كلماته لم تكن تصلها لأنها وصلت فعلياً لمرحلة التقوقع
داخل الصدمة وهو ما أدركه حينها فأحاطتها ذراعاه بقوة
يسجنها في حضنه مكبلاً جميع محاولاتها للإفلات وأمسكت
يده برأسها وحجابها الذي بدأ يكشف شعرها من تحته يخفي
كل ذلك عن الجميع خلفه ودفن صرخاته في أضلعه ونظر
نحوها هي حينها والتي كانت تنظر لهما بعينين متسعة
باكية جسدها يرتجف من الصدمة وقال بأمر وهو يتحرك
بالموجودة في حضنه جانباً
" تعالي خلفي يا تيما " .
أغمضت عيناها بقوة بسبب ألم تذكر كل ذلك وكأنها تعيشه
مجدداً ، لو أخبرها أحدهم بكل هذا ما كانت لتصدقه فما
حدث وقيل هناك وفي ذاك المكان أشبه بالخيال ولا يمكن
لأي عقل بشري استيعابه بسهولة فأي زمن هذا الذي
يُستخدم فيه البشر كسلعة تُباع وتُعطى ومهما كانت
الأسباب ! أي أناس هؤلاء الذين يمكنهم بيع مبادئهم
وبلادهم ومن أجل أي ثمنٍ كان ؟
لِما يكون الوطن ظالماً هكذا لمن دفع كل ما يملك ثمناً له ؟
وكيف لأحكام القبائل أن تكون جائرة هكذا ؟!
كيف يكون هذا في بلاد بات القانون يحكمه ؟
وعادت وتساءلت بمرارة من يأخذ بحق قلبها الممزق مِن
كل مَن حرموها عائلتها وطفولتها والسعادة التي ينالها
الجميع كحق أساسي لهم ؟
مسحت عيناها بقوة ما أن شعرت بحركة ما خلفها
واستدارت نحو التي كانت تقف عند نهاية الجدار تراقبها
في صمت ولا تعلم عنها لأنها وصلت بعد وصولها بلحظات
لهذا المكان ولأنها باتت أيضاً من أحد الأعمال المؤجلة التي
لا وقت له لها الآن فتركها تحت حماية رجاله هنا مع ابنته
وزوجته ولا تعلم فعلياً متى قد يجد وقتاً لها ؟
فبالرغم من أنها تجهل ما حدث في الداخل بعد خروجها
لكنها استطاعت فهم أغلب ما كان سبباً لكل هذا .
" لما أنتِ هنا ؟ "
كان صوت تيما مشبعاً بالكراهية والغضب كما نظراتها
المصوبة نحوها وكأنها تمسك نفسها بالقوة عن مهاجمتها
وقتلها بأظافرها لكنها قابلت كل ذلك بالبرود التام متمتمه
" لأن والدك أمر بهذا بالطبع "
وتابعت من فورها وقد تبدلت لهجتها للسخرية
" أرى نظرتك تلك في قاعة المحكمة قد تغيرت ؟ "
اشتد فكاها بقوة وغضب ولم تعلق بادئ الأمر لأنها بالفعل
رأت فيها ضحية مثلهم تماماً وهي تستمع لقصتها وبلسانها
تحكي عن معاناتها طفلة وشابة وامرأة وقد عاشت هوية
ليست هويتها وحياة ليست حياتها وشعرت بالشفقة حيال
ما حدث معها لكنها لم تكن تعلم حينها بما فعلته واعترفت
به بلسانها ، ملأت دموع القهر عينيها وهمست
بكلمات حاقدة
" أنتِ سبب كل ما حدث ويحدث ... "
وارتفع صوتها الذي ملأ المكان الخالي من أجلهم تحديداً
ورمت بيدها متابعة بمرارة
" بسببك عانت والدتي ما عانته وبسببك رفعت تلك القضية
ووصلت أوراقها لأولئك الرجال ، حتى ما حدث في هذه
البلاد وجعل عائلتي تتشتت كان بسبب والدك "
أنهت كلماتها الصارخة بحقد تتلقف أنفاسها ولم تستطع
بالتأكيد ملاحظة الرصاصة التي صوبتها نحو حاجزها
الدفاعي بل وأعمق من ذلك بكثير وهي مسألة والدها التي
لم تستوعب حقيقتها حتى اللحظة ، اشتدت قبضتاها بجانب
