لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-07-21, 11:35 PM   المشاركة رقم: 1586
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

دخل وأوقف الخادمة التي كانت تسير أمامه ومد لها حقيبته

وبعض الملفات بينما ترك الكيس البلاستيكي في يده قائلاً

" خذيها لجناحي "

فسارت من فورها ناحية السلالم وهو خلفها ، وبينما توقفت هي

رحلتها عند أول طابق وصلته تابع هو طريقه حيث السلالم الآخر

والمستقل عن سابقه وتوجه ناحية الممر الخاص بجناحها من

فوره يحمل كيس الطعام الذي أحضره من أجلها وبصعوبة وجد

وقتاً ليترك مبنى النيابة وكان عليه المجيء فلن يتركها حتى

المساء دون أن يطمئن عليها على الأقل فعقله مع قضيتها وهو

هناك بينما قلبه هنا، وإن أصبح هنا ترك عقله يفكر هناك فعليه

الاعتماد عليه وعلى نفسه وإن رفضت مساعدته فسيفعلها وإن

لزم الأمر أن يعود لموطنهم هناك ويبحث عن رؤوس الخيوط

والعقدة الأساسية في مكانها الأصلي .

أدخل رمز الباب ودخل ما أن فُتح أمامه ووقف ينظر لها حيث

خانت توقعاته وكانت تجلس على الأريكة تولي ظهرها للنافذة

الزجاجية المحمية والتي أبعدت ستائرها لتعطي لجلوسها نوراً

قوياً يلائم ما تفعله ومنشغلة به تماماً وهي تمسك دفترها وترسم

وقد أشعت خصلات شعرها التي دمجت لون الذهب بلون العسل

بريقاً جميلاً وإن كانت تجمعه للأعلى بمشبك كبير بينما كانت

عيناها يشوبها بعض الإرهاق الواضح وإن لم تنظر ناحيته إلا أن

بشرتها بدت أفضل حالاً ويبدو ساعدتها الحبوب على الاسترخاء

ونامت جيداً فحينما غادر في الصباح الباكر كانت نائمة ولم

تستيقظ بعد تلك المرة لأنه ترك الباب بينهما مفتوحاً طوال الليل

ولم ينم سوى لساعتين تقريباً بعد صلاة الفجر .

وضع الكيس من يده على الطاولة بينما نظره لم يفارقها كما لم

يستطع التحكم في الابتسامة التي ارتسمت على ملامحه قبل

شفتيه فهذا أيضاً لم يتوقعه فما يعلمه عن الفنانين وأصحاب هذه

الموهبة تحديداً لا يمكنهم الرسم في جميع أحوالهم مما يعني أنها

اجتازت ذاك اليوم بالفعل وعادت كما كانت ويعرفها بالرغم من أن

انصياعها السابق له وخوفها ولجوئها له تحديداً كان سيكون أمراً

ما كان ليتوقع الحصول عليه لكن ليس معها هي بالتأكيد فذاك كان

يعني بأنها ليست بخير البتة وبأن مرحلة فقدها قد بدأت

تدريجياً .

أخذته خطواته نحوها ووقف خلف كتفها ينظر لخطوط قلم

الرصاص ماذا صنعت بها من جمال واتسعت ابتسامته وهو يرى

الملامح المرسومة بوضوح لابتعاد يدها حينها وهمس

" هذه ماريه !! "

كان بإمكانه تمييزها سريعاً وإن كان الرسم غالباً يختلف قليلاً عن

الواقع لكن موهبتها الفريدة لم يرى مثيلاً لها فهي تصنع ظلالاً

بالخطوط وتعطي نتيجة مبهرة وكأنها رُسمت بأحد برامج الرسم

الحديث عبر أجهزة مخصصة لتكون الرسوم أقرب للواقع وليس

بقلم رصاص فقط !

لم يتوقع أبداً أن يسمع صوتها وهو يصله بهدوء غريب وكأنها

تحدث نفسها شاردة الذهن ونظرها لم يفارق الوجه المرسوم على

ورقة الدفتر بين يديها

" إنه الوجه الذي يعشق الفانون رسمه .. هكذا كان يقول
السيد ريليش "

نقل نظره لما يظهر له من ملامحها ولرموشها التي تظهر له

وعلم بأن ذاك سيكون من علّمها الرسم أو من صقل موهبتها

بخبرته الطويلة وعاد بنظره لذاك الوجه والابتسامة البريئة

وقال مبتسماً

" إنها فتاة لطيفة حقاً "

ونظر لها مجدداً وما أن همست بسخرية

" لم تشوهها أفعال البشر "

التصقت نظراته بما يظهر له من ملاحها وقال بشرود حزين

ارتسم على تقاطيع ملامحه الرجولية

" لا أوافقك الرأي فماريه عاشت طفولة تعيسة يتيمة الأبوين
مع عم قاسي "

وتنهد بعمق وقد نظر لرسمتها مجدداً متابعاً

" ثم تركها تيم ووالدته من قبله لتصبح وحيدة وعانت لأعوام من
نظرات الجميع لها كامرأة مشوهة وغير عفيفة وبالرغم من كل
ذلك لم تموت براءة قلبها التي انعكست على كل شيء فيها "

اغلقت دفترها بحركة واحدة واختفت تلك الملامح المرسومة

ببراعة وقالت ببرود

" أولئك لا يعنون لها شيئاً ولم تتأذى ممن أحبتهم ومن علّقت
آمالاً كبيرة عليهم حينها ستتلوث بسببهم وتصبح نسخة
أخرى عنهم "


تنقلت نظراته بين بشرة وجنتها ورموشها لشعرها اللامع الجميل

رجوعاً لعينيها التي لا تظهر له وقال بتأني

" وماذا عمّن تشوهت قلوبهم بسبب أفعال من لا يحبونهم ؟ "

وقفت واستدارت نحوه وكان يعلم بأنه أصاب حقيقة وضعها

حينها وما فهمته هي جيداً وأكدته كلماتها الباردة تنظر لعينيه

" ذلك لأنهم كانوا السبب في قتل من يحبون ، أفقدوهم كل
الأشياء الجميلة التي تربطهم بهم وللأبد وهذا ما لم
يحدث معها "

تنقلت نظراته بين زرقة عينيها الباهتة وقال ما لم يعد يمكنه

إمساكه أكثر من ذلك

" أنا لم أفعل كل ذلك يا زيزفون وتكرهينني ؟ "


" أنا لا أكرهك "

قالتها مباشرة وأبعدت نظرها عنه سريعاً وكأنها تهرب من كلمات

لسانها فشدّ قبضتاه بجانب جسده بقوة وقال

" ولا تحبينني .. فأين أكون مثلاً ! "

وانتظر بشغف أن تتحرك الشفاه الزهرية المطبقة أو حتى أن

تنظر له العينان المحدقة في الفراغ بعيداً عنه لعله يفهم ما يوجد

فيها لكن شيء من ذلك لم يحدث فأجبرته كلماته على الخروج

مجدداً وبنبرة عميقة

" موقن من أنك لا تملكين مناطق رمادية يا زيزفون ... "


وسحب نفساً عميقاً وكأنه يشجع نفسه على المضي وتقبل

الحقائق وتابع وهو يزفره

" إما أبيض أو أسود "

اشاحت بوجهها عنه هذه المرة واستدار جسدها نصف دورة

وكأنها تخفي شيء ما في تلك العينان الجميلة بينما تحركت

شفتاها اخيراً وهمست بجمود

" لن نعيد ما قلناه سابقاً يا وقاص "

شعر بقلبها تمزق لنصفين وتبدلت نظراته للحزن وأومأ

برأسه هامساً

" أنتِ امرأة لا تملك شيئاً تهبه لرجل "

نظرت لعينيه حينها نظرة طويلة لم يتوقعها كما لم يفهمها ؟

لم يستطع قراءتها ولا تفسيرها !

نظرة أنهكته تماماً انتهت بأن همست شفتاها بجمود

" ها أنت لم تنساه "

وتحركت مجتازة له ما أن أنهت كلماتها تلك وتركته واقفاً مكانه

كمنزل مهجور يقف شامخاً بينما تئن جدرانه شوقاً للدفء للحنان

للأضواء ولأصوات ضحكات من يفتقدهم ولا يجدهم ، وأغمض

عينيه ما أن سمع صوت باب الغرفة وهي تغلقه خلفه وتنفس

بعمق قبل أن يفتحهما ونظر ناحية الباب الموصد بحزن

وهمس بأسى

" وماذا لو كنت رجلاً يريدك بجميع حالاتك يا زيزفون ؟ "

حرك رأسه مستغفراً الله بهمس وتحركت خطواته أيضاً لكن

باتجاه الكيس الذي كان قد وضعه على الطاولة وأخرج قوالب

الطعام الموجودة داخله ووزعها فوقها لعل الرائحة الشهية

المنبعثة منها تجعلها تأكل ولو قليلاً فعليه الاستحمام والمغادرة

فوراً لأنه ثمة أمور كثيرة عليه الذهاب للندن للقيام بها .


*
*
*

وقفت بهما سيارة الأجرة عند بداية الشارع كي لا ينال سائقها

مخالفة لتوقفه قرب باب المبنى الذي يقصدانه وفتحت حينها

ساندرين الباب ونزلت وكنانة تبعتها قائلة بتذمر

" لا أفهم لما لم نأتي بسيارتك ؟ "

استدارت نحوها وقالت بضيق تشير بيدها جانباً

" لأني لن أجد مكاناً لأركنها فيه أم لا تري الشارع أمامك ؟ "

نظرت حيث الشارع الطويل خلفها ولا مكان لتقف فيه سيارة

بالفعل وعادت بنظرها لها ما أن قالت بضيق

" عليك أن تتوقفي عن التذمر يا كنانة أو عودي للمنزل وسأدخل
لذاك المكان وحدي وبأي طريقة كانت وإن سُجنت "

قالت باستياء مبررة

" ما كنت لأكون هنا لو أني أرفض هذا ومهما فعلتِ "

أمسكتها من يدها وسحبتها معها قائلة

" إذاً تحركي بسرعة وبدون حديث لا طائل منه لنعود سريعاً "

تبعتها منصاعة ولا خيار أمامها ، هي تريد المساعدة فعلاً لكنها

متخوفة ولا تستطيع إنكار ولا رفض هذا الشعور الذي لا سلطة

لها عليه وكان عليها الموافقة على مهمة الدخول لهذا المكان

لأنها لن تتمكن أبداً من إلهاء الحارسان كما ستفعل هي ولا تريد

فعلاً أن ترتدي بذلتها نيابة عنها كي لا يتم طردها من المطار إن

تسبب الأمر بمشكلة ما وأمسكوا بها رافضين وجودها في الداخل

وإن اجتازت الحراس .

ارتفع نظرها للبناء الشاهق الذي كانتا تمران أمام السياج

الحديدي المحيط به وذُهلت من ارتفاع طوابقه واتساعه حيث كان

بواجهة حجرية ورغم عبورها البوابة الحديدة خلف التي لازالت

تمسك بيدها وتقودها إلا أن نظرها لم يفارق ذاك الصرح الضخم

العالي حتى شدتها يميناً بخطوات سريعة وكادت تقع وهي تركض

خلفها في اتجاه لم تتوقعه ووقفت بها خلف أحد أشجار الزينة

المحيطة بالبناء وهمست ساندرين حينها تشير لها بسباتها للمكان

الذي يظهر لهما من بين الأوراق الخضراء

" ممتاز إنهما اثنان فقط .. هناك أرأيتهما ؟ "

حركت رأسها إيجاباً دون أن تعلق بشيء ونظرت لها ما أن قالت

تنظر لعينيها وبنبرة جادة

" سأنفذ الجزء الأول من الخطة وما أن ينشغلا تتسللين مسرعة
من هناك .. "

وتابعت تشير بسباتها

" تسيرين بمحاذاة الجدار من هنا وتصعدي العتبات من هذا
الاتجاه أيضاً وتدخلي اتفقنا ؟ "


نظرت لها ما أن أنهت حديثها وقد أومأت لها موافقة فقالت ببرود

تمسك خصرها بيديها

" عليك فعل ما قلت وفي الوقت المحدد فهمتِ يا كنانة أم تحركين
رأسك كالدجاجة فقط "

ضربتها على كتفها بالحقيبة في يدها هامسة بضيق

" فهمت يا أنثى الثعلب "

ولم تتوقع قط ضحكتها حينها وتحركت من هناك تغادر مخبأهما

قائلة بضحكة

" اتفقنا يا دجاجة "

فشدت شفتيها بضيق تراقبها وهي تقترب من هدفهما القريب

منهما وهي تصعد العتبات بكل ثقة وكأنها رئيس ذاك المكان !

أمسكت ضحكتها وهي تحارب تلك الأفكار وعليها أن تعترف بأنها

أشجع منها بكثير بل ولن تتخيل أن تراها جبانة يوماً وفي أي

موقف كان ، إنها لم تعرف واحدة مثلها ومنذ طفولتها متمردة

شجاعة وقوية ولها لسان يشبه الصبار مليء بالأشواك السامة ،

عادت لكتم ضحكتها بأسنانها تراقبها وقد وصلت لهدفها

وكالمتوقع تماماً أسرع الحارس لمنعها بمد يده وذراعه بينها

وبين الباب وكانا مسلحان كلاهما لكن سلاح كل واحد منهما مثبت

في مكانه ولن يستخدمه ضدها بالتأكيد وهي امرأة وعزلاء بل

سُيحاسب حساباً عسيراً على هذا .


عادت تمسك ضحكتها بيدها هذه المرة وهي تراها تتشاجر معه

رافضة الابتعاد وقد صرخت ما أن دفعها بيده وضربته بالحقيبة

في يدها بقفزة على رأسه وهذا ما جعل غضبه يزداد وفي كل

حركة منه كانت تصرخ به وكأنه يتحرش بها وتضربه مجدداً

فتَدَخل رفيقه حينها وازداد ضربها العشوائي بالحقيبة في يدها

وتداخلَ صوت صراخها مع صوتهما المرتفع بغضب وانسجمت

هي مع ما يحدث وكأنها تنتظر أن ترى ما سينتهي له الأمر قبل

أن تقفز من مكانها ما أن صرخت تلك من بعيد

" تحرك هيا أيها الأحمق "


فأسرعت خطواتها المرتبكة بسبب ضربات قلبها التي كانت تعزف

كطبول حرب وصعدت العتبات القليلة ملتصقة بالجدار وركضت

باتجاه الباب دون أن تفكر في النظر نحوهما ومعرفة إن شعرا بها

أم لا ولا وقت لديها لذلك فإن أمسك بها فستعلم حينها .

ولم تصدق نفسها حين وجدت قدماها تركضان داخل الممر الطويل

ببساطه الأحمر المحدد بخطوط ذهبية ولا أحد يركض خلفها ولا

يناديها أو رصاصة ما اخترقت ظهرها مما يعني أنها نجحت في

أول وأصعب جزء من المهمة ، أو ذاك ما كانت تتخيله وخطواتها

تتباطئ وهي تنظر حولها فالمكان عبارة عن ممرات متداخلة ولن

تعرف وجهتها المحددة حينها !.

اختبأت ملتصقة بأحد الأبواب ما أن سمعت بعض الأصوات وازداد

خوفها واضطرابها حين أدركت بأنهم قادمون نحوها ففتحت الباب

خلفها ودخلت دون تفكير فيما سيكون موجوداً خلفه فعليها أن لا

تقابل أحداً قبل أن تصعد لأحد الطوابق العليا فستكون أكثر أماناً

هناك من أن يجدوها هنا وتثير الشك حولها .

نظرت للورقة بين يديها وللرسم التوضيحي الذي كانت ساندرين

تشرحه لها طوال رحلة قدومهما إلى هنا وكيف يمكنها الوصول

لوجهتها المطلوبة ومدت شفتيها بعبوس فلا يبدو الأمر بهذه

السهولة على أرض الواقع مع معلومات مجموعة من الانترنت .


حركت سبابتها تتمتم بشفتيها وهي تحسب عدد الأبواب في

الورقة قبل أن تصل للمصعد وعدد الممرات واتسعت عيناها

بصدمة تلتها شهقة مكتومة ما أن اختفت الورقة من بين يديها

فجأة وارتفعت نظراتها الذاهلة للجسد أمامها باللباس الخاص

بضباط البحرية تشعر بكل شيء يدور حولها وجسدها تصلب

كتمثال خشبي مقلتاها فقط تنظرت للعينان الزرقاء أمامها تحفها

رموش بلون الذهب وحاجبان بنيان عابسان وابتلعت ريقها

بصعوبة ما أن اخترق صمت المكان والضجيج المرتفع في اذنيها

صوته الانجليزي الحاد

" ما الذي تفعلينه هنا ومن تكونين ؟! "

وتطايرت جميع الكلمات من قاموسها كما طارت أدراج الرياح

خطتهم البديلة في حال تم الإمساك بها هنا في الأسفل وأن تتحجج

بأنها مبعوث من المطار وسيفكر فوراً في الاتصال برئيسها هناك

بالتأكد فكانت تعلم بأن الآخر لن يقول بأنه لا يعلم بوجودها بل

سيلعب الدور الذي رسمته له وسيترك استجوابها حتى يكونان

معاً وذاك ما كانت تعرفه عنه طوال سنوات عملها معهم هناك ،

لكن الآن وهو يمسك الخارطة غريبة الشكل بين يديه فلن يفكر

أساساً في تصديقها ليتصل بهم ومن شدة حماقتها لم تتأكد بأن

الغرفة خالية فعلاً وانشغلت بمن هم في الخارج عن التدقيق فيما

أصبحت فيه .. يا لها من حمقاء وستنتهي للسجن بالتأكيد .

فتحت فمها وأغلقته عدة مرات دون أن يصدر عنها أي صوت

فهي لم تعطي لعقلها إجابة ليقدمها للسانها فما عساه سيقول !

كانت تجزم بأن نهايتها قد حانت فحتى قول الحقيقة لن يفيدها في

شيء وقد يعتقدون أنها جاسوس ما وهنا تكمن الكارثة ..

وشعرت برغبة كبيرة في البكاء كطفلة صغيرة تنقد نفسها بذلك

من كل موقف مشابه .

" هذه زوجتي وهي هنا من أجلي "

نظرت بصدمة وحركة سريعة من رأسها ناحية الواقفان عند

النافذة بعيداً بل وللذي تقدمت خطواته نحوهم يديه في جيبي

بنطلون بذلته الخاصة بالطيران وشعرت بأن تلك الرغبة السخيفة

بالبكاء تدنو منها أكثر فلم تكن تتصور أن يكون حجم الكارثة أكبر

من كل هذا ! لا بل قد تقوست شفتاها فعلاً كطفلة تنتظر طوق

نجاتها الذي خرج لها من العدم فجأة بينما كان نظره هو مركز

على الضابط الذي استدار نحوه قبل أن يقول بجمود ويده تشير

بالورقة فيها للتي أصبحت تقف خلفه

" هذه تكون زوجتك ؟ "

أغمضت عينيها بشدة تمسك فمها بيدها بينما كان جسد الواقف

أمامها يخفيها عن صاحب الصوت الجاد

" نعم وإجراءات الزواج تمت هنا ويمكنكم التأكد من هويتها
في محكمة لندن "

مد له الورقة في يده حينها واستدار نحو التي هربت بنظراتها من

عينيه التي حدقت فيها لوقت وكأنه يحاول تخزين ملامحها في

عقله لاستخدامها فيما بعد والتأكد منها كما حدق بتركيز في

اسمها الموجود في البطاقة المثبتة على جيب سترتها قبل أن

يتحرك مجتازاً لها وفتح الباب خلفها وغادر وتبعته خطوات أخرى

خرجت خلفه علمت بأنها للفرد الثالث في المكان بينما كانت

نظراتها ملتصقة بالأرض تماماً منحنية الرأس لم تستطع ولا رفعه

وتعلم جيداً ما ينتظرها وما قد يفكر فيه الواقف أمامها الآن .

أغمضت عينيها التي اخفتهما عنه غرتها الناعمة كما بعض

الخصلات من شعرها تعتصرهما بقوة وشتمت حظها وساندرين

معه ، كان عليها أن لا تثق في ذاك الحظ السيء الذي كان يوقعها

في المشكلات دائماً فكيف أن يجتمع هو وتلك المجنونة معاً ؟

حين طال الصمت ولم تكن تسمع سوى أنفاسها المندفعة من بين

شفتيها بقوة فتحت عيناها ببطء تبدل للإتساع سريعاً وهي ترى

الورقة التي كان يمدها لها .. الورقة التي سلمها له ذاك الضابط

قبل خروجه وها هو يعيدها لها ويبدو من دون أن يفتحها !

والأغرب دون تحقيق مسبق أيضاً !!


رفعت يدها ببطء وأخذتها منه وقبضت أصابعها عليها بقوة وهي

تُنزل يدها ورفعت نظرها لوجهه ولعينيه وتمنت لو قتلت نفسها

لحظتها فهي غاضبة ومستاءة منه طوال الوقت لكن ما أن يصبح

أمامها وتنظر لعينيه حتى تنهزم وتنهار جميع دفاعاتها وتكتشف

بأنها فقط تشتاق له ، اعتراف قاسي ومُهلك لكنها الحقيقة ولا

يمكنها خداع نفسها وإن خدعت الجميع .

أنزلت رأسها ونظرت للورقة المجعدة في قبضتها تهرب من عيناه

ومن نظراته بل ومن جميع تفاصيله كما يبدو لكنها سرعان ما

عادت ونظرت له حين قال بذات نبرته الرزينة والخالية من أي

تعبير قد تفهمه

" أين كانت وجهتك ؟ "

وانحبست أنفاسها وهي تجاهد لإخفاء صدمتها فهل يفعل هذا

ليثبت لها أنها كانت متسرعة دائماً في الحكم عليه والمواقف

تشهد ؟! فلن يكون هذا ثقة منه تصل لأن لا يسألها عمّا تفعل

هنا ! أم يعتقد بأنها مبعوث من عملها والدليل هي ملابسها التي

تؤكد بأنها من المطار قصدت هذا المكان فوراً ؟

كانت التساؤلات تدور حولها في حلقات متواصلة بينما تتقافز

الإجابات بعيداً عنها وتوصلت لقرار نهائي بأن تقول الحقيقة

كاملة وكان أول ما نطقت به منها هامسة

" الطابق الخامس "

ولم تستغرب نظرة التفكير التي غاص بها في عمق عينيها من أن

تكون وجهتها هناك تحديداً وقبل أن يفكر في أي سؤال أو

استفسار تتوقعه نظرت لجيب بنطلون بذلتها وهي تدخل يدها فيه

وأخرجت منه ورقة مطوية ومدتها له قائلة ما يتوقعه بالتأكيد

" لمكتب سكرتير الأميرال غيمسون "

وراقبت بتوجس نظراته على الورقة في يدها للحظات قبل أن يمد

يده ويأخذها منها وفاجأها مجدداً وهو يدسها في جيب بنطلونه

دون أن يفتحها ! فشعرت بموجة ارتياح غامرة فهي نجت من

الهلاك بأعجوبة ولمرتين متتاليتين هنا !

