*
*
*
دخل وأوقف الخادمة التي كانت تسير أمامه ومد لها حقيبته
وبعض الملفات بينما ترك الكيس البلاستيكي في يده قائلاً
" خذيها لجناحي "
فسارت من فورها ناحية السلالم وهو خلفها ، وبينما توقفت هي
رحلتها عند أول طابق وصلته تابع هو طريقه حيث السلالم الآخر
والمستقل عن سابقه وتوجه ناحية الممر الخاص بجناحها من
فوره يحمل كيس الطعام الذي أحضره من أجلها وبصعوبة وجد
وقتاً ليترك مبنى النيابة وكان عليه المجيء فلن يتركها حتى
المساء دون أن يطمئن عليها على الأقل فعقله مع قضيتها وهو
هناك بينما قلبه هنا، وإن أصبح هنا ترك عقله يفكر هناك فعليه
الاعتماد عليه وعلى نفسه وإن رفضت مساعدته فسيفعلها وإن
لزم الأمر أن يعود لموطنهم هناك ويبحث عن رؤوس الخيوط
والعقدة الأساسية في مكانها الأصلي .
أدخل رمز الباب ودخل ما أن فُتح أمامه ووقف ينظر لها حيث
خانت توقعاته وكانت تجلس على الأريكة تولي ظهرها للنافذة
الزجاجية المحمية والتي أبعدت ستائرها لتعطي لجلوسها نوراً
قوياً يلائم ما تفعله ومنشغلة به تماماً وهي تمسك دفترها وترسم
وقد أشعت خصلات شعرها التي دمجت لون الذهب بلون العسل
بريقاً جميلاً وإن كانت تجمعه للأعلى بمشبك كبير بينما كانت
عيناها يشوبها بعض الإرهاق الواضح وإن لم تنظر ناحيته إلا أن
بشرتها بدت أفضل حالاً ويبدو ساعدتها الحبوب على الاسترخاء
ونامت جيداً فحينما غادر في الصباح الباكر كانت نائمة ولم
تستيقظ بعد تلك المرة لأنه ترك الباب بينهما مفتوحاً طوال الليل
ولم ينم سوى لساعتين تقريباً بعد صلاة الفجر .
وضع الكيس من يده على الطاولة بينما نظره لم يفارقها كما لم
يستطع التحكم في الابتسامة التي ارتسمت على ملامحه قبل
شفتيه فهذا أيضاً لم يتوقعه فما يعلمه عن الفنانين وأصحاب هذه
الموهبة تحديداً لا يمكنهم الرسم في جميع أحوالهم مما يعني أنها
اجتازت ذاك اليوم بالفعل وعادت كما كانت ويعرفها بالرغم من أن
انصياعها السابق له وخوفها ولجوئها له تحديداً كان سيكون أمراً
ما كان ليتوقع الحصول عليه لكن ليس معها هي بالتأكيد فذاك كان
يعني بأنها ليست بخير البتة وبأن مرحلة فقدها قد بدأت
تدريجياً .
أخذته خطواته نحوها ووقف خلف كتفها ينظر لخطوط قلم
الرصاص ماذا صنعت بها من جمال واتسعت ابتسامته وهو يرى
الملامح المرسومة بوضوح لابتعاد يدها حينها وهمس
" هذه ماريه !! "
كان بإمكانه تمييزها سريعاً وإن كان الرسم غالباً يختلف قليلاً عن
الواقع لكن موهبتها الفريدة لم يرى مثيلاً لها فهي تصنع ظلالاً
بالخطوط وتعطي نتيجة مبهرة وكأنها رُسمت بأحد
برامج الرسم
الحديث عبر أجهزة مخصصة لتكون الرسوم أقرب للواقع وليس
بقلم رصاص فقط !
لم يتوقع أبداً أن يسمع صوتها وهو يصله بهدوء غريب وكأنها
تحدث نفسها شاردة الذهن ونظرها لم يفارق الوجه المرسوم على
ورقة الدفتر بين يديها
" إنه الوجه الذي يعشق الفانون رسمه .. هكذا كان يقول
السيد ريليش "
نقل نظره لما يظهر له من ملامحها ولرموشها التي تظهر له
وعلم بأن ذاك سيكون من علّمها الرسم أو من صقل موهبتها
بخبرته الطويلة وعاد بنظره لذاك الوجه والابتسامة البريئة
وقال مبتسماً
" إنها فتاة لطيفة حقاً "
ونظر لها مجدداً وما أن همست بسخرية
" لم تشوهها أفعال البشر "
التصقت نظراته بما يظهر له من ملاحها وقال بشرود حزين
ارتسم على تقاطيع ملامحه الرجولية
" لا أوافقك الرأي فماريه عاشت طفولة تعيسة يتيمة الأبوين
مع عم قاسي "
وتنهد بعمق وقد نظر لرسمتها مجدداً متابعاً
" ثم تركها تيم ووالدته من قبله لتصبح وحيدة وعانت لأعوام من
نظرات الجميع لها كامرأة مشوهة وغير عفيفة وبالرغم من كل
ذلك لم تموت براءة قلبها التي انعكست على كل شيء فيها "
اغلقت دفترها بحركة واحدة واختفت تلك الملامح المرسومة
ببراعة وقالت ببرود
" أولئك لا يعنون لها شيئاً ولم تتأذى ممن أحبتهم ومن علّقت
آمالاً كبيرة عليهم حينها ستتلوث بسببهم وتصبح نسخة
أخرى عنهم "
تنقلت نظراته بين بشرة وجنتها ورموشها لشعرها اللامع الجميل
رجوعاً لعينيها التي لا تظهر له وقال بتأني
" وماذا عمّن تشوهت قلوبهم بسبب أفعال من لا يحبونهم ؟ "
وقفت واستدارت نحوه وكان يعلم بأنه أصاب حقيقة وضعها
حينها وما فهمته هي جيداً وأكدته كلماتها الباردة تنظر لعينيه
" ذلك لأنهم كانوا السبب في قتل من يحبون ، أفقدوهم كل
الأشياء الجميلة التي تربطهم بهم وللأبد وهذا ما لم
يحدث معها "
تنقلت نظراته بين زرقة عينيها الباهتة وقال ما لم يعد يمكنه
إمساكه أكثر من ذلك
" أنا لم أفعل كل ذلك يا زيزفون وتكرهينني ؟ "
" أنا لا أكرهك "
قالتها مباشرة وأبعدت نظرها عنه سريعاً وكأنها تهرب من كلمات
لسانها فشدّ قبضتاه بجانب جسده بقوة وقال
" ولا تحبينني .. فأين أكون مثلاً ! "
وانتظر بشغف أن تتحرك الشفاه الزهرية المطبقة أو حتى أن
تنظر له العينان المحدقة في الفراغ بعيداً عنه لعله يفهم ما يوجد
فيها لكن شيء من ذلك لم يحدث فأجبرته كلماته على الخروج
مجدداً وبنبرة عميقة
" موقن من أنك لا تملكين مناطق رمادية يا زيزفون ... "
وسحب نفساً عميقاً وكأنه يشجع نفسه على المضي وتقبل
الحقائق وتابع وهو يزفره
" إما أبيض أو أسود "
اشاحت بوجهها عنه هذه المرة واستدار جسدها نصف دورة
وكأنها تخفي شيء ما في تلك العينان الجميلة بينما تحركت
شفتاها اخيراً وهمست بجمود
" لن نعيد ما قلناه سابقاً يا وقاص "
شعر بقلبها تمزق لنصفين وتبدلت نظراته للحزن وأومأ
برأسه هامساً
" أنتِ امرأة لا تملك شيئاً تهبه لرجل "
نظرت لعينيه حينها نظرة طويلة لم يتوقعها كما لم يفهمها ؟
لم يستطع قراءتها ولا تفسيرها !
نظرة أنهكته تماماً انتهت بأن همست شفتاها بجمود
" ها أنت لم تنساه "
وتحركت مجتازة له ما أن أنهت كلماتها تلك وتركته واقفاً مكانه
كمنزل مهجور يقف شامخاً بينما تئن جدرانه شوقاً للدفء للحنان
للأضواء ولأصوات ضحكات من يفتقدهم ولا يجدهم ، وأغمض
عينيه ما أن سمع صوت باب الغرفة وهي تغلقه خلفه وتنفس
بعمق قبل أن يفتحهما ونظر ناحية الباب الموصد بحزن
وهمس بأسى
" وماذا لو كنت رجلاً يريدك بجميع حالاتك يا زيزفون ؟ "
حرك رأسه مستغفراً الله بهمس وتحركت خطواته أيضاً لكن
باتجاه الكيس الذي كان قد وضعه على الطاولة وأخرج قوالب
الطعام الموجودة داخله ووزعها فوقها لعل الرائحة الشهية
المنبعثة منها تجعلها تأكل ولو قليلاً فعليه الاستحمام والمغادرة
فوراً لأنه ثمة أمور كثيرة عليه الذهاب للندن للقيام بها .
*
*
*
وقفت بهما سيارة الأجرة عند بداية الشارع كي لا ينال سائقها
مخالفة لتوقفه قرب باب المبنى الذي يقصدانه وفتحت حينها
ساندرين الباب ونزلت وكنانة تبعتها قائلة بتذمر
" لا أفهم لما لم نأتي بسيارتك ؟ "
استدارت نحوها وقالت بضيق تشير بيدها جانباً
" لأني لن أجد مكاناً لأركنها فيه أم لا تري الشارع أمامك ؟ "
نظرت حيث الشارع الطويل خلفها ولا مكان لتقف فيه سيارة
بالفعل وعادت بنظرها لها ما أن قالت بضيق
" عليك أن تتوقفي عن التذمر يا كنانة أو عودي للمنزل وسأدخل
لذاك المكان وحدي وبأي طريقة كانت وإن سُجنت "
قالت باستياء مبررة
" ما كنت لأكون هنا لو أني أرفض هذا ومهما فعلتِ "
أمسكتها من يدها وسحبتها معها قائلة
" إذاً تحركي بسرعة وبدون حديث لا طائل منه لنعود سريعاً "
تبعتها منصاعة ولا خيار أمامها ، هي تريد المساعدة فعلاً لكنها
متخوفة ولا تستطيع إنكار ولا رفض هذا الشعور الذي لا سلطة
لها عليه وكان عليها الموافقة على مهمة الدخول لهذا المكان
لأنها لن تتمكن أبداً من إلهاء الحارسان كما ستفعل هي ولا تريد
فعلاً أن ترتدي بذلتها نيابة عنها كي لا يتم طردها من المطار إن
تسبب الأمر بمشكلة ما وأمسكوا بها رافضين وجودها في الداخل
وإن اجتازت الحراس .
ارتفع نظرها للبناء الشاهق الذي كانتا تمران أمام السياج
الحديدي المحيط به وذُهلت من ارتفاع طوابقه واتساعه حيث كان
بواجهة حجرية ورغم عبورها البوابة الحديدة خلف التي لازالت
تمسك بيدها وتقودها إلا أن نظرها لم يفارق ذاك الصرح الضخم
العالي حتى شدتها يميناً بخطوات سريعة وكادت تقع وهي تركض
خلفها في اتجاه لم تتوقعه ووقفت بها خلف أحد أشجار الزينة
المحيطة بالبناء وهمست ساندرين حينها تشير لها بسباتها للمكان
الذي يظهر لهما من بين الأوراق الخضراء
" ممتاز إنهما اثنان فقط .. هناك أرأيتهما ؟ "
حركت رأسها إيجاباً دون أن تعلق بشيء ونظرت لها ما أن قالت
تنظر لعينيها وبنبرة جادة
" سأنفذ الجزء الأول من الخطة وما أن ينشغلا تتسللين مسرعة
من هناك .. "
وتابعت تشير بسباتها
" تسيرين بمحاذاة الجدار من هنا وتصعدي العتبات من هذا
الاتجاه أيضاً وتدخلي اتفقنا ؟ "
نظرت لها ما أن أنهت حديثها وقد أومأت لها موافقة فقالت ببرود
تمسك خصرها بيديها
" عليك فعل ما قلت وفي الوقت المحدد فهمتِ يا كنانة أم تحركين
رأسك كالدجاجة فقط "
ضربتها على كتفها بالحقيبة في يدها هامسة بضيق
" فهمت يا أنثى الثعلب "
ولم تتوقع قط ضحكتها حينها وتحركت من هناك تغادر مخبأهما
قائلة بضحكة
" اتفقنا يا دجاجة "
فشدت شفتيها بضيق تراقبها وهي تقترب من هدفهما القريب
منهما وهي تصعد العتبات بكل ثقة وكأنها رئيس ذاك المكان !
أمسكت ضحكتها وهي تحارب تلك الأفكار وعليها أن تعترف بأنها
أشجع منها بكثير بل ولن تتخيل أن تراها جبانة يوماً وفي أي
موقف كان ، إنها لم تعرف واحدة مثلها ومنذ طفولتها متمردة
شجاعة وقوية ولها لسان يشبه الصبار مليء بالأشواك السامة ،
عادت لكتم ضحكتها بأسنانها تراقبها وقد وصلت لهدفها
وكالمتوقع تماماً أسرع الحارس لمنعها بمد يده وذراعه بينها
وبين الباب وكانا مسلحان كلاهما لكن سلاح كل واحد منهما مثبت
في مكانه ولن يستخدمه ضدها بالتأكيد وهي امرأة وعزلاء بل
سُيحاسب حساباً عسيراً على هذا .
عادت تمسك ضحكتها بيدها هذه المرة وهي تراها تتشاجر معه
رافضة الابتعاد وقد صرخت ما أن دفعها بيده وضربته بالحقيبة
في يدها بقفزة على رأسه وهذا ما جعل غضبه يزداد وفي كل
حركة منه كانت تصرخ به وكأنه يتحرش بها وتضربه مجدداً
فتَدَخل رفيقه حينها وازداد ضربها العشوائي بالحقيبة في يدها
وتداخلَ صوت صراخها مع صوتهما المرتفع بغضب وانسجمت
هي مع ما يحدث وكأنها تنتظر أن ترى ما سينتهي له الأمر قبل
أن تقفز من مكانها ما أن صرخت تلك من بعيد
" تحرك هيا أيها الأحمق "
فأسرعت خطواتها المرتبكة بسبب ضربات قلبها التي كانت تعزف
كطبول حرب وصعدت العتبات القليلة ملتصقة بالجدار وركضت
باتجاه الباب دون أن تفكر في النظر نحوهما ومعرفة إن شعرا بها
أم لا ولا وقت لديها لذلك فإن أمسك بها فستعلم حينها .
ولم تصدق نفسها حين وجدت قدماها تركضان داخل الممر الطويل
ببساطه الأحمر المحدد بخطوط ذهبية ولا أحد يركض خلفها ولا
يناديها أو رصاصة ما اخترقت ظهرها مما يعني أنها نجحت في
أول وأصعب جزء من المهمة ، أو ذاك ما كانت تتخيله وخطواتها
تتباطئ وهي تنظر حولها فالمكان عبارة عن ممرات متداخلة ولن
تعرف وجهتها المحددة حينها !.
اختبأت ملتصقة بأحد الأبواب ما أن سمعت بعض الأصوات وازداد
خوفها واضطرابها حين أدركت بأنهم قادمون نحوها ففتحت الباب
خلفها ودخلت دون تفكير فيما سيكون موجوداً خلفه فعليها أن لا
تقابل أحداً قبل أن تصعد لأحد الطوابق العليا فستكون أكثر أماناً
هناك من أن يجدوها هنا وتثير الشك حولها .
نظرت للورقة بين يديها وللرسم التوضيحي الذي كانت ساندرين
تشرحه لها طوال رحلة قدومهما إلى هنا وكيف يمكنها الوصول
لوجهتها المطلوبة ومدت شفتيها بعبوس فلا يبدو الأمر بهذه
السهولة على أرض الواقع مع معلومات مجموعة من الانترنت .
حركت سبابتها تتمتم بشفتيها وهي تحسب عدد الأبواب في
الورقة قبل أن تصل للمصعد وعدد الممرات واتسعت عيناها
بصدمة تلتها شهقة مكتومة ما أن اختفت الورقة من بين يديها
فجأة وارتفعت نظراتها الذاهلة للجسد أمامها باللباس الخاص
بضباط البحرية تشعر بكل شيء يدور حولها وجسدها تصلب
كتمثال خشبي مقلتاها فقط تنظرت للعينان الزرقاء أمامها تحفها
رموش بلون الذهب وحاجبان بنيان عابسان وابتلعت ريقها
بصعوبة ما أن اخترق صمت المكان والضجيج المرتفع في اذنيها
صوته الانجليزي الحاد
" ما الذي تفعلينه هنا ومن تكونين ؟! "
وتطايرت جميع الكلمات من قاموسها كما طارت أدراج الرياح
خطتهم البديلة في حال تم الإمساك بها هنا في الأسفل وأن تتحجج
بأنها مبعوث من المطار وسيفكر فوراً في الاتصال برئيسها هناك
بالتأكد فكانت تعلم بأن الآخر لن يقول بأنه لا يعلم بوجودها بل
سيلعب الدور الذي رسمته له وسيترك استجوابها حتى يكونان
معاً وذاك ما كانت تعرفه عنه طوال سنوات عملها معهم هناك ،
لكن الآن وهو يمسك الخارطة غريبة الشكل بين يديه فلن يفكر
أساساً في تصديقها ليتصل بهم ومن شدة حماقتها لم تتأكد بأن
الغرفة خالية فعلاً وانشغلت بمن هم في الخارج عن التدقيق فيما
أصبحت فيه .. يا لها من حمقاء وستنتهي للسجن بالتأكيد .
فتحت فمها وأغلقته عدة مرات دون أن يصدر عنها أي صوت
فهي لم تعطي لعقلها إجابة ليقدمها للسانها فما عساه سيقول !
كانت تجزم بأن نهايتها قد حانت فحتى قول الحقيقة لن يفيدها في
شيء وقد يعتقدون أنها جاسوس ما وهنا تكمن الكارثة ..
وشعرت برغبة كبيرة في البكاء كطفلة صغيرة تنقد نفسها بذلك
من كل موقف مشابه .
" هذه زوجتي وهي هنا من أجلي "
نظرت بصدمة وحركة سريعة من رأسها ناحية الواقفان عند
النافذة بعيداً بل وللذي تقدمت خطواته نحوهم يديه في جيبي
بنطلون بذلته الخاصة بالطيران وشعرت بأن تلك الرغبة السخيفة
بالبكاء تدنو منها أكثر فلم تكن تتصور أن يكون حجم الكارثة أكبر
من كل هذا ! لا بل قد تقوست شفتاها فعلاً كطفلة تنتظر طوق
نجاتها الذي خرج لها من العدم فجأة بينما كان نظره هو مركز
على الضابط الذي استدار نحوه قبل أن يقول بجمود ويده تشير
بالورقة فيها للتي أصبحت تقف خلفه
" هذه تكون زوجتك ؟ "
أغمضت عينيها بشدة تمسك فمها بيدها بينما كان جسد الواقف
أمامها يخفيها عن صاحب الصوت الجاد
" نعم وإجراءات الزواج تمت هنا ويمكنكم التأكد من هويتها
في محكمة لندن "
مد له الورقة في يده حينها واستدار نحو التي هربت بنظراتها من
عينيه التي حدقت فيها لوقت وكأنه يحاول تخزين ملامحها في
عقله لاستخدامها فيما بعد والتأكد منها كما حدق بتركيز في
اسمها الموجود في البطاقة المثبتة على جيب سترتها قبل أن
يتحرك مجتازاً لها وفتح الباب خلفها وغادر وتبعته خطوات أخرى
خرجت خلفه علمت بأنها للفرد الثالث في المكان بينما كانت
نظراتها ملتصقة بالأرض تماماً منحنية الرأس لم تستطع ولا رفعه
وتعلم جيداً ما ينتظرها وما قد يفكر فيه الواقف أمامها الآن .
أغمضت عينيها التي اخفتهما عنه غرتها الناعمة كما بعض
الخصلات من شعرها تعتصرهما بقوة وشتمت حظها وساندرين
معه ، كان عليها أن لا تثق في ذاك الحظ السيء الذي كان يوقعها
في المشكلات دائماً فكيف أن يجتمع هو وتلك المجنونة معاً ؟
حين طال الصمت ولم تكن تسمع سوى أنفاسها المندفعة من بين
شفتيها بقوة فتحت عيناها ببطء تبدل للإتساع سريعاً وهي ترى
الورقة التي كان يمدها لها .. الورقة التي سلمها له ذاك الضابط
قبل خروجه وها هو يعيدها لها ويبدو من دون أن يفتحها !
والأغرب دون تحقيق مسبق أيضاً !!
رفعت يدها ببطء وأخذتها منه وقبضت أصابعها عليها بقوة وهي
تُنزل يدها ورفعت نظرها لوجهه ولعينيه وتمنت لو قتلت نفسها
لحظتها فهي غاضبة ومستاءة منه طوال الوقت لكن ما أن يصبح
أمامها وتنظر لعينيه حتى تنهزم وتنهار جميع دفاعاتها وتكتشف
بأنها فقط تشتاق له ، اعتراف قاسي ومُهلك لكنها الحقيقة ولا
يمكنها خداع نفسها وإن خدعت الجميع .
أنزلت رأسها ونظرت للورقة المجعدة في قبضتها تهرب من عيناه
ومن نظراته بل ومن جميع تفاصيله كما يبدو لكنها سرعان ما
عادت ونظرت له حين قال بذات نبرته الرزينة والخالية من أي
تعبير قد تفهمه
" أين كانت وجهتك ؟ "
وانحبست أنفاسها وهي تجاهد لإخفاء صدمتها فهل يفعل هذا
ليثبت لها أنها كانت متسرعة دائماً في الحكم عليه والمواقف
تشهد ؟! فلن يكون هذا ثقة منه تصل لأن لا يسألها عمّا تفعل
هنا ! أم يعتقد بأنها مبعوث من عملها والدليل هي ملابسها التي
تؤكد بأنها من المطار قصدت هذا المكان فوراً ؟
كانت التساؤلات تدور حولها في حلقات متواصلة بينما تتقافز
الإجابات بعيداً عنها وتوصلت لقرار نهائي بأن تقول الحقيقة
كاملة وكان أول ما نطقت به منها هامسة
" الطابق الخامس "
ولم تستغرب نظرة التفكير التي غاص بها في عمق عينيها من أن
تكون وجهتها هناك تحديداً وقبل أن يفكر في أي سؤال أو
استفسار تتوقعه نظرت لجيب بنطلون بذلتها وهي تدخل يدها فيه
وأخرجت منه ورقة مطوية ومدتها له قائلة ما يتوقعه بالتأكيد
" لمكتب سكرتير الأميرال غيمسون "
وراقبت بتوجس نظراته على الورقة في يدها للحظات قبل أن يمد
يده ويأخذها منها وفاجأها مجدداً وهو يدسها في جيب بنطلونه
دون أن يفتحها ! فشعرت بموجة ارتياح غامرة فهي نجت من
الهلاك بأعجوبة ولمرتين متتاليتين هنا !
نجت من القبض عليها متسللة ومن الإنهيار التام لعلاقتها مع
من باتت زوجة له وتعلم بأن مشاعرها اتجاهه أعظم من أن
تساعدها على اجتياز خسارته ومهما أنكرت ذلك ولن تستطيع ولا
محو صورته من مخيلتها ما عاشت وستخرج الخاسر الوحيد
من اللعبة .
أخفضت رأسها تشد أصابعها بقوة ما أن اجتازها مغادراً من الباب
المفتوح خلفها ولم يضف شيئاً بل هو لم يقل شيئاً ليضيف !
استدار رأسها للخلف وتقوس حاجباها بحزن حين لاحت لها فكرة
أنه سينهي كل شيء بالصمت ذاته وتكون الضربة القاسية لها
والأقسى من غضبه ومن صراخه وحتى من معاقبتها .
تحركت خطواتها مسرعة وغادرت الغرفة أيضاً ونظرت في كلا
اتجاهي الممر الخالي تماماً قبل أن تتحرك في الاتجاه الذي جاءت
منه تكاد كفاها تتمزقان من غرسها لأظافرها فيهما بسبب قوة
شدها لقبضتيها وكأنها تفرغ كل انفعالاتها فيهما وفي الخطوات
القوية التي كانت تضرب بها الأرض بغضب ولم تنظر أو تكترث
لمن اجتازتهم عدة مرات بلباس البحرية الخاص فطريقها الآن هو
الخروج ولن يعترضها أحد بالتأكيد وتشُك إن كانت تهتم أساساً
إن فعلوا .
ما أن وصلت البوابة الرئيسية اجتازت الحارسان الموجودان
هناك ووجهتها الواقفة في الأسفل تنتظرها والتي أمضت الوقت
واقفة هناك في انتظارها وكلما نظر الحارس الذي هجمت عليه
ناحيتها أخرجت له لسانها فيمسك ضحكته ويشير لها بإبهامه .
بينما نزلت كنانة العتبات نحوها بخطوات شبه راكضة وتباينت
نظرات ساندرين لها بين الفضول والاستغراب حتى وصلت عندها
واختطفت الحقيبة من يدها اختطافاً وانهالت عليها ضرباً بها
مرددة بغضب
" تباً لك يا حمقاء يا فاشلة يا غبية "
بينما لم تستطع هي تمالك نفسها من الضحك تحاول صد ضرباتها
لرأسها وكتفها وحيث وصلتها الضحكة الرجولية المرتفعة بعيداً
مصدرها بالتأكيد الذي كانت تسخر منه طوال وقت وقوفها هنا
لأنه لا يستطيع ترك مكانه ولا ضربها بسلاحه وها قد انتقمت
القدرة الإلاهية له منها .
*
*
*
ما أن غادرت المعلمة حتى وقفت جميع الطالبات وبدأن في
مغادرة الباب الذي تركته خلفها مفتوحاً فوقفت هي أيضاً وبدأت
بجمع أغراضها ونظرت للجالسة بجانبها والتي كانت لاتزال
جالسة مكانها تجمع كتبها وقالت لها مبتسمة
" يعجبني حجابك كثيراً "
ابتسمت في خجل وقالت
" أنا لا أخرج إلا بشبيه له ولأي مكان "
اغلقت حقيبتها بحركة واحدة وقالت تبتسم لها
" سأشتري مثله إذاً "
ضحكتا معاً وقالت التي وقفت أيضاً
" أراك مستعجلة أثمة من ينتظرك ؟ "
قالت مبتسمة وهي تعلق حزام حقيبتها على كتفها
" أجل إنه شقيقي "
وغادرت ملوحة لها بيدها وعبرت الممر الطويل حيث الطالبات
اللواتي كنّ يخرجن من الأبواب المفتوحة وصوت الأحاديث
والضحكات تملأ المكان ، وما أن اجتازت باب مبنى المدرسة حتى
شعرت بالسخونة تتدفق من قدميها لرأسها ووجدت عالماً مختلفاً
تماماً عماّ تركته خلفها هناك بل وما وجدته وقت دخولهما صباحاً
حيث كان فناء المدرسة الواسع ممتلئ بالطلبة وليس الطالبات
فقط وبعضهم كان طويلاً جداً وتبرز معالم رجولته إن في
أجسادهم أو لحاهم المحددة بصيحات عصرية تشبه تسريحات
شعرهم الغريبة عند الأغلب أو حتى خشونة أصواتهم المتداخلة
من جهات مختلفة وعلمت بأن الأغلب منهم سيكونون طلبة
المرحلة النهائية وشعرت بالارتباك وهي تنزل العتبات القصيرة
للباب ليس بسبب التجمعات المتفرقة في كل مكان لطلبة أو
طالبات أو كلاهما معاً في بعض الأمكنة بل بسبب النظرات التي
كانت تتجه نحوها بالتتابع تليها الهمسات المتفرقة وتأكدت من أن
خبر وجودها هنا انتشر سريعاً والجميع بات يدفعه الفضول لرؤية
ابنة مطر شاهين التي ظهرت لهم من العدم فجأة .
شعرت بحرارة وجنتيها تلسع جلدها وبحياء فطري جعل الدماء
الحارة تندفع نحوهما بقوة وأدارت يداها حقيبتها في حركة لا
إرادية تخفي جسدها بها وشعرت وكأنها تسير عارية بينهم بسبب
النظرات التي كانت تلاحقها وهي تحاول إيجاد من لا تعرف أين
يمكنها إيجاده !
" تيمااا "
التفتت خلفها وشعّت ملامحها بابتسامة جميلة ما أن رأت الذي
ركض نحوها وقد حضن كتفيها بذراعه ما أن وصل لها وسار بها
باتجاه المقاعد الحديدية المخصصة للطلبة في الطرف الشرقي
حيث تغطيها عريشة مقوسة من النباتات المتسلقة ، وكان
الوضع ذاته في كل مجموعة يمران من أمامها بسبب نظراتهم فها
قد اجتمع حفيد شراع صنوان وابنة مطر شاهين .
نظر لها وقال مبتسماً ما أن جلسا
" كيف كان نصف يومك الأول ؟ "
قالت بضحكة
" جيد وأنتِ ؟ "
شبك أصابعه خلف رأسه واتكأ على يديه للخلف ينظر أمامه
وقال مبتسماً
" أنا معتاد على هذا ، ذات النظام وإن تغيّرت الأمكنة أنتِ
هي التي تخوضين هذه التجربة المريعة للمرة الأولى "
أبعدت نظرها عنه وحركت كتفيها قائلة
" وعندي لم يختلف الأمر كثيراً فأنا كنت أتابع دروساً عبر
الانترنت والنظام ذاته شخص يشرح وأنت تستمع له "
أدار عينيه فقط نحوها وقال
" لكن هنا يمكنك التحدث وليس الاستماع فقط "
أومأت برأسها موافقة وقالت
" لكن الدروس جميعها درستها في مرحلة سابقة ، النظام
مختلف من الناحية الزمنية "
أبعد يديه واتكأ بمرفقيه على ركبتيه منحني الظهر وقال ورأسه
ونظره نحوها
" بالتأكيد سيكون كذلك ولهذا عليك مذاكرة دروس متقدمة
سيكون أفضل من تضييع الوقت في انتظارهم "
قالت وهي تفتح حقيبتها
" بالتأكيد "
اعتدل حينها في جلسوه وبحركة سريعة وقال ينظر لحقيبتها
ويدها فيها بصدمة مصطنعة
" هيه ماذا تفعلين ! سأهرب وأتركك إن اخرجتِ طعام الفطور
من حقيبتك كالأطفال "
ضحكت كثيراً وقالت ويدها تتحرك داخلها ونظرها على ما تفعل
" لا بالتأكيد "
وتابعت مبتسمة وقد نقلت نظرها له
" ثم أنا لا أريد أن أكون مصدر تسلية للطلبة ولا طعام في
حقيبتي اطمئن "
أبعد نظره عنها وحرك شفتيه باستياء قبل أن يقول ببرود
" أردت دائماً المدارس العامة لكن الجميع رفض بحجة سلامتي "
أغلقت حقيبتها ووضعت يديها فوقها حيث تستقر في حجرها
ونظرت له قائلة
" وما الاختلاف مثلاً ؟ "
أشار بإبهامه خلف كتفه قائلاً
" أنظري خلفك لتفهمي "
نظرت ورائها فوراً وصُدمت لوجود اثنين من الحراس يقفان
خلفهما عند الجدار وقالت ونظرها لازال ملتصقاً بهما
" أكان أحدهما يسير خلفي حين وجدتني ! "
قال بضحكة ساخرة
" بالطبع يا ذكية "
ضحكت كثيراً وعادت برأسها للأمام فقال ينظر لها بضيق
" وما المضحك في الأمر يا بلهاء ؟ "
رفعت يدها لشفتيها وقالت ضاحكة
" ظننت أن الجميع علم بأني ابنة مطر شاهين لذلك ينظرون لي "
لم يستطع إمساك ضحكته التي خرجت مرتفعة وقال
" مؤكد سيعلمون ذلك ووجود ذاك المخيف خلفك أكد لهم هذا "
قالت مبتسمة ما أن هدأت موجة ضحكها
" وهل سيشكل هذا اختلافاً عن المدارس العامة ! "
حرك كتفيه وقال وهو يريح يده بطول ذراعه على ظهر
الكرسي خلفها
" لا لم أكن أقصد هذا لكن الأمر مختلف تماماً فأولئك الطلبة
يعيشون حياة بسيطة جداً وأيام الدراسة مليئة بالمرح
والمقالب والتسلية "
وتابع وهو يبعد يده وتشبك أصابع كلتا يديه مفرودة ليشرح
لها وقال
" إنهم متداخلون أكثر تيما تفهمين هذا ؟ "
أومأت برأسها هامسة
" نعم يبدو أنني فهمت "
تجعدت ملامحه ووضع يده على عنقه وقال ينظر لعينيها
" ستشعرين بالاختناق هنا إن لم تجدي صديقة تشبهك كثيراً فهذه
المدرسة لا يستطيع دفع أقساطها أيّا كان "
وتابع من فوره يشير برأسه أمامهما
" أُنظري لهذا "
نظرت للشاب الذي عبر من أمامهما حينها وكان يلبس الزي
المدرسي المخصص للذكور البنطلون الرصاصي الغامق
والقميص الأبيض الناصع بأكمام قصيرة وربطة عنق طويلة بلون
البنطال وكان من الكُثر الذين يتخذون تسريحة شعر غريبة
ووصلها صوت همس الجالس بجانبها بينما نظرها كان يسير مع
ذاك الشاب
" هذا إن فعلت أنا مثله ستعلق والدتك مشنقتي عند
باب المنزل "
وضحك ما أن أنهى عبارته تلك واكتفت هي بالابتسام بحزن ولم
تستطع الضحك على الرغم من أنه قالها بطريقة مضحكة فعلاً ،
وكان وكأنما شعر بما تشعر به بل ورآه في ملامحها ونظرتها فقد
وصلها صوته هدئاً بلمحة حزن
" عليك فقط أن تحبيها وتثقي بمشاعرها نحوك يا تيما أما حياتها
فوحدها من يملك حق أن تقررها .. "
وتابع بنظرة جمعت الحب والحزن معاً محدقاً بالأرض المعشبة
تحت قدميه
" هكذا عرفتها دائماً وعلى هذا ربتني "
حركت رأسها وهمست بحزن تنظر للبعيد بشرود
" آمنت واستسلمت "
فتنهد بعمق وقال يغير مجرى الحديث لأنه يعلم بأنها مثله تماماً
تحاول تسلية نفسها بجميع الأمور التي تبعدها عن التفكير فيما
حدث وما سيحدث
" ثمة مطعم صغير هنا هل تشعرين بالجوع ؟ "
حركت رأسها برفض وقالت
" لا أعتقد أنه يوجد وقت كافي أمامنا "
قال يمسك ضحكته بينما أشار برأسه خلفه بحركة خفيفة
" كنت سأخبر أحد الحارسان هناك بطلباتنا "
خرجت منها ضحكة سريعة وفتحت حقيبتها مجدداً قائلة
" لا تختلف عن صاحب التسريحة الغريبة ذاك إذاً ولولا
الخوف لفعلت مثله "
رمقها بطرف عينيه بضيق وتمتم
" يا لك من مجحفة "
قبل أن تتسعا بذهول وهو ينظر لما أخرجته من حقيبتها
وقال مجفلاً
" ما هذه الجريمة تيما ! "
نظرت له بصدمة وسرعة فقال
" الهواتف ممنوعة في المدارس وجريمتها خطيرة لديهم "
دسته سريعاً قائلة بارتباك
" لم أكن أعلم "
نظر حوله قبل أن ينظر لها قائلاً
" لا تخرجيه إذاً ولا ترفعي الصوت "
أومأت برأسها موافقة وهي تغلق حقيبتها فضيق عينيه وهو
يقول بشك
" لما تتفقدينه ها ؟! "
نظرت له نظرة من لم يعجبه ما فهمه وقالت ببرود تمسك
خصرها بيدها
" لأرى الساعة "
أشار لرسغها بعينيه يرفع حاجبيه وقال بابتسامة ساخرة
" ولما لم ترتدي واحدة في يدك يا فقيرة يا معدومة ؟ "
زمت شفتيها بضيق وقالت ولازالت تمسك خصرها النحيل بيدها
" لأني نسيت "
غمز لها ومرر أصابعه في شعره الناعم المصفف للأعلى بحركة
بطيئة وقال بمكر
" نسيتِ أم حجة ؟ "
قالت بضيق
" ماذا تقصد ؟ "
مال نحوها وهمس وقد غمز بعينه مجدداً
" أقصد حبيب القلب لم يتصل كما يبدو "
أبعدت نظرها عنه وتمتمت ببرود
" ما أسخف أفكارك "
قال باستغراب ينظر لعيناها ولمحة الحزن فيهما وهي تهرب
بهما منه
" ماذا بكما ؟ "
همست من فورها وببرود
" لا شيء "
قال ببرود أشد
" أسخف جواب عرفه التاريخ من البشر "
نظرت له وقالت بضيق
" لأنها الحقيقة "
حرك رأسه وقال بابتسامة متفهمة
" لا يبدو لي ذلك "
فأبعدت نظرها عنه وعلم بأنه قد أصاب هدفه واثبت ذلك أن
قالت بتنهيدة
" أنا لا أعلم حقاً "
وحركت رأسها بضياع وقالت تنظر للفراغ أمامها بشرود حزين
" أشعر أحياناً بأنه لا يثق في مشاعري نحوه "
لم يتحدث يترك لها المجال لتقول ما يعلم بأنها تكتمه في قلبها عن
الجميع واكتفى بالنظر لجانب وجهها حتى نظرت له وقالت
" لا أعلم إن كنت محقة أم لا لكنه تغير كثيراً بعد ما حدث
في المستشفى "
حرك رأسه متمتماً
" لا أعتقد ذلك "
وتابع بهدوء ما أن أبعدت نظرها عنه للفراغ أمامها مجدداً
" أنا أراه فقط يريدك أن تعيدي حساباتك وتفكيرك "
نظرت له سريعاً هامسة باستغراب
" ولما ! "
حرك كتفيه وقال
" لأنك صغيرة يا تيما ولازال أمامك الكثير وقد تشعرين يوماً ما
مستقبلاً بأنك تسرعتِ وبأنه ليس الخيار الصائب لك "
" ولماذا ؟ "
قالتها سريعاً وباستياء فحرك كتفه وقال
" وجّهي هذا السؤال لنفسك وليس لي أنا "
قالت بأسى تنظر لعينيه
" لو أنه شخص آخر ولم يكن من أنقذني من الضياع والموت
دون أن يعرف من أكون لكنت عذرته ، ما كان لأي رجل أن يفعل
ما فعل وقد أُصيب وكاد أن يموت من أجلي "
وسحبت نفساً عميقاً لصدرها وقالت بحزن
" ما الذي تبحث عنه المرأة في رجل تتزوجه ؟ "
رفع حاجبيه وقال يمسك ضحكته
" لا أعلم لست امرأة "
قالت بضيق وهي تقف مغادرة
" أنا الحمقاء أتحدث مع طفل "
وقف أيضاً وتبعها قائلاً بابتسامة
" انتظري يا كبيرة "
لكنها لم تتوقف وتابعت سيرها باتجاه مبنى المدرسة حتى وصل
لها وسار بجانبها وحضن كتفيها بذراعه وقبّل خدها قائلاً
" آسف أميرتي الجميلة وها هو اعتذار أمام الجميع "
دفعته عنها مبتسمة وقالت وهما يصعدان عتبات الباب
" سنكون مصدر للشائعات هنا يا أحمق "
ضحك وقال وهما يعبران باب المدرسة
" بنفسك قلتها سابقاً بات الجميع يعلم من نكون "
افترقت عنه ولوحت له بيدها مبتسمة وهي تتجه حيث كانت تسير
بعض الطالبات في مثل سنها وحيث القسم المخصص لهن من
الطابق لحظة ارتفاع صوت الجرس عالياً معلناً نهاية الدقائق
المحددة والمتعارف عليها في جميع المدارس ، وما أن دخلت
فصلها وجدت الفتاة التي تشاركها المقعد فقط هناك فلم يأتي
البقية بعد وكانت تقف عند حقيبتها فتوجهت نحوها مبتسمة وما
أن وصلت المقعد فوجئت بها تُخرج حجاباً يشبه الذي تلبسه من
حقيبتها وبذات اللون الزهري أيضاً ومدته لها قائلة بتردد يبدو
جاهدت كثيراً لتخفيه
" كنت أريد إعطائك إياه قبل خروجك لكنك كنتِ مستعجلة "
نظرت له بذهول بين يديها ولم تعرف ما تقول حتى قالت التي
رفعته نحوها
" هو جديد ولم ألبسه سابقاً ، اشترته والدتي من أجل تركه في
حقيبتي كاحتياط فقط إن احتجته ولا أُخرجه منها أبداً وأتمنى أن
تقبليه مني "
أخذته منها وشعرت بروعة قماشه بين يديها وخفة وزنه
وبرودته ، صفات لا تتوقعها وأنت تراه يغطي جسدها هكذا !
وقالت مبتسمة بإحراج
" شكراً لك يا شيماء هذه أجمل هدية أتلقاها "
ابتسمت وقالت بسعادة
" هي لا تصل لمستوى الهدايا ولابنة الزعيم مطر
شاهين تحديداً "
قالت وهي تنزع الحجاب الذي تلبسه
" بلى وأثمن من جميع الهدايا "
وما أن أبعدت حجابها عن شعرها حتى تحررت غرتها الناعمة
وخصلات قليلة لامست عنقها بنعومة ورفعت الحجاب في يدها
قائلة بضحكة صغيرة
" عليك مساعدتي ليكون جميلاً مثلك "
دارت حول المقعد من فورها وأمسكته منها قائلة بابتسامة
" بل ستكونين أجمل مَن لبست مثيلاً له "
وراقبتها وهي تبعد خصلات غرتها للأعلى قبل وضعه عليها تُمتع
عينيها بجمالها الذي ازداد كثيراً برؤيتها لشعرها الحريري
وذكرت الله بحركة خفيفة من شفتيها بالدعاء الذي علَماها إياه
والداها لتقوله كلما رأت شيئاً خشيت أن تضره دون قصد منها
لشدة افتتانها به ومدت يديها تساعدها في تثبيته بالدبوس تحت
ذقنها وقالت مبتسمة ما أن أبعدت يديها
" كم أنتِ جميلة به "
وراقبتها بسعادة وهي تنظر له على جسدها وتتفقد حوافه التي
وصلت لمرفقيها بينما نزل طرفاه لخصرها وقد قالت مبتسمة
" لقد أحببته كثيراً "
وتابعت وهي تنظر لجانب خصرها الذي لم يخفيه الحجاب الكبير
" كما سأطلب من الإدارة قبل مغادرتي تغيير قياس هذا الزي
لواحد متسع أكثر "
قالت التي جلست مكانها مع بداية دخول أول الطالبات للفصل
" هم فقط يفعلون ما يطلبه الأغلب فإن أرسلوا ما تتحدثين عنه
لأعادوه لهم ليعطوهم أصغر منه ، وبهذا بات تقديرهم للقياس
واحد "
جلست مكانها قائلة
" أنا لا أحب هذا ولن يوافق والدي عليه أيضاً "
قالت مبتسمة ونظرها لم يفارقها
" أنتِ فتاة رائعة يا تيما ولم أتوقع أبداً أن تكوني هكذا ! "
نظرت ناحيتها وقالت بضحكة صغيرة
" ماذا كنتِ تتوقعين ؟ "
قالت وذات الابتسامة الجميلة تزين شفتيها
" هم سبق وأخبرونا بأنك ستكونين هنا خلال الحصة وما أن
دخلتِ مع المديرة قلت في نفسي هذه وإن لم تكن ابنة الزعيم
مطر وحفيدة شراع صنوان ستغتر علينا بجمالها "
وضحكت ما أن عبست ملامح المقابلة لها وكأنها توبخها في
صمت وتابعت مبتسمة
" حين سألتك المعلمة أين تريدين الجلوس توقعت أن تختاري
مقعداً لك لوحدك وفي مقدمة المقاعد لكن حين اخترت الجلوس
معي تغيرت جميع أفكاري عنك "
قالت التي تقوست شفتاها الجميلة بعبوس
" هل بدوت مغرورة حقاً حين دخلت ! "
حركت رأسها نافية وقالت والابتسامة الصادقة لم تغادر شفتيها
" لا بل واثقة كثيراً وكأنها ليست المرة الأولى التي تدخلين
فيها هذا الفصل ! "
قالت بضحكة
" لم أشعر بهذا "
وضحكتا معاً قبل أن تعتدلا في جلوسهما لاكتمال عدد الطالبات
ودخول معلمة جديدة أغلفت الباب قبل أن تقول مبتسمة وهي
تتحرك لتقف منتصف اللوح المعلق على الجدار
" مرحباً يا فتيات ... أنا اسمي علياء وسندرس معاً
مادة الأحياء الطبيعية كما تعلمن "
*
*
*