جسدها بقوة وقالت بضيق
" أنا اعتذرت عمّا فعلت وأخبرت بالحقيقة كاملة ومنعت
طلاق والديك في المحكمة أم مهمتك فقط إلقاء اللوم عليّا
فيما لم أفعل ولا يد لي فيه ؟ "
لكن كلماتها تلك لم تجد مكاناً في قلب التي رمت يدها مجدداً
وصرخت بحرقة وألم لازالت تشعر بهما يدمران قلبها
" أنتِ لم تقومي بإصلاح أي شيء مما فعلته فهما افترقا
وللأبد إن بطلاق أو بدونه ، لقد دمرتِ أحلامي جميعها
وقلب والدتي قبل جسدها وستحرمينني منها أيضاً "
اختنقت بعبرتها عند آخر كلمات قالتها وشعرت بأنها خرجت
جميعها من أعمق نقطة في مأساتها وواجهتها بالحقيقة
التي كان يصعب عليها نكرانها أو تبرئة نفسها منها ومهما
حاولت حتى أعجزتها عن النطق ، لمعت المقلتان
الزرقاوان بمرارة وقهر وانخفض صوتها البائس الحزين
وقالت بعتاب وألم
" لما عمتي لماذا ؟ بأي حق فعلتِ كل ذلك وآذيتنا جميعاً "
أخفضت نظرها وكأنها تهرب بجبن منها فكلمة عمتي التي
نطقت بها حينها كانت أقسى عليها من كل ما سمعته فهذه
الفتاة التي جعلتها قسوة ظروف حياتها تتدثر في ثوب
امرأة قبل أوانها لم تستطع محو الطفلة في داخلها بل
وتغلبت تلك الطفلة عليها الآن وبكلمة واحدة ، وإن كان
يصعب عليها النطق بها إلا أنها لم تعد تستطيع نكرانها
أكثر من ذلك بينها وبين نفسها وبأنها محقة فيما قالت
ولن تحاول الدفاع عن نفسها وبأي طريقة كانت ليس فقط
لاعترافها بالحقيقة بل ولأن ما شعرت وتشعر به لن
يستطيع أيّا منهم فهمه ولا الاقتناع به ومهما قالت وفسرت
وأعادت فقد تعلمت بأنه في قانون البشر الظالم لن يشعر
بك إلا من عاش مأساة تشبه مأساتك أمّا البقية فيتحولون
جميعهم لقديسين مهمتهم الوحيدة هي توجيه الانتقادات
لك وكأنك المذنب الوحيد في العالم بما فعلت .
انتقلت نظراتها سريعاً نحو بداية الممر الطويل الذي تقفان
فيه وذو الأرضية الرخامية والجدران البيضاء المدعمة
بسياج من الخشب البني حين ظهر الجسد الرجولي الطويل
ميّزته البذلة السوداء الأنيقة والمتوجه نحوهما بخطوات
سريعة واسعة وكان قاسم الذي علمت من نظراته المشتتة
بينهما بأنه هنا دون أن يفهم ممّا يحدث شيئاً ، وكانت تلك
الحقيقة بالفعل فهو تلقى فقط اتصالا من مطر طلب فيه منه
أن يكون هنا ووضع ثلاثتهن في عهدته ودون أن يشرح
له ما حدث وما سبب وجودهن هنا ولم يسأل هو عن ذلك
بل ولم يترك له مجال لفعلها .
ما أن وصل لهما كانت وجهته محددة ومعروفة وهي تيما
التي ارتمت في حضنه مباشرة وإن كان هو من دفعها لذلك
ما أن أمسك ذراعها بينما نظره كان على النائمة داخل
الغرفة وهو ما توقعه من قبل وصوله إلى هنا واشتدت يداه
على جسد التي كان يخفيها في أضلعه بقوة ما أن تحررت
عبراتها التي هو موقن بأنها كانت تسجنها لوقت طويل
بينما لم تفارق عيناه الملامح الفاتنة الشاحبة من خلف
الزجاج اللامع وشعر بأنها تذبح روحه مع كل انتفاضة
لأضلعها بسبب عبراتها الباكية المتلاحقة وتمنى لحظتها
أمراً واحداً فقط أخذها من هنا بل ومن الجميع وتخبئتها
عن كل من يبكيها ويتعسها .
لكن ما كان يجهله بأنه سيتحول للمصير ذاته وخلال ثواني
معدودة واتسعت عيناه مصدوماً ما أن انتزعت نفسها من
حضنه مبتعدة عنه وأولته ظهرها تمسك عبراتها بصعوبة
تختنق بها بين أضلعها المنتفضة في صمت وتركت ذراعاه
معلقتان في الهواء بينما كان وضعها أسوأ منه بكثير وهو
ما لا يعلمه وما كان يحطم قلبها فحقيقة واحدة نسيَتها
للحظات وهي تلجأ لأكثر حضن كانت تحتاجه بالفعل الآن
وقد جعلها تَذَكُرها فجأة تستفيق لواقعها المظلم وما أن
هاجمتها تلك العبارات بعينها .
( تزويجها دون علم الابنة وبدون توثيق قانوني في تلاعب
واضح وصريح بالقانون )
( الوالد على قيد الحياة إذاً وبما أن الجلسة هنا لطلاق الأم
وإلغاء عقد زواج الابنة الغير قانوني فقد باتت المهمة
أسهل والحق عليه أن يرجع لأصحابه )
رفعت قبضتها لشفتيها المرتجفة تمنع بقوة عيناها من ذرف
المزيد من الدموع وإن كانت ما تزال مغرورقة بها حتى لم
تعد ترى شيئاً أمامها سوى الألم الذي مصدره القلب ،
رفعت رأسها فجأة ونظرت ناحية الجسدين الرجوليين
الجديدين اللذان ظهرا من بداية الممر وكانا رعد والكاسر
هذه المرة وانطلقت ساقاها دون إذن منها ولا شعور
وركضت نحوه واحتضنا بعضهما يشد أصابعه على ثيابها
بقوة بينما تحررت عبرتها مجدداً وقالت باكية
" سترحل والدتي وتتركنا .. أنا لازلت أحتاجها ولم أكتفي
منها بعد ، سأحرم منها مجدداً وللأبد "
ملأت الدموع عينيه وتيبس حلقة حتى عجز عن إخراج أي
شيء منه غير الهواء الجاف بينما استلم رعد مهمة
الحديث عن كليهما وقال ينظر لها موبخاً وبملامحه
متضايقة
" تيما توقفي عن قول هذا فهو لا يجوز "
ابتعدت عن الكاسر حينها ونظرت لعيني رعد الغاضبة
تحديداً وقالت بمرارة وبكاء
" سترحل والدتي وتتركني .. لا يمكنني ولا تصور
ذلك لأتقبله "
قال من فوره وبحزم
" هي بخير يا تيما ولن تتركك توقفي عن إيذاء نفسك فكل
ما تحتاجه الآن أن تكوني قوية "
وكان ذاك ما جعل انفعالها يخرج عن السيطرة وملأت دموع
القهر عيناها ولوحت بقبضتها صارخة
" لقد سئمت من كلمة كوني قوية .. أنا لست قوية .. تعبت
من كل هذا تعبت "
ودخلت نوبة بكاء جديدة فحضنها الكاسر مجدداً والذي كان
يمسك نفسه بشق الأنفس كي لا ينوح مثلها كالنساء بينما
شملتهما نظرات رعد بحزن ، هو يعذرها ويتفهم ما مرت
به اليوم ولم يعد بإمكانه لومها ولا توبيخها على ما قالت
فهو الرجل لا يجزم بأن يصمد أمام أمور مشابهة لِما شهدته
هي في تلك القاعة ، ورغم ذلك كان عليه فعل أي شيء
يساعدها به فسحب نفساً عميقاً لصدره وقال
" والدتك بخير يا تيما لقد كنا في مكتب الطبيب الآن
وأخبرنا بنفسه ، كما أنه عليك أن تكوني واثقة في والدك
فهو يعلم جيداً كيفية التصرف في الأمور المشابهة "
وكما توقع جعلتها كلماته تلك تبتعد عن شقيقها مجدداً
ونظرت له عيناها الباكية المجهدة بأمل كسير وكأنها تتمنى
أن يكون صادقاً وليس فقط يحاول تهدئتها ، وكان وكأنه قرأ
أفكارها تلك أو توقعها فقال سريعاً وبنبرة جادة
" تعرفينني جيداً لا أكذب يا تيما "
سحبها الكاسر من يدها حينها وقال
" تعالي معنا لتتأكدي بنفسك من طبيبها "
وغادر بها الممر مستسلمة له تماماً تكاد خطواتها السريعة
أن تسبقه راكضة ولحق رعد بهما من فوره بخطوات
واسعة مسرعة وتركوا الواقفين هناك خلفهم للصمت
المميت وكأن المكان الخالي البارد حولهما يسحب كل طاقة
لديهما على الكلام وقول أي شيء ، أو أن ذاك ما يصف
حال أحدهما فقط بالمعنى الأصح وهو قاسم الذي لم تفارق
نظراته المكان الذي بات خالياً منهم منذ وقت بينما كانت
عينا غيسانة تراقبه فقط واستطاع لسانها التحرر بل
وسمومه تحديداً وقالت بابتسامة ساخرة
" هل يجرح كبرياءك ما فعلته بك ؟ "
أظلمت عيناه المندهشة ما أن نظر نحوها وكأنها دمجت
الصدمة والاستنكار معاً بينما لم تهتم هي لكل ذلك وتابعت
بذات سخريتها اللاذعة
" بل أنت لم ترى شيئاً بعد "
" ما هذا الذي تتفوهين به ؟ "
همس بتلك الكلمات من بين أسنانه بغضب مكبوت يقبض
أصابع يمناه بقوة وكأنه يمسك نفسه عن لكمها أو صفعها
بها وذاك ما جعل تلذذها يزداد وقالت بتملق
" لا تدّعي اللامبالاة أو السذاجة فأنت تعلم جيداً ما أعني "
كان ينظر لها بما تفهمه جيداً وهو مواجهة الحقائق
بالرفض الباطني فكانت وكأنها تضع مرآة أمامها وتواجه
فيها نفسها لتمارس عليه عقد ماضيها مجتمعة فعادت
لمهاجمته والابتسامة الساخرة تزين شفتيها
" من الحمق أن تسلم مصيرك لمطر شاهين والأسوأ منه
أن يكون ذلك عن طريق ابنته .. إنك الأسوأ حظاً في
هذا العالم "
انتفضت أوردة نحره وصرخ فيها بقوة
" أصمتي "
لكن ذلك لم يحرك فيها ساكناً ولم تهتم له واكتسى نظراتها
جمود غريب وكأنها تنفصل عن نفسها بل وكأنها تحدث
نفسها ولا تراه بينما خرجت كلماتها منخفضة وباردة
كالجدران حولها
" ولما ؟ أيؤلمك سماع الحقيقة ؟ أنا لا يؤلمني قولها كما
أني تألمت طويلاً حتى اعتدت هذا بسبب تقمص ذات الدور
الذي تلعبه أنت الآن "
وتحركت خطواتها فجأة واقتربت منه ونظرت لعينيه
مباشرة وهمست
" حينما ينتهي دورك في حياة تلك الفتاة ستتركك وهي
تلقي باللوم عليك بينما ستشعر أنت بأنك السبب وسيعاملك
والدها كرقعة شطرنج يحركك كيف يشاء بسبب ذلك "
كانت كمن تمارس نوعاً من التنويم المغناطيسي عليه في
سلوك هو نفسه يجهله في النساء بل وفي البشر كافة جعله
يحدق فيها ببلاهة لبرهة فتمتمت ساخرة
" عاجز عن قول أي شيء ؟ "
تبدل مزاجه للضيق فجأة وقال
" أنتِ أوقح امرأة عرفتها في حياتي "
أهدته ابتسامة ساخرة بينما تتراجع خطواتها للخلف بحركة
بطيئة وقالت
" قل ما شئت لكنها حقيقة تعيشها أنت الآن وتعرفها وإن
كنت تتجاهلها متعمداً فتذكر كلماتي تلك مستقبلاً وحين تجد
نفسك خارج مربع اللعبة "
وأولته ظهرها بينما قالت وهي تتحرك في أُولى خطواتها
" هذا إن لم تكتشف بأنك لست فرداً من عائلتهم لتلعب
دورك الجديد وهو المستدان لهم حتى بلقمة
الطعام والمأوى "
وارتفع رأسها مع ارتفاع ضحكتها عالياً في المكان الساكن
وخطواتها تبتعد عنه ونظراته المستغربة تتبعها وكأنه ينظر
لكائن فضائي وهمس ما أن اختفت عن ناظره
" هذه تحتاج لعلاج نفسي لا محالة ! "
بينما كان وضعها هي مختلفاً تماماً فما أن توقفت ضحكاتها
تلك تبدلت لخطان طويلان من الدموع تعبران وجهها
وابتسامة المرارة لا تغادر شفتيها فلطالما أجادت استخدام
أساليب كثيرة لتبرير أخطائها وتبرئة ذاتها أمام الغير لكنها
وللمرة الأولى تحاول فعلها مع نفسها وقد وجدت الضحية
المناسبة والتي تراها تشبهها .
ما أن وصلت حيث مجموعة الحرس الواقفين هناك مسحت
بطرف كفها تحت جفنيها بحركة قوية ورفعت رأسها
بكبرياء وقالت بجمود لمن وقف أمامها ينوي منعها من
اجتيازهم مغادرة
" أعيدوني للمكان الذي جئت منه وقوموا بسجني هناك
لا أريد البقاء هنا "
*
*
*
" وداعاً فاليريو وشكراً لك .. نلتقي قريباً "
أنهت المكالمة معه مبتسمة بانتصار وبعد أن اطمأنت على
وضعها وبأنها وصلت المكان الذي اختارته لها وبأن
أمورها جيدة جميعها ، نظرت لشاشة هاتفها مجدداً وعاد
أصبعها للتحرك فوقها بسرعة وابتسامة الانتصار لم تفارق
شفتيها فلم ينتهي دورها بعد وثمة ما عليها فعله أيضاً
لتتوج انتصارها ذاك ، أنهت أحرف الرسالة التي كتبتها
سريعاً لعدد كلماتها القليل وضغطت أيقونة الإرسال
وابتسامتها تزداد اتساعاً هامسة
" ياله من صباح جميل يا كتلة البرود "
وأغلقت هاتفها ما أن تأكدت من استلامه لها ورمته على
سريرها قبل أن تنظر ناحية الساعة المعلقة على الجدار
وقالت بضحكة
" جيد أمامي بضع دقائق لأتحدث مع كنانة أولاً وأبشرها "
جلست عند طرف سريرها ورفعت سماعة الهاتف واتصلت
بهاتف منزلهم فلا يمكنها ترك هاتفها مفتوحاً الآن ، وبعد
رنين مطول حتى يئست وظنت بأنهم نيام جميعاً لأن الوقت
مبكر انفتح الخط ووصلها صوت والدتها وهذا ما كانت
متأكدة منه لن تنام تلك المرأة لوقت متأخر .
رسمت ابتسامة على شفتيها وقالت
" مرحباً يا خالة أنا ساندرين "
أتاها صوتها الباسم البشوش سريعاً
" صباح الخير يا ساندرين "
اتسعت عيناها بذهول وأبعدت سماعة الهاتف ونظرت لها
وكأنها ستراها من خلالها فهذا الاستقبال لم تكن تحظى به
في السابق ! أعادت السماعة ناحية أذنها متمتمه
" سبحان مقلب القلوب ! "
وابتسمت مجدداً وهي تقول
" هل يمكنني التحدث مع كنانة إن لم تكن نائمة "
تبدل الصوت الذي وصلها للهدوء المريب قائلة
" لا ليست نائمة لكنها ليست هنا أيضاً "
غضنت جبينها باستغراب وقالت
" وأين تكون في هذا الوقت واليوم هو يوم إجازتها ؟! "
قالت تلك من فورها وقد بدأ الحزن يتسلل لصوتها
" لقد غادرت طائرتهما قبل قليل "
حركت رأسها وكأنها تحاول مساعدته على فهم كل هذا
وقالت ما أن فشل ذلك
" طائرة ماذا وسافرت إلى أين !! هي تخبرني عن شيء
بالأمس ؟! "
وصلها صوت التي تنهدت بحنين وحزن قائلة
" طائرة زوجها فقد غادرت معه اليوم "
اتسعت عيناها بذهول وبدأت تسمع صوت نشيجها المكتوم
تحاول إمساك نفسها عن البكاء وربط عقلها الأمور سريعاً
فهي كانت تتوقع أن يتركها وصبت جام غضبها ولومها
عليها وعلى خطتها تلك لكن أن تسافر معه !!
كيف يكون هذا ولما ! قالت باستغراب
" ولما بهذه السرعة ! "
أتاها ردها سريعاً موضحة
" لقد تناول العشاء معنا البارحة في زيارة مفاجأة لم نكن
نتوقعها وقال بأنه سيأخذها معه خلال رحلة عودته فجراً ،
لقد شككنا في مقدرته على إقناعها بالأمر لكنه نجح فعلاً! "
حركت رأسها بفهم وقد اتضحت لديها الأمور حينها بينما
خرجت كلماتها متضايقة ما أن قالت
" كيف يقنعها ويأخذها دون حفل ولا صغير !
لما وافقتم هذا يا خالة "
قالت محدثتها مباشرة
"لقد تحدث معها واتفقا ولو كانت تريد حفلاً لأخبرته بهذا "
شعرت بأعصابها تشتعل وشدت أسنانها بغضب تمنع نفسها
من قول أي شيء وهي تتذكر كلماتها بالأمس عن الزواج
الغير متكافئ وها هو كما قالت حدث ما يريد ودون أن
يناقشاه في الأمر ومؤكد استغل مسألة نورثود للضغط عليها
فتلك طباع الرجال جميعهم وهي تعرف كنانة جيداً منذ
طفولتها تحلم بالزفاف الأسطوري الذي ستحتفظ بصوره
لأبنائها بل واحفادها .
تقوست شفتاها بحزن وملأت الدموع عينيها وهمست
" كم أتمنى لها السعادة .. ليتها فقط ودعتني "
وصلها صوتها المختنق بعبرتها وهي تذكرها بغيابها
الشبه الأبدي
" لم يكن ثمة وقت أمامها وجيد أنكما قضيتما يوم
أمس معاً "
شدت شفتيها ولاذت بالصمت فأي يوم هذا الذي تتحدث عنه
فهو السبب في طيرانها المفاجئ السريع هكذا ، أنهت
الاتصال معها مودعة إياها وجلست مكانها لبرهة تحدق
في الفراغ بحزن فهي ستشتاق لها كثيراً ولا تعلم متى
ستجتمعان مجدداً وإن كان سيسمح لها بالعمل كمضيفة كما
قال لتجتمعا كلما زارت لندن أم يخدعهم بأكاذيبه فقط .
وقفت متنهدة بعمق وتوجهت نحو باب الغرفة وغادرت
فالمطمئن في الأمر أن كنانة تحب ذاك الشاب وستكون
تزوجت من الرجل الذي تحبه مهما كانت سلبيات الأمر فثمة
حسنة واحدة له على الأقل ، ما أن وصلت بهو المنزل
وقفت تنظر لوالديها واللذان كانا يتناقشان بحدة وقت
وصولها وقد سكتا فجأة ونظرا ناحيتها وقالت والدتها ما
توقعته جيداً وتراه في ملامحهما بوضوح
" ماريه ليست في غرفتها "
قالت بكل بساطة
" أجل أعلم أمي "
حدقت فيها باستغراب وقالت
" ما الذي تعلمينه !! "
حركت كتفها متمتمة ببرود
" أعلم بأنها ليست هنا "
تبادلت وزوجها نظرة فهمتها على الفور بينما تولت والدتها
المهمة من قبل أن يفكر في قول أي شيء قبلها
وكعادة النساء
" هل أخبرتك قبل مغادرتها ؟ كيف تذهب هكذا دون أن
تُعلمنا وأين ذهبت ومع من ! "
وتابعت بعد ثانيتين انتظار فقط وبضيق
" تحدثي ساندي "
فردت يديها نحوها قائلة بضيق مماثل
" بالرفق أمي فأنتِ طرحت أربعة أسئلة دفعة واحدة "
كان دور والدها حينها والذي قال بحزم وصوت حاد
" أين هي الفتاة ساندرين وكيف تغادر دون أن تعلمنا وأنا
وعدت والد زوجها أن أقنعها بالانتقال للعيش معه "
اتسعت عيناها بغضب بسبب ما قال وقالت بضيق
ملوحة بيدها
" أجل أبي هذا ما يستطيع ذاك الرجل فعله أخذها للعيش
معه ! لم يسأل ما مشكلتها وما فعل لها ذاك المتحجر وما
عليه فعله كي لا يتكرر الأمر "
قال الذي فقد أعصابه على ما يبدو صارخاً بانفعال
" لا تكون الأمور هكذا دون أن يعلم منها ما حدث "
واجهته بالصراخ أيضاً فمجرد الحديث عن تخاذله معها
يشعرها بالاحتراق
" وهل سأل أم اهتم ؟ هو لم يسأل أبداً وكأنه يعلم سلفاً
بما حدث "
كانت تعلم وتفهم من كتمانه لأنفاسه بأن انفجاره الحقيقي
بات وشيكاً وما أن كان سيتحدث والغضب يرتسم على
ملامحه توقف فجأة بسبب جرس الباب الذي بدأ بالرنين
ودون توقف وكأن الواقف خارجه وضع أصبعه ولا يفكر
في إبعادها ونظرات الحارثة كما زوجته تحدق فيه بذهول
بينما ابتسمت هي بسخرية قائلة
" على الموعد تماماً "
وما أن نظر والدها ناحيتها عاقداً حاجبيه باستغراب حتى
تحول الأمر لركلات قوية تكاد تحطم الباب الخشبي وتُلقي
به أرضاً فتوجه نحوه صارخاً بغضب
" تمهل يا هذا "
وفتح الباب بحركة قوية غاضبة قبل أن يبتعد للخلف مجفلاً
ينظر بصدمة للذي ركله بقوة لينفتح على اتساعه مصطدماً
بالجدار بجانبه ودخل صاحب الملابس السوداء شعار
المنظمة المرسوم على قميصه حيث عضلات صدره يشعرك
بالرهبة لا شعورياً فكيف مع النظرة القاتمة في عينيه
والكفيلة بالتحدث نيابة عنه ليعلم بأنه قادم لأمر
واحد محدد .