نجت من القبض عليها متسللة ومن الإنهيار التام لعلاقتها مع

من باتت زوجة له وتعلم بأن مشاعرها اتجاهه أعظم من أن

تساعدها على اجتياز خسارته ومهما أنكرت ذلك ولن تستطيع ولا

محو صورته من مخيلتها ما عاشت وستخرج الخاسر الوحيد

من اللعبة .


أخفضت رأسها تشد أصابعها بقوة ما أن اجتازها مغادراً من الباب

المفتوح خلفها ولم يضف شيئاً بل هو لم يقل شيئاً ليضيف !

استدار رأسها للخلف وتقوس حاجباها بحزن حين لاحت لها فكرة

أنه سينهي كل شيء بالصمت ذاته وتكون الضربة القاسية لها

والأقسى من غضبه ومن صراخه وحتى من معاقبتها .

تحركت خطواتها مسرعة وغادرت الغرفة أيضاً ونظرت في كلا

اتجاهي الممر الخالي تماماً قبل أن تتحرك في الاتجاه الذي جاءت

منه تكاد كفاها تتمزقان من غرسها لأظافرها فيهما بسبب قوة

شدها لقبضتيها وكأنها تفرغ كل انفعالاتها فيهما وفي الخطوات


القوية التي كانت تضرب بها الأرض بغضب ولم تنظر أو تكترث

لمن اجتازتهم عدة مرات بلباس البحرية الخاص فطريقها الآن هو

الخروج ولن يعترضها أحد بالتأكيد وتشُك إن كانت تهتم أساساً

إن فعلوا .

ما أن وصلت البوابة الرئيسية اجتازت الحارسان الموجودان

هناك ووجهتها الواقفة في الأسفل تنتظرها والتي أمضت الوقت

واقفة هناك في انتظارها وكلما نظر الحارس الذي هجمت عليه

ناحيتها أخرجت له لسانها فيمسك ضحكته ويشير لها بإبهامه .

بينما نزلت كنانة العتبات نحوها بخطوات شبه راكضة وتباينت

نظرات ساندرين لها بين الفضول والاستغراب حتى وصلت عندها

واختطفت الحقيبة من يدها اختطافاً وانهالت عليها ضرباً بها

مرددة بغضب

" تباً لك يا حمقاء يا فاشلة يا غبية "

بينما لم تستطع هي تمالك نفسها من الضحك تحاول صد ضرباتها

لرأسها وكتفها وحيث وصلتها الضحكة الرجولية المرتفعة بعيداً

مصدرها بالتأكيد الذي كانت تسخر منه طوال وقت وقوفها هنا

لأنه لا يستطيع ترك مكانه ولا ضربها بسلاحه وها قد انتقمت

القدرة الإلاهية له منها .


*
*
*


ما أن غادرت المعلمة حتى وقفت جميع الطالبات وبدأن في

مغادرة الباب الذي تركته خلفها مفتوحاً فوقفت هي أيضاً وبدأت

بجمع أغراضها ونظرت للجالسة بجانبها والتي كانت لاتزال

جالسة مكانها تجمع كتبها وقالت لها مبتسمة

" يعجبني حجابك كثيراً "

ابتسمت في خجل وقالت

" أنا لا أخرج إلا بشبيه له ولأي مكان "

اغلقت حقيبتها بحركة واحدة وقالت تبتسم لها

" سأشتري مثله إذاً "


ضحكتا معاً وقالت التي وقفت أيضاً

" أراك مستعجلة أثمة من ينتظرك ؟ "

قالت مبتسمة وهي تعلق حزام حقيبتها على كتفها

" أجل إنه شقيقي "

وغادرت ملوحة لها بيدها وعبرت الممر الطويل حيث الطالبات

اللواتي كنّ يخرجن من الأبواب المفتوحة وصوت الأحاديث

والضحكات تملأ المكان ، وما أن اجتازت باب مبنى المدرسة حتى

شعرت بالسخونة تتدفق من قدميها لرأسها ووجدت عالماً مختلفاً

تماماً عماّ تركته خلفها هناك بل وما وجدته وقت دخولهما صباحاً

حيث كان فناء المدرسة الواسع ممتلئ بالطلبة وليس الطالبات

فقط وبعضهم كان طويلاً جداً وتبرز معالم رجولته إن في

أجسادهم أو لحاهم المحددة بصيحات عصرية تشبه تسريحات

شعرهم الغريبة عند الأغلب أو حتى خشونة أصواتهم المتداخلة

من جهات مختلفة وعلمت بأن الأغلب منهم سيكونون طلبة

المرحلة النهائية وشعرت بالارتباك وهي تنزل العتبات القصيرة

للباب ليس بسبب التجمعات المتفرقة في كل مكان لطلبة أو

طالبات أو كلاهما معاً في بعض الأمكنة بل بسبب النظرات التي

كانت تتجه نحوها بالتتابع تليها الهمسات المتفرقة وتأكدت من أن


خبر وجودها هنا انتشر سريعاً والجميع بات يدفعه الفضول لرؤية

ابنة مطر شاهين التي ظهرت لهم من العدم فجأة .

شعرت بحرارة وجنتيها تلسع جلدها وبحياء فطري جعل الدماء

الحارة تندفع نحوهما بقوة وأدارت يداها حقيبتها في حركة لا

إرادية تخفي جسدها بها وشعرت وكأنها تسير عارية بينهم بسبب

النظرات التي كانت تلاحقها وهي تحاول إيجاد من لا تعرف أين

يمكنها إيجاده !

" تيمااا "

التفتت خلفها وشعّت ملامحها بابتسامة جميلة ما أن رأت الذي

ركض نحوها وقد حضن كتفيها بذراعه ما أن وصل لها وسار بها

باتجاه المقاعد الحديدية المخصصة للطلبة في الطرف الشرقي

حيث تغطيها عريشة مقوسة من النباتات المتسلقة ، وكان

الوضع ذاته في كل مجموعة يمران من أمامها بسبب نظراتهم فها

قد اجتمع حفيد شراع صنوان وابنة مطر شاهين .

نظر لها وقال مبتسماً ما أن جلسا

" كيف كان نصف يومك الأول ؟ "

قالت بضحكة

" جيد وأنتِ ؟ "

شبك أصابعه خلف رأسه واتكأ على يديه للخلف ينظر أمامه

وقال مبتسماً

" أنا معتاد على هذا ، ذات النظام وإن تغيّرت الأمكنة أنتِ
هي التي تخوضين هذه التجربة المريعة للمرة الأولى "

أبعدت نظرها عنه وحركت كتفيها قائلة

" وعندي لم يختلف الأمر كثيراً فأنا كنت أتابع دروساً عبر
الانترنت والنظام ذاته شخص يشرح وأنت تستمع له "

أدار عينيه فقط نحوها وقال

" لكن هنا يمكنك التحدث وليس الاستماع فقط "

أومأت برأسها موافقة وقالت

" لكن الدروس جميعها درستها في مرحلة سابقة ، النظام
مختلف من الناحية الزمنية "


أبعد يديه واتكأ بمرفقيه على ركبتيه منحني الظهر وقال ورأسه

ونظره نحوها

" بالتأكيد سيكون كذلك ولهذا عليك مذاكرة دروس متقدمة
سيكون أفضل من تضييع الوقت في انتظارهم "

قالت وهي تفتح حقيبتها

" بالتأكيد "

اعتدل حينها في جلسوه وبحركة سريعة وقال ينظر لحقيبتها

ويدها فيها بصدمة مصطنعة

" هيه ماذا تفعلين ! سأهرب وأتركك إن اخرجتِ طعام الفطور
من حقيبتك كالأطفال "


ضحكت كثيراً وقالت ويدها تتحرك داخلها ونظرها على ما تفعل

" لا بالتأكيد "

وتابعت مبتسمة وقد نقلت نظرها له

" ثم أنا لا أريد أن أكون مصدر تسلية للطلبة ولا طعام في
حقيبتي اطمئن "

أبعد نظره عنها وحرك شفتيه باستياء قبل أن يقول ببرود

" أردت دائماً المدارس العامة لكن الجميع رفض بحجة سلامتي "

أغلقت حقيبتها ووضعت يديها فوقها حيث تستقر في حجرها

ونظرت له قائلة

" وما الاختلاف مثلاً ؟ "

أشار بإبهامه خلف كتفه قائلاً

" أنظري خلفك لتفهمي "

نظرت ورائها فوراً وصُدمت لوجود اثنين من الحراس يقفان

خلفهما عند الجدار وقالت ونظرها لازال ملتصقاً بهما

" أكان أحدهما يسير خلفي حين وجدتني ! "

قال بضحكة ساخرة

" بالطبع يا ذكية "

ضحكت كثيراً وعادت برأسها للأمام فقال ينظر لها بضيق

" وما المضحك في الأمر يا بلهاء ؟ "


رفعت يدها لشفتيها وقالت ضاحكة

" ظننت أن الجميع علم بأني ابنة مطر شاهين لذلك ينظرون لي "

لم يستطع إمساك ضحكته التي خرجت مرتفعة وقال

" مؤكد سيعلمون ذلك ووجود ذاك المخيف خلفك أكد لهم هذا "

قالت مبتسمة ما أن هدأت موجة ضحكها

" وهل سيشكل هذا اختلافاً عن المدارس العامة ! "

حرك كتفيه وقال وهو يريح يده بطول ذراعه على ظهر

الكرسي خلفها

" لا لم أكن أقصد هذا لكن الأمر مختلف تماماً فأولئك الطلبة
يعيشون حياة بسيطة جداً وأيام الدراسة مليئة بالمرح
والمقالب والتسلية "

وتابع وهو يبعد يده وتشبك أصابع كلتا يديه مفرودة ليشرح

لها وقال

" إنهم متداخلون أكثر تيما تفهمين هذا ؟ "

أومأت برأسها هامسة

" نعم يبدو أنني فهمت "

تجعدت ملامحه ووضع يده على عنقه وقال ينظر لعينيها

" ستشعرين بالاختناق هنا إن لم تجدي صديقة تشبهك كثيراً فهذه
المدرسة لا يستطيع دفع أقساطها أيّا كان "

وتابع من فوره يشير برأسه أمامهما

" أُنظري لهذا "

نظرت للشاب الذي عبر من أمامهما حينها وكان يلبس الزي

المدرسي المخصص للذكور البنطلون الرصاصي الغامق

والقميص الأبيض الناصع بأكمام قصيرة وربطة عنق طويلة بلون

البنطال وكان من الكُثر الذين يتخذون تسريحة شعر غريبة

ووصلها صوت همس الجالس بجانبها بينما نظرها كان يسير مع

ذاك الشاب

" هذا إن فعلت أنا مثله ستعلق والدتك مشنقتي عند
باب المنزل "

وضحك ما أن أنهى عبارته تلك واكتفت هي بالابتسام بحزن ولم

تستطع الضحك على الرغم من أنه قالها بطريقة مضحكة فعلاً ،

وكان وكأنما شعر بما تشعر به بل ورآه في ملامحها ونظرتها فقد

وصلها صوته هدئاً بلمحة حزن

" عليك فقط أن تحبيها وتثقي بمشاعرها نحوك يا تيما أما حياتها
فوحدها من يملك حق أن تقررها .. "

وتابع بنظرة جمعت الحب والحزن معاً محدقاً بالأرض المعشبة

تحت قدميه

" هكذا عرفتها دائماً وعلى هذا ربتني "

حركت رأسها وهمست بحزن تنظر للبعيد بشرود

" آمنت واستسلمت "


فتنهد بعمق وقال يغير مجرى الحديث لأنه يعلم بأنها مثله تماماً

تحاول تسلية نفسها بجميع الأمور التي تبعدها عن التفكير فيما

حدث وما سيحدث

" ثمة مطعم صغير هنا هل تشعرين بالجوع ؟ "

حركت رأسها برفض وقالت

" لا أعتقد أنه يوجد وقت كافي أمامنا "

قال يمسك ضحكته بينما أشار برأسه خلفه بحركة خفيفة

" كنت سأخبر أحد الحارسان هناك بطلباتنا "


خرجت منها ضحكة سريعة وفتحت حقيبتها مجدداً قائلة

" لا تختلف عن صاحب التسريحة الغريبة ذاك إذاً ولولا
الخوف لفعلت مثله "

رمقها بطرف عينيه بضيق وتمتم

" يا لك من مجحفة "

قبل أن تتسعا بذهول وهو ينظر لما أخرجته من حقيبتها

وقال مجفلاً

" ما هذه الجريمة تيما ! "

نظرت له بصدمة وسرعة فقال

" الهواتف ممنوعة في المدارس وجريمتها خطيرة لديهم "

دسته سريعاً قائلة بارتباك

" لم أكن أعلم "

نظر حوله قبل أن ينظر لها قائلاً

" لا تخرجيه إذاً ولا ترفعي الصوت "

أومأت برأسها موافقة وهي تغلق حقيبتها فضيق عينيه وهو

يقول بشك

" لما تتفقدينه ها ؟! "

نظرت له نظرة من لم يعجبه ما فهمه وقالت ببرود تمسك

خصرها بيدها

" لأرى الساعة "

أشار لرسغها بعينيه يرفع حاجبيه وقال بابتسامة ساخرة

" ولما لم ترتدي واحدة في يدك يا فقيرة يا معدومة ؟ "

زمت شفتيها بضيق وقالت ولازالت تمسك خصرها النحيل بيدها

" لأني نسيت "

غمز لها ومرر أصابعه في شعره الناعم المصفف للأعلى بحركة

بطيئة وقال بمكر

" نسيتِ أم حجة ؟ "

قالت بضيق

" ماذا تقصد ؟ "


مال نحوها وهمس وقد غمز بعينه مجدداً

" أقصد حبيب القلب لم يتصل كما يبدو "

أبعدت نظرها عنه وتمتمت ببرود

" ما أسخف أفكارك "

قال باستغراب ينظر لعيناها ولمحة الحزن فيهما وهي تهرب

بهما منه

" ماذا بكما ؟ "

همست من فورها وببرود

" لا شيء "

قال ببرود أشد

" أسخف جواب عرفه التاريخ من البشر "

نظرت له وقالت بضيق

" لأنها الحقيقة "

حرك رأسه وقال بابتسامة متفهمة

" لا يبدو لي ذلك "

فأبعدت نظرها عنه وعلم بأنه قد أصاب هدفه واثبت ذلك أن

قالت بتنهيدة

" أنا لا أعلم حقاً "

وحركت رأسها بضياع وقالت تنظر للفراغ أمامها بشرود حزين

" أشعر أحياناً بأنه لا يثق في مشاعري نحوه "

لم يتحدث يترك لها المجال لتقول ما يعلم بأنها تكتمه في قلبها عن

الجميع واكتفى بالنظر لجانب وجهها حتى نظرت له وقالت

" لا أعلم إن كنت محقة أم لا لكنه تغير كثيراً بعد ما حدث
في المستشفى "

حرك رأسه متمتماً

" لا أعتقد ذلك "

وتابع بهدوء ما أن أبعدت نظرها عنه للفراغ أمامها مجدداً

" أنا أراه فقط يريدك أن تعيدي حساباتك وتفكيرك "

نظرت له سريعاً هامسة باستغراب

" ولما ! "

حرك كتفيه وقال

" لأنك صغيرة يا تيما ولازال أمامك الكثير وقد تشعرين يوماً ما
مستقبلاً بأنك تسرعتِ وبأنه ليس الخيار الصائب لك "

" ولماذا ؟ "

قالتها سريعاً وباستياء فحرك كتفه وقال

" وجّهي هذا السؤال لنفسك وليس لي أنا "

قالت بأسى تنظر لعينيه

" لو أنه شخص آخر ولم يكن من أنقذني من الضياع والموت
دون أن يعرف من أكون لكنت عذرته ، ما كان لأي رجل أن يفعل
ما فعل وقد أُصيب وكاد أن يموت من أجلي "


وسحبت نفساً عميقاً لصدرها وقالت بحزن

" ما الذي تبحث عنه المرأة في رجل تتزوجه ؟ "

رفع حاجبيه وقال يمسك ضحكته

" لا أعلم لست امرأة "

قالت بضيق وهي تقف مغادرة

" أنا الحمقاء أتحدث مع طفل "

وقف أيضاً وتبعها قائلاً بابتسامة

" انتظري يا كبيرة "

لكنها لم تتوقف وتابعت سيرها باتجاه مبنى المدرسة حتى وصل

لها وسار بجانبها وحضن كتفيها بذراعه وقبّل خدها قائلاً

" آسف أميرتي الجميلة وها هو اعتذار أمام الجميع "

دفعته عنها مبتسمة وقالت وهما يصعدان عتبات الباب

" سنكون مصدر للشائعات هنا يا أحمق "

ضحك وقال وهما يعبران باب المدرسة

" بنفسك قلتها سابقاً بات الجميع يعلم من نكون "

افترقت عنه ولوحت له بيدها مبتسمة وهي تتجه حيث كانت تسير

بعض الطالبات في مثل سنها وحيث القسم المخصص لهن من

الطابق لحظة ارتفاع صوت الجرس عالياً معلناً نهاية الدقائق

المحددة والمتعارف عليها في جميع المدارس ، وما أن دخلت

فصلها وجدت الفتاة التي تشاركها المقعد فقط هناك فلم يأتي

البقية بعد وكانت تقف عند حقيبتها فتوجهت نحوها مبتسمة وما

أن وصلت المقعد فوجئت بها تُخرج حجاباً يشبه الذي تلبسه من

حقيبتها وبذات اللون الزهري أيضاً ومدته لها قائلة بتردد يبدو

جاهدت كثيراً لتخفيه

" كنت أريد إعطائك إياه قبل خروجك لكنك كنتِ مستعجلة "

نظرت له بذهول بين يديها ولم تعرف ما تقول حتى قالت التي

رفعته نحوها

" هو جديد ولم ألبسه سابقاً ، اشترته والدتي من أجل تركه في
حقيبتي كاحتياط فقط إن احتجته ولا أُخرجه منها أبداً وأتمنى أن
تقبليه مني "

أخذته منها وشعرت بروعة قماشه بين يديها وخفة وزنه

وبرودته ، صفات لا تتوقعها وأنت تراه يغطي جسدها هكذا !

وقالت مبتسمة بإحراج

" شكراً لك يا شيماء هذه أجمل هدية أتلقاها "

ابتسمت وقالت بسعادة

" هي لا تصل لمستوى الهدايا ولابنة الزعيم مطر
شاهين تحديداً "

قالت وهي تنزع الحجاب الذي تلبسه

" بلى وأثمن من جميع الهدايا "

وما أن أبعدت حجابها عن شعرها حتى تحررت غرتها الناعمة

وخصلات قليلة لامست عنقها بنعومة ورفعت الحجاب في يدها

قائلة بضحكة صغيرة

" عليك مساعدتي ليكون جميلاً مثلك "

دارت حول المقعد من فورها وأمسكته منها قائلة بابتسامة

" بل ستكونين أجمل مَن لبست مثيلاً له "

وراقبتها وهي تبعد خصلات غرتها للأعلى قبل وضعه عليها تُمتع

عينيها بجمالها الذي ازداد كثيراً برؤيتها لشعرها الحريري

وذكرت الله بحركة خفيفة من شفتيها بالدعاء الذي علَماها إياه

والداها لتقوله كلما رأت شيئاً خشيت أن تضره دون قصد منها

لشدة افتتانها به ومدت يديها تساعدها في تثبيته بالدبوس تحت

ذقنها وقالت مبتسمة ما أن أبعدت يديها

" كم أنتِ جميلة به "

وراقبتها بسعادة وهي تنظر له على جسدها وتتفقد حوافه التي

وصلت لمرفقيها بينما نزل طرفاه لخصرها وقد قالت مبتسمة

" لقد أحببته كثيراً "

وتابعت وهي تنظر لجانب خصرها الذي لم يخفيه الحجاب الكبير

" كما سأطلب من الإدارة قبل مغادرتي تغيير قياس هذا الزي
لواحد متسع أكثر "


قالت التي جلست مكانها مع بداية دخول أول الطالبات للفصل

" هم فقط يفعلون ما يطلبه الأغلب فإن أرسلوا ما تتحدثين عنه
لأعادوه لهم ليعطوهم أصغر منه ، وبهذا بات تقديرهم للقياس
واحد "


جلست مكانها قائلة

" أنا لا أحب هذا ولن يوافق والدي عليه أيضاً "

قالت مبتسمة ونظرها لم يفارقها

" أنتِ فتاة رائعة يا تيما ولم أتوقع أبداً أن تكوني هكذا ! "

نظرت ناحيتها وقالت بضحكة صغيرة

" ماذا كنتِ تتوقعين ؟ "


قالت وذات الابتسامة الجميلة تزين شفتيها

" هم سبق وأخبرونا بأنك ستكونين هنا خلال الحصة وما أن
دخلتِ مع المديرة قلت في نفسي هذه وإن لم تكن ابنة الزعيم
مطر وحفيدة شراع صنوان ستغتر علينا بجمالها "

وضحكت ما أن عبست ملامح المقابلة لها وكأنها توبخها في

صمت وتابعت مبتسمة

" حين سألتك المعلمة أين تريدين الجلوس توقعت أن تختاري
مقعداً لك لوحدك وفي مقدمة المقاعد لكن حين اخترت الجلوس
معي تغيرت جميع أفكاري عنك "

قالت التي تقوست شفتاها الجميلة بعبوس

" هل بدوت مغرورة حقاً حين دخلت ! "


حركت رأسها نافية وقالت والابتسامة الصادقة لم تغادر شفتيها

" لا بل واثقة كثيراً وكأنها ليست المرة الأولى التي تدخلين
فيها هذا الفصل ! "

قالت بضحكة

" لم أشعر بهذا "

وضحكتا معاً قبل أن تعتدلا في جلوسهما لاكتمال عدد الطالبات

ودخول معلمة جديدة أغلفت الباب قبل أن تقول مبتسمة وهي

تتحرك لتقف منتصف اللوح المعلق على الجدار

" مرحباً يا فتيات ... أنا اسمي علياء وسندرس معاً
مادة الأحياء الطبيعية كما تعلمن "


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:38 PM   المشاركة رقم: 1587
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

نظرت ناحية الباب الذي فُتح فجأة وللواقف أمامه والذي انتظرته

لساعات جالسة على الأرض تحت السرير تتكئ بظهرها عليه

وتحضن ركبتيها فبعد إفاقتها من تأثير تلك الحقنة تعلمت الدرس

جيداً وجلست هادئة ، وبعد عدة مطالبات برؤيته لم تُقابل بأي

أجوبة أضربت عن الطعام لأنها لن تنتظر رئيس البلاد أن يجد

وقت فراغ لزيارتها لأنه لن يجده قبل أيام إن لم يكن أسابيع .


عادت بنظرها للفراغ أمامها ما أن دخل وعلمت بأنه لن يغلق

الباب فقالت بهدوء

" أريد العودة للندن "

وصلها صوته ونبرته الجامدة ما أن وقف مقابلاً لها

" لن تفكري في البحث عنه يا غيسانة فسيكون أغبى قرار
اتخذته في حياتك "

نظرت لحذائه الأسود اللامع المقابل لنظرها يحفه قماش بنطلون

بذلته السوداء الفاخرة وقالت ببرود

" لن أبحث عنه بالتأكيد أنا لا أريد أن أموت من أجل معرفة
أمثاله "


وأشاحت بوجهها جانباً وقالت ما لا يمكنها المجاملة فيه

ولا الكذب

" أنا لن أموت ولا من أجل كشف هويته فلست على استعداد
لتقديم تضحية كتلك ومن أجل أيّ كان "

وحين لم يصدر عنه أي تعليق ولازال واقفاً مكانه رفعت رأسها

ونظرت له هذه المرة ولعينيه تحديداً وقالت ببعض الهدوء

" أعلم بأنك تراها أنانية لكني لا أستطيع أن أكون مثلكم ، لا
يمكنني تقديم نفسي للموت ليعيش غيري "

نطق حينها وقال بجمود يشبه ملامحه ونظراته لها

" أعلم بمشاعرك نحوي بعد الذي فعلته "


أبعدت نظرها عنه لقدميها على الأرض ويداها تشتد حول ركبتيها

بقوة ولم تستطع التعليق على ما قال .. لا تبرأة نفسها ولا الإقرار

بذنبها بينما مارست هوايتها المعتادة وتهربت من الحديث عن

الأمر قائلة

" أنا لا يمكنني العيش هنا في بلد لا أعرفه وسأحتاج لأعوام
عديدة لأفهم لغتهم جيداً وحياتهم ويتقبلون وجودي بينهم "

وسحبت نفساً عميقاً لصدرها وزفرته قائلة

" أنا لا أشعر بالانتماء له لأقرر قراراً كهذا ولا تنسى بأنك من
وضع الخيار في يدي "

" لم أنسى "


رفعت نظرها له ما أن همس بذلك بجموده المعتاد وقالت بعد

صمت لحظة

" وهناك أمر أخر "

نظر لها بصمت فقالت مباشرة

" أريد أن أكون جيسي جديدة هناك كما وجدت نفسي هنا "

" لا "

قالها مباشرة وبحزم فوقفت على طولها وقالت بضيق


" ولما الرفض ؟ "
قال بضيق مماثل

" أنا لم أخبرك بكل تلك الحقائق لتطالبي بالتحرر مني بحكم أني
لا أقرب لك "

كانت ستتحدث معترضة لولا أوقفتها إشارة واحدة من سبابته

وهو يرفعها بينهما وقال بجدية

" أَفهمتك جيداً من يكون عدوك وأن اللعب معه يعني الموت
فكيف وأنتِ لا تعلمين هويته "

نفضت يدها قائلة بغضب

" وهل سأعيش هكذا طوال حياتي ! "

وأشارت له بسبابتها متابعة بحدة

" عليك أن تعلم إذاً بأن التمرد يسري في دمائي النجسة
وسيزداد الآن "


غادر جموده حينها وصرخ بحدة

" لا يحمل أحد النجاسة من أحد بل يصنعها بنفسه فقط "

وقاطعها ما أن كانت ستتحدث قائلاً بتهديد

" لا يمكنني تركك تبتعدين عن ناظري وإن كنتِ هناك وأنا هنا "

شدت شفتيها بضيق وخرج السؤال الذي أمضت ساعات تفكر فيه

ولا تجد جواباً مقنعاً له

" ولما تحميني وموتي كان سيكشف لك عدوك ! "


ولم تنتظر جوابه طويلاً والكلمات الباردة كالصقيع تخرج من

بين شفتيه

" سبق وأخبرتك أنها مسألة إنسانية وإنسانيتي لا تسمح لي
بالتضحية بدم بشر من أجل أي شيء "

أشارت لنفسها وقالت باستياء

" وأنا سأتحمل نتائج أفعالي فقط أُتركني أكون الإنسانة التي
أريد فقد تعبت من العيش في سجن قوانين أرفضها "

قال بضيق

" لن تتحمليها وحدك يا غيسانة فاكتشاف وجودك معناه خطر
سيحدق بعشرات الرجال هناك أرواحهم أهم لديا من نفسي ولن
نعيد كل ما قلناه سابقاً "

أشارت لنفسها مجدداً وصرخت قائلة باحتجاج

" لما أدفع أنا ذنب ذلك ! ما ذنبي إن كنت ابنته ؟ "


ولاذت بالصمت تتلقف أنفاسها وتبادلا النظرات الصامتة لوقت ..

الوقت الذي انتظرت فيه بشغف أي تعليق منه تعتبره أمراً

مصيرياً بالنسبة لها فإما أن تتحرر وتعيش الحياة التي كانت تريد

وتتمنى أو أن تُدفن هنا وللأبد ، وتحدث أخيراً ورحمها بينما أشار

لها بسبابته مهدداً

" سأتركك تفعلين ما تقولين عنه ، سأتوقف عن دعمك رغم أنه
وعد قطعته لوالدتك لكنك ستكونين مراقبة تماماً .. عليك معرفة
ذلك يا غيسانة والخطأ والتهور ممنوع "


قالت بضيق بالرغم من أنها وصلت لمبتغاها وحلمها منذ كانت

مراهقة صغيرة

" أخبرتك بأني لست على استعداد للموت من أجل أحد ولا
بسبب أحد "


لم يعلق كما توقعت تماماً وتعرف عنه ما لا يراه مهماً لا يهتم

للتعقيب عليه ولا يكلف نفسه عناء ذلك فقالت بجمود من بين

أنفاسها الغاضبة

" وثمة أمر أخر "

وفهمت من انعقاد حاجبيه العابسان أساساً بأنه سأم منها ومن

طلباتها بل وتواجده هنا مكرهاً بالتأكيد لذلك قالت دون انتظار

" أريد رؤية تيما قبل مغادرتي "
وعلمت الجواب سريعاً من ملامحه لذلك قالت من قبل أن

تسمع رفضه

" لن آكلها فأنت كنت تخاف عليها مني أعرف ذلك "

قال من فوره وبضيق

" وكنت محقاً "

حركت رأسها قائلة باستياء

" ماذا تقصد !! "

" تعلمين جيداً ما أقصده "

الجمتها كلماته كما نظراته الغاضبة المخيفة بينما تابع هو بغضب

دون أن ينتظر أي تعليق منها

" لا أعلم كيف أطاعك قلبك لدفعها للخطر من أجل نزواتك ؟ "

قالت من فورها محتجة وإن تبعثرت الكلمات منها

" ليست نزوات كان ... كنت ... "

ولاذت بالصمت حين علمت بأنها اخذت نفسها لما تهربت منه قبل

قليل وتكفل هو بذلك يذكرها مجدداً

" القرص "

أطبقت شفتيها وحاولت أن تهرب من نظراته القوية الغاضبة

لكنها لم تستطع وشعرت بها كأغلال قيدت مقلتاها وهمست نهاية

الأمر مستسلمة

" كيف علمت ؟ "

وشعرت بسبابته كرصاصة وجهت نحوها وهو يقول بحدة

" أخبرتك بأنك تحت نظري يا غيسانة وستستمرين "

نفضت يدها قائلة بانفعال

" لا أنكر أنني أخطأت لكنها كانت سبيلي الوحيد لاسترداده من
ذاك الرجل "

حرك رأسه مبتسماً بسخرية وكأنه يستنقص أسبابها فقالت برجاء

وإن صاحَبه الكثير من التردد

" هي المرة الأخيرة فاتركني أراها "

أشاح بوجهه عنها وهي المرة الأولى التي يفعلها منذ أصبح هنا

فعيناه كانت ترسل حممها الغاضبة نحوها طوال فترة وقوفه هنا

أمامها وفي جميع حالاته وانفعالاته وتعلم جيداً بأنه يتمنى خنقها

وقتلها بسبب ما فعلت لكن مبادئه تلك التي تحدث عنها تمنعه ،

لكن عليها الوصول لها فهي سبيلها لفعل ما تريد لأنها موقنة

بأنه لن يوافق عليه لذلك قالت مجدداً

" أرجوك يا مطر أتركني أراها لآخر مرة في حياتي "

نظر لها حينها ورفع سبابته أمام وجهه وقال بتحذير

" لن تعلم بأي حرف مما قيل ولا فحوى تلك الأوراق "

حركت رأسها سريعاً وقالت

" لا بالتأكيد "

لكن الأمر لم ينتهي عند ذاك الحد كما تظن وهو يهمس بجمود

وعيناه ترمقها بشك

" لماذا تريدين رؤيتها ؟ "

كورت شفتيها باستياء وكانت تعلم بأنه لن يثق بها وبصدقها أبداً

كما كان ولازال فكتمتها في نفسها لتحقيق غرضها وقالت باستياء

" لأعتذر منها ألا يحق لي ؟ "

أمال طرف شفتيه بابتسامة ساخرة متمتماً

" عن ماذا تحديداً ؟ "

شدت شفتيها بضيق فذنوبها كثيرة في نظره بالتأكيد وقالت ما لم
يعد يمكنها كتمانه ومهما كانت عواقبه

" أعلم بأنك لن توافق أن أرى والدتها لكنتُ طلبتُ ذلك لأقول
لها فقط بأنها حمقاء "

واتسع فمها بصدمة حانقة حين تركها وغادر وكأنه لا يريد سماع

المزيد وترك الباب مفتوحاً لتعلم أنها موافقة منه على خروجها

من هنا معه فسارت باتجاه الباب مسرعة لتدرك خطواته الواسعة

متمتمه ببرود

" حمقاء فعلاً فمن لا يخون وطن بأكمله لا يخون امرأة تكون
زوجته "


*
*
*

نظرت نحوها جالستان في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة حيث

كانت تنظر من خلال نافذتها للخارج ولم تتحدث منذ غادرتا

البحرية الملكية ، وما أن نظرت نحوها حتى أمسكت نفسها عن

الانفجار ضاحكة فضربتها بالحقيبة على كتفها مما جعلها تلتصق

بالباب وقالت بضحكة متألمة تمسك كتفها

" يكفي كنانة إنه يؤلمني حتى الآن من كثرة ما ضربته بها "

أشاحت بوجهها عنها ونظرت للخارج مجدداً فقالت باستياء

" وما ذنبي أنا وما يدريني بأنه سيكون هناك ؟ "

لم تعلق كما لم تنظر ناحيتها فقالت تمسك ضحكتها

" أخبريني ما حدث مفصلاً على الأقل "

وما أن نظرت ناحيتها نظرة غاضبة ورفعت يدها والحقيبة فيها

مدت يدها قائلة

" لا بالله عليك لن أسأل ولن أضحك مجدداً أقسم لك "

وما أن عادت للنظر لنافذتها مجدداً حركت شفتيها بعدم

رضا وقالت

" كنانة أنتِ تعلمين بأنه لا ذنب لي في هذا وما كنت لأتوقع
ولا في أحلامي أن يكون موجوداً هناك "


وتغير مزاجها للابتسام فجأة وقالت

" ثم من الجيد أن وجدته فبسببه سارت الأمور كما نريد "

نظرت لها حينها وقالت بضيق

" أجل سارت كما تريدين والنتيجة أن أُصبح أنا مطلقة "

حدقت فيها بذهول وقالت

" ولما مطلقة ! ما الذي قاله لك ؟ "

تبدلت نظرتها للأسى قبل ان تنفض الحقيبة في حجرها قائلة


" الكارثة أنه لم يقل شيئاً .. وأنتِ تعلمين جيداً معنى الصمت في
المواقف المشابهة أليس كذلك ؟ "


نظرت لها بصمت للحظات وقالت ببساطة

" حسناً وأنتِ كنتِ تريدين هذا دائماً فما عليك سوى تقبل ذلك
بصدر رحب وعيش حياتك كما كانت وليرحل هو مع السلامة "

نفضت حقيبتها مجدداً قائلة بقهر

" وماذا أفعل بالغبي المسمى قلب ! "

كورت شفتيها وقالت ببرود

" إن كنتِ تحبينه فعلاً فتلك مشكلة حقيقة "

همست التي لمعت عيناها بحزن

" لم أحب يوماً رجلاً غيره ولن أحب مثله وبالرغم من إقناعي
الدائم لنفسي بأنه مكره على الزواج بي وبأني لا أريده وكبريائي
أهم من مشاعري إلا أنني فاشلة حقيقية واكتشفت اليوم ذلك بشكل أكثر وضوحاً "


شدت شفتها بأسنانها تراقبها وهي تبعد وجهها ناحية نافذتها

تمسح عيناها بظهر كفها بقوة تمنع الدمعة اليتيمة من

النزول وقالت

" أنا آسفة حقاً كنانة وسأعالج المشكلة كوني مطمئنة "

نظرت لها سريعاً وقالت

" لا رجاءً ساندي يكفي حتى هنا "

حدقت فيها بضيق وقالت

" حمقاء ماذا تقصدين ؟ "

وتابعت من فورها

" أنا لن أفسد الأمر بل سأصلحه "

اشارت بيدها وكأنها توقفها مكانها قائلة

" أُتركيني أنا من يفسد ما تبقى منه كي لا يقع اللوم عليك
بل على نفسي "

مدت شفتيها بعبوس وتمتمت تنظر للخارج حيث نافذتها وبصوت

لا يسمعه أحد غيرها

" بل سأجعله يندم أشدّ الندم إن هو طلقك .. فليفعلها وسيرى "

وما هي إلا مسافة قصيرة وكانت السيارة قد توقفت أمام منزلها

فنظرت لها وهي منشغلة مع حقيبتها التي كانت تفتش فيها وقالت

" هيّا ا نزلي معي "

مدت يدها ببعض النقود للسائق قائلة

" لم يعد يمكنني تحمل ثيابي على جسدي وأريد أن أستحم وأنام "

حدقت فيها باستغراب قائلة

" أي نوم هذا والشمس بالكاد شارفت على المغيب ! "

وتابعت من فورها وما أن نظرت لها

" ثم عليا أن أُثبت لوالدتي أيضاً بأننا كنا معاً فهي أسوأ من
والديك مجتمعان في هذا "


قالت معترضة

" أنا متعبة ساندرين ولم آكل شيئاً اليوم ولم أرتاح فارحميني
ووالدتك أنا من سأتصل بها وأخبرها بأننا كنا معاً "


كشرت في وجهها وقالت بتملق

" يا لك من ذكية ..! هذا وحده دليل كافي لاتهامي بأنه اتفاق
بيننا ولن أنجو من تحقيق مطول لعودتي هذا الوقت "


وتابعت من فورها متجاهلة نظراتها الحانقة

" ثم لا تستعجلي كثيراً على الانفراد بنفسك والبكاء عليه ..
أمامك الليل بطوله "


وارتدت للخلف ملتصقة بالباب بخوف تمثيلي ما ان صرخت
فيها بحدة

" ساندي لا تجعليني أغضب منك وأنت تعرفين غضبي جيداً "

تنفست بضيق وقالت

" كنانة حلفتك بالله انزلي قليلاً وسأوصلك بنفسي "

تأففت نفساً طويلاً ونظرت للعجوز الانجليزي الذي التفت لهما

للخلف وقال

" قررا بسرعة آنستاي رجاءً "

فتحت حينها الباب ونزلت مستسلمة وأغلقته بعدها ثم توجهت

لنافذته واعطته أجرة إيصالها من هنا لمنزلها وإن لم يوصلها

فيكفي أنه تحمل نقاشهما في صمت ولو كان أصغر سنناً لكان

رماهما خارج السيارة من وقت وقوفه .


وبعد إصرار كبير منها وقبوله للنقود غادرت سيارته التي كانت

كحاجز بينها وبين التي توجهت ناحية باب سياج المنزل

المنخفض قائلة ببرود

" لو كنت مكانك ما أعطيته نقوداً وهو لم يوصلني "

حركت رأسها بيأس منها وقالت ببرود مماثل تسير خلفها داخل

حديقة المنزل

" عليك أن تغيري من طباعك هذه ساندي فزوجك وعائلته
يمتلكون أموالاً لا تُحصى ولا تُعد "

التفتت نحوها ما أن وصلت باب المنزل وقالت تلوح

بيدها مبتسمة

" لا بل سنعود معاً حرّتين طليقتين نتسكع في شوارع لندن "

تنهدت بأسى ونظرت جانباً بحزن فمدت شفتيها بعبوس وهي

تراها تجاهد لتخفي ألمها لكنها سرعان ما عادت لطرد لومها

لنفسها من عقلها والتفتت ناحية الباب وقالت وهي تغرس

مفتاحها فيه

" ألحق عليك لا تريدين أن أتدخل وأشرح له الأمر "

وفتحت المنزل ووصلها صوتها من خلفها قائلة ببرود

" لا شكراً صديقتي فلن أترجاه ولا أي أحد ليستمر معي "

استدارت نحوها بحركة واحدة وقالت مبتسمة ترفع إبهامها لها

" رائع كنانة تعجبينني هكذا فمن يرحل تهبنا الحياة غيره "

ودخلت وهي تتبعها تحرك رأسها بيأس منها فبقدر ما تعجبها

شخصيتها فعلياً تشعر بالأسى على ابن عمتها الذي يحبها بصدق

وكل ما تسعى له هي وتريده هو الانفصال عنه !

كانت والدتها في استقبالهما وكما قالت وتوقعت ساندرين فقد

نظرت لها نظرة غاضبة تعلم كلاهما تبعاتها لولا وجودها الذي

جعلها تتغير سريعاً وابتسمت لها قائلة

" مرحباً كنانة ما هذه المفاجأة السارة ؟ "

ابتسمت من فورها قائلة بأدب

" شكراً لك يا خالة وأعتذر لأني كنت سبب تأخر ساندرين
لهذا الوقت "

قالت بابتسامة وهي تشير بيدها نحو الداخل

" لا بأس بنيتي وتفضلي بالدخول لا تقفي هنا "

فسارت تتبعها وتبادلت وساندرين نظرة صامتة قبل أن تسحب تلك

والدتها من يدها ناحية المطبخ وقالت بصوت منخفض

" كيف هي ماريه الآن ؟ "

تنهدت بأسى وقالت

" ليست بخير أبداً فكلما دخلت عليها وجدتها شاردة الذهن
وأكلمها ولا تجيب كما لم تأكل شيئاً اليوم "

أومأت برأسها في صمت وتركتها دون أن تعلق وهي تراقبها

باستغراب فلم تهاجم والدها كالسابق كما لم تعلق غاضبة وإن

بالدعاء على من تسميه بالتمثال الفرعوني وهذا غريب عليها !

حركت كتفيها ودخلت المطبخ بينما عادت ساندرين ناحية الجالسة

على الأريكة والتي وقفت وقالت ما أن رأتها

" أين هي ماريه أيمكنني رؤيتها ؟ "

ارتمت جالسة على الأريكة ذاتها وقالت ببرود

" لا بالطبع فهي ليست قرد في حديقة يأخذون الأطفال لرؤيته "

اتسعت عيناها بصدمة وأمسكت خصرها قائلة بضيق

" هي القرد أم أنا الطفل في نظرك ؟ "

نظرت لها فوقها وقالت باستياء

" بل هذا ما ستفهمه هي حينها "

وتبدلت نظرتها للجدية وهي تتابع

" أنتِ فعلتِ من أجلها ما هو أهم بكثير من رؤيتها كنانة "

تنهدت حينها وتغير مزاجها بالكلية وتمتمت آمله

" أتمنى ذلك بالفعل "

كان الضيق من نصيب ساندرين حينها وهي تهمس من

بين أسنانها

" بلى ولن يكون اسوأ مما هي فيه "

حركت رأسها موافقة لها وانحنت لحقيبتها ورفعتها من

الأريكة قائلة

" انتهت مهمتي إذاً وعليا الذهاب فبلغيها سلامي "

ولم تنهي عبارتها إلا وإميليا تتجه نحوهما قائلة

" أين يا كنانة لن تغادري دون عشاء "

نظرت لها باندهاش وقالت

" لا داعي لهذا يا خالة وعليا أن .... "

قاطعتها وهي تقف أمامهما

" لا أعذار مطلقاً وسأتحدث مع والدتك بنفسي وأخبرها ولن
يتأخر العشاء فهو شبه جاهز "

وما أن كانت ستتحدث معترضة تفكر في أنها ستبقى بهذه الثياب

ودون استلقاء لساعات أخرى سبقتها قائلة تمسك بذراعها

" لن ترديني يا كنانة وسيوصلك عمك الحارثة بنفسه فقلما نراك وتكونين معنا "

أحنت كتفيها وقالت مستسلمة بل وخجلة من ردها

" كما تريدين يا خالة "

وقفت حينها ساندرين وتحركت من مكانها وقالت مبتسمة تحرك

أصابعها بيد مرفوعة

" سأغير ثيابي وأعود "

فرمقتها كنانة بضيق بينما ضحكت هي وغادرت باتجاه ممر

غرفتها وسارت خلاله قبل أن تتوقف عند باب الغرفة التي عادت

ماريه لشغلها مجدداً وتنهدت نفساً عميقاً تتذكر ما قالته والدتها

قبل أن تتابع سيرها نحو باب غرفتها الذي فتحته ودخلت مغلقة

إياه خلفها وغيرت ملابسها سريعاً وتوضأت وصلت المغرب

وأخذت لباس الصلاة معها تضعه على ساعدها من أجل كنانة

وغادرت الغرفة وفوجئت حينها بباب الغرفة الآخر يُفتح ببطء

ونظرت للتي وقفت أمامه .. للملامح الحزينة الشاحبة وللعينان

المجهدة والبراءة الذابلة ولا تعلم حتى متى سيقتلون هذا القلب

الجميل بسبب الصدمات المتتالية والخذلان المستمر ؟.

كانت تنظر لعيناها اللامعة بدموع ترفض نزولها في مشهد هربت

طوال اليوم من رؤيته جعلها تكره الجميع وتغضب منهم بشدة

أكبر ولم تتحدث وليس لديها ما تقول للأسف تنتظر ما تتوقعه

جيداً وحدث بالفعل ما أن تحركت الشفتان الجافة ببطء ووصلها

الصوت الخفيض يشبه ذبول تلك الملامح الجميلة

" أريد ثوباً واحداً ولآخر مرة ساندي "

شعرت بحرقة شديدة في حلقها وكأنه تولى المهمة عن باقي

مشاعرها حينها وحركت رأسها وكأنها لم تستوعب ما سمعت قبل

أن تقول باسى

" ما الداعي لقول هذا ماريه بالله عليك ! "

وراقبت في حزن عيناها وهي تبعد نظرها عنها فتحركت نحوها

حتى وقفت أمامها وأمسكت بذراعيها وقالت بحزم تنظر للعينين

التي لازالت تبعدها عنها

" ستغادرين ماريه ولن يتحكم أي أحد منهم في مصيرك مجدداً
فقط اصبري لساعات قليلة "

وتابعت ما أن رفعت نظرها لها ورأت بعض الاهتمام فيهما

" لن يوافق والدي ولا والدتي خروجك الآن ولا مكان لتذهبي
إليه وجوازي سفرك لديه لذلك عليك الانتظار قليلاً فقط وسيحدث
ما تريدين "

أولتها ظهرها حينها وعادت للغرفة مغلقة الباب خلفها دون أن

تتحدث ولا أن تُعلق ولا حتى أن تسأل عن أي شيء مما قالت
وكأنها فقدت اهتمامها بكل ما يربطها بالحياة !

لم تتساءل ولا عن مصيرها المجهول درجة أن تفكر في الرحيل

ولا تعلم لأين فقط تبتعد عن جميع من خذلوها وتخلو عنها !

تنهدت بحزن وتحركت من هناك عازمة أكثر على تنفيذ ما خططت

له وإن كان ثمنه عقاب طويل الأمد من والدها فلن تهتم .


*
*
*

ما أن كانت في الخارج ركضت نحو السيارة التي ركبها وكأنها

تخشى أن ينسى أمرها ويغادر ويتركها ، فتحت الباب المجاور له

وجلست على الكرسي بتنهيدة ارتياح وقالت مبتسمة بانتشاء

" ما أسوأ أن تكون مسجوناً في مصح "

ونظرت للذي حركت يده يد السرعة وتحرك بالسيارة تتبعهم

سيارات المرافقين له بالتتابع دون أن ينظر ناحيتها ولا أن يعلق

على ما قالت ملامحه الرجولية الجادة و حاجبيه العابسان يحفان

عيناه السوداء المحدقة في الطريق أمامه بنظرة قوة وسيطرة كما

عرفته دائماً فأبعدت نظرها عنه تراقب كل ما يمران به وكتفت

ذراعيها لصدرها ولأن السيارة كانت تسير عبر طرق داخلية كانت

سرعتها بطيئة نسبياً فامتدت يدها لمسجل السيارة الحديثة

وحاولت تشغيله لكنها كانت مختلفة عن سيارتها سابقاً وأبعدت

يدها ما أن امتدت يده لأحد الأزرار وضغطه بسبابته متمتما ببرود

" لا اغاني انجليزية غيسانة "

فمدت شفتيها بعبوس تنظر له بينما عاد هو بنظره للطريق وأعاد

يده للمقود فعادت تكتف ذراعيها لصدرها ونظرت ناحية نافذتها

بينما علا صوت الموسيقى مالئاً صمت السيارة وكانت ستنظر

ناحيته شامته بابتسامتها لأن اختياره أيضاً أخذه للموسيقى

والغناء لكن ابتسامتها تلك ماتت في مهدها ما أن علا الصوت

الرجولي منشدا بنبرة هادئة رزينة

( موطني .. موطني ...
ﺍﻟﺠـﻼﻝ ﻭﺍﻟﺠـﻤﺎﻝ ..
ﻭﺍﻟﺴــﻨﺎﺀ ﻭﺍﻟﺒﻬﺎﺀ ..
ﻓـــﻲ ﺭﺑــﺎاااﻙ .. ﻓــﻲ ﺭﺑـــﺎﻙ
ﻭﺍﻟﺤـﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﻨـﺠﺎﺓ .. ﻭﺍﻟﻬـﻨﺎﺀ ﻭﺍﻟﺮﺟـﺎﺀ
ﻓــﻲ ﻫـــﻮﺍاااﻙ ... ﻓــﻲ ﻫـــﻮﺍﻙ ).


وعادت بنظرها لنافذتها متنهدة بعمق فهي تفهم الكثير من

الكلمات العربية لكثرة زياراتها لابنته سابقاً والتي كانت تفضل

الحديث بالعربية وكانت تُصر على تعليمها بعض الكلمات على

امتداد السنوات التي عرفتها فيها كما أن مطر الحقها بدورات للغة

العربية لأكثر من مرة وبسبب عنادها على عدم التعلم أعلن يأسه

نهاية الأمر .

أخذها عقلها للتركيز على الكلمات مجدداً بينما تراقب عيناها

المباني والأسواق التجارية


( هل أرااااك هل أراك ...
سالماً منعماً وغانماً مكرماً ...
سالماً منعماً وغانماً مكرماً ..
هل أراك ... في علاك ..
تبلغ سِماك ... تبلغ سِماك ..
موطنييي .. موطني )


وبدأت الكلمات ترتبط مع ما كانت تراه ومنظر الأبراج العالية

للمدينة تظهر مجتمعة في جانب واحد وتذكرت كلماته عن كل ما

فعله من أجل هذه البلاد وكيف كانت قبل أعوام وحاولت أن ترسم

لها صورة للمقارنة وتنفست بعمق تحرك رأسها فلا يمكنها تصور

الفارق بالتأكيد .

عاد الصوت الرجولي الهادئ الجميل لاختراق الصمت مجدداً

( موطنييي .. موطني ...
الشباب لن يكل .. همه أن يستقل ..
أو يبييييد .. أو يبيد ..
نستقي من الردى .. ولن نكون للعدى ..
كالعبيييد .. كالعبيد )


وتبادر لذهنها كيف أنه ورجاله يفعلون كل ما فعلوه من أجل

هؤلاء المارة وأولئك الجالسين عند المقاهي .. من أجل التلاميذ

الصغار الذين كانوا يتجمعون عند الإشارة الضوئية لاجتياز

الطريق ومن أجل ابتسامة كل امرأة يطل رأسها من أحد شرفات

الشقق العالية لتحدث أطفالها الموجودين في الأسفل يلعبون

ضاحكين ، وتساءلت هل يُقدر هؤلاء كل ما فعلوه ويفعلونه من

أجلهم ؟ هل هم على استعداد لحماية ظهر مطر شاهين حين

يحتاجهم أم سيكونون من سيطعنه فيه دون تردد وتضيع جميع

تضحياته أدراج الرياح ؟

حركت رأسها مجدداً وكأنها تجيب نفسها عن سؤال تتوقعه وهو

استحالة اتخاذها لقرار مشابه إن كانت مكانه ولن تقتل سعادتها

من أجل أناس قد لا يُقدرون حجم تضحياتها ، ولا أن تموت من

أجل أن تعيش أجيال لن تراهم .

أدارت رأسها ناحيته ولازالت تتكئ به على مسند الكرسي وقالت

تنظر لنصف وجهه المقابل لها

" هل أنت رئيس البلاد في الوقت الحالي ؟ "

" لا "

همس بها مباشرة وبجمود فاتسعت عيناها بذهول وهي تستوي

جالسة وقالت

" هي من دون رئيس !! "

قال من فوره وبجموده ذاته

" أنا آخذ مكانه فقط وبشكل مؤقت "

حركت رأسها وفهمت بأنه قد يترك الحرية للشعب أو أعضاء

البرلمان عبر الانتخابات لاختيار رئيس لهم .. لكن ثمة خيار ثالث

خطر لها فجأة فقالت بفضول

" هل ستقوم أنت باختياره ؟ "

نفا شكوكها جميعها سريعاً وبكلمات جادة بينما نظره لازال على

الطريق أمامه

" هذا لا يجدي نفعاً في بلاد لازالت تعاني التقسيم حتى الآن وإن
اختلفت المسميات وستكون نتيجة ذلك حرب مؤكدة "

قالت باستغراب

" لكن كان ثمة رئيس لها ! "

ولاحظت اشتداد فكيه بقوة قبل أن يهمس بما يشبه

الغضب المكبوت

" ذاك كان بمعاهدات حقيرة لن أتركها تتكرر "

حركت رأسها في حيرة ولم تفهم ما يعنيه أو لم تهتم لفهمه

وعادت بنظرها للطريق أمامها لكنها سرعان ما عادت ونظرت

له وسألت

" وسترشح نفسك لذلك ؟ "

" لا "

همس بها بجمود فقالت من فورها وباستغراب

" ولما ! "

لم يتأخر عنها جوابه متمتماً بها بالجمود ذاته

" لأني لا أريد "

رفعت يدها وقالت باستياء

" ولما وأنت فعلت كل ما فعلته لأجلها وأجلهم ! "

نظر لها ولأول مرة منذ مغادرتهما وحديثهما ذاك وقال بجدية

" لأني لا أريد أن أكون مسؤولاً عن رعيتي يوم الحساب ولن
أضمن أنه لن ينام طفلاً جائعاً أو مظلوم يعجز عن أخذ حقه "

حدقت فيه بعدم استيعاب للحظات وقالت بضيق تحرك يدها

" وما علاقة هذا بذلك ؟ "

قال ببرود وقد عاد بنظره للطريق أمامه

" لن تفهم هذا امرأة ترفض أن تكون مسلمة "

لوت شفتيها بضيق وسقط ظهرها على الكرسي خلفها ونظرت

للنافذة ولم تعلق على ما قال تفكر في إجاباته لعلها تصل لفهم

عبارته الاخيرة ولم ينجح الأمر واستسلمت لفكرة واحدة نهاية

الأمر بأنه أغرب رجل قد يعرفه التاريخ تأتيه الفرصة ليحكم بلاد

كاملة ويعيش السيد فيها ويرفضها !!

استقامت في جلستها مجدداً ولامست سبابتها ذات الزر الذي

لمسه سابقاً وعم الصمت التام المكان الضيق ما أن سكت الصوت

الرجولي الذي كان قد بدأ بسرد الأخبار المحلية ونظرت له وقالت

ما ترددت كثيراً في قوله

" أنا حقاً آسفة على ما فعلت .. وللمرة الأولى أقولها
في حياتي "

وقالت آخر عبارتها تلك ببرود فكان جوابه أن تمتم ببرود مماثل

" لا يهم "

حدقت فيه بضيق وقالت

" اعتذاري الغير مهم أم قولي لها ؟ "

لم يعلق بشيء ويبدو لم يهتم فتنفست بضيق وقالت بترقب

" لم أكن أتوقع أبداً أن لا تعاقبني بسبب ما فعلت ! "

ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه في أول تعبير تراه له

وتمتم مجدداً

" لأنه لن يفيد "

رمشت عيناها باستغراب تنظر لجانب وجهه وقالت

" لن يفيد فيما حدث أم لن يفيد معي تقصد ؟ "

تمتم ببرود يدير المقود

" كلاهما سواء "

شعرت بالغضب من عجزها عن فهم جواب له لا يكون يحمل عدة

معاني فلا تعرف كيفية الرد عليه ! ورغم ذلك قالت

ترمقه بتشكيك

" أخشى أنك تدّخر ذلك حتى عودتي للندن فلا تنسى
بأنني اعتذرت "


وحين لم يعلق على ما قالت بشيء شعرت بالخوف من تحقق ذلك

فقالت بأمل يحتضر

" لن تفعلها يا مطر أليس كذلك ؟ "

نظر لها هذه المرة وقال بضيق يغادر فيه جموده وبروده القاتلان

" لا .. لأني لا أريد عواقب سيئة جديدة "

نظرت له باستغراب فعاد بنظره للطريق وقال بضيق أشد يشير

بسبابته أمامه

" لأنك علمتني درساً قاسياً غيسانة وبأنه معاقبة النساء تعني
انتظار عقوبة أقسى من طرفها "

" عقوبة !! "


همست بها مصدومة تنظر للذي قال بحدة يحرك يده دون أن

ينظر لها

" بالطبع فحين عاقبتك على إرسال ابنتي للملهى الليلي بالعيش
مع شاهر كنعان كان ردك قاسياً جداً أم لا تذكرين أفعالك ؟ "

وحرك رأسه هامساً من بين أسنانه

" النساااء ... أنتن أسوء من الحروب "

رمقته بطرف عينيها تضيقهما حانقة ولم تعلق ، لو يعلم ما تخطط

له الآن بذهابها لمنزله ما سيقول ؟

تجاهلت كل ذلك وقالت

" هل تعتقد بأني سأسبب لك الضرر لمعرفتي لحقيقتك إن
عاقبتني ! "

وانتظرت بفضول كلماته التي كما توقعت خرجت جامدة

جمود الصخر

" لَما كنتُ لأتركك تغادرين البلاد حينها "

قالت من فورها

" أنا لست بتلك الدناءة بالتأكيد "

نظر لها في واحدة من المرات القليلة النادرة وقال بحزم

" أتمنى ذلك فعلاً يا غيسانة وليس من أجلى بل من أجل عشرات
الشبّان الموجودين هناك والذين أقبل الأذى لنفسي ولا أقبله لهم "


قالت باستياء

" لن أفعلها فارحمني من السجن والتقييد المستمر يا مطر رجاءً
أريد أن أتنفس "

وقفت السيارة عند الإشارة الضوئية حينها ونظر ناحيتها وقال

بتهديد رافعاً سبابته في وجهها

" هي فرصة واحدة غيسانة مفهوم ؟ "

وما أن كانت ستتحدث والضيق واضح على ملامحها سبقها يحرك

سبابته نحوها مهدداً

" الأولى والأخيرة يا غيسانة "

عادت لجلوسها السابق بحركة قوية غاضبة وتمتمت باستياء

" سحقاً لغيسانة "



*
*
*

كانت نظراتها المندهشة تراقب الطالبتان اللتان تقفان فوق

مقعدين متجاورين وترقصان على أنغام ضربات إحداهن بيديها

على أحد المقاعد وتصفيق البقية والغناء الصارخ وكان هذا

حالهم منذ بدأت الحصة التي تغيبت معلمتها وكانت الحصة

الأخيرة ليومهم الأول ذاك ولم يكن ثمة من يجلس مكانه عداها

وطالبة واحدة تجلس في كرسيها تمسك قلما وتكتب في كتاب

كبير مفتوح أمامها أما البقية مجتمعات حول تلك المقاعد

والفتاتان الراقصتان دون توقف .

وقفت وبحثت بنظرها عن بثينة التي وجدتها تقف قرب باب

الفصل تصفر بأصابعها تنظر للعرض الراقص أيضاً وجسدها

يتحرك معهما تضع حجابها على كتفها كحال أغلب الطالبات هناك

، وتوقف كل ذلك الهرج والصراخ فجأة مع سماع صوت صفير

مرتفع قادم من الخارج وركضن جميعهن للجلوس مكانهن بينما

أخرجت بثينة قطعة معدنية لامعة من جيبها وانحنت برأسها

خارج الباب ونفخت فيها بقوة وارتفع صوت الصفير عالياً قبل أن

تدخل راكضة وجلست مكانها وشدتها من يدها لتجلس أيضاً قائلة

" اجلسي أحدهم قادم "

فجلست بحركة واحدة وما هي إلا لحظات ودخلت سيدة بلباس

رسمي أسود اللون كانت أكبر سناً من المعلمات اللاتي رأتهن

اليوم وتمتلك نظرة عابسة مخيفة تمسك عصا قصيرة في يدها

ضربت بها على اللوح بجانبها قائلة بحدة

" من أين كان يخرج كل ذاك الاحتفال ؟ "

نظرن لبعضهن وكأنهن يسألن بصمت عن شيء لا يعلمنه قبل أن

تقف إحداهن قائلة

" نحن أيضاً سمعناه استاذة ويبدو من الفصل المجاور "

حركت تلك رأسها بوعيد واضح ويبدو أنه الجواب ذاته تسمعه

من كل فصل دخلته واستدارت وقالت وهي تضرب الباب

بعصاها مغادرة

" لا أريد أن أسمع صوتاً أو طردت الجميع "

وما أن غادرت حتى انفجرن ضاحكات بينما نظرات يمامة كانت

تتنقل بينهم باستغراب وعلا صوت رنين الجرس عالياً حينها

فتعالت صرخات الحماس وهن يغادرن المقاعد باتجاه باب الفصل

ووقفت مع وقوف بثينة وحملت حقيبتها وسرعان ما انضممن

صديقاتها لهما وخرجن معاً .

كانت الوحيدة الصامتة بينهن وسط الممرات المليئة بالطالبات من

مختلف الأعمار والجميع وجهته باب مبنى المدرسة المفتوح

وخرجت معهن حيث الساحة التي كانت ممتلئة أكثر من وقت

الصباح والجميع يتحرك ناحية الباب الرئيسي للمدرسة في

مجموعات وفي أفراد .. البعض يسرع ليغادر والبعض الآخر

مستمتع بالأحاديث والضحكات حتى كانت خطواتهم بالكاد تتحرك

من مكانها ، وكان وضعها مع بثينة وصديقاتها مشابهاً فهن في

حديث وضحك مستمرين حتى وصلن للمساحة الواسعة أمام باب

المدرسة ورأت سيارة أبان حينها تقف عند الرصيف الآخر بينما

كان هو ينظر لأوراق في يده وابتسمت بسعادة دون أن تعلم أي

سبب لها سوى بأنها ستعود للمنزل وترى المرأة التي باتت تأخذ

مكان والدتها حتى في قلبها .

وقفت مع وقوفهن بسبب التي شهقت قائلة ونظرها عند

بوابة المدرسة

" بثينة شقيقك الوسيم هنا ليأخذك ! "

ضحكت المعنية بالأمر وضربتها على كتفها قائلة

" وسيكون هنا مرتين كل يوم "

وضحكت هي وصديقتاها الأخريين عليها ما أن أمسكت قلبها
وقالت بصدمة

" كل يوم ! "

قالت بثينة تنظر لها بمكر

" أجل لكن ثمة خبر سيء أيضاً فهو تزوج "

وانفجرن ضاحكات على ملامحها المصدومة سوى من يمامة التي

نظرت للأسفل يدها تنقبض بقوة على الورقة فيها تخشى أن تقول

بثينة بأنها هي زوجته ولا تعلم لما أيضاً ! هي لا تملك كل هذه

الجرأة التي يمتلكنها في الحديث حتى أنها لم تشارك بكلمة واحدة

في أحاديثهن منذ غادرن فصلهن الدراسي وتشعر بالخجل من

تعليقاتهن إن علمن بالأمر ، ولم تعد تسمع شيئاً مما يقلن ولم

تشعر إلا بيد بثينة وهي تسحبها معها قائلة بضحكة لمن تركتهن

خلفها ينتظرن الحافلة لتنقلهن لبلدتهن

" عليك البحث عن غيره فقط "

ووقفت بها بجانب البوابة وقالت تنظر لعينيها

" لن تخبريه بأننا أخذنا النقود واشترينا بها من مطعم المدرسة
لنا جميعاً يمامة اتفقنا ؟ "

نظرت لها بعدم اقتناع وقالت

" أنا لا يمكنني الكذب "

قالت بضيق

" لا تكذبي ولا تقولي الحقيقة لا شيء في ذلك "


نظرت لعينيها بتفكير وقالت

" وكيف يكون هذا ! "

سحبتها معها نحو الخارج ما أن علا صوت منبه سيارته عالياً

وبتكرار مزعج ينظر نحوهما وقالت تعبر بها الرصيف

نزولا للطريق

" أُصمتي فقط حسناً "

وركضتا تعبران الطريق المزدوج نحو سيارته وركبت كل واحدة

منهما مكانها الذي جلست فيه صباحاً وما أن أغلقت بثينة بابها

قربت وجهها من مكان التكييف قربها واغمضت عينيها قائلة

بانتعاش بينما انطلقت السيارة مسرعة

" كم هذا رائع "

وساد الصمت المكان فبينما انشغلت هي بإنعاش بشرتها كانت

الجالسة خلفها تنظر للورقة المفتوحة في يدها بحزن ولم ترفع

رأسها ولا نظرها عنها بينما الجالس خلف المقود كان ينظر

للطريق بشرود كل تفكيره وحواسه مع وجهته ما أن يوصلهما

وهي حوران ومبنى المحكمة تحديداً ، وذاك ما فعله ما أن نزلتا

أمام باب المنزل فأدار سيارته بقوة وحركة كاملة من المقود بيديه

وغادر مسرعاً فبالكاد سيصل وقت بدء الجلسة .


بينما دخلتا هما وخطوات بثينة الراكضة تصعد العتبات تتبعها

الخطوات البطيئة ليمامة والتي ما أن دخلت ونظرت للناحية التي

جاءت منها جوزاء نحوهما تنظر لها تحديداً ومبتسمة بحب حتى

ملأت الدموع عينيها وركضت نحوها وحضنتها وتغلبت عليها

عبراتها الباكية فقالت التي مسحت على رأسها باستغراب

" ما بك بنيتي هل كان يومك سيئاً هكذا ! "

ونظرت ناحية بثينة التي حركت كتفيها بتنهيدة عميقة وقالت

" لم تستطع رفع يدها وحل المسائل التي سألت عنها معلمة
الرياضيات من منهج العام الماضي "


وتابعت بحزن تنظر لها لازالت تبكي في حضن والدتها

" لقد كتبت الحلول جميعها في ورقة وحتى المسائل الصعبة التي
لم يستطع حلها الأذكياء منا "

وهمست تشير بعينيها ليديها

" إنها في الورقة لديها "

أبعدتها جوزاء حينها وأخذت الورقة منها تنظر بحزن للمسائل

المحلولة بنظام وترتيب وعلمت بأنها ستكون كتبتها بعد سؤال

المعلمة بوقت ، نظرت لابنتها وقالت بضيق

" ولما لم تقولي أنتِ للمعلمة بأنها تعرف الحل ؟ "

حركت كتفيها بقلة حيلة وقالت

" خشيت أن توقفها وتتوتر وتبكي فستُلصق بها الطالبات حينها
الكثير من الألقاب التي لن تتخلص منها أبداً "


تنهدت بقلة حيلة ونظرت للتي لازالت تمسح دموعها الرافضة

للتوقف ومسحت على رأسها المغطى بحجابها الناعم

وقالت مبتسمة

" لا بأس يا يمامة لا تحزني صغيرتي سأذهب في الغد للتحدث
مع معلماتك جميعهن "


ابتعدت حينها بثينة تضع يدها على جبينها تحرك حدقتاها في

حركة دائرية مصدومة مما سمعت فهي لازالت تذكر الأيام التي

كانت تزور فيها والدتها مدرستها في اجتماع الأمهات وما تعلمه

من معلماتها عن أفعالها وهذا العام يبدو ستكون هناك كل يوم .

بينما من تركتها خلفها هناك كان كل اهتمامها منصباً على التي

أصبحت هي من تمسح لها دموعها وقالت

" يكفي يا يمامة هذا أمر طبيعي فأنتِ تذهبين للمدرسة لأول مرة
في حياتك وسيصبح الأمر أقل صعوبة تدريجياً وستكونين أفضل
طالبة في البلاد بأكملها "

وراقبتها بحزن وهي تومىء برأسها قبل أن تغادر باتجاه السلالم

بخطوات بطيئة تنظر للأرض تحتها وتنهدت في حيرة هل قرار

إرسالها هناك كان صائباً أم لا ؟

وإن كان تركها لتدرس في المنزل وتتقدم للإمتحانات فقط هو

الحل الأنسب ؟

لكن بقائها هنا سجينة المنزل قرار خاطئ ولن يصقل ذلك

شخصيتها ويساعدها على أن تكون المرأة التي تريد لها

أن تكون .


غادرت من مكانها باتجاه المطبخ هامسة بحزن

" ليحفظك الله ويرعاك يا صغيرتي "

*
*
*

ما أن توقفت سيارته قرب باب المنزل فتحت بابها ونزلت تنظر

عالياً للمنزل الذي ما توقعته هكذا قديم الطراز !

صحيح أن عراقته تعطيه هيبة وجمالاً يأسر النظر والقلب لكنها لم

تتوقع قط أن لا يتخذ منزلاً عصرياً بما أنه يملك المال وأن يتمسك

بالعيش في منزل يبدو أنه احتضن ولادة كل فرد من عائلتهم

ومنذ جد الجد الأول !.

نظرت نحوه ما أن أغلق بابه وتحرك من هناك وتبعته تصعد

العتبات العريضة خلفه ونظرها يتفحص الباب المفتوح والذي هي

واثقة بأنه إن سقط على أحدهم سيقتله مباشرة بسبب ثقله

الواضح ! وما أن كانت في الداخل انشغل نظرها عن رؤية أي

تفاصل أخرى تحدق باللذين خرجا من أحد الممرات حينها

وعلمت عن هوية أحدهما سريعاً بكل تأكيد بينما كانت تجهل

الآخر والأصغر سناً ، وقابلت نظرات دجى بشيء من البرود

ولأنها لم تنسى اتفاقها مع مطر والذي منعها من محاسبته على

ما كان يخفيه عنها لم تستطع معاتبته بالطريقة الملائمة لها

ورغم كل هذا قالت نيابة عن ذلك وببرود قاتل

" لن أسلم عليك بالتأكيد ولست عماً لي من الآن وصاعداً "


كانت تتوقع أي رد فعل منه أن يضحك كعادة شخصيته أن يقول

عناداً بأنه لا يريدها ابنة شقيق له أيضاً أو حتى أن يتجاهلها لكن

ما لم تتوقعه قَط هو تعليقة وهو يكتف ذراعيه لصدره قائلاً

ببرود مشابه

" لا بأس فلستِ أول مشروع فاشل لي "

حدقت فيه باستغراب قبل أن تحرك يدها متنهدة تدير حدقتيها بعدم

مبالاة وتمتمت

" أعانك الله يا مطر "

وما أن أدار المعني بكلامها رأسه نحوها حتى ابتسمت وأبعدت

نظرها عنه وتقدمت خطوة حتى كانت بجانبه ونظرها هذه المرة

يتفحص الشخص الواقف بجانب دجى ورفعت حاجبها بتفكير قبل

أن تلامس ذقنها بسبابتها وإبهامها قائلة بعينين ضيقتين

" أنت من هذه العائلة بالتأكيد لك ذات النظرة الغريبة "

رفع المعني بالأمر حاجباه وأمال حدقتاه للواقف بجانبه والذي قال

" هذا قاسم ابن شقيقتي نصيرة وزوج تيما "

وقال آخر كلماته ونظره ينتقل منها لمطر والذي كان ينظر له

بجمود تام فكان رد فعلها أن فتحت فمها باتساعه تُعبر عن

ذهولها ونظرت ناحية مطر تميل رأسها للأسفل ولازال فمها

مفتوحاً بدهشة مبالغة بشكل متعمد ونظرتها له تقول

( ماااا هذااا )

وبينما أمسك دجى ابتسامة باتت شفتيه تشتاق لها فعلاً نظر قاسم

للأسفل وأمال شفتيه بامتعاض وكأنه يكره ما يتوقعه جيداً وهو

التعليق المعتاد لكل من علم سابقاً بزواجها لكن ما قالته حينها

كان مختلفاً تماماً عن توقعاته وهي ترفع سبابتها نحوه بحركة

كسولة وقالت ونظرها كما كلماتها موجهة لمطر

" أنا ترمي بي عند ذاك الذي تجاوز الأربعين من عمره وخط
الشيب في شعره وتزوج ابنتك من هذا الوسيم ! "

وكان تعليقه الوحيد أن حدق فيها ببرود وظنت بأنه تجاهلها حين

نظر ناحية الواقفان على مبعدة قليلاً منهما أحدهما لازال يحاول

التحكم في ضحكته بسبب تعليقها والآخر يحدق فيها بشيء من

الاستغراب والصدمة التي اتسعت معها عيناه حين قال مطر يشير

برأسه ناحيته

" أتوافقين على الزواج منه مثلاً ؟ "

فخرجت من شفتيها شهقة قوية وقالت بضيق

" لقد قررت أن لا أتزوج أبداً بما أن خياري الوحيد
عربي مسلم "

حرك رأسه بيأس منها ونظر نحوهما مجدداً وقال بجمود

" ألم ترجع تيما ؟ "


رفع قاسم يده ونظر للساعة فيها قائلاً

" ستكون غادرت المدرسة من نصف ساعة أي أنها على وشك
الوصول الآن "

نظر له دجى وقال عاقداً حاجبيه

" ولهذا أنت هنا ! تحسب وقت وصولها بالدقة لتغادر فيه ؟ "

وكان رده نظرة مصدومة بينما علت الضحكة الأنثوية الرقيقة

والتي قالت صاحبتها تحرك سبابتها نحوه وقد غمزت له

" ستكون ذا طالع سيء بزواجك من ابنتهم "

فتنهد يحرك رأسه وهو يبعد نظره عنها ولسان حاله يقول

( ما هذا بحق الله ! )

وقطع كل ذاك صوت الدراجة النارية الذي اقترب منهم حتى بات

واضحاً وما هي إلا لحظات ووصلهم الصوت الأنثوي الرقيق قريباً

من الباب

" سأنتظرك غداً .. وداعاً وبلغ الجميع سلامي "

ودخلت وعلى ملامحها الجميلة الابتسامة التي ودعت بها شقيقها

وقد شعت مع تورد وجنتيها بسبب حرارة الشمس الخفيفة قبل أن

تذبل وتختفي تدريجياً وهي تلتقي بأول نظرات شدتها كانت

للواقف بجانب جدها وهو قاسم وتذكرت نظرته صباحاً بينما

تنقلت نظراته الآن على حجابها فأبعدت نظرها كما وجهها عنه ما

أن نظر لعينيها وانتبهت حينها فقط للتي كانت تقف بجانب والدها

وقالت بدهشة وسعادة

" عمتي غيسانة !! "

وركضت نحوها مسرعة وتبادلت تلك الحضن معها قائلة ضاحكة

" اشتقت لك أيتها الفاتنة الصغيرة "

وأبعدتها عنها سريعاً وقالت وقد تبدلت ملامحها للإشمئزاز وهي

تنظر لحجابها

" ما هذا ! ما هذه الخيمة البشعة "

مدت شفتيها بعبوس قبل أن تتمتم بكلمات باردة

" كل مسلمة لا تريد أن يرى الرجال جسدها كما شعرها "

رفعت رأسها قائلة بتذمر

" آه يا إلهي ابنة والدك حقاً "

ورمقت بطرف عينيها المعني بالأمر والذي كان ينظر بعيداً عن

مكانهما وكأنه ينتظر مرور الدقائق بفارغ الصبر ليخرج بها من

هنا ويرميها بعيداً لكنها لم تأتي لأجل هذا ولن تغادر قبل أن يحدث

ما تريد وما يجب أن يكون ورغماً عنه ، نظرت للواقفة

أمامها وقالت

" أنا هنا لرؤيتك بالتأكيد لكن ليس هذا السبب الوحيد لقدومي
بل لأنه ثمة مكان علينا الذهاب له معاً والآن فوراً "


ونظرت خلفها فوراً ولقاسم تحديداً والذي كما توقعت كانت

نظراته توحي بأنه سيقفز عليها ويقتلها وكان سيعلق بالتأكيد

فقالت تشير بسبابتها نحوه

" أنت تصمت "

وتجاهلت نظراته الغاضبة ونظرت نحو مطر أولاً والذي كانت

نظرته كلها تهديد واضح وكأنه خمن أو يخشى أن تصدق ظنونه

فابتسمت له وقالت

" عليك أن تعلم بأني أحبك كثيراً يا شقيقي وممتنة لك بقدر
ما أنا آسفة "

وابتسمت له بحب وتجاهلت نظراته لها ونظرت للواقفة أمامها

تنقل نظرها بينهما باستغراب وقالت مسرعة كي لا يخنقها بيديه

حتى لا تكمل كلامها

" موعد المحاكمة اليوم يا تيما وعلينا أن نكون هناك "

" غيساناااااا "

نظر الجميع رغم صدمتهم بالخبر نحوه ما أن علت صرخته

الغاضبة تلك والتي حمد الله الثلاثة الباقين أنها لم تكن تخصهم

خاصة مع النظرات المشتعلة في عينيه وتشنج عضلات وجهه

بسبب الغضب المخيف المكبوت لكنها عكسهم تماماً وكما كانت

دائماً تجاهلته مجدداً ونظرت لتيما والتي نظرت لها بدورها نظرة

ضياع وكأنها تنتظر أن تتأكد مما سمعت ومنها تحديداً فحركت

رأسها تؤكد لها ما قالت فامتلأت العينان الواسعة والاحداق

الزرقاء بالدموع وهمست شفتاها بارتجاف

" اليوم ؟ "

أمسكت بذراعيها وقالت بجدية تنظر لعينيها الدامعة

" أجل وعلينا أن نكون هناك فثمة ما عليا قوله وعليك سماعه "

ونظرت سريعاً ناحية الذي كانت تجزم بأنه سيقفز عليها ويغرس

أنيابه في لحمها كنمر بري ثائر وقالت وإن كانت تدعي

القوة لحظتها

" لن تعترض يا مطر فالقرار لكلتينا "


تركتها نظراته التي صوبها كرصاصة قاتلة ناحية ابنته وقال بأمر

حازم وصوت قوي

" تيما اذهبي لغرفتك "

حدقت فيه العينان الدامعة تنطق انكساراً وحزناً بينما لم تتغير

نظرته تلك لها فأخفضت نظرتها ونكست رأسها وهي تستدير

بجسدها ببطء تشعر بأنها تدعس قلبها في كل حركة .

" عودي يا تيما "

توقفت خطواتها فجأة واستدار جسدها ناحيتهم مجدداً وعمّ المكان

صمت مخيف تلا صرخة دجى الآمرة تلك والذي قال بجدية عاقداً

حاجبيه ينظر لها متجاهلاً الذي يعلم نظرته له جيداً دون أن يكلف

نفسه عناء رؤيتها ولا التفكير فيها

" قولي ما لديك ولا تخشي أحداً "

زمت شفتاها المرتجفة ونظرت له من بين دموعها ثم للواقف

بجانبه هناك والذي كان يشيح بوجهه جانباً يقبض يداه بقوة

وتعلم بأنه يرفض التدخل تجنباً لغضبها فيما بعد وجيداً فعل في

نظرها ، قال دجى بلهجة قوية يسرق نظرها مجدداً

" لن يحرمك أحد حرية قول ما تريدين على الأقل "

وختم عبارته تلك ينظر لمطر والمحدق فيه بغضب نظرة يفهمها

كلاهما وكأنه يذكره بحديثهما البارحة بل وبكلامه تحديداً وبأن

القرار لها حين تكون في موضع اختيار فأبعد نظره منه لها

ولعينيها التي انسابت منها أول دمعة تشعر بها خرجت تسحب

روحها معها .. هي التي كرهت دائماً أن تكون موضع اختيار بين

اثنين من عائلتها ومن رفضت دائماً أن تشعر والدتها بأنها في

طرفه ضدها وهذا ما تكره أن يفهمه والدها الآن وبأنها في صفها

ضده وكان عليها أن تقول ما لديها هذا ما فهمته من نظرته رغم

قسوتها .

تحبه وفخورة به كما تحب التي حُرمت منها سنوات طفولتها

تراها في أحلامها كل ليلة ويئست فعلاً من تحقيق الحلم الذي

يجمعهم معاً كعائلة لطالما تمنتها وأرادتها لكن ليس أن تُحرم من

رؤية أحدهما مجدداً وللأبد وهذا ما هي موقنة منه .

تحركت شفتاها ببطء تنظر لعينيه بحزن وهمست بصوت مرتجف

" أريد أن أذهب "

وابتلعت غصتها وعَبرتها بل وحرقتها مع ريقها الجاف تنظر

بعينين دامعة لعينيه التي أسدل جفنيه فوقها يبعدها عنها وخشيت

أن يكون ما ترفض حدوثه تحقق وفهم بأنها تختارها عليه فقالت

بعبرة مكتومة

" أعلم بأنها لن تسمح أن أراها بعد اليوم فاتركني أتحدث معها

عن هذا فقط أبي أرجوك "


وامتلأت عيناها بالدموع مجدداً هامسة برجاء باكي

" هي غاضبة مني أريد التحدث معها فقط ولأخبرها .... "

وتوقفت كلماتها كما فارقت دمعة جديدة رموشها الطويلة حين

صرخ بغضب

" لو كانت تريدك وتحبك ما تركتك وهذا المنزل لها كما الجميع ..
هي لم تحترم أحداً ولا والدها لأنها في غنى عن الجميع هنا "

حركت رأسها برفض والألم والحزن يرتسمان في عينيها الدامعة

وما أن كانت ستتحدث معترضة سبقها قائلاً بأمر غاضب

يرفع سبابته

" أصمتي يا تيما وتوقفي عن الدفاع عنها "

ورمى بسبابته جانباً متابعاً بغضب أشد

" هي رفضت موت ابن شراع الذي تسبب في دمار حياتها مراراً
بينما لا تملك الشعور ذاته ناحيتكما ، غادرت مع ابن خالتها تاركة
حتى من اعتبروها شقيقة لهم ومنذ ولادتها ولم يغيرهم معرفة
حقيقة أنها لا تنتمي لهم "

وعاد وأشار بها للبعيد متابعاً بذات الصراخ الغاضب

" عبرت حدود مليئة بالجنود وقاطعي الطريق دون علمهم
واستقبلوها بكل حب ولم يحاسبها أحد منهم على فعلتها تلك ،
كانت السبب في خلاف طويل بين الابن الأكبر ووالده وأشقائه ولم
يلقوا باللوم عليها يوماً بل كان لومهم بأكمله عليه هو ، عاشت
بينهم طفلة مدللة وامرأة سيدة على نفسها بل وعليهم أيضاً وماذا
كان المقابل ؟ "

وصرخ بالحقيقة التي كانت أقسى من شرحه لها

" نحن ولسنا العائلة التي تستحق حبها واحترامها فماذا عنهم
هم ؟ إنها لا تتوقف عن ممارسة هوايتها المحببة وهي كسر
الرجال لتبث نفسها "

" وما الذي وجدته لديك ولدى الجميع ؟ "

كان صوت دجى الصارخ ما قاطع كل ذلك السيل الغاضب لعبارات

من كان الصمت التام تعليقه لأيام على ما حدث بل وأضاف

صارخاً بقوة وسبابته تشير له

" بل ما الذي فعلته لكليهما سوى الحزن والخيبات يا مطر "

صرخت تيما تنظر له بعينين دامعة

" لا جدي "

وما أن كانت ستتابع حديثها ويعلم جيداً ما سيكون قال بقسوة

" توقفي عن هذا يا تيما فأنتِ أكبر مثال على ما أقول "

وعاد لهجومه الغاضب نحو من لم يكتفي منه بعد كما يبدو

" من الذي وجدته غسق منهم ومنا حين كسرتها يا مطر
أجبني ؟ "

وتابع من فوره وبغضب أشد مهدداً

" لن أسمح لك بإيصال حفيدتي لذات المصير وإن أخذتهما
وسافرت بعيداً أحببت ذلك أم كرهت "

تحدث المعني بالأمر أخيراً وقال بجمود لا يشبه اشتعال مهاجمه

" أهذا ما لديك لتقوله ؟ "

لكن رده عليه كان صارخاً وبقوة يشير بسبابته في منحنى بينه

وبين البعيد

" نعم أو جميعنا سنلجأ للقانون الذي تحميه "

كانت كلمات قاسية صدمت الجميع رغم صمتهم سوى من التي لم

يستطع قلبها تقبل ذلك وقالت باكية تنظر له برجاء كسير

" لا جدي أرجوك "

كان المكان يعج بالضجيج رغم صمت أغلب الموجودين فيه فبينما

كان تعليق مطر الصمت التام نظراته لا تفارق العينين المشتعلة

تقذف شفتاه كل تلك الحمم المسمومة نحوه وكأنه يرد له ما قال

عن ابنته الند بالند كان صمت قاسم مختلفاً يشعر بالإحتراق في

جوفه ويجبر نفسه على الصمت بينما كانت نظرات غيسانة

ملتصقة بالواقف قربها تحديداً ورغم ذهولها كانت تنتظر بفضول

وقد عادت لها تلك الأفكار والتساؤلات مجدداً عن التضحيات

والتنازلات والهبات دون مقابل وماذا يكون الثمن غالباً ؟!

وكانت ترى الجواب أمامها ينطق في صمت .. الصمت الذي قطعه

دجى مجدداً صارخاً بحفيدته هذه المرة دون شفقة لدموعها

ورجاءاتها يذكرها بما قال تحديداً عن ابنته

" توقفي عن الدفاع عنه أيضاً يا تيما وقولي ما لديك وواجهيه
بحقيقة ما تريدين قوله دون مراعاة ولا خوف "

وكان ذاك ما جعل المعني بالأمر يشتعل غضباً وصرخ بقوة يشير

له بسبابته

" تذكر هذا اليوم جيداً عمي وما قلت فيه "

وتحركت خطواته نحو الباب قائلاً بحدة

" سيغادر مطر شاهين حياتكم إذاً لعلها تتحول للأفضل
من دونه "

" لا أبي "

كان صراخ تيما الباكي أيضاً ما كسر الصمت الذي خلفته كلماتهما

الغاضبة وخرجت خلفه باكية وبخطوات راكضة لم تهتم ولا

لنداءات جدها وكلماته الغاضبة تنزل عتبات الباب التي لا تنظر

لها أساساً نظرها على الذي بالكاد تراه من خلف دموعها وهو

يفتح باب سيارته ويركبها ومن تعلم جيداً بأنه إن غادر من هنا

لن يعود وبأنها ستخسره أيضاً وقد يكون للأبد .. بل وأي طعنة

قاسية سيحملها في قلبه وهو يرحل من هنا .

ركضت ناحيته كركضها الطويل المؤلم لأعوام نحو أحلام طفولتها

التي لم تتركها يوماً كما لم تنلها حيث المستقبل الذي انتظرته

بشوق تعد الأيام لتصل إليه ولم تنله حتى الآن ، وقفت أمام

سيارته التي كان يركبها ورفعت يديها جانباً دموعها تسقي

وجنتيها وكأنها تقول له

( عليك قتلي قبل أن تفعلها وتتركني )

كانت دموعها تنزل دون توقف وشهقاتها ينتفض معها صدرها كل

حين كتلك الطفلة التي عرفها قبل سنوات ووجد نفسه مجبراً على

رعايتها وحيداً .. الطفلة التي لم تفارقها حتى الآن لازالت تجلس

عند أحد زوايا قلبها تطالبها باكية بكل ما حلمتا به سوياً وبكل ما

بات مستحيلاً الآن فقد دمر الكبرياء أحلامهما البريئة تلك ومزقته

التضحيات دون أي رأفة بهما وبأمنياتهما الصغيرة .

انفتح باب السيارة ونزل منها واقفاً على استقامته وحرمتها

الدموع المتكدسة في عينيها تخرج دون توقف من رؤية تلك

النظرة في عينيه كما حُرمت لأعوام طويلة منها لا تراها بالرغم

من أنها كانت تحضنها كل ليلة حين كان يدخل غرفتها نائمة

ويجلس عند رأسها تلامس يده شعرها الناعم ينظر لما تركت له

محنات حياته وثمن الحلم الذي سلبه من نفسه ليهبه لشعب بلاد

كاملة تذبحه كلما نظر لها ليوقن في كل مرة بأن الثمن كان أعظم

مما قدمه ودفعه .

أغمض عينيه مبتسماً بألم ما أن ركضت نحوه وارتمت في حضنه

الذي استقبلها من فوره تشتد ذراعه حول جسدها يضمها لصدره

بقوة حيث انسكبت دموعها وعبراتها وقالت باكية

" يمكنني العيش من دون أي رجل في عالمي إلا أنت أبي "

واشتد نحيبها وهي تتابع دون أن تبعد ملامحها عن صدره

العريض ولا أن تنظر له

" أحبك أبي لا تتركني أرجوك لأني من دونك بدون ظهر
أستند له "

اشتدت ذراعاه حولها أكثر وأشاح بوجهه ونظراته الحزينة جانباً

وهمس متعوذاً من الشيطان أصابع يمناه تنقبض على قماش

حجابها بقوة يضم بكائها وكلماتها التي لا تتوقف عن ترجيه للعذل

عن قرار تعلم بأنه إن اتخذه فلن يتراجع عنه مهما طال الوقت

ومهما حدث .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:41 PM   المشاركة رقم: 1588
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

أغلق الملف الذي بات يحفظ أوراقه عن ظهر قلب وكل سطر فيه

وبالترتيب من كثرة ما قرأها الأيام التي كان فيها سجين منزل

وزير العدل وها قد حان اليوم الموعود والذي لم يكن يتخيل أن

يشعر فيه بالتوتر هكذا ! مشاعر نسيها كمحامٍ ومنذ أعوام طويلة

حين اعتاد أن يدخل المحاكم ويترافع عن موكليه حتى أنه قام

بتدريب عدة دفعات في الجامعة لطلبة لم يدخلوا المحاكم من قبل

يشعر هو بهذا الشعور اليوم ! حتى أن الطرف الآخر في القضية

لن يكون موجوداً فلما يشعر بهذا التوتر ؟! أهي الرهبة منه حتى

في غيابه فقط لأن الأمر يخصه ؟ أم أنه الشعور المهلك لكل محامٍ

وهو الخوف من الفشل ؟!


رفع نظره للنافذة الطويلة أمامه وللسماء المطلة عليها حيث

محكمة العاصمة الكبرى والمكتب الذي وصلوه قبل ساعة تقريبا

وقبل أن ينفصل عنهم السيد عقبة ويغادر المكان قاصداً مكتب

رئيس المحكمة هنا وتركهما لصمت يرى بأنه السبب الرئيسي

في كل هذا التوتر .

نظر وللمرة الأولى منذ تواجدهما هنا للواقفة أمام النافذة البعيدة

تتكئ بكتفها على إطارها الخشبي بينما تهيم نظراتها الشاردة

للخارج تكتف ذراعيها لصدرها من يراها يظن بأنها تمثال شمعي

لامرأة جميلة حزينة النظرات لولا الشيء الوحيد الذي كان

يربطها بعالم الأحياء وهو الحركة الخفيفة لشفتيها وهما تشتدان

من حين لآخر قريب ليعبر عن مشاعر أخرى مختلفة في داخلها

تحاول للحظة السيطرة عليها بجمود ملامحها وشرود نظراتها ولم

يتمنى قط أن يعلم ما تفكر فيه الآن تحديداً .


أبعد نظره عنها وابتسم بحزن وشرود وهو يتذكر تلك السنوات

البعيدة .. الشوارع الترابية السماء الغائمة الفتية الراكضون

والطفلة الفاتنة ذات الضحكة الخلابة والشعر الشديد السواد يحف

كتفيها شديد النعومة واللمعان .. عينان كالبحر اتساعاً وكالليل

سواداً وأحداق كبيرة لامعة وبشرة ناعمة بلون الثلج وملمس

كالحرير .. كانت كالبدر كالملاك مركز اهتمام الجميع في لعبهم

ذاك وكان يشعر بقلبه يرقص كالحمامة التي تحررت من سجنها

فجأة حين كانت تختار الجلوس فوق كتفيه وقت ركضهم لأنه كان

أطول من وثاب ومن جبران حيث كان رماح ورعد أصغر منهم

سناً وكان يتلقى الضربات الموجعة المتعمدة منهما ويتحملها بل

ويضحك لا يفكر سوى بأنه محور اختياراتها ذراعاها الصغيرين

يحيطان برأسه وصوت ضحكاتها يشعر بأنه يسقط في قلبه

ويجعله يطرب فرحاً ، كما لم ينسى ذاك اليوم الذي عاد فيه

للمنزل بعد أعوام الثانوية والاشهر العسكرية الإجبارية حينها

كقانون ثابت لدخوله الجامعة في ذاك الوقت ووجدها هناك مع

شقيقته جليلة .. كانت الطفلة الصغيرة التي منعها شراع من

اللعب معهم منذ بلغت العاشرة من عمرها قد أصبحت شابة فاتنة

بل لا يجد أي كلمة لوصفها كما وصف شعوره حينها وهي تحييه

بيدها من بعيد عند باب غرفة شقيقاته وتجمدت عيناه عليها دون

استئذان منه حتى أنه لم يعد يشعر ولا يهتم بأي أحد عداها

وليكتشف بأن الحروب الضارية بين الفتية الثلاث سابقاً لا مجال

لمنعها من الظهور مجدداً وهم شبان فكانت محور مشاكله مع

شقيقه من والدته وثاب كما شقيقها الأكبر جبران والذي علم ومنذ

صغره بأنها ليست شقيقتهم واحتفظ بذلك في نفسه لم
يعرف به أحد .

ويالا سخرية الأقدار فالمرأة التي كانت محور شجاراتهم

وتنافسهم لأعوام ومنذ كانوا فتية صغار سلبها منهم رجل يعيش

في القطر الآخر من البلاد ليسرقها من بين أيديهم بكل سهولة لا

شجارات لا انتظار ولا نظر وحرمان ! ولا يمكنه وصف شعوره

في اليوم الذي علم فيه بزواجه منها ، بل والأكثر سخرية وما

جعلهم مدعاة للشفقة بالفعل اكتشافهم بأنها زوجة له منذ كانت

طفلة يتسابقون على حمل جسدها النحيل فوق أكتافهم يحلمون

بما هو حقيقة لغيرهم .

والأسوأ من كل ذلك أنه ما أن علم بخبر طلاقها وعودتها لصنوان

ترك جامعته وركض يسابق منافسيه مجدداً كالأبله واختار أن

يتحدث معها هي نفسها هذه المرة وفي الوقت الذي كانت تحتفل

فيه البلاد بتوحيدها وتنصيب شراع صنوان رئيساً لها وفترة

ظهور مملكة النساء للعلن ولا يمكنه وصف ذاك الشعور حين

قابلت طلبه بما هو أشد قسوة من الرفض وقد اختارت مواجهته

بالحقيقة التي نطقت بها عيناها قبل كلماتها

( أنا لم أعد متاحة لأي رجل يا قائد .. أنا امرأة بلا قلب يمكن
أن تهبه لأي كان )

ولم ينتهي الأمر عند ذلك بل واجهته بالحقيقة الأشد صعوبة

وقسوة على كليهما حينها لتقطع أمله ونهائياً وهي تتابع ذبح

نفسها قبله

( لا أُجزم بأنه بإمكاني تجاوز تلك الأشهر القلية يوماً ما )

ولمعت عيناها بحزن حينها وقرأ فيها حبها الشديد لذاك الرجل ..

الحب الذي لا يمكنها وهبه لسواه بل ورأى في تلك النظرة مالم

يراه فيها طوال سنوات معرفته لها وهو جرح القلب الغائر وألم

الحب الذي لا يموت وعلم حينها بأن انتظارها أو تعليق الآمال

عليها ليس سوى تضييع للوقت كما خوض المنافسات

والشجارات لأجلها غباء لا طائل منه فودعها بعينين حزينة وهي

تتركه مبتعدة قبل أن توجه له آخر عباراتها ونهاية أمله الكسير

بها وتركت لكلماتها حرية تمزيق قلبه ودون رحمة

( لو كان ذاك بإمكاني ما اخترت غيرك يا قائد لكن القلوب حمقاء
لا أحد يمكنه التحكم بها )

أجل معها حق القلوب حمقاء تعلم جيداً الطريق الخاطئ
وتقودك له !
تعرف مسبقاً مصيرك المحتم وتغامر بك !

وعاد وسخر منهم ذاك الرجل مجدداً وأشعل ناراً بين من يجهلون

بأن من يتسابقون مجدداً للفوز بها لم يحررها منه أبداً ولم يتركها

لهم ولا لأي أحد بعده ليس فقط لأنه وفي الخفاء ثمة اتفاق مع

والدها يمنع زواجها بل ولأنها كانت زوجة له طوال الوقت ،

فانسحب بصمت حينها وأشغل نفسه ببناء المحامي الناجح

والرجل القوي وأقنع قلبه قبل عقله بأنها شيء لم ولن يكون له

بسبب اعترافها ذاك والذي خصته به لوحده وكأنها ترفض أن

يتعلق هو تحديداً بالأمل الكاذب ، وبالرغم من كل ذلك رفض أن

يخوض المغامرة مع امرأة أخرى كي لا يكتشف لاحقاً بأنه لا

يستطيع وهبها مشاعراً تنتظرها وتتمناها منه بينما سيقف هو

بذهول أمام قلبه الذي واجهه وبكل واقعية بحقيقة أنه لا يمكنه أن

يُحب أي امرأة مجدداً ، فعاش وحيداً كل تلك الأعوام يُفضل أن

يكون كذلك على أن يظلم امرأة ما معه وبسببه ويكون مصيره

كمصير شقيقه وثاب الذي تزوج لثلاث مرات انتهت بالطلاق

جميعها أو كجبران الذي خسر الجميع من حوله بسبب حربه

الطويل من أجلها .

وحتى في هذه اللحظات ورغم ما يحدث وبقرار منها لازال يرى

ما تخفيه خلف ذاك الجمود في عينيها الجميلتين وبأنها لن تجتاز

مشاعرها ناحية الرجل الذي جعلها تغفر له ما أن عاد لواقعها

مجدداً وتتخطى وحدتها وألمها وكبرياؤها لتركه لها كل تلك

الأعوام ، كما أنه من الحمق أن يفكر أي رجل في هذه البلاد

كاملة أن يضع نفسه نداً له فلا أحد يشبهه لا كان ولن يكون ..

يعترف بهذا دون جُبن أو تحايل ولا خداع لنفسه قبل غيره .

نظر ناحيتها ما أن تحركت من مكانها ولأول مرة منذ وجودهما

هنا ، وما أن انفتح باب المكتب علم سبب حركتها تلك وبأنه لم

ينتبه مع دوامة أفكاره العميقة بأن مقبضه تحرك وأن قفله أصدر

صوتاً واضحاً ودخل السيد عقبة حينها وأغلق الباب خلفه ونقل

نظره بينهما قائلاً

" القاعة الخاصة جاهزة ومحامي الطرف الآخر وصل لحوران "

قبل أن يستقر نظره عليها تحديداً وقال بهدوء حذر

" لازال بالإمكان إيقاف كل هذا بكلمة واحدة منك يا غسق "

لكنها واجهت كل ذلك بثبات وإن كان يصعب قراءة أي شيء في

نظراتها أو كلماتها حين قالت

" لم أفعل كل هذا وخسرت من خسرت لأتراجع "


فأنزل قائد نظره كما رأسه بينما تنهد الواقف أمامها قبل أن

يتحرك من مكانه قائلاً

" إذاً اتبعاني لنصل لها مباشرة دون لفت أي انتباه "

وغادر تاركاً الباب مفتوحاً بعده وكانت هي أول اللاحقين به تبعها

الذي كان ينتظر بفارغ الصبر أن ينتهي هذا اليوم العصيب يتنمى

من الله في قرارة نفسه أن لا يكون أطول من توقعاتهم .


*
*
*

أخرجت مفاتيح باب المنزل من حقيبتها وفتحته تتمنى أن لا تجد

أحداً في انتظارها بالرغم من أن اتصال والدتها قبل مغادرتها من

هناك يعني أنها ستكون في استقبالها بكل تأكيد وينتهي اليوم

الرائع بكارثة أخرى سبهها ساندرين فلم تسمح لها هي ووالدتها

بالمغادرة كلما حاولت الوقوف وكان عليها تناول العشاء والحلوى

وشرب الشاي وتناول الفاكهة حتى اتصلت والدتها تذكرها بأن لا

تتأخر أكثر من ذلك ، وعلى الرغم من أنها ممتنة لهم لإشغالها

بعيداً عن وحدتها في غرفتها والتفكير والحزن لتكون هنا منتصف

الليل منهكة تحتاج لأن تنام فقط إلا أنها كانت متعبة وبحاجة لأن

تستحم فهي من المطار لمقر البحرية لمنزل عائلة ساندرين

مباشرة .

دست مفتاحها في حقيبتها وأغلقت الباب بهدوء وما أن استدارت

بكامل جسدها وجدت من كانت تتوقع رؤيتها جالسة على الأريكة

وقد وقفت من فورها والغريب في الأمر أنها كانت تبتسم لها

محطمة جميع توقعاتها ! فأقل ما كانت تتوقعه وفي أفضل الحالات

عتاب قصير لتذكرها بأنه عليها أن تعتذر مبكراً في المستقبل

مهما كانت مُحرجة منهم !.


انحنت لحذائها ونزعته ولبست الآخر المخصص لها من أجل

المنزل وتوجهت نحوها وقبلت وجنتها هامسة بتعب

" مساء الخير أمي "

وابتعدت عنها لكن تلك لم تتركها بل أمسكت بذراعيها وقالت

بحنان ونظرة محبة

" أسعدك الله بنيتي في كل وقت ومكان "

حاولت أن تبتسم ابتسامة تعبر عن امتنانها لما قالت لكن

ابتسامتها كانت متشنجة مرتبكة ولم تستطع منع الاستغراب من

السيطرة على نظرتها وهي تحاول قراءة العينان المقابلة لها

والنظرة فيهما ! لما تتمنى لها السعادة وتنظر لها هكذا وكأنها

تودعها أو تريد تخفيف فاجعة ما عنها ؟!

لكنها كانت ستكون تبكي الآن وليس تبتسم هكذا إن كان ثمة

مكروه أصاب والدها أو شقيقها !

وانتفض قلبها بقوة حين فكرت بأنه قد يكون سبقها خبر تركه لها

باتصال منه أو أنه جاء بنفسه وأخبر والديها ولهذا هي تحاول

إيصال رسالة لها مفادها أنها ذاتها في قلوبهم لم تتغير محبتهم

لها ولتستقبل الخبر بأقل قدر من الصدمة ! تعالت ضربات قلبها

حتى بلغت حنجرتها وابتلعت ريقها بصعوبة تنظر لشفتي والدتها

التي تحركت أخيراً ورحمتها وقد أبعدت يديها عنها قائلة

بابتسامة لم تتوقعها

" ثمة زائر ينتظر في غرفتك "

لو كانت ترى وجهها في المرآة حينها لدخلت نوبة ضحك

هستيري على شكلها الذي ستراه فيها وهي تفتح فمها ببلاهة ،

وكان لها ذاك فعلاً فقد ضحكت والدتها قائلة

" إنه هنا منذ وقت العشاء وينتظر في غرفتك من أكثر
من ساعتين "

" لماذا ؟! "

كان ذاك فقط ما استطاعت أن تهمس به ولا تعلم عن ماذا كانت

تسأل تحديداً ! ولا يبدو لها أن والدتها علمت عمّا حدث اليوم ولا

أنه أخبرهم بقرار انفصاله عنها فهل يتركها مفاجأة يخصها

بها لوحدها ؟

قالت التي مسحت على ذراعها مبتسمة

" آسفة بنيتي مؤكد منزعجة من رؤيته لك مجدداً بثياب عملك
لكننا لم نكن نعلم بمجيئه أبداً "

حركت رأسها بطريقة آلية متمتمه

" لا بأس أمي "

وابتسمت بقهر فهو رآها هكذا منذ منتصف النهار وانتهى ،

انتبهت من شرودها للتي دفعتها من ذراعها برفق قائلة بابتسامة

" هيا كنانة ما بك واقفة هكذا فهو ينتظر منذ وقت طويل
ويريد التحدث معك "

تحركت من مكانها وسارت بخطوات مترددة لازالت تستغرب

تصرف والدتها كما مجيئه وبقاؤه لهذا الوقت ليتحدث معها !

فهل حان الوقت الحقيقي للمواجهة وقول الحقيقة وتلقي

التوبيخ والعقاب ؟!

وقفت أمام باب الغرفة ونظرت جانباً حيث الممر الذي لا وجود

لأحد فيه غيرها قبل أن تعود بنظرها للخشب البني المحروق

أمامها وتنفست بعمق تشجع نفسها وأمسكت مقبضه وأدارته

ببطء حتى سمعت صوت طقطقة انفتاحه وحينها انتهى وقت

التردد فهي أعلنت عن وجودها ويكفيها تصرفاً كالحمقاء فكل ما

عليها فعله هو قول الحقيقة تَقبلها أم لم يفعل تلك ليست

مشكلتها .. ستبكي وتتعذب وتكتئب لأيام مهما كانت طويلة

ثم تعود كما كانت وتجتاز كل هذا وانتهى كل شيء .

دفعت الباب نحو الداخل ما أن انتهت دُفعة تشجيعها لنفسها والتي

تلاشت للأسف وكالسراب ما أن وقع نظرها على الذي كان

يجلس عند طرف سريرها المواجه للمكتبة الصغيرة التي تحتفظ

فيها بكتبها المفضلة والضرورية لعملها إن كان الآن أو حين

كانت تعمل كمضيفة سابقاً يمسك كتاباً منهم في يده ومنشغل به

قبل أن ينتبه لها وينظر نحوها .


كان ما يزال بلباس الطيران الخاص به ويبدو أنه من مقر البحرية

جاء إلى هنا مباشرة ليكتشف أن رحلة تسكعها لم تنتهي بعد .

أنزلت نظرها ما أن أطال التحديق في عينيها ونظرت ليديها التي

أمسكتها ببعضها في توتر وألقت السلام بهمس لم تصدق بأنه

وصله حتى سمعته يرد عليها وهو يضع الكتاب من يده ، وندبت

حظها تشعر بالتعاسة فها هو يجعل الأمر أكثر صعوبة عليها

مستقبلاً بتركه لذكراه حتى في الغرفة التي تنام فيها .

رفعت رأسها ونظرت له ما أن وقف وتحرك نحوها واجتازها

وأغلق الباب أولاً قبل أن تلتف أصابعه حول كفها لتشعرها

بقشعريرة تسري في جسدها بأكمله وهو يسير بها نحو الداخل

أكثر وترك يدها ما أن كانا قرب سريرها ووقف أمامها ونظر

لعينيها مباشرة وشعرت بالثواني القليلة تمتد لأعوام طويلة وهي

تنتظر أن تتحرك شفتاه المحفوفة بشارب ولحية خفيفتان

ورحمتها أخيراً وبالكاد استطاعت سماع صوته المنخفض الرزين

مع صوت طبول قلبها التي كانت تضرب في أذنيها

" سنغادر من هنا غداً يا كنانة "

اتسعت عيناها بدهشة ما أن استوعبت ما قال فهو لم يقل شيئاً

من السيناريوهات العديدة التي قامت مخيلتها بتأليفها وصدقتها

هي وكأنها حقيقة !

لكن ما قاله أيضاً لا يمكن استيعابه بسهولة فكان أول ما جادت

به شفتاها هو همس خافت خرج معه صوتها بصعوبة

" نغادر إلى أين ؟! "

فهي فعلياً لم تستطع فهم ما يعني ولما وأين يغادران وفي هذا

الوقت القياسي وكأنهما هاربان ! وازدادت دهشتها ما أن حرك

يده جانباً قائلاً بنفاذ صبر

" لموطنك ومنزلي بالتأكيد أين سيكون "

" لا "


قالتها سريعاً مندفعة وتداركت نفسها ما أن رأت الغضب يبحث

عن طريقه في عينيه وملامحه وقالت بتوتر

" أعني لما الإستعجال هكذا فأنا أ.... "

ولم يتركها تنهي حديثها وهو يمسكها من ذراعها ويسحبها نحو

النافذة وأبعد الستارة قليلاً وقال

" أنظري لطرف المبنى الأرجواني المغطى بالقرميد هناك "

انصاعت له وإن كانت لا تفهم شيئاً ونظرت من خلال الشق

الضيق بين قماش الستار السميك وطرف النافذة المعدني تتمنى

فقط أن يبتعد عنها قليلاً لتعرف ماذا ترى وأين فوجوده بقربها

يوترها بشدة فكيف أن يكون ظهرها يكاد يلتصق بصدره بينما

تحيطها ذراعه لإمساكه بطرف الستارة بجانب وجهها تشعر

برئتيها تشبعت بعطره الفاخر حد الثمل تكاد تسقط في حضنه

طواعية لولا سندت نفسها بيدها على الجدار المحاذي للنافذة

تماماً ، وكتمت أنفاسها ما أن شعرت بحرارة أنفاسه قرب أذنها

وجانب وجهها وهو يهمس

" هناك بجانب المبنى تماماً عند جذع الشجرة "

تنفست بعمق ونهرت نفسها عن كل هذا الحمق فما يتحدث عنه

يبدو مهماً ، شهقت بصدمة ما أن رأت ما كان يتحدث عنه وأنزل

الستار حينها فالتفتت إليه وقالت هامسة بصدمة وكأنه يسمعهما

من كل تلك المسافة

" من ذاك ! "

دس يديه في جيبي بنطلونه وحرك كتفه قائلاً

" شخص وضع لمراقبتك بالتأكيد "

اتسعت عيناها بذهول وقالت

" كيف ولما ! "

تنهد بضيق وأخرج يده من جيبه وقال يشير بها جانباً

" كيفْ هذه تعلمينها جيداً .. ولما لأنه ثمة دائرة حمراء حولك
الآن بسبب تواجدك في نورثود اليوم "

قالت والدهشة لم تفارق ملامحها كما صوتها

" لكن ماذا فعلت ؟! "

قال بضيق أشد

" أنا من أريد أن أسألك ما الذي فعلته "

شعرت بمأزقها يزداد سوءاً ولم يعد يوجد في قاموسها أي

عبارات أخرى تشتم بها ساندرين ولا نفسها معها فقالت

معترفة بتوتر

" إنها الورقة التي أعطيتك إياها هي .... "

قاطعها قائلاً بجدية

" أعلم ما الموجود بها كما أن ذاك الضابط لم يراها فما الذي
تحويه الورقة الأخرى التي وجدها لديك ؟ "


ارتجف صوتها وقالت وتوترها يزداد

" إنها ... إنها خارطة مبسطة لوصولي للطابق الخامس "

ضرب جبينه بكف يده ومرر أصابعه في شعره الناعم للأعلى مما

جعلها تشد شفتها بأسنانها تشعر بقلبها توقف من الخوف وأتاها

الدليل حين قال بضيق ويده قد استقرت عند قفا عنقه

" لا تعلمين حجم الكارثة التي توقعين نفسك بها كنانة "

ارتفعت يدها لصدرها وقالت بذعر

" لماذا !! كل ما في الأمر أني ساعدت صديقة لنا و .... "

قاطعها قائلاً بحدة

" هل نسيتِ أنتِ زوجة من وخاله من يكون ؟ "

وتابع بضيق يضرب كف يده بظهر الأخرى وكأنه يشرح لها

والورقة في يده

" تحملين خارطة داخل مبنى لمقر البحرية البريطانية وذاك
الضابط علم عن اسمك ومن تكونين بالنسبة لي "

اختنق صوتها وحركت رأسها قائلة بضياع

" أنا لا أفهمك ! "

قال من فوره وبجدية

" إنها شبكة كبيرة وخطيرة كنانة تحارب البلاد وما حدث اليوم
جعلهم يشكون بك "

فقدت الكلمات كما فقدت صوتها بسبب الصدمة وهمست

بصعوبة وذهول

" لكنك كنت هناك ! "

رفع يده جانباً وقال

" كنت هناك لأنه تم استدعاء طاقم الطائرة التي هبطت ذاك اليوم
جميعهم وليس وحدي "

أمسكت جبينها بأصابعها ونظرت للأرض تغمض عيناها بقوة

تشعر بأنها تعيش في صدمة ودوامة كبيرة لا تستطيع الخروج

منها وقالت بضيق ما أن عادت ورفعت نظرها له

" لِما أخبرته عنا لَما كان سيعلم بأني زوجتك "

حرك رأسه وقال بنفاذ صبر

" وأتركهم يمسكوا بك كنانة هذا ما تريدين ؟ ستصيبينني
بالجنون "

قالت بتلعثم

" لكن ... لكني .... "

وامتلأت عيناها بالدموع وهمست بصعوبة

" وعائلتي ؟ "

قال من فوره

" سيكونون بخير "

حدقت فيه باستغراب قائلة

" كيف وهم يراقبون المنزل ويشكون بي ! "

قال من فوره

" سيختفون باختفائك أو سيراقبونهم لأيام ثم يغادرون لأنه
لا صلة لهم بأحد مهم "

وما أن كانت ستتحدث قاطعها قائلاً بضيق

" كنانة يكفي أسئلة فلن أسمح أن تنتهي حياتك برصاصة منهم "

" لما ! "

همست بتلك الكلمة في صدمة تنظر لعينيه فتنهد بضيق وقال

" هل سأعيد كل ما قلت لتفهي لما ! "

سحبت الهواء لرئتيها وقاومت دموعها باستماته كي لا تضعف

أمامه وقالت بكل ما استطاعت من قوة وثبات ونبرة جامدة

" بل لما لا تريد وأنت ستتخلص من اختيار والدتك بهذا "

نظر لعينيها بصمت حتى اعتقدت بأنه لن يجيب أبداً وخانتها

توقعاتها ما أن قال بنبرة تشبه نبرتها بل أكثر جموداً وقوة

" هل تسمح لك إنسانيتك بتركي أموت وأنتِ لا تريدينني ؟ "

ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة وضربات قلبها تعدو في سباق طويل

وأرادت أن تقول : أنا لا يمكنني ولا التفكير في هذا لأفعله ليس

بسبب إنسانيتي بل لأني أحبك ، وتألمت من فكرة أن يكون تفكيره

عنها بأنها لا تريده وكبرياؤها لا يسمح لها بتغيير تلك الصورة

في عقله لأنه لا يبادلها ذات المشاعر وباعتراف منه ، لمعت

عيناها بأسى وهمست بما لم يعد يمكنها التحكم في خروجه بسبب

أفكارها تلك تنظر لعينيه

" لازلت تراها ؟ "

" من هي ؟! "

همس بها أيضاً وباستغراب ، ولم يترك لها قلبها الجريح أي

فرصة لتستوعب أن صاحب تلك الكلمات نسي تماماً ما يكون

ذلك وقالت باستياء

" حبيبتك السابقة .. من تكون مثلاً ؟ "

ارتسم الضيق على ملامحه وقال يشير لصدغه بأصابعه

" كنانة حلفتك بالله تبعدي هذه الأفكار من دماغك فهذا
ليس وقتها "

زمت شفتيها توبخ نفسها أكثر من استيائها منه وحماقتها لسؤاله

عن هذا الأمر وهي أصبحت زوجته فكل ما عليها فعله أن تجعله

ينساها لا أن تذكره بها طوال الوقت كالبلهاء ، نظرت لعينيه

بصمت وقد قال بجديه

" علينا المغادرة فقط وفي أسرع وقت تفهمين هذا ؟ "

همست والحزن يرتسم في عينيها

" لكن ... "

وتوقفت كلماتها ما أن قاطعها سريعاً

" لا تقلقي بشأنهم يا كنانة سيكونون في مأمن ومراقبين من
رجال خالي مطر أيضاً ولن يصيبهم أي مكروه بابتعادك "

شعرت بكلماته تسحق قلبها بدلاً من أن ترسل الاطمئنان له

وهمست بصعوبة تقاوم السؤال ليخرج

" وخالك من طلب مغادرتي ؟ "

" نعم "

قالها مباشرة وعيناه تبحث في عينيها عمّا لم تفهمه أو لم تجد

مشاعر لتستوعبه وهي تشعر بقلبها يُسحق مجدداً وبقسوة

وهمست بحزن

" أي أنك ...."

ولاذت بالصمت تكتم كل ذلك في قلبها ما أن قاطعها قائلاً

باستعجال ويداه تمسك بذراعيها

" أي أنه عليك أن تكوني جاهزة فجراً ولا تأخذي معك سوى ما
هو ضروري واتركي كل ما يمكن شراؤه بالمال "

سحبت أنفاسها بصعوبة ولازالت مشاعرها الحمقاء تخونها كلما

اقترب منها أو لمستها يداه تشعر بملمسهما على ذراعيها وكأنه

ليس ثمة قماش يفصلهما عنها وكرهت المشاعر التي ظهرت

واضحة في عينيها حينها فسارع كبرياؤها لقولبتها وقالت بترقب

تغطي كل ذلك

" هل أخبرت والداي بما يحدث ؟ "

أبعد يديه حينها ورحمها قائلاً

" لا ولا فائدة من معرفتهم سوى قلقهم وتوترهم "

ولم تكن تلك الرحمة سوى مؤقتة فقد أمسك هذه المرة بوجهها

مما جعل مشاعرها تهوي للقاع وتجمدت كتمثال حجري وأسرتها

عيناه وقد قرب وجهه منها وقال بتأني

" كل شيء سيكون على ما يرام كنانة أعدك "

ووجه لها الضربة القاضية حين قبل شفتيها قبلة واحدة سريعة

وغادر باتجاه الباب وكأنه لم يفعل شيئاً تاركاً ورائه جسد وقلب

يرتجفان كسعف نخيل في مهب الريح وغادر بخطوات واسعة

ثابتة مغلقاً الباب خلفه وما أن وصل بهو المنزل نظر ناحية

الواقفة بعيداً في الظلام فابتسم وغمز لها بعينه يؤكد لها ما كانت

تشك في مقدرته على فعله وهو إقناع ابنتها بالذهاب معه خلال

ساعات قليلة فقط فابتسمت من فورها وامتلأت عيناها بالدموع

هامسة تراقبه وهو يغادر باب المنزل الذي أغلقه خلفه بهدوء

" ليحفظكما الله "

*
*
*

كانت سيارته تجتاز الطريق الطويل الممتد بين لندن وبريستول

بسرعة كبيرة يشبه مسارها الممتد وسط الظلام أفكاره المتشابكة

وكلمات الذي قابله هناك لازالت تسيطر على عقله

( تسَترها على القاتل له سبب قوي بالتأكيد وتفكيرك سليم تماماً
في أنه سيكون له صلة بما حدث في الماضي ومفتاح اللغز قد
يكون في ذاك الشخص وفي حال كان من تشك به فهذا لن يلغي
اتهامها بالجريمتين السابقتين ووجود هذه القضية الآن أمر لا
يصب في صالحك ولا صالحها لأنك وإن أغلقت ملف مقتل شقيقك
بتقديم القاتل الحقيقي للعدالة أو تنازلت عائلتك عن حقها فسيبقى
أمامك جريمتان عادتا للطفو للسطح مجدداً وستنال الحكم فيهما )


ضرب المقود بكفه بغضب يشد أسنانه بقوة وأداره يميناً حيث

الطريق الذي اتبعه وسيوصله لقصرهم لدخوله المدينة الآن يشعر

بجميع الأبواب تُغلق في وجهه فهو بنى آمالاً كبيرة على لقائه

بذاك الرجل وبالرغم من أنه وافقه على وجود قاتل حقيقي لشقيقه

غيرها إلا أنه قتل أمله الوحيد في أن تكون الثغرة التي يمكنه

إبطال باقي القضايا السابقة بها وتبرأتها بشكل كلي .

لكنه لن يتوقف ولن يستسلم لليأس أبداً ولآخر لحظة أو لن يكون

المحامي الذي استحق مركز وكيل نيابة في أهم المحاكم وهو في

هذا السن وإن اضطره الأمر للعودة للوطن هناك والبحث عن أي

شيء قد يساعده لأنه يؤمن بالمعجزات كما يرفض مبدأ الاستسلام

للأمر الواقع .

عبرت سيارته بوابة المنزل التي فُتحت أمامه وشق نورها القوي

طريقه فوق الصفحات المظلمة للممر الحجري قبل أن تصبح تحت

الأنوار المعلقة على امتداد الطريق لباب قصرهم وأوقفها قرب

سيارة رواح كعادته ونزل مغلقا بابها يحمل حقيبته في يده يشعر

بالتعب كما الكثير من الضيق والاكتئاب ويحتاج لحمام وساعات

نوم قليلة قد تجود بها عيناه عليه ليكون مستعداً ليوم آخر في

حربه التي لم يشهد مثيلاً لها في القضايا سابقاً .

كان دماغه يرتب أولوياته التي سيقوم بها ما أن تصل قدماه

للسلالم القابع في الظلام لكنه فوجئ بمن غيّر كل ذاك المخطط

وخطواته تتباطأ وهو ينظر لخيال والده الواقف قرب باب مكتب

جده والذي قال وهو يستدير ويدخل له

" تعالى يا وقاص "


فتحركت خطواته في ذاك الاتجاه دون أن يترك له عقله مجالاً

للتفكير أو اتخاد أي قرار مخالف مستغرباً مناداة والده له ليكونا

هناك ! ترك حقيبته على الطاولة قرب الباب قبل أن يدخل المكان

الشبه مظلم سوى من أنوار الجدران الصفراء الخفيفة وكانت

شكوكه في محلها وهو يرى جده واقفاً بجانب والده أمام مكتبه

واستغرب أيضاً اجتماعهما وانتظاره ! بينما لم يترك له جده أي

مجال ليفكر أو يحلل ولا حتى يسأل وهو يقول مباشرة وبجدية

" علينا إرجاع زيزفون للمصح "


شعر بالضيق في أنفاسه وانقباض قوي في قلبه حاول إخفاءه بكل

جهد كي لا يظهر على ملامحه وقال بجمود

" هو أخذ رأي أم أمر ؟ "

وكما توقع قال جده من فوره وبنبرة أكثر جدية

" بل أمر ولا أريد أي مشكلات يا وقاص "

" لاااا "

صرخ بها في وجهه برفض غاضب مما جعل الغضب يرتسم في

ملامحه أيضاً وكان سيتحدث لولا أوقفه الواقف بجانبه وقد قال

رافعاً يده

" انتظر يا أبي "


ونظر لابنه يحاول جاهداً إخفاء الأسى في نظراته كما كلماته وهو

يواجهه بالواقع الذي استسلم له نهاية الأمر ومهما كرهت نفسه

" مؤكد تعلم وأكثر منا يا وقاص بأن ملفها السابق سيُفتح أمام
القضاء الآن وهو إجراء لا يمكنك إلغاؤه ولا تغييره وستتم
محاكمتها هنا وتسليمها فقط لدولتها فيكون مصيرها إما السجن
المؤبد أو القصاص بالموت فالأمر لا يقبل عناداً ولا تهور "


ولاذ بالصمت ما أن أنهى كلماته تلك فتركته عيناه ونظر لجده

تحديداً وكأنه سمعها منه هو وقال بضيق

" والمصح النفسي ماذا يكون ! حرية ؟ "

تولى والده مهمة الشرح أيضاً يريد للأمر أن ينتهي بأقل خسائر

ودون خلافات طويلة الأمد وبكل ما استطاع من هدوء

" حل مؤقت على الأقل فحينما تعلم المحكمة أنها فيه وقت بداية
المحاكمة سيكون أقل ضرراً من معرفتهم بأنها لازالت خارجه
وهي بذاك الماضي وأنت أعلم مني بالقانون يا وقاص "


وجه كلماته له هذه المرة صارخاً

" لن تدخل زيزفون المصح وأنا حي أتنفس "

خرج ضرار عن صمته حينها وصرخ بغضب

" وتدخل السجن وتُعلّق مشنقتها لابأس ؟ "

نظر له بغضب رافض أنفاسه تخرج من صدره كالإعصار الذي

يشعر بأن مصدره قلبه وليس رئتيه وما أن كان سيتحدث قاطعه

والده الذي قال بجدية يرفع يديه

" الصراخ والغضب لن يُقدم لنا أي نتائج ولن نصل لأي حل "

ونظر لابنه وقال

" وقاص لازلت أكرر الأمر ليس عناداً وعلينا اتخاذ الحل
الأنسب لها "


فصرخ حينها نافضاً يده

" أنا لست مغفلاً أبي أو لم أدرس القانون جيداً لتخدعاني بهذا
وأعلم تماماً معنى أن نُقدم تقريراً للمحكمة بأنها في المصح
النفسي فمعناه أن لن تخرج منه وللأبد وبأمر من المحكمة نفسها
هذه المرة بل وقد يتم إحالتها لمشفى السجن العسكري "


لاذ ضرار بالصمت الغاضب بينما حدقت فيه عينا ابنه بدهشة

للأمر الذي سمعه للتو ولم يعلمه منه بينما تولى وقاص الحديث

مجدداً وبذات صراخه الغاضب

" يمكنكم قتلي قبل فعل ذلك لأني لن أسمح به أبداً "

رفع ضرار يده حينها يفرد أصابعه السبابة والوسطى والبنصر

بينما يمسك خنصره بإبهامه وقال بحدة ناظراً لعينيه

" أمامك ثلاث خيارات إذاً وعليك أن تختار بينها فأيها الأفضل
بالنسبة لك ؟ المصح أم تكون بين المجرمين لباقي سنوات عمرها
أم تموت شنقاً ؟ "

وصرخ عند آخر كلمة قالها ينظر لعينيه بغضب فشد قبضتيه

بجانب جسده بقوة وعاد الألم يعتصر قلبه وقال بكل ما استطاع

من قوة

" بل ما علينا فعله هو إيجاد حل يجعلها تنجو منها جميعها لا
تسليمها لأحد المصائر السوداء الثلاث "

كان يسرد ما تتمناه نفسه وقلبه ويسعى بكل ما لديه من قوة لفعله

وتحقيقه لكن الواقف هناك واجهه بالحقيقة القاسية مجدداً

قائلاً بضيق

" لو كان ثمة حل لكان قد تم اتباعه طيلة الأعوام الماضية
ومقتل نجيب الآن واعترافها بالأمر أوصلنا لطريق مسدود تماماً
ولا خيارات أخرى أمامنا "

احمر جفناه وصرخ بانفعال جمع الغضب والحزن والقهر في

مشهد لا يمكن وصفه سوى بقهر الرجال

" لما أحضرتها إلى هنا إذاً لماذا ؟ كنت تركتها في المجهول الذي كانت فيه "

واجهه بالصراخ المماثل وإن لم يتخلله أي مشاعر أخرى غير

الغضب يشير له بسبابته

" حفيدتي وكانت مخفية عني لأعوام كان من حقي أخذها
وبالقوة ولن أسمح لك بتقديمها لحبل المشنقة يا وقاص أتفهم ؟ "

فرفع سبابته أيضاً يوجهها نحوه وصرخ

" ليكن معلوماً لديك إذاً بأن مصيري هو مصيرها ذاته وحيث ستقرر أن تكون "

خرج سلطان عن صمته حينها صارخاً

" وقاص هل جننت ! "

لوح بيده نحوه قائلاً بانفعال

" اعتبره ما تريد أبي فهو قرار لا تراجع عنه "

ونظر لجده وأشار له بسبابته مجدداً قائلاً بحدة

" ولعلمك فقط جدي بأن عودتها للمصح النفسي سيكون فيها
ضرراً كبيراً على نفسيتها وهو ما لن أسمح به أبداً "

وغادر وتركهما ضارباً الباب بقوة وهو يفتحه وما أن كان والده

سيتبعه أمسكت ذراعه يد الواقف بجانبه والذي قال بجمود ونظره

على الباب المفتوح

" أتركه سيستوعب هذا حين يدرك بأنه التفكير السليم "

نظر له بأسى وما أن كان سيتحدث محتجاً سبقه قائلاً بحزم

ينظر لعينيه

" إن كان لا يريدها أن تنتهي لمشفى السجن العسكري فسيفعل ما
قلت لأن وجودها هنا هو ما سيكون السبب في حدوث ذلك "

نفض يده قائلاً بحدة

" وسجنها في المصح الخاص بأمر من القضاء هو المصير ذاته
أبي .. جميعها نهايات مأساوية "

وتركه وغادر بخطوات مسرعة غاضبة ناحية الباب المفتوح

وغادر من هناك أيضاً ولفت نظره الحقيبة التي وجدها على

الطاولة قرب الباب فعلم بأنه لم يصعد للأعلى فتحركت خطواته

نحو الباب الرئيسي وما أن كان في الخارج حتى اشتدت قبضتاه

بقوة ينظر بألم وحزن للواقف عند سيارته يتكئ بساعده على

طرف سقفها بينما يخفي عيناه ووجهه فيه فشعر بقلبه يتمزق

آلاف القطع ونزل عتبات الباب وتوجه نحوه وأمسكت يده بكتفه

وقال بهدوء

" وقاص عليك أن تفكر فيما فيه مصلحتها والأقل ضرراً عليها "

وأبعد يده عنه ما أن استوى في وقوفه لازال يوليه ظهره وفتح

باب السيارة قائلاً بجمود

" إذاً سيسري الحكم ذاته عليا معها "

وجلس وأغلق الباب بقوة وقام بتشغيلها ولم يستمع ولا الذي قال

بحزم ينظر له من خلف زجاج النافذة المغلق

" هذا التفكير لن يوصلنا لحلول يا وقاص فتعقل "

وابتعد للخلف خطوة ما أن تحركت السيارة يراقبها وهي تستدير

بقوة صرير عجلاتها يصم الأذان قبل أن تغادر من الطريق الذي

دخلت منه وكأنه يهرب من سماع أي كلام آخر فتنهد
بقوة هامساً

" لا حول ولا قوة إلا بالله "

وعاد أدراجه ناحية المنزل مغموماً يخشى أن يفقد ابن آخر من

ابنائه أمام عينيه وهو واقف يتفرج وهذا ما بات يراه قريباً .

دخل ووجهته السلالم ولم يرجع لباب المكتب الذي لازال مفتوحاً

ولا كلمات يقولانها فقد أدى مهمته وتبقى أن يثق في ابنه وفي

رجاحة عقله ويوكل الأمر لمدبر الأمور فلا هو بيده أن يساعده

كمحامٍ ولا أن يزوجها له كوالد لذلك عليه أن يجتاز الكثير من

الصعاب وحيداً ليفوز بحلمه ويثبت استحقاقه له .

وصل باب الجناح الخاص بالزوجة التي قرر سلفاً أن يكون معها

لتجتاز صدمتها وما أن أدار مقبضه لم يُفتح له وكان مقفلاً فتركه

بحركة عنيفة غاضبة فهذا يعني رفضها لنومه معها ، تحركت

خطواته ناحية الممر الغربي متمتماً بحنق

" أنت من اختار هذا بنفسك يا أسماء وحمداً لله "

وابتعد عن المكان الذي ظهرت من بدايته من كان يظن بأنها في

الداخل تتبعها جمانة فالتفتت لها وقالت هامسة بابتسامة انتصار

" تخلصنا من كلاهما "

نظرت لها بارتباك وهمست

" ماذا إن عاد وقاص ؟ "

تنهدت بنفاذ صبر من طباعها وجُبنها وهمست بضيق

" أنتِ بنفسك قلتِ بأنه حين يخرج غاضباً هكذا لا يعود قبل
اليوم التالي "

همست مشككة مجدداً تشد يداها بتوتر

" وهل سيتركها وحدها ؟! "

قالت الواقفة أمامها بهمس واثق

" ستفي تلك الخادمة بالغرض وتبلغنا حال عودته "


حركت رأسها موافقة وقالت بالرغم من ذلك

" هل أنتِ واثقة من أمانة تلك المرأة ؟ "

ابتسمت بسخرية هامسة

" كل الثقة فالمال يجعل كل شيء سهل المنال منهن "

أومأت لها برأسها مجدداً فأمسكت بكتفها وهمست بجدية

تنظر لعينيها

" سنجتمع أسفل السلالم المؤدي لجناحها بعد ساعة ليكون
الجميع نيام حينها اتفقنا ؟ "

حركت رأسها مطيعة وهمست

" ألن نجرب الباب إن كان يُفتح أم لا ؟ "

قالت المقابلة لها بجدية

" لا بالتأكيد فهي فرصة واحدة سندخل فيها فقد تكون تلك القاتلة
مستيقظة الآن "

حركت رأسها إيجاباً فدفعتها من ذراعها قائلة

" هيا غادري وموعدنا بعد ساعة ولا تنسي إحضار ما
اتفقنا عليه "

تحركت من مكانها هامسة

" بالتأكيد "

وابتعدت بخطوات مسرعة نظراتها تراقبها حتى اختفت وابتسمت

حينها بسخرية هامسة

" من الجيد وجود أغبياء في هذا العالم "

وتوجهت ناحية باب جناحها وفتحته بالمفتاح الذي كان معها

ودخلت مغلقة إياه خلفها فعليها انتظار الموعد المحدد لتنفيذ
خطتها .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:48 PM   المشاركة رقم: 1589
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*


كانت تحرك ما في القدر بالملعقة الخشبية في يدها بينما نظرها

شارد في الفراغ بحزن ومنذ البارحة وهي لا تتوقف عن التفكير

فيما قال بالأمس حزينة على فراق صديقة طفولتها فجر وعلى

حالها في آن معاً ، لا بل سبب تعاستها الأساسي هو ظنونه بها

والتي لم تتغير بالرغم من كل ما قالت ودليل براءتها لدى والدة

أويس لكنه لازال يتجنب حتى النظر ناحية المكان الموجودة فيه !

لذلك باتت تتجنبه أيضاً ولم تدخل الغرفة البارحة حتى تأكدت بأنه

نام وغادرت قبل نهوضه فجراً ووضعت له الطعام في الغرفة

وقت وجوده في الحمام ولم تدخلها أبداً حتى غادر .


ارتجف جسدها بقوة وأفاقت من شرودها بسبب صوت الكرة التي

اصطدمت بالجدار المقابل لها خلف الموقد فغطت القدر جيداً

ووضعت الملعقة من يدها وخرجت من باب المطبخ وقالت بأمر

للطفلين الموجودين هناك بينما سبابتها تشير ناحية باب الغرفة

" هيا بسرعة ولا تلعبا هذا الوقت والشمس في كبد السماء "

رفع عَنان كرته يمسكها بيده وتوجه ناحية الغرفة في صمت بينما

استمر شقيقه في الركض بها شعره الحريري الأسود يلمع تحت

الشمس ببريق لامع ويتحرك مع خطواته ودورانه ملابسه

كشقيقه تماماً وكما اعتادا طقم مكون من قميص قطني قصير

الأكمام باللون الاخضر المصفر طبعت عليه صورة سيارة بعجلات

كبيرة وشورت قصير أسود اللون وصورة مصغرة للسيارة ذاتها

عند الفخذ الأيمن .

توجهت نحوه ورفعت الكرة التي عادت نحوها ما أن اصطدمت

بجدار المنزل ونظرت للذي مد شفتيه بعبوس قائلاً برحاء طفولي

" قليلاً بعد مارين أرجوك "

أمسكت الكرة بين جسدها وساعد يدها بينما أمسكت باليد الأخرى

خصرها وقالت

" هل تريد أن يغضب شقيقك يمان منك ؟ "


حرك رأسه برفض حركة قوية تحرك معها شعره شديد النعومة

وركض باتجاه الغرفة مسرعاً وراقبته بحزن فكلما رأتهما شعرت

بالألم وتذكرت والدتها التي رحلت وتركتها وتتألم فوق ألمها

وشعرت بما يشعران به وسيشعران مستقبلاً غير أن وضعهما

مختلف عنها فهي تركتها لشقيق سافر وتركها وآخر رماها في

الشارع دون رحمة وغادر أما هما فقد تركتهما لشقيق هي أكيدة

من أنه سيحرم نفسه من كل شيء من أجلهما وينام جائعاً ليأكلا

ويبات في العراء إن كان السقف لا يتسع لهم جميعاً .


مسحت عيناها والدموع التي تشربتها رموشها قبل أن تنزل

وتوجهت ناحية الغرفة أيضاً وضعت الكرتان فوق الخزانة قائلة

" هيا للحمام لتغسلا أيديكما وتتناولا الطعام "

قال جاد ينظر لها فوقه

" ألن يأتي يمان ! "

قالت متوجهة نحو الباب

" لقد تأخر ويبدو أنه سيتناول الطعام مع العمال .. هيا بسرعة
لتناما قليلاً "

وابتسمت ما أن قفزا واقفين وبدأ سباق الركض المعتاد لدخول

الحمام بينما توجهت هي ناحية المطبخ وسكبت الطعام وغادرت

باتجاه الحمام أولاً وأخرجت اللذان لن يتوقفا عن غسل أيديهما

قبل وقت طويل ، وما أن عادت ناحية المطبخ سمعت صوت باب

المنزل يُفتح فقبضت يديها بتوتر تسمع خطواته قبل أن تسمع

صوت إغلاقه لباب الحمام فرفعت الصينية وخرجت مسرعة وهي

تجد فرصتها المناسبة وستترك له ملعقتها وتغادر قبل خروجه

فهي باتت تتجنب مقابلته لأنها أرحم من شعورها بالرفض منه

فتجنبه لها يؤلمها بطريقة باتت تعجز عن وصفها .

وضعت لهما الطعام وغادرت الغرفة بعد تحذيرها المعتاد لهما كي

لا يأكلا قبل انضمام شقيقهما لهما وعادت ناحية المطبخ لحظة

سماعها لصوت باب الحمام يُفتح وكانت قد وصلت في الوقت

المناسب تماماً وجلست على الأرض مكانها المعتاد مؤخراً تتكئ

برأسها على الجدار خلفها تنظر للسقف المليء بالشقوق بحزن

وتعجز عن اتخاد قرار واحد وإن قول الحقيقة كاملة له وبكل

شجاعة لأنها تخشى أن يزداد الأمر سوءاً وبدلاً من غضبه بسبب

وجودها في أرض الغيلوانيين ليلاً تصبح مدانة بالكذب وتوريطه

في الزواج منها بالحيلة والخداع والمكر وستنتهي للشار
ع لا محالة .

مسحت عيناها والدموع التي تسربت منها دون أن تشعر ووقفت

على طولها ما أن علا صوت الطرق على باب المنزل الحديدي

وتحركت نحو باب المطبخ وعادت للداخل بتوتر فهذا الباب لم

يُطرق سابقاً إلا لجلب مصيبة ما .

استغفرت الله بهمس واقتربت من الباب ما أن سمعت خطوات

يمان وهو يغادر الغرفة متجهاً ناحيته وأمالت رأسها جانباً تحاول

سماع أي شيء ما أن انفتح الباب وابتعدت مسرعة حين وصلتها

أصوات رجال متداخلة لم تفهم منها شيئاً وشعرت بقلبها سيخرج

من مكانه وبدأت تتمتم بالدعاء يدها على صدرها وعادت لها تلك

المخاوف من فقدها إياه .

توقفت عن الدوران ووقفت مكانها حين وقف يمان أمام باب

المطبخ مقابلاً لها وقال سريعاً وهو يغادر

" ابقي مع الطفلين ولا يغادر أحد الغرفة "


اتسعت عينها بذهول وبدأ جسدها بالارتجاف تخشى أن يصيبه

مكروه ما أو تكون مشكلة مع الذين تعلم بأنهم لن يتركوها

وشأنها وتحركت خلفه مسرعة وكانت تريد اللحاق به وسؤاله

عمًا يجزي لكنها لم تستطع فعل شيء غير ما طلبه منها وهي

لازالت تسمع الجلبة والأصوات ناحية باب المنزل فركضت

مسرعة باتجاه الغرفة ترفع فستانها الطويل بيدها كي لا يدخل

ويجدها مكانها وأغلقت الباب ونظرت ناحية الطفلان اللذان كانا

يجلسان أمام صينية الطعام دون أن يأكلا منها ويحدقان فيها

باستغراب بينما كان سمعها مع ما يحدث في الخارج وأصوات

الخطوات والأحاديث وانتفض جسدها بقوة بسبب الصوت القوي

الذي اهتزت له الجدران وكأن قذيفة ما سقطت عليهم لحظة أن

صرخ الطفلان وهما يركضان نحوها وتعلقاً بساقيها فجلست على

الأرض وحضنتهما تحاول طمأنتهما وقلبها ذاته يرتجف بشدة .


*
*
*

امتلأت عيناها بالدموع وحضنت نفسها تحدق في الفراغ بشرود

حزين وملامح فاقت مراحل التعاسة بكثير وانسكبت الدمعة اليتيمة

فوق وجنتها ببطء وارتسمت على شفتيها ابتسامة بائسة تنعي

حالها والذكريات تعود بها للماضي البعيد الذي لم يهجرها يوماً

وكأنها تسمع صوته في رأسها وأذنيها الآن

" مع من تتحدثين ! "

نظرت الطفلة الحاضنة لركبتيها جالسة على حجر طوب يستقر

على الأرض للفتى الذي أصبح يقف فوقها يمسك خصره بيديه

وقد أخفى ظله جسدها الصغير وقالت ببرود تنظر له من بين

خصلات شعرها البنية المتطايرة أمام وجهها

" مع صديقتي "


نظر حوله قبل أن ينظر لها تحته وقال عاقداً حاجبيه

" وأين هي صديقتك هذه لا أراها ! "

تجاهلته ونظرت للأسفل قائلة ببرود

" أنت لا تراها أنا أراها "

وصلها صوته الساخر سريعاً

" آه جميل .. وعن ماذا تتحدثان ؟ "

رسمت دائرة مفتوحة بالعود الصغير في يدها على التراب الرطب
تحتها وقالت

" عن صديقها "

رفع حاجبيه متمتماً
" حقاً ! "

كان نظره على قمة رأسها المنحني للأسفل شعرها البني المجموع

للخلف في جديلة تتطاير خصلات منه حول وجهها وما أن رفعت

رأسها حتى أبعدتها عن عينيها بحركة واحدة من يدها الصغيرة

المفرودة وقالت بضيق تنظر له فوقها

" أجل فكلانا تخبر الأخرى "

ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه وقال

" عن صديقها ؟ "

نظرت ليدها وللخطوط التي عادت ترسمها متوازية وقالت

" أجل "

قال ببرود ولازال يمسك وسطه بيديه

" وعمن تخبريها أنتِ ؟ "

ابتسمت شفتاها العابسة فجأة وقالت بصوت طفولي رقيق ولازالت

تنظر لحركة يدها والخطوط المتعرجة التي تصنعها

" عنك "
ارتفع حاجباه وقال بابتسامة جانبية ينظر لما يظهر له

من ملامحها

" وماذا تخبرينها عني ؟ "

وقفت حينها ورمت العود من يدها ونظرت لعينيه قائلة باستياء

" إنها أحاديث فتيات ما شأنك أنت بها تسأل ؟ "

ضيق عينيه وتمتم بضيق

" ولما أخبرتني بكل هذا إن كانت أحاديث فتيات لا علاقة
لي بها ؟ "

تجاهلته تنظر خلف كتفه متمتمه

" أنت سألت "

وصرخت بضحكة ما أن أمسكها من خصرها ورفعها ووضعها

جالسة فوق الحاجز المصنوع من الطوب يفصل به عمها نبات

النعناع عن أشعة الشمس ناحية الشرق وتمسكت يداها بكتفي

قميصه قائلة بخوف

" لا تيم أنزلني من هنا أرجوك "

ابتعد عنها مبعداً يدها عنه وتراجع خطوة للوراء ورفع رأسه لها

وقال ببرود وقد عاد يمسك خصره بيديه

" ستخبريني أولاً "

كانت يداها الصغيرتان تمسك بطوب الجدار بجانبي جسدها ومدت

شفتيها بعبوس وحين يئست من إنزاله لها ولن تفكر في القفز

بسبب خوفها قالت باستياء تشير برأسها خلفه

" لا وجود لها ألا ترى المكان خالٍ أمامك ؟ "

ضيق عينيه متمتماً

" يا لك من ماكرة "

ابتسمت تتجنب النظر له فقال

" تكذبين إذاً ؟ "

نظرت له وقالت بابتسامتها الطفولية الجميلة

" إن أنزلتني أخبرك "

نظر لها بطرف عينيه بتفكير قبل أن يمد يديه لخصرها وتعلقت

ذراعاها بعنقه وهو ينزلها وتركته ما أن أنزلها ونزلت قدماها

للأرض وقال

" ماذا الآن ؟ "

ضحكت وقالت

" لا صديقة لدي أنت صديقي فقط "

نظر لها بضيق فعبست ملامحها وقالت بحزن

" حين قلت ابتعدي عني يا مزعجة اتيت إلى هنا وتخيلت صديقة
لي كي لا أكون وحيدة "

رفع أصبعه الصغرى وقال

" سنقطع وعداً آذاً ماريه "

نظرت ليده باستغراب قبل أن تنظر لعينيه وما أن قال

" لن يكذب أحدنا مجدداً مفهوم ؟ "

رفعت أصبعها الصغير أيضاً تقبض البقية وقالت مبتسمة

تنظر لعينيه

" ولن تتركني من أجل صديقة أخرى "

خرجت منه ضحكة صغيرة لا تراها إلا نادراً وقال

" لن أفعل .. أعدك "

قالت بسعادة

" وأنا أعدك "

أمسك أصبعها بإصبعه وقال ينظر لعينيها

" عديني أيضاً لن يكون هناك صديق آخر "

شع وجهها بابتسامة جميلة وقالت

" بلى أعدك " .

نزلت دموعها تباعاً وتعالت شهقاتها الباكية فها هو أوفى بوعوده

وأخلفت هي ولن يغفر لها وإن علم الحقيقة فلن ينسى كذبها

وتخليها عن اتفاقهما إن في الماضي أو الحاضر وهو من اختار

أن يكونا معاً وصارحها بحقيقة مهمته تلك وعمله وحين سألته

لما أخبرها بأمر حساس كهذا قد يكون فيه موته قال بأنه من أجل

الوعود القديمة فهو يقصد ذاك اليوم وتلك الوعود بالتأكيد ، فهو

احترم وعود طفولتهما كما رفض أن تتألم بسببه دون ان تعلم

وأن تنتهي لمصير والدته مع والده .. وبماذا كافأته ؟.

أغلقت أذنيها بكفيها ونحبت باكية تحرك رأسها بقوة تحاول أن

تطرد منه صوته الذي لم يفارقها صراخه أبداً وكأنها تسمعه الآن

( تخونين زوجك معه وتتحججي بأنه كان رغماً عنك ؟ )


( سأقتلك وأقتل نفسي ما أن أستوعب حقيقة هذا ماريا قسماً )

( اذهبي لمن خنتِ زوجك من أجله ماريا لا أريدك )

انفتح الباب ودخلت منه ساندرين راكضة نحوها وجلست أمامها

وحضنتها بقوة وهي لازالت في نوبة صراخها الباكي تحاول

تهدئتها قائلة باسى وقلق

" ماريا يكفي أرجوك "

وملأت الدموع عينيها تحضنها بقوة تشعر بقلبها يتمزق مع

بكائها الموجع ورغم خور قواها واستسلام جسدها لحضنها لم

تبعد يديها عن أذنيها كما لم يتوقف نحيبها الموجع والذي قالت

من بينه باكية

" ليتني أموت .. ليتني أموت "

أبعدتها عنها وأمسكت ذراعيها وقالت بحزن

" ماذا حدث ماريه أخبريني ؟ "

تركتها وغادرت السرير ووقفت مقابلة لها وقالت ببكاء

" أريد الرحيل فقط لا يمكنني البقاء هنا .. لا أريد رؤيته أبداً "

وقفت أيضاً وأمسكتها من ذراعيها وقالت بحزم

" لا تذهبي معه حين يأتي ماريه وفي أي وقت ولأي
مكانٍ كان "

حركت رأسها وهمست باكية

" لن يأتي .. لن يأتي أبداً "

نظرت لها باستغراب فقالت برجاء باكي

" أريد الرحيل ساندي أرجوك "

ارتفعت يداها لوجهها وأمسكته قائلة تنظر لعينيها الباكية

" انتظري حتى يأتي السا... "

وتوقفت كلماتها فجأة تسمع صوت رنين هاتفها من خلال الأبواب

المفتوحة فتركتها وركضت نحوه وعادت خلال لحظات تحمل

فستاناً وسترة خفيفة مفتوحة قد جهزتهم سابقاً من أجلها

واعطتها إياهم ودفعتها نحو باب الحمام قائلة

" أسرعي ماريه غيري ثيابك السيارة تنتظرك في الخارج "

ولم تترك لها مجالاً لقول أي شيء وهي تدفعها داخله وتغلق

الباب خلفها ووقفت تنتظرها تفرقع أصابعها بتوتر وهي تتحرك

أمام الباب الذي طرقته تستعجلها ما أن سمعت صوت منبه

السيارة المرتفع مع سكون الليل في الخارج فانفتح الباب وخرجت

منه التي كانت تلبس السترة بحركة واهنة وكأنها تعجز عن بذل

أي مجهود ومهما كان بسيطاً فقررت مساعدتها ونظرت مصدومة

لكتفها المتورم والكدمة في ذراعها لأن الفستان كان من دون

أكمام وعلمت حينها سبب عجزها عن ارتدائها لها وقالت بذهول

تلمسه بأطراف أناملها

" ما هذا ماريه كتفك لا يبدو بخير ! "

ابعدته عن يدها سريعاً وهمست ببحة

" هو أفضل الآن "

نظرت لعينيها وقالت بأسى حزين

" يا إلهي كيف تحملتِ كل هذا الألم ! لما لم تخبريني ؟ "

امتلأت عيناها بالدموع وهمست بعبرة مكتومة

" لم أشعر به فثمة ألم كان أقسى منه بكثير "

شدت فكيها وأسنانها بغضب من الجميع وحزن عليها ذات الوقت

ومدت يديها خلف عنقها وأخرجت لها شعرها من تحت

السترة قائلة

" سينتهي كل هذا "

فنظرت لها ويداها تعدل ياقة سترتها وقالت ببحة وحزن

" أين سأذهب ومن الذي سيأخذني من هنا ؟ "

أبعدت يديها عنها ونظرت لعينيها قائلة بجدية

" للمكان الذي لا سلطة لأحد منهم عليك فيه فلا أحد منهم كان
كفؤاً للأمانة "

وأمسكتها من يدها وخرجت بها من الغرفة قائلة

" هيا ماريه السيارة ستكون متوقفة أمام المنزل "

وسحبتها معها ناحية الباب الخلفي للمنزل وفتحته لها ووقفت

تحضنه تنظر لها بحزن وهي تسير بخطوات مترددة مترنحة

تلتفت لها كل حين وكأنها تخشى أن تأخذها لمجهول أقسى من

حاضرها وماضيها ، وأدمعت عيناها ما أن اختفى جسدها عنها

خلف الظلام وهمست بحزن

" بقاؤك هنا لن يزيدك إلا انكساراً ماريه لذلك عليك ترك
جميع من خذلوك "


*
*
*


أبعدت الهاتف عن اذنها وتأففت وهي تعيد الاتصال قبل أن تضعه

عليها مجدداً وقالت مندفعة بضيق ما أن انفتح الخط

" وأخيراً أجبت "

وصلها صوته المرتخي الخشن

" ألا ساعة لديك لتري الوقت ؟ "

نظرت باتجاه الساعة المعلقة على الحائط ولوت شفتيها قبل أن

تقول متجاهلة ملاحظته تلك

" علينا أن نلتقي غداً يا زين "

وكما توقعت قال مباشرة وبلامبالاة مدروسة

" ما الجديد سيدة مشكلات ؟ "
حركت يدها الحرة بضيق قائلة

" أنت تعلم جيداً ما الذي فعلته لأكون في ذاك الحفل ولم أجدها فيه لذلك علينا تغيير مخططنا "

تكاد تقسم أنها تراه وهو يعدل الوسادة تحت رأسه حين وصلتها

تمتمته الباردة المستفزة

" قولي ما لديك ها أنا أسمعك "

عبست ملامحها وقالت

" عليك أن تتوقف عن معاقبتي هكذا فأنت تعلم جيداً لما اتخذت
هذه الخطوة "

تنهد قبل أن يقول ببعض الجدية

" نعم أعلم "

قالت مباشرة

" سأراك غداً "

لاحظت تجنبه للإجابة وهو يسأل مجدداً

" هل ثمة جديد ؟ "

قالت من فورها متحمسة

" نعم وسنتحدث ما أن نلتقي "

ليتلاشى ذاك الحماس تدريجياً وما أن وصلها صوته الجاد الحازم

" عليك نسيان أمرها يا دانيا "

قالت من فورها وبإصرار حين علمت بأنهما سيرجعان

لنقطة البداية

" لا بالطبع .. بل وعليا إيجادها بأي طريقة كانت "

كانت تنهيدته اليائسة واضحة قبل أن يقول بصوت مرتخي

" حسناً سأنتظرك "

ابتسمت كطفلة تواجه محدثها بالحقيقة القاسية التي عليه

تقبلها قائلة

" لا يمكنني الذهاب إلى هناك فالمسافة بعيدة "

وصلها صوته المتضايق سريعاً

" وأنا لا يمكنني ترك المنزل لوقت طويل تعلمين ذلك جيداً "


قالت باستجداء رقيق

" هيا زين .. يمكنك تدبر من يأخذ مكانك لبعض الوقت "

سمعت تنهيدته الأشبه بالتأفف قبل أن يقول مستسلماً

" أمري لله "

ابتسمت وقالت بثقة وكأنها تتحداه أن ينكر

" بالطبع .. ومن ