كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
شعرت بتوترها يزداد وهي تقف بجانب قائد حيث الطاولة
المخصصة لهما يمين منصة القضاة المرتفعة وحيث كانت
القاعة الأكثر اتساعاً في المبنى بأكمله حتى أنه ثمة سياج
خشبي يفصل مقاعد الحضور عن طاولات أصحاب القضية
والشهود والمدعي العام ، مكان يشعرك برهبته وإن كنت
مجرد ضيف يجلس هناك فكيف أن تكون صاحب الدعوى أو
المدعى عليه ؟ حتى أنه لها من الأبواب ثلاثة .. باب رئيسي
وآخر خلفي لمن يريد تجنب الازدحام والثالث خاص للخروج
بعيداً عن أعين الصحافة والذي لا يحدث لأي شخصٍ كان
كما هذه القاعة تماماً لا تُفتح أبوابها لأي قضية وأي شخصية
عامة حيث أنه من أقل أبواب المحكمة استخداماً وكان آخرها
عند وقوف بعض الوزراء وأعضاء البرلمان والسياسيين فيها
وبعد عودة الرجل الذي فتح دفاترهم السوداء للعلن وجردهم
من كل شيء وكان مصيرهم السجن بأحكام تناسب
جرائمهم .
رفعت نظرها حيث السيد عقبة والجالس في الأعلى وحيداً
دون مساعدين يناقش معهم الحكم كالمعتاد تقلب يداه أوراقاً
بدا منشغلاً معها وشعرت بالاحتياج للنظر لعينيه ولأن
تطمئنها ابتسامته بأن كل شيء سيكون على ما يرام وسيحدث
كما تريد وخططت له ، بينما تجنبت النظر لقائد والواقف
بقربها يُقلب أوراق ملف القضية وتمنت لو امتلكت واحدة
مثلهما وإن فارغة لعل دقائق التوتر وشد الأعصاب تمر
سريعاً ، بل وتتوق للحظة التي تغادر فيها الباب الذي دخلت
منه فالمكان بات يشعرها بالاختناق رغم اتساعه !
كانت ستسأل متذمرة لما يتأخر ذاك المحامي هكذا وهي تنقل
نظرها لباب القاعة الرئيسي وتوقفت الحروف في حلقها
وهي ترى مقبضه يستدير قبل أن يُفتح على اتساعه بدفعة
قوية حتى اصطدم مقبضه الحديدي بالجزء الخشبي الذي
يغطي نصف الجدار مصدراً صوتاً واضحاً واتسعت عيناها
وانتابها فقدان جزئي للشعور بكل ما حولها تنظر لما لم
تتوقعه أبداً .. لصاحب الملابس السوداء والوقفة المستقيمة
والذي كانت نظراته مصوبة للأمام لا ينظر لأي واحد من
ثلاثتهم وهو يتقدم بخطوة واحدة نحو الداخل يسير بشموخ
مرفوع الرأس ، وقد شكّل وجوده هنا صدمة للواقف بجانبها
والجالس في الأعلى أيضاً وليس لها وحدها وبدأت أنفاسها
تضيق حتى كانت تعلو معه تفاصيل صدرها المغطى بقماش
سترة بذلتها السوداء الأنيقة ونظرها يلتقط الصدمة الأشد
وجعاً والطعنة القاسية لكرامتها قبل قلبها ونظرها ينحسر
على التي كانت تقف خلفه تماماً وكأنها خرجت لها من تلك
الصور التي لم تفارقها لحظة تقتلها ودون رحمة ، بل
خرجت من عمق مأساتها التي كان عمرها بعمر صباها
الضائع وأحلامها الميتة .. حاضرها الأسود ومستقبلها
المجهول ، ولمعت عيناها بحزن ومرارة ونظرها ينتقل منها
لابنتها والواقفة بجانبها تنظر لها بشوق وحزن وعينان دامعة
نظرة عبّرت فيها عن كل ما تشعر به حينها وهي تدخل
المكان الذي تمَّ اختياره لقتل أحلامها التي لم تفارقها منذ
طفولتها وعاشت على أمل تحققها ولم تتخيل بأن الواقع أقسى
من ذلك بكثير فهنا وبكلمة واحدة من الجالس في الأعلى
سيتحول ذاك الحلم لأشلاء لذلك كانت تنظر لها وتتحسر بألم
بينما همست شفتا غيسانة التي كانت نظراتها الفضولية
لرؤيتها قد تبدلت للحنق فجأة متمتمة
" تباً لها ما أجملها "
كانت نظرات كلاهما ملتصقة بها وإن بمشاعر متفاوتة بينما
كانت هي قد فقدت السيطرة على المتبقي من مشاعرها
وأبعدت نظرها عن تلك الجهة بأكملها وأصبح ما يقابلهم
نصف وجهها تقريباً بينما ارتفعت يدها تلامس رحمها الذي
يخفيه الطاولة بقربها عنهم وارتجفت أصابعها تغمض عينيها
ببطء فلم يعد يمكنها الصمود أكثر من هذا فقد اختار أقسى
وأبشع الطرق لإيذائها وهو يجلبها وابنته معه ليوجه لها
ثلاث طعنات كل واحدة أقسى من الأخرى وهي تراها هكذا
تأخذ مكانها معهما في يوم أرادته المنصف لكرامتها والانتقام
العادل لكبريائها المذبوح وجراح قلبها النازفة .
كانت أصابعها تضغط على قماش بذلتها وحيث تشعر بتمزق
روحها الأخرى واحتضار أملها الوحيد والذي ستفقد عقلها
وحياتها وكل شيء يربطها بالحياة إن هي فقدته أيضاً ،
همست شفتاها المرتجفة بما لم يسمعه غيرها
" تماسك بني .. تماسك أرجوك "
اشتد جفناها وكتمت عبرتها تشد شفتيها بقوة ما أن شعرت
بالجسد الذي سقط عليها واليدان اللتان احتضنتاها بقوة
وصوت ابنتها الباكي الهامس يضرب جدران قلبها قبل أذنيها
" أحبك أمي لا تغضبي مني أرجوك "
وعلا نحيبها وتابعت تحضنها بقوة
" أمي أقسم بأني آسفة وإن كنت أجهل ما جعلك غاضبة
مني .. أعتذر عن جرمي في حقك أمي سامحيني أرجوك "
ارتفعت يداها خائرة القوى وحضنتها أيضاً وبشدة تخفي
وجهها ودموعها في نعومة قماش حجابها وقد انهارت
دفاعاتها دفعة واحدة تضمها لصدرها بقوة تستنشق رائحتها
مع كل عَبرة مكتومة تتسلل لداخلها ، تستنشق رائحة طفلتها
الرضيعة التي حُرمت منها ولم تعرفها سوى في أحلامها
الكئيبة والذكريات المؤلمة التي كانت تقتلها بقسوةِ أنها لا
تمتلكها فلازالت كلما احتضتها تستنشق فيها رائحة الطفلة
الرضيعة التي انحرمت من أبسط حقوقها نحوها تبحث
أنفاسها قبل حضنها عمّا لم تعرفه يوماً وحُرمت منه بقسوة .
ارتخت ذراعاها وأبعدتها عنها تمسك بذراعيها ونظرت
لعينيها الباكية بحزن وما أن همست شفتيها ببكاء حزين
" أمي أنتِ لن ترحلي وتتركيني أليس كذلك ؟ "
شعرت بكلماتها تصيب قلبها ومشاعرها وارتفعت يداها
لوجهها وحضنته بهما واقتربت منها حتى تلامست أنوفهما
في صورة لأجمل امرأتان باكيتان وإن كانت إحداهما تودع
دموعها في صمت بينما الأخرى ينتفض صدرها مع كل
شهقة وعبرة تنظر من خلف دموعها لعيني التي همست وقد
أغمضت ببطء
" عودي للوقوف بجانب والدك يا تيما "
وكان ذاك ما شطر قلبها نصفين وجعل عبراتها الباكية في
صمت تزداد حدة تخشى أن يكون هذا ما رفضته دائماً
وخشيته فقالت بعبرة
" أمي أنا لم ... "
ولاذت بالصمت تزم شفتيها الباكية ما أن قاطعتها هامسة
بجدية وإن كانت تنظر لها بعينن حزينة رموشها لازالت
مبللة بالدموع
" أعلم ما تريدين قوله وأفهمك جيداً ولست غاضبة منك بل
أنا من عليها الاعتذار لكن مكانك هناك دائماً لا تنسي هذا "
أومأت برأسها والدموع تعود للتكدس في عينيها وفهمت بأنها
تريدها أن تكون بجانب والدها وإن كانت في خيار بينهما
وكأنها ليست من حاولت وقت رؤيتها أول مرة أخذها منه !
فهل لأنها ترى نفسها وحيدة ومكسورة اليوم تطلب منها هذا؟
هل تحن لوالدها الذي رباها وتحتاج لوقوفه بجانبها وتدرك
معنى فقدانه والحرمان منه ؟
كانت جميعها تساؤلات تدور في عقلها بينما عيناها الدامعة
تنظر لعينيها برجاء حزين صامت فأفكارها أصابت الحقيقة
من جميع أوجهها لأن محن الواقفة أمامها علّمتها معنى
وجود الأب في حياتها .. معنى خسرانه وللأبد ومعنى فقدانه
وهو لازال على قيد الحياة كما يحدث وحدث معها فأحدهما
رحل وتركها وحيدة تواجه صعوبات حياتها وتقلباتها والآخر
لا تستطيع قدماه اجتياز باب المنزل المسجون فيه .
انزلقت دمعة يتيمة من عينها وهمست ببحة بكاء تنظر
لعينيها وبأصدق مشاعر عرفتها البشرية
" أحبك أمي ... أحبكما كلاكما وبذات القدر تأكدي من هذا "
ابتسمت لها بحزن خالطه الكثير من عاطفة الأمومة والحب
والتفهم ورفعت رأسها وأدنت جبينها بيديها الممسكتان
لوجهها وقبّلته مغمضة عينيها قبلة طويلة جعلت مشاعر كل
واحدة منهما تتشبع رغم الألم والمرارة قبل أن تبعد شفتيها
ببطء ونظرت لعينيها الدامعة وهمست بحزن
" إذهبي هيا "
فتحركت من هناك تجر خطواتها بصعوبة تمسح الدموع من
وجهها بقماش كم بلوزتها المدرسية تشعر بأن روحها تنتزع
منها وهي تترك نصف قلبها لتقف مع النصف الآخر والذي
ما أن وقفت أمامه ورفعت نظرها له حتى خرجت كلماته
الحازمة ينظر لعينيها الدامعة
" مكانك أعلى المنصة يا تيما "
لم تستطع تفسير الألم الذي شعرت به في قلبها حينها حتى
كانت تشعر بأنها ستفقد أنفاسها وللأبد ولمعت عيناها بمرارة
وألم وهمست بأسى حزين تستجديه
" أبي أرجوك لا يمكنني فعل هذا أقسم لك "
وكتمت عبرتها كما كلماتها ما أن قال بحزم آمر
" تيمااا "
فأخفضت رأسها والدموع تملأ عينيها مجدداً حين أيقنت بأن
الأمر أصعب ممّا تتخيل ومع كليهما وتحركت من مكانها
منصاعة تسحب خطواتها ناحية العتبات الخشبية حتى وقفت
خلف الطاولة المرتفعة المخصصة للشهود وأمام الميكرفونان
الصغيران الموجهان نحوها ونظرها على الملف الذي
وضعته عليها وانسابت دموعها في صمت ولا تفهم لما يختار
هذا ويقتلهما به ! هل يعاقبها لأنها أرادت الحضور أم يعاقب
والدتها بها ؟! لو كان رجل آخر لا تعرفه لصدقت هذا لكنها
تعلم جيداً عن أخلاق والدها ومبادئه فلما يريدها أن تقرأه هي
وأن تكون هنا ؟! هل لتقف في حياد ؟ لكن لما تقرأه هي تحديداً
وما الذي يحويه ؟!
رفعت نظراتها الحزينة الدامعة له في الأسفل ووجدته ينظر
حينها ناحية قائد والذي كان ينظر له بدوره نظرة هادئة لا أحد
يفهم مكنونها كنظرات والدها تماماً ليست مفهومة لكنها ليست
هادئة البتَّة بل جامدة وبكل ما تحمله الكلمة من معنى وشعرت
بضربات قلبها تضطرب بشدة حتى توقفت عيناها عن الجود
بالمزيد من الدموع وكأنها دخلت حالة من الترقب المريب !
واتسعت عيناها بصدمة في وضع لم تكن الوحيدة فيه ما أن ملأ
صوته الجهوري الحازم المكان الواسع ترافقه البحة العميقة
" أنتْ تغادر وعلى الفور "
كانت الصدمة من نصيبه هو قائد نفسه أيضا والواقفة على
مقربة منه تنقل نظراتها الذاهلة تلك بينه وبين الجالس في
الأعلى يراقب الأمر بذهول مماثل وصمت تام وكأنه رمى
بقنبلة صوتية على الجميع أصابتهم بالصمم والصدمة معاً ،
وكان قائد من كسر ذاك الصمت المشحون والأجواء المتلفة
للأعصاب وقد نظر لقاضي الجلسة تحديداً وقال بضيق ويداه
تشتدان بجانب جسده بقوة
" ما هو الحد المسموح به للإخلال بقواعد المحاكمات هنا ؟ "
وكانت رسالة واضحة له بأن هذه الجلسة قد فقدت جميع
معاييرها لأن تكون جلسة اعتيادية تُطبق حسب قواعد وقوانين
المحاكمات وفي العالم بأكمله وليس هذه البلاد فقط ينتظر منه
الموافقة على ما قال وهو حقيقي أو حتى توضيحاً للأمر لكن
كل ما صدر عنه تنهيدة عميقة ونظره ينزل ليستقر على
الأوراق أمامه ليوصل جوابه الصامت له والذي جعله يستاء
من كل هذا وبشكل أكبر بينما تكفل مطر بالحديث نيابةً عنه
ومن اعتبر هذا تحدٍ وتجاهل له قائلاً بأمر غاضب من خلفه
" حديثك معي وستخرج إن بالطيب أو الإكراه "
فنظر له حينها ولنظرته الغاضبة والتي يرتجف لها قلب أعتى
الرجال وكل ما فعله أن هرب منها إن كان جبناً أو تفادياً له لا
يهم لديه ونظر للواقفة قربه والتي كانت تنظر له بينما نظراتها
كما ملامحها تؤكد رفضها للأمر وما يمسكها فقط انتظارها
لرد فعله .
امتدت يده للملف الموضوع على الطاولة أمامه ورفعه ومده
لها قائلاً بصوت منخفض ونبرة قوية مشجعة
" يمكنك الترافع عن نفسك يا غسق فأنتِ لستِ وحيدة هنا ولم
تخسري أهم عنصر لازال موجوداً وهو القاضي العادل "
وما أن أنهى كلماته تلك وأمسكت يدها الملف منه حتى غادر
من هناك يتجنب نظراتها الرافضة والمستهجنة وإن رافقها
الصمت المميت لتنازله السريع عن دوره وحقه فقد انتهى ذاك
الدور وقال سيد المكان كلمته ، ولا يمكنه لوم أحد ولا السيد
عقبة على هذا فصلاحياته تتخطاه لكنه متأكد من عدله في
الحكم كتأكده من نزاهة وكبرياء الذي طرده من هنا فلن
يستخدم سلطته لتغيير حكم القضاء ومهما حدث .
وكان ثمة طريق واحد عليه أن يسلكه ليغادر من الباب
الرئيسي للقاعة وهو الطريق الذي يقف فيه مطر والذي ما أن
مرّ بجواره حتى أوقفته يده التي التفت أصابعها الطويلة حول
ياقة سترته في حركة جعلته يتوقف منصاعاً له دون أدنى
اعتراض خاصة مع النظرة التي وجهها لعينيه ملؤها غضب
مكبوت جعلت ساقيه تتيبسان مكانهما وزاده الهمس الغاضب
من بين أسنانه
" عليك أن تشكر شقيقتك حتى تموت لأنها من أنقذتك مني "
وتركه بحركة قوية وأشد فتكاً عليه من سابقتها ولازال واقفاً
مكانه كما لم تتركه عيناه ونظراته المشتعلة بينما قابلها قائد
بنظرة مختلفة تماماً اختلطت معانيها بين الهدوء ومحاولة
تهدئة النفس في مزيج يصعب فهمه أو تفسيره جعلت كلماته
تخرج بجمود حين قال
" لو كنتَ رجلاً آخر لاعتبرت هذا انتصاراً عليه
ولأفتخرت به "
وتابع بعد صمت لحظة ولازال ينظر للعينين المحتفظة
بمزاجها السيء القاتم
" لكن ليس قائد نصران من يدخل حرباً قد خسرها منذ وقت
طويل كما أن الواقف أمامي ليس رجلاً يُعلن انهزامه أو
خسارته ، كما أن إنسانيتي ومهنتي لا مكان للعواطف فيهما "
وسحب نفساً عميقاً لصدره وحرره قائلاً بإيماءة
من رأسه
" احترامي سيادة الرئيس "
وغادر ما أن أنهى عبارته تلك باتجاه الباب فهو أوصل له ما
يريد قوله وعليه معرفته فلم يخشى عقابه أبداً لأن وقوفه معها
كان سببه صلة الدم بينهما ومبادئه كمحامٍ فقط وهو ما كانت
تريده هي منه وموقن من أن ذاك الرجل يعلمه أيضاً
وإلا لما تركه معها في منزل وزير العدل حتى اللحظة وسمح
له بالترافع عنها لولا التغير المفاجئ الذي طرأ كما يبدو .
أغلق باب القاعة فور مغادرته مخلفاً صمتاً مريعاً وكأن
المكان لا أحد فيه فهو بالفعل بدأ يخسر أفراده بالتتابع ، وكانت
المبادرة من السيد عقبة والذي قال ناظراً للتي كانت تنظر
للملف بين يديها وفي جمود تام وكأنها تفقد أعمدة ثقتها تباعاً
" أعطني الأوراق التي لديك يا غسق "
كانت كلماته مفاجأة بالنسبة لها جعلتها ترفع رأسها في حركة
سريعة ونظرت له باستغراب بينما يده كانت تمتد نحوها
وشجعتها الإبتسامة الطفيفة التي شقت ملامحه المتجهمة
فتحركت خطواتها نحوه ببطء ومدت يدها به عالياً حتى
أمسكه منها وعادت للوقوف مكانها تتجنب النظر للجميع تشعر
بالامتنان العظيم له فآخر ما كانت تريد أو تفكر في فعله أن
تقرأ هي ملف التهم التي جمعتها ضده لصالحها لأنها لا تثق
في قوتها بعد كل ما حدث فقد تلقت عواطفها صدمات عنيفة
اليوم وتعلم بأنه ثمة المزيد مما يخفيه ذاك الرجل لتعلن
هزيمتها ويتوج انتصاره عليها ، لكن غرضها الوحيد هو
كسب القضية وإن بقلب محطم وروح ميتة وتثق جيداً في
نزاهة هذا القاضي والتي أوصلته ليكون وزيراً للعدل فيكفيها
الحكم العادل وإن أخبروها بأن تلك المرأة تكون زوجته .
سحبت نفساً عميقاً لصدرها تغمض عينيها ما أن وصل عقلها
لتلك الفكرة وكانت تنتظر سماع صوته في أي لحظة ليبدأ
بالترافع نيابة عنها وعن محاميها المطرود قسراً لكن ما لم
تتوقعه أبداً هو الصوت الأنثوي الرقيق للتي قالت بكلمات
إنجليزية طلقة سريعة مُتقنة
" عذراً منك سيدي يوجد ما عليا قوله أولاً "
وتقدمت بضع خطوات مجتازة مطر الذي تركته واقفاً مكانه
لم ينطق بأي كلمة ولم يمنعها بينما كانت نظراتها هي على
غسق التي استدارت نحو منصة القاضي بشكل كامل وجعلها
تصرفها ذاك تزم شفتيها تنظر لقفاها بضيق وهي توليها
ظهرها هكذا متعمدة وكأنها ترفض رؤيتها ورؤية وجهها !
وكانت قد أصابت جزء من الحقيقة فقط فليس الكره وحده ما
جعلها تفعلها بل والخوف من ضعفها ومن تدوين الإنتصار
الأكبر عليها حال انهيارها .
كان رد فعل غيسانة التالي أن تنهدت بضيق وأقنعت نفسها بأن
تتجاهل كل هذا فهي ليست هنا من أجلها في المقام الأول وإن
كانت السبب في وجود هذه القضية ، نظرت ناحية الجالس في
الأعلى والذي قال بصوت جهوري واضح زاده مكبر الصوت
الصغير المثبت أمامه
" إن كان لديك أمر مهم يخدم القضية فقط "
كورت شفتيها قبل أن تقول ببرود
" ولما أنا هنا إن لم يكن لديّا أمر مهم ! "
وانتفض جسدها بشكل خفيف ولا إرادي ما أن ضربت يده
سطح الطاولة تحتها في أول انفعال غاضب له وقال بحدة
وصوته يعلو أكثر مع وجود مكبرات الصوت
" للمحكمة قواعد عليك احترامها "
وكان ذاك ما جعلها تشتعل وهي ترى نظرات الاستهجان في
عينيه فقالت بضيق
" أي قاضٍ عادل أنت ؟ أتنحاز لطرف دون الآخر ! "
" غيسانااا "
كانت الصرخة التحذيرية تلك لمطر والواقف على بعد
خطوات خلفها مما جعلها تتحجر مكانها للحظات وقبل أن
تستدير ناحيته وفي حركة سريعة فسبقها قبل أن تقول ما يعلمه
ويتوقعه بينما خرج صوته حازماً قوياً
" تعاملي معه باحترام فهو أرفع مكانة منك "
جعلتها كلماته تلك تشتعل غضباً وهو يهينها هكذا وقالت
محتجة تنفض يدها
" وما الذي قلته غير حقيقي أو يهين مكانته ؟ "
وشعرت بتقلص لا شعوري في أمعائها ما أن تلونت مقلتاه
الغاضبة بسواد قاتم مخيف وقال بتهديد غاضب
" إن حكم عليك بالسجن فسيتم التنفيذ فوراً ولن يُخرجك
أحد ولا أنا "
شدت على أسنانها بغضب مكبوت ، وفي حركة لا إرادية
هربت من تلك النظرات الحارقة والملامح الغاضبة واستدارت
نحو المنصة مجدداً متمتمه لنفسها
" لا انتقامات أخرى جيسي وسينتهي الأمر سريعاً ولن تشعري
بالسوء أبداً "
رفعت رأسها بثقة ما أن أنعشت قلبها بتلك العبارات فعليها أن
تنسلخ عن ثوبها القديم وإن كان المفضل لديها ولبضع دقائق
فقط وينتهي الأمر ، كانت تنظر للجالس في الأعلى حين ملأ
صوتها الثابت المرتفع المكان الساكن قائلة
" كل من يقف أمامك مؤكد عليه قول اسمه وعمره وجنسيته
فأنا هي غيسانة شاهين الحالك "
قالتها هكذا وبكل بساطة وأريحية بالرغم من أنها تعلم بأنها
نزلت كصاعقة على من كانا يجهلان الأمر هناك وهو القاضي
الذي حدق فيها بنظرة دمجت الصدمة وعدم التصديق معاً
وكأنها مجنون يتحدث أمامه ، أما نصيب الأسد فكان للتي
فغرت فاها بصدمة لا يمكن وصفها تنظر لصاحب الملامح
المماثلة في الأعلى قبل أن تستدير نحوها تنظر لها بعينين
متسعة فوق اتساعها وخرج صوتها أخيراً من بين أنفاسها
المتقطعة وبما يشبه الهمس
" ماذا !! "
كان ذاك فقط ما جادت به شفتاها بل وعقلها فهي لا تستطيع
استيعاب هذا ولا بمرور عشرة أعوام فكيف بعشر ثوانٍ أو أقل
بكثير ! كانت تشعر بقلبها سيتوقف وروحها تغادرها
وأطرافها تتجمد وتخونها تدريجياً حتى استعانت بالطاولة
قربها لتسند نفسها بها فكيف تكون المرأة التي عاش صوتها
معها خمسة عشر عاماً يطاردها في نومها ويقظتها شقيقته !
المرأة التي تحدثت عبر هاتفه كعاشقين !! بل وكواحدة من
نسائه كما قالت تكون شقيقة له ..!
شقيقته !! ابنة شاهين الحالك !!
حركت رأسها بضياع لم تعرفه في حياتها ولم ولن تستوعبه
أبداً كما تُجزم تنظر لعيني التي حركت كتفها وقالت
بابتسامة ساخرة
" تلك هي الحقيقة أو لنقل كانت الحقيقة حتى وقت
قريب جداً "
وتابعت من فورها تنظر للعينان الجميلة المندهشة حتى اللحظة
بينما امتزجت تلك الابتسامة الساخرة بمرارة قاسية
" قبل أن أكتشف بأني كنت أعيش في أكذوبة عمرها أعوام
طويلة وبأني لا أقرب لعائلتكم ولا تمت لي بصلة "
كانت الصدمة الأكبر من نصيب تيما حينها والتي خرج همسها
المصدوم واضحاً بسبب مكبرات الصوت أمامها
" ماذا عمتي !! "
نظرت ناحيتها حينها وقالت وذات الابتسامة التي مزجت
السخرية والمرارة معاً تزين شفتيها
" تلك هي الحقيقة يا تيما والتي أخبرني بها والدك قبل يومين
فقط فأنا لست عمتك ولا والدك شقيقي ولا جدك عمي "
حركت الواقفة في الأعلى رأسها بضياع وحيرة لا تستطيع
استيعاب كل ذلك بينما قالت التي سخرت منها قبل نفسها
" كان عليك أن تكوني أذكى مني وتتوقعي هذا منذ أن طلب
منك إخفاء الأمر عن الجميع هنا وعدم التحدث عني مطلقاً
وفي كلا البلدين ، بل ولم يخبر والدتك عن هذا مطلقاً ....
فلماذا ؟ "
نقلت تيما نظرها بينها ووالدها ووالدتها وحتى قاضي الجلسة
الذي كان وعلى غير المعتاد مندهش مستغرب ومهتم بكل ما
يخص الموجودين أمامه وكأنها تبحث عن أجوبة لديهم أو حتى
أسئلة وأي شيء يجعلها تصدق أو تستوعب كل هذا !
وعادت بنظرها لها ما أن تابعت من نفسها تجيب نيابة عن
الجميع وما لا يمكنها نكرانه وبصوت ساخر كئيب
" لأنه يرفض أن يكذب عليها ، ولأن إخفاء الحقيقة عنها
أهون لديه من الكذب في علاقتهما معاً "
أنهت كلماتها تلك ونظراتها قد عادت للنظر للعينان السوداء
كالليل والواسعة كالبحر تجذبك ودون شعور للنظر لها
والسباحة فيها فكيف وهي تمتلئ بالدموع السابحة وسط ليل
رموشها القاتم وكأنها تستجديها أن تقول غير هذا وإن كان
أرحم من كل ظنونها السابقة نحوهما لكن لا كلماتها ولا حتى
نظراتها رأفت بحال تلك العينان التي دمجت الحسن والألم
والضياع معاً وباتت تعذر الواقف خلفها على هيامه بحبها
واعترفت بهذا وإن مكرهة وليس بسبب هذا الحسن الغريب
المنفرد فقط بل امرأة امتلكت كل هذا المظهر الخارجي مع
القوة التي جعلتها تتجرأ وتُدخله قاعة المحكمة وهو رئيس
للبلاد وزعيمها وموحدها ستستحق كل ذلك بالتأكيد .
أبعدت نظرها عنها تُجنب نفسها السلوك الغير سوي كي لا
تتحكم غيرة النساء فيما تريد قوله .. ومن تراها ولا تغار !
أمر اعترفت به لنفسها وإن مكرهة فهذه الحسناء لا يمكنها
تخيل كيف كانت قبل أربعة عشر عاماً وكيف هاجر الواقف
خلفها وتركها ؟ وما هي أكيدة منه أنها عانت بسبب هذا طوال
حياتها ومن النساء قبل الرجال ، ولكي لا تنزلق في تلك الهوة
ركزت نظرها على الجالس في الأعلى والذي كان كمن يشاهد
الحلقة الأخيرة من مسلسل الغموض والحقائق تنكشف أمامه
وليس القاضي والمتحكم والفاصل في الأمر وقالت تركز على
ما تقول أكثر من تركيزها على رد فعله فستشرح له وللجميع
ما لم تقله لأحد يوماً ولم تعترف به ولا لنفسها لذلك سمحت
للكلمات أن تنزلق من بين شفتيها تباعاً وتصنعت الصمود
وهي تقول
" أنا فتاة ولدت لأب عربي لا تعرف من يكون حتى اللحظة
لأنه إن علم بوجودها سيقتلها "
ولاذت بالصمت بعدها فقسوة تلك الكلمات عليها أكبر من
تجاوزه وكأنه شيء عادي ، وليس لذلك فقط بل وبسبب شهقة
تيما الواضحة والتي لم تستطع كتمانها كوالدتها التي كانت
تحدق بذهول ملتزمة الصمت الذي تشك بأنها قد تغادره قبل
وقت طويل ، نظرت ناحيتها في الأعلى هذه المرة وقالت
بسخرية هي أقرب للمرارة
" أجل فلا تتوقعي أن جميع الآباء كوالدك يضحي حتى من
أجل من لا يعرفهم "
وعادت بنظرها لعقبة ما أن رأت نظرات الشفقة في تلك
العينان الزرقاء لأنها تكره توجيه تلك المشاعر نحوها وإن
كانت ما تسعى له دائماً وبالكذب أيضاً لتنال ما تريد لكن
الوضع الآن مختلف والحقيقة أقسى من استغلالها أو تقبلها
فتابعت قائلة بنبرة متزنة وكأنها تتحدث عن نفسها في برنامج
تلفزيوني
" منذ أن بدأت أدرك وأعي الأمور كنت أعيش مع والدتي
نحن الإثنتان وحيدتان ، كانت تقول لي فقط بأني ابنة لرجل
عربي وكانت ترفض التحدث عنه كلما سألتهما كأي طفلة في
مثل عمري تحتاج وإن لتَعْلم أشياء بسيطة عنه تخبر بها
زميلاتها في المدرسة فهي أخبرتني بأنه متوفي ولم أكن أعلم
بأنه هجرنا وتركنا وحيدتين بل وحاول قتل والدتي وهي حامل
بي ولا يعلم "
قالت آخر كلماتها بحزن تغلب على صوتها فمعرفتها بتلك
الأمور كان حديثاً ويصعب عليها استيعابه في وقت قصير فأن
تكون ابن لشخص يرفضك وحاول قتل والدتك وسيقتلك ما أن
يعلم بوجودك هو أشبه بعدم الانتماء للبشرية ، لكنها وكعادة
شخصيتها المتحورة سرعان ما عادت لثباتها وتابعت تنظر
لعيني الذي كان ينظر ويستمع لها بتركيز وكأن قضيتها هي ما
سيتم الحكم فيها
" حين بلغت سن المراهقة أخبرتني بأنها وجدت شقيقي وبأنه
تواصل معها ومنذ ذاك الوقت عشت كابنة لشاهين الحالك
وتبدلت حياتنا تبدلاً كاملاً ، أصبح لدينا منزل جميل ونظيف
ليس كالشقق والغرف التي كنا نستأجرها وتعافها الجرذان ،
ولم تعد والدتي مضطرة للعمل وتحمل السب والشتائم من أجل
حفنة نقود بالكاد تكفي لطعامنا السيء فشقيقي هو إبن أحد أكبر
مشائخ بلاده بل وزعيم لأحد أقطارها حينها .. "
لاذت بالصمت لبرهة وتبدل مزاجها للسخرية فجأة متابعة
" ولم أكن أعلم بأنها كذبة جديدة عن ذاك الوالد المجهول وبأن
والدتي سرقت نسخة من أوراق مهمة جداً كانت تخصه
وسلمتها لدجى الحالك بعد هجران عشيقها ذاك لها بأعوام قليلة
وفرارها منه كي لا يحاول قتلها مجدداً حين اكتشف فعلتها
واختبأت منه في مدينة تدعى يورك شمال إنجلترا والتي كنت
أظن بأنها مسقط رأسي لأكتشف الآن بأنها كانت الفرار
برأسي منه "
كانت تشعر بارتجاف صوتها الذي لم تخرجه للعلن سابقاً ..
تشعر به في قلبها وهي تروي ماضيها بطريقة جديدة من الألم
فرفعت رأسها تخفي بشموخ نظرتها تلك حقيقة ما تشعر به
وهي تتابع ولازالت تحاول جاهدة الاحتفاظ بالابتسامة
الساخرة وإن لم تخفِ المرارة في صوتها تماماً
" فتحليل أبوة واحد يكفي لكشف من يكون صاحب تلك الأوراق ولهذا تم حمايتي من المجهول الذي لا يعلم أحد متى قد يظهر وأين يكون "
توقفت لبرهة وسحبت نفساً عميقاً في صمت المكان
الموحش حولها وتبدل صوتها للاستياء فجأة وهي تسرد
ماضيها وكأنها أصبحت في مكان آخر تماماً لا أحد يسمعها
فيه غير نفسها
" كانت سنوات عشت فيها سجينة شقة مع والدتي ثم
وحيدة بعد موتها ممنوع عني العيش كما تعيش الأخريات
.. فقط صديقتان متزمتتان ، كنت مقيدة ومراقبة طوال
الوقت ودون أن أعلم السبب أو الحقيقة مما جعلني أكره
المسلمين ودينهم لأنه السبب الوحيد الذي وجدته أمامي "
تركت نظراتها الجالس في الأعلى وغابت بنظرها للفراغ
وللمرة للأولى وإن لم تتخلى عن شموخها وتبدلت لهجتها
للمرارة متابعة
" لم يحدثني أحد عن السبب الحقيقي وراء سجني وتكبيلي
فجعلني كل ذلك أرى الحرص تقييد والتقييد سجن والسجن
موت فلم أكن أعلم أني مسجونة لحمايتي ولا أن الشقيق
الذي أراه يهملني كشقيقة له دائماً ويتجاهلني هو مجرد
شخص غريب عني يكره أن يحتك بامرأة لا تحل له حسب
دينه مما جعل مني فتاة متمردة عنيدة أهرب دائماً ليمسك
بي رجاله في كل مرة وأنال عقابي بالسجن في منزل
الريف حيث لا والدتي ولا الصديقتان الوحيدتان بل ولا العدد
القليل من المرات المسموح لي فيها بالخروج برفقتهن
حتى أُعلن عن توبتي وأتعهد بعدم تكرارها لكن سرعان ما
أعود وأكررها بكل تأكيد حتى تحطمت نفسيتي وأصبحت
أتوق للحرية التي أفعل فيها كل ما أريد فلم أكن أراه سوى
داعم مادي لي حتى كرهت ذاك المال الذي يغدقني به
وتمنيت أن يزول إن كان الثمن حريتي "
لاذت بالصمت فجأة ونظرت ناحية تيما التي كانت تمسح
دموعها متعاطفة مع كل كلمة تسمعها منها وقالت تتابع
سيل اعترافاتها
" حتى كان اليوم الذي أرسلتك فيه للملهى الليلي مقابل
سماع صوت والدتك ودفعت بك للخطر كما يقول والدك ومن
أجل قرص سخيف مثلما سماه "
وخرجت منها ضحكة قصيرة ساخرة وقالت
" وبينما كنت أنا أغامر بكل شيء للحصول عليه كي لا
يراه كان هو يعلم عنه ويسعى لاسترداده كي لا يكون سبباً
في هلاكي "
وتركت عيناها وعادت بنظرها ناحية الجالس أعلى المنصة
متابعة بضيق خالطه الكثير من المرارة والألم
" لكن عقابي لم يمر مرور الكرام ولم ينسى لي بأني آذيت
إبنته وكدت أتسبب في هلاكها فسجنني لدى شاهر كنعان
كخطيبة له وسافر وتركني ورماني ذاك الرجل في غرفة
مدبرة المنزل خارج شقته وعاملني كبهيمة في شركته ولم
يترك لفظاً مستنقصاً لم يلصقه بي ولم يتوانى لحظة عن
إذلالي وإهانتي ولم أجد الإنصاف ولا لدى من كنت أعتقد
بأنه عمي ووصلت لمرحلة أردت فيها الانتقام لنفسي فقط
ولم أفكر في شيء غير ذلك وأن يتذوق الجميع مرارة ما
أشعر به .. "
ولاذت بالصمت ونظرت ناحية غسق هذه المرة قبل أن تقر
معترفة وقد بدأ أصعب جزء من مهمتها تلك
" وكانت الفرصة المناسبة لي حين اتصلتُ برقمه الموجود
لدي وأنتِ من أجاب "
وحركت كتفها بسبب نظرة العتاب الممزوجة بالضيق التي
رأتها في عينيها وقالت
" ثم أرسلت الصور .. صور الرحلة الوحيدة التي كنا فيها
معاً وبطلب من عمه الذي ترجيته كثيراً أنا وحفيدته ليقنعه
بالذهاب معاً كعائلة "
وما أن حركت غسق رأسها بعدم استيعاب ممزوج بالصدمة
التي لم تغادر ولا ضربات قلبها التي كانت تشعر بها طعنات
قاسية تقتله قالت مقره فعلياً وبأصعب جزء من الحكاية
" أجل يا غسق أنا كذبت في كل كلمة قلتها في تلك المكالمة
وأعلم بأنك كنتِ تسمعينها كما أني من أرسل الصور كما
تعلمين والخطاب الذي كان مرافقاً لها وتحدثت فيه مع تيما
لتصلح العلاقة بيني وبين والدها كما كانت تفعل دائماً وكان
في الحقيقية موجه لك وليس لها "
وأبعدت نظرها عنها ما أن رأت نظرتها المستنكرة المستاءة
تخفي مشاعر تعلمها جيداً وهي الكره الحقيقي ورفعت
نظرها لقاضي الجلسة مجدداً فهو الوحيد في نظرها الذي لم
تؤذيه بما فعلت وقالت متنهدة
" أعلم بأن الجميع يراه تصرف لا أخلاقي وأنا أدرك هذا
لكني أردت حينها الانتقام لنفسي لأني وصلت لدرجة
الانهيار بسبب المدعو شاهر كنعان وتسليم شقيقي إياي له
وتخليه عني كشقيقة له ودون أي ذنب "
وحركت رأسها قائلة وباقتناع تام
" قد يراها الجميع ذنوب عظيمة لكني لم أراها يوماً كذلك
ولم يخبرني أحد بحقيقة وضعي لأعلم بأنها حماية لي من
الخطر والموت "
وفردت يدها وهي تخاطب الجميع لحظتها ونظرها ينتقل بين
ثلاثتهم عدا مطر
" ومؤكد علمتم الآن سبب طرده لذاك الرجل قبل قليل
فمسألة والدي تمس وطنكم بأكمله كما كانت ولازالت
تمسني "
واستدارت بكامل جسدها ناحية غسق هذه المرة ونظرت
لعينيها والنظرة التي تفهمها جيداً فيهما وبأنها تتمنى قتلها
عقاباً على ما تراه جريمة في حقها ورغم ذلك قالت ما
يهمها هي قوله ومهما كانت مشاعرها نحوها
" حقيقة الأمر زوجك يستحق وساماً على تكتمه عن
الأمور المؤدّية لتحطيم قلوب النساء .. "
وغزت المرارة نبرتها متابعة
" كما يستحق آخر على وفائه لك فلم تعرف عيناي رجلاً
ظَلَّ قديساً لامرأة واحدة أعوام طويلة مثله فحتى رجال
الوطن الأوفياء من الإنجليز لديهم تاريخ طويل مع الخيانة
وتعدد العلاقات بالنساء "
وتجاهلت مجدداً النظرة التي رأتها في عينيها حينها
وحركت كتفها وهي تقول ببساطة
" لن أقول بأنه كان يحتاج امرأة تفهمه فهذه ليست
موجودة في النساء بل امرأة تسأله وتصدقه "
وأبعدت نظرها عنها ما أن أنهت كلماتها تلك بل وقالت كل
ما لديها لتقوله وتركت لها مجال عيش الحقيقة مع نفسها
دون تطفل أو مواجهة بالأحرى فهي ستراها سبب ما هي
فيه اليوم بالتأكيد لذلك تهربت من نظراتها لها والتي لم تكن
تعلم بأنها توجهت لشخص آخر وهو مطر الذي نظرت
ناحيته ولأول مرة منذ وقوفه هناك وإن كانت نظراته بعيدة
عنها كما كانت ولازالت فمنذ دخوله هذا المكان تركز نظره
على كل شيء عدى الموجودين هناك وجميعهم ، كانت
نظرة مزجت جميع المشاعر التي عرفتها وشعرت بها منذ
عرفته وأحبته وتركها وهجرها وخذلها حتى اللحظة ، كانت
نظرة مزجت الألم والحزن الخذلان والعجز عن التصديق !
الأمل والمرارة الدموع واللوم والكبرياء والانكسار وكأنها
تخبره بكل شيء دفعة واحدة ولم تهتم إن كان لا يراها لأنها
كانت تعبر عنها لنفسها لمشاعرها نحوها هي بينما ارتفعت
تلك الأحداق السوداء والمتسمة بالجمود التام حتى اللحظة
نحوهم أخيراً لكن نظراته تلك لم تكن موجهة لها بل للتي
قال لها ببرود
" انتظريني في السيارة يا غيسانة "
وحين لمح منها رفضاً واضحاً يعرفه كما يتوقعه قال بأمر
حازم لا نقاش فيه
" للسيااارة "
فزمت شفتيها بحنق ولم تفتحهما معترضة كي لا تنتهي
للمصير الذي تعلمه جيداً وهو سحب رجاله لها مجبرة من
هنا فتحركت خطواتها الغاضبة نحوه حتى وقفت أمامه
مباشرة وقالت بضيق وصوت منخفض
" أتركني أعلم ما في ذاك الملف لدى ابنتك وإن امتناناً لي
على ما فعلت من أجلك "
" أنا لم أطلب منك فعل هذا "
قالها ببرود قاتل ينظر لعينيها فتنفست بحدة وقبل أن
تقول بضيق
"أجل نسيت أن أقول أمامهم هناك أن أعانها الرب عليك "
وغادرت مجتازة إياه نحو باب القاعة تلحق بسابقها لكن
خروجها كان مختلفاً عنه ويحاكي اختلاف شخصيتهما وهي
تضرب الباب بقوة مغلقة إياه بعدها مخلفة صمتاً مخيفاً
أيضاً بل وأسوأ مِن الذي تركه مَن غادر قبلها فبينما وقفت
غسق في مواجهة طاولة القاضي في الأعلى مجدداً تنظر
للأسفل ويداها تشتدان بجانب جسدها بقوة نظراتها لا تعبر
سوى عن امرأة رُميت فجأة في بُعد آخر كانت نظرات ابنتها
ملتصقة بها بحزن لأنها تفهم ما تقاسيه وإن كانت تجهل ما
يدور داخلها الآن وتمنت أن أعلنت والدتها انتهاء هذا
الأمر لعلّه يتم إجبار الكسور التي خلفتها أفعال من كانت
للحظات تظن أنها عمتها .. الأمور التي كانت كصدمة غير
متوقعها لها فكيف بمن يعنيها الأمر ؟
لكن شيء من ذلك لم يحدث ولم تتحدث من تأملت وانتظرت
أن تفعل ذلك بل تولى غيرها مهمة الحديث وما جعلها تنظر
ناحيته وقلبها يئن بشدة وملأت الدموع عينيها وما أن قال
بجمود ونظره موجه للمعني بحديثه
" سيد عقبة أتمم ما أوكلت نفسك له "
كانت كلمات حازمة آمرة لا نقاش فيها فاشتدت أصابعه على
الأوراق تحتها وهو يرفع نظره للواقفة في الأسفل ومن
ارتفع رأسها ونظرها له حينها وكأنه يريد أخذ رأيها في
الأمر فهو وجد نفسه في وضع لا يُحسد عليه .. قاضٍ
ومدعي عام ومحامي ذات الوقت ويكره حزنها وانكسارها
كما يرفض أن يكون إلا عادلاً ويخشى حال مواصلة هذا
الأمر أن يأخذهم للنتيجة ذاتها فها هي أول تهمة تقدمها
للعدالة سقطت ويفهم جيداً معنى سقوطها بالنسبة لها فلا
هي التي يمكنها السعادة بهذا ولا الحزن فهي خسارة لجولة
مهمة في القضية ومكسب مهم لها كامرأة تجلت لها حقيقة
خيانة زوجها .
لكنه لم يجد أي شيء مما كان يبحث عنه في عينيها ، لم
يجد إلا امرأة تقف على حافة الهاوية وتختار السقوط فيها
على البكاء عند أطرافها ، كان يرى في عينيها نظرة
مشوشة ضائعة كما يرى ألم الصدمة التي تتآكلها من
الداخل حتى الآن لكنه قرأ فيها أمر واحداً فقط وهو المطالبة
بسحب حقوقها لآخر بند في قضيتها وهو ما أثبته صمتها
التام فتنهد بعمق ونقل نظره للذي لازال ينظر له للّحظة
والتقت عيناه بالنظرة الواثقة ومن اختار المضي في الأمر
أيضاً وقال بآلية وكأنه يلقي خطاباً يحفظه عن ظهر قلب
بينما يده تقلب الصفحة دون أن ينظر لها ليملأ صوته
الجهوي المكان منبعثاً من مكبرات الصوت المعلقة في
زوايا القاعة الواسعة
" السيد مطر شاهين الحالك أنت أمام دعوة قضائية من
قبل الزوجة غسق دجى الحالك في قضية طلب الطلاق
للضرر وانتزاع كافة الحقوق وهي تقدم للقضاء أدلتها على
استحالة الحياة الزوجية بينكما ولك حق الرد ليأخذ القانون
مجراه بالحكم العادل "
لم يستطع إلا أن يحرر أنفاسه السجينة في صدره وهو
ينظر أسفل يديه يبعد الورقة الأولى جانباً وكأن وقع ما قال
على نفسه أشد من غيره وتابع
" السبب الأول تم إسقاطه قبل قليل والمتهم فيه بات
شخص ثالث تصرف دون علم المدعى عليه "
وتابع وقد عاد لرفع نظره له مجدداً
" السبب الآخر المقدم من صاحبة الدعوة ضدك هو حجب
نسبها عنها قبل الجميع بالرغم من تقديم إثبات صريح بوفاة
والدها وصاحب قضية الثأر لتعيش ازدواج الهوية دون
علمها ودون أسباب واضحة "
كان وكأنه يحدث نفسه بسبب الصمت التام كما الجمود
المميت لصاحب النظرة القوية الواثقة الموجهة نحوه
والعينان الحادة المحدقة فيه بجمود لكنه مجرد قاضٍ هنا
وعليه أداء دوره فقط دون حياد ولا تقصير فبدأ يسرد التهم
الموجهة ضده بالتتابع ونظره مركز على الأوراق التي كان
يبعدها بانتظام
" السبب الثالث تطليقها وإرجاعها في ذات اليوم بالتلاعب
بالقانون حيث تم بالوكالة ودون علمها وإخفاء الأمر عنها
وتركها معلقة مدة أربعة عشر عاماً مع الهجران التام
والمنع المتعمد والغير قانوني لزواجها بآخر .
السبب الرابع حرمانها من طفلتها وهي الأحق بحضانتها
قانونياً وبدون محاكمة ولا موافقتها في تصرف جائر أحادي
الجانب .
السبب الخامس والأخير التصرف الفردي بمصير ابنتها
وتزويجها دون علم الابنة وبدون توثيق قانوني في تلاعب
واضح وصريح بالقانون مطالبة بإلغاء ذاك الزواج وبالتالي
سحب الحضانة المطلقة لأبنائها لتكون لها وذلك حسب
المادة مئة وسبعون من قانون الأحوال الشخصية ومطالبة
القانون بمنحها الطلاق مع إيفاء كامل حقوقها وأبنائها
ومن دون قيود أو شروط "
ولاذ بالصمت لبرهة قبل أن يتابع ونظره على آخر ورقة
اضافها لسابقاتها
" وكل هذا موثق بالمستندات السليمة تماماً والخالية من
أي عبث أو تزوير ، ولكم أو لمحاميكم كامل الحق للإطلاع
عليها في حال تم طلب تمديد جلسات النطق بالحكم "
ورفع رأسه كما نظره وقد أغلقت يده الملف وقال ولازال
يخاطبه كمجموعة احتراماً له وكأنه يتخلص من عبء
كل ذلك
" هذا كل ما لدينا هنا وبما أن سيادتكم ألغيتم وجود
المحامي المقدم اسمه للمحكمة سلفاً فلكم حق الرد
والتوضيح أو الصمت ليتم النطق بالحكم مباشرة "
وأنهى مهمته المبدئية ولازال يوجه نظره نحوه تحديداً بينما
كانت نظراته قد أصبحت موجهة نحو شخص آخر وهي
غسق ولأول مرة منذ أصبح هنا .. نظرة جعلته يشعر
بقشعريرة لم يفهمها وهو يحاول تفسير تلك النظرة في
عينه فنظر لها أيضاً حيث اشتدت يداها تجمعهما معاً
ونظرها عليهما ومنذ انتهت أسطر مأساتها التي كانت تُسرد
أمامها والتي عاشتها تتجرع مرارتها في كل دقيقة خلال
تلك الأعوام ، لكن ما جعل أنفاسها تتوتر حينها أمر آخر
تماماً تدركه وإن كانت لا تراه وهي النظرة الموجهة منه
نحوها وهي نظرة من صُدم في أكثر شخص منحه ثقته
وهو يسلمها مفتاح مكتبه الخاص وأغمضت عينيها تتذكر
كلماته حينها
( لأني أثق بك أنتِ فقط يا غسق )
كان الصمت التالي موحشاً قاتلاً شعرت بأنه يسحب كل طاقة
تملكها وتعلم بأن الأمر ذاته السبب فيه فليس من السهل
أبداً أن تطعن المرأة ثقة الرجل بها ..
إنه أشد قسوة من طعن كبريائه ومشاعره لكنه من اضطرها
لكل هذا .. للكذب والتحايل وهي حقوقها جميعها وجرائم لا
يتهاون فيها القانون الذي يحميه ويمثله .
أغمضت عينيها بألم تشعر بلسعة الدموع فيهما ما أن ملأ
صوته الجهوي المبحوح المكان قائلاً بحزم
" تيما "
كانت كلمة وحيدة وكان آمراً فيها بما يعلمه الجميع مما
جعل مشاعرها تهوي للجحيم تمنع عيناها من التفريط في
الدمعة التي سقطت هناك عند طاولة الشهود وحيث فارقت
رموش التي نظرت لعينيه بحزن ورجاء ومرارة وقد علمت
بأن دورها قد حان تترجاه بعينين دامعة كسيرة وفي صمت
أن يعفيها من كل هذا لكنها لم تنجح سوى في إشعال سواد
تلك الأحداق وقد قال بحدة وصوت قوي آمر
" توقفي عن البكاء يا تيما فأنتِ ابنة مطر شاهين لن
يكسرك أي شيء إن في وجوده أو في غيابه "
كانت تلك الكلمات الأقسى في الوجود وليس عليها وحدها
بل وعلى التي كانت تريد أن تصرخ بأعلى صوتها
( أعترض سيادة القاضي )
فليس من حقه أن يستخدم ابنتهما لهذا ويقتلها أكثر مما
فعل لكنها عجزت عن تحريك لسانها وهي التي لم تقرأ ملف
التهم الموجهة إليه أيضاً وتركت غيرها يتولى الأمر عنها
لذلك استسلمت للواقع المرير واكتفت بمراقبتها بعينين
حزينة وقلب مكسور حيث لم تكن تنظر لها ولا تعلم عن
نظراتها تلك بل لوالدها وقد حركت رأسها بضياع تعلن له
عن عجزها لفعل ذلك فما حدث هنا بات فوق تحملها وأكبر
من صمودها قبل سنها وآخره أن تعلم بأن زواجها كان
شرعياً فقط ولم يوثق في المحكمة بعد !
أي أنه مجرد وثيقة وشهود وكأنه زواج عرفي والدها
موافق عليه ! ومؤكد بسبب تواجدهم في تلك البلاد ورفضه
لتزويجها تحت اسم غير اسمها الحقيقي ، وزاد الأمر
سوءاً ما سمعته من ذاك القاضي وطالبت به والدتها
فكيف تطالب بحضانتها وتريدها أن تكون بجانب والدها !
اغرورقت عيناها بالدموع وتحركت شفتاها المرتجفتان بما
تعلم بأنه يقرأه فيهما ودون صوت
" أبي أرجوك "
وارتجف جسدها ما أن صرخ في أول انفعال له منذ
أصبحا هنا
" ألستِ من أصر على المجيء ؟ إذاً أنتِ الأحق من أي
أحد بمعرفة هذا "
كانت نظراته قاسية غاضبة لم يبعدها عن عينيها الدامعة
كما لم يرحم مشاعرها نحوهما وهنا علمت لما اختارها
واختار لها هذا المكان تحديداً فهو يريدها أن تعلم فحواه
أيضاً وكجزء من كل هذا وأن تقف على حياد بعيداً عن
كلاهما فهي بالفعل من أرادت التواجد هنا كما قال ، بل
وقرأت في كلماته تلك بأن الموجود بين يديها هو ما قد
يوقف القضية ويحقق أمنيتها اليتيمة بانتهاء الأمر وكأنه لم
يكن ، لكنها خائفة أيضاً .. خائفة ومتوجسة منه ومما
يوجد فيه .
نظرت له بين يديها وعلى الطاولة تحتها نظرة استجداء
حزين وكأنه يمكنه رؤيتها أو سماع مناجاة قلبها ليكون
رحيماً بها بل وبهم جميعاً ! لكن كيف للجماد أن يشعر بما
عجزت عنه قلوب البشر ؟ أغمضت عينيها وتنفست بقوة
هامسة
" يا رب أنت رجائي "
وعادت وفتحتهما ببطء ورفعت غلافة ببطء أشد وظهرت
لها أول ورقة فيه ولا وقت أمامها لرؤية أسطرها قبل
قراءتها فحتى الصمت حولها كان ينتظر أن تملأه بصوتها
وعليها فعل هذا لينتهي الأمر بل ولعل مأساتهم بأكملها
تنتهي بانكشاف ما يخفيه .
ارتفعت يدها لعينيها ومسحتهما بحركة سريعة قبل أن
تعود وتنظر له بين يديها وتغضّن جبينها باستغراب تنظر
للتاريخ أعلى الورقة الصفراء القديمة وإن لم تتمزق
حوافها والذي كان عمره من عمر والدتها تقريباً !
نزل نظرها للسطر الذي كان يتوسط الورقة عند أعلاها
وشجعت نفسها وبدأت القراءة بصوت ملأ المكان رغم
انخفاضه وارتجافه بسبب مكبرات الصوت
" محكمة حوران الإبتدائية وثيقة تنازل لقضية ثأر "
شعرت بضربات قلبها ترتفع رغم علمها المسبق بأمر كهذا
لكن وجود هذه الورقة هنا واليوم تحديداً لابد وأنه يحمل
المزيد !
وذاك ما كان بالفعل وما كشفه صوتها قبل عقلها وما أن
علا رقيقاً حزيناً وضعيفاً يملأ صمت المكان مجدداً
" نجتمع هنا واليوم لإقرار عائلة شاهين الحالك بالتنازل
التام وفق الشروط والقوانين الحالية للبلاد لعائلة عبد
المجيد عمران غيلوان بموجب حكم قبائل الجنوب
وبحضورهم لفض نزاع الثأر مقرين بحقوقهم التامة
فيما يخص مقتل أبنائهم الثلاثة .. "
وبدأ صوتها يضعف والريبة تسكنها ما أن علمت العدد الذي
كانت تجهله لكنها تابعت تشجع نفسها لجهلها باقي الأمر
وبدأت تسرد أولاً الأسماء المدونة فيها
" يحي عبد المجيد عمران غيلوان وموسى عبد المجيد
عمران غيلوان وزكرياء عبد المجيد عمران غيلوان
معترفين بأحقية دمائهم عليهم بتسليم القاتل للقصاص
بالقتل وتسليم سلالته كاملة وبالدليل الثابت وشهود العيان
وهو دجى شا.. "
انقطع صوتها حينها كما انقطعت أنفاسها وارتفعت عيناها
المتسعة بذهول ناحية والدتها تحديداً والتي كانت تنظر لها
مصدومة أيضاً فكلتاهما المعنيتان بسلالته والأمر الذي كانتا
تجهلانه تماماً كجهلهما لعادات قبائل الجنوب وأحكامها التي
لا نقاش فيها وإن حكم القانون خلاف ذلك فكيف وتوقيع
كبير عائلتهم موجود وبوثيقة يملكون نسخة أخرى عنها ؟
فالمحاكم في الماضي كانت عبارة عن غرفة واحدة تضم
عقود الزواج والطلاق يرأسها مشايخ القبيلة في ذاك القطر
من البلاد كما قضايا الثأر التي كانت تعد جزء من القصاص
للجناة حينها .
بدأ صدرها يعلو بعبرات مكتومة وعيناها تمتلئ بالدموع
مجدداً ولازال نظرها على والدتها ولم تفكر في نفسها بل
بها وبوالدها فالذي قرأته الآن معناه أنها من حق تلك
العائلة أمر لا نقاش ولا للقانون فيه ، بينما كان تفكير التي
أسندت جسدها بالطاولة التي تقف قربها بسبب عجزها عن
الصمود أكثر من هول ما سمعته مشابهاً وهي تتخطى
نفسها وتفكر في صغيرتها تلك وهي في هذا السن يتم
تسليمها لرجال من عمر جدها ويزيد !
وتعلم جيداً معنى أن تكون السلالة ضمن قضايا الثأر
ومعنى أن تُسلم المرأة لعائلة القتيل .
استندت بظهرها على الخشب القاسي أكثر بينما كانت
أنفاسها تعلو بشدة تنظر للفراغ بعينين زائغة وكأنها لم
تخرج من زوبعة تلك الصدمة بعد فها قد علمت لما هجرهم
والدها ولماذا ترك زوجته وحرم نفسه منها ومن جنينهما ،
لما ماتت والدتها حسرة وحزناً ولما عاشت هي وتربت مع
عائلة ليست عائلتها ولا تعرفها بل وخارج حدود قبائلها ،
كل هذا كان بسبب تلك الوثيقة التي أُجبروا على توقيعها
فحكم القبائل لا يرحم فكيف وهم أسيادها ؟
كيف وهم يحكمون في النزاعات والجميع يخضع لحكمهم
كما أوامرهم ؟
وما أن لامست يد تلك القوانين ابنهم لم يخضعوا لها وهم
يخفون حقيقة علمهم بوجوده في صنوان بينما لم يستطع
شاهين الجد التملص من هذه أيضاً ووقّع لهم تنازلاً ليس
عن ابنهم ذاك فقط بل وعائلته التي كانو يعلمون
بوجودها حينها !
حقيقة مفجعة وقاسية شعرت بأنها تعيدها لزمن الرق
والعبيد الذي لم تعرفه يوماً وكأنهم سلعة مباعة يخفون أمر
وجودها عن مشتريها فحتى جنينها الموجود في أحشائها
الآن هو ملك لهم ليكون خادماً لديهم ما عاش بمجرد أن
يعلموا عن وجودها ونسبها الحقيقي .
رفعت نظراتها الدامعة الذاهلة حيث الجالس في الأعلى
والذي كان جلياً على ملامحه بأنه لم يتجاوز الصدمة بعد
وبأنه كان يجهل بالأمر ولن تستغرب هذا فهو عاش وتربى
في الهازان ولا يعلم عن ذاك الماضي شيئاً كما يبدو لذلك
لا أمل لديها في أن يُكذب هذا وأن يقول بأنه ليس حقيقياً أو
لا يجوز قانونياً فأحكام القبائل في الثأر تجتاز القانون ..
هو أمر يعلمه الجميع فكيف مع تلك الورقة والتوقيع
والختم والشهود ؟
اغمضت عينيها بألم ما أن عادت وسمعت صوت ابنتها
الباكي هذه المرة تعلن انهيار صمودها الهش لتتابع قراءة
الورقة التي تليها وكم تمنت أن توقف الأمر عند ذلك لأنه
وحده يكفي لقتلها وهزيمتها وإعلان انتصاره عليها لكن
هذا لم يعد بيد أي واحدة منهما وليس لها حرية رفضه
أو التحكم فيه خاصة وهي تسمع تاريخ آخر وأقرب من
ذلك بكثير .. تاريخ تعرفه جيداً فهي تعلم ذاك الشهر وتلك
السنة تحديداً والتي خسرت فيها كل أحلامها كامرأة
وصورتها أمام الجميع وحتى نفسها كأنثى ومشاعرها
كعاشقة وتم إرسالها كما ذهبت وحيدة لقبيلتها الفارق
الوحيد أنها كانت تحمل طفلة في أحشائها وجرحاً نازفاً في
قلبها فخسرت الطفلة وبقي ذاك الجرح ينزف حتى اليوم
واللحظة .
سالت دمعة يتيمة على وجنتها وببطء يشبه كلمات التي
قالت تنظر للأحرف من بين دموعها
" المكان جنيف سويسرا .. وفي الإجتماع السابع
والخمسون لفض النزاعات الدولية والداخلية للدول
الواقعة تحت الوصاية الدولية "
|