شهقت إيميليا بقوة تمسك فمها بيدها ما أن رفع يده
والمسدس فيها موجهاً إياه نحوهم قبل أن يستقر على
شخص واحد ومعين وهي التي لم تستغرب قدومه مثلهم
بل كانت تعلمه يقيناً وتنتظره فقد كان الوقت ذاته الذي
استغرقه ليغادر عمله ويكون هنا حين وصلته رسالة
ماريه في الماضي .
وبينما كانت نظرات الحارثة له لم تتخطى ذهولها بعد كحال
زوجته التي لازالت تمسك فمها بيدها وعيناها ستخرج من
مكانهما كانت نظرات ابنتهم ووضعها مختف تماماً وهي
ترفع رأسها وتنظر لعينه في تحدٍ واضح مما جعل خطواته
تتقدم نحوها أكثر وحتى كان لا يفصل بين فوهة مسدسه
وجبينها سوى متر واحد فقط وهمس من بين أسنانه
المطبقة
" أين هي ؟ "
أهدته ابتسامة مستفزة وكأنها تقول له تطال النجوم ولا
تراها مجدداً بل وكأنه لا يوجه سلاحه نحوها وعيناه تقول
بأنه لا مزاح فيما يفعل ، كان التعليق من الحارثة والذي
لازال يعيش هول الصدمة وإن قال بانفعال واضح
" ما هذا الذي يحدث هنا يا تيم ! ألا تحترم المكان ؟ "
وتوترت أنفاسه فالموقف أصعب من استيعابه في وقت
قصير بينما تجاهل المعني بالأمر كل ذلك أو لم يهتم له
أساساً ولم يبعد نظره عن التي صرخ فيها بقوة وأصابعه
تشتد على الزناد
" أين ماريا تكلمي ؟ "
وبينما كان جوابها الصمت ذاته وكأنها تستمتع بما يحدث
عاد والدها للصراخ المحتج يلوح بيده ناحيته
" ليس بهذه الطريقة يتم اقتحام منازل البشر والتحدث معهم
فأنزل سلاحك لنتفاهم "
لكن النتيجة كانت ذاتها فعيناه لم تفارق عيني الواقفة أمامه
لازال مسدسه المرفوع في وجهها كما كان وكأنه لا يرى
أحداً سواها هناك أو يعلم جيداً بأن الحديث والتفاهم كما
يقول والدها لن يوصله لطلبه فكان الحديث حينها للتي
استطاعت تجاوز صدمتها أخيراً أو تجاوز جزء منها
فجسدها بدأ يرتجف بأكمله وصرخت بتوتر
" قم بطلب الشرطة يا حارثة أنا لن أسمح بمقتل ابنتي
أمام عيناي "
" ليصمت الجميع "
صرخته تلك كانت كفيلة بإخراسهما تماماً أو لم يترك مجالاً
للحديث أساساً وهو يتابع صراخه بالتي لم تتركها عيناه
ونظراته المشتعلة
" تحدثي أو أفرغت هذا في رأسك "
وما أن كان والدها سيتحرك ناحيته وجه المسدس نحوه
وكان ذاك ما جعلها تغادر صمتها وصاحت به مهددة
" إن مسست والدي بسوء وإن بكلمة فقسماً لن تعرف
مكانها حتى تموت "
رفع حينها السلاح يثني مرفقه لكن ليس استسلاماً لتهديدها
بل لسحب مزلاجه بيده الأخرى وليتبين لهم بأنه كان أشبه
بالمزاح الذي تحول لحقيقة الآن والتهديد الذي سيتبدل
لواقع فهذه الحركة تعني أمر واحد بأن الرصاصة باتت
معدة للإطلاق حقيقة لا نقاش فيها وعاد ووجهه نحو
جبينها مجدداً وبدأت سبابته تشتد على الزناد وهمس من
بين أسنانه
" ستقولين ما لديك الآن "
عادت والدتها لإمساك فمها بيدها تنظر لما يجري بعينين
باكية بينما اتسعت عينا زوجها ينقل نظره بين ابنته
والسلاح الموجه نحوها والتي كانت في مشاعر مخالفة
لهما تماماً فالأمر لديها بات أشبه بالثأر للنفس من تخاذلهم
وأشبه بالدفاع عن مستقبلها أيضاً فخرجت عن صمتها
وصرخت بانفعال
" افعلها هيا أنا لست خائفة منك فأنت الخاسر وليس أنا ..
أنا سأموت مرتاحة القلب أنت من ستتعذب حيّاً وميتاً "
كانت أنفاسه الغاضبة تعبث بتفاصيل صدره العريض ينزل
معها ويصعد لازال ينظر لعينيها بتهديد واضح وعظام فكاه
قد برزت من قوة شده عليها فصرخت تحرك رأسها
" هيّا ماذا تنتظر "
برزت أسنانه التي كشر عنها في حركة غاضبة وسبابته
تضغط الزناد الذي بدأ يتحرك نحو الداخل ببطء وذاك جعل
والدتها تصرخ مرتجفة موجهة نظرها إليها
" ساندرين قولي أين هي تكلمي "
نظرت ناحيتها وقالت بحدة
" لن أقول شيئاً ولست أخافه لأنه جبان ولن يفعلها "
جعلت كلماتها تلك خوفها يزداد ونظرت لزوجها نظرة ذعر
واستجداء بينما كانت نظراته هو مركزة على ابنته والتي
عادت للنظر للواقف أمامها وقالت بغضب وسبابتها تشير له
" أجل أنت أجبن من أن تكون الحقيقة التي أنت عليها وبلا
أخلاق أيضاً لتُخرج زوجتك من منزلك وهي بتلك الحالة
ترمي بها لكلاب الشارع "
اشتداد أسنانه وفكيه بل وازدياد ضغطه على الزناد هو ما
جعل الحارثة يصرخ وهو يحدثه مجدداً
" تعقل يا رجل ودعنا نتفاهم "
نظر له حينها وصرخ بقوة يحرك رأسه
" حديثي معها وليس معك وقسماً إن لم تقل ما أريد أن
أفعلها ودون تردد "
كان ارتجاف فكي الحارثة واضحاً حينها كما حدقتاه وهو
ينقل نظره منه لابنته التي نظرت له ما أن قال
بانفعال واضح
" إن كان لي كلمة ولو صغيرة عليك يا ساندي فأنهي
هذا الآن "
زمت شفتيها بقوة تنظر لعينيه وتمنت لو لم يقل هذا وكانت
لتعاند أكثر لولا النظرة التي كانت تراها في عينيه وارتجاف
أعصاب وجهه الواضح وخشيت على صحته فعلياً فنقلت
نظرها منه للواقف أمامها لازال مسدسه مصوباً نحوها
وتبدلت نظراتها للحقد تنظر لعينيه تحديداً نظرة عبّرت فيها
عمّا تشعر به نحوه ونحو كل من تسبب في شعور ماريه
بالخذلان تنادي والدها الميت .. نظرة قد تبدلت للبرود فجأة
ما أن تذكرت ما خططت له ونجح بالفعل ورفعت رأسها
بشموخ وارتفع طرف شفتها في ابتسامة انتصار وتحركت
شفتيها قائلة بكلمات متأنية
" في منزل غستوني ميديتشي "
وازدادت نشوة الانتصار لديها وهي ترى اتساع عينيه
الغاضبة لتدمج الذهول والغضب معاً بينما علت شهقة
والدتها التي ضربت يدها على صدرها ولم يكن حال
زوجها بأفضل منها .
*
*
*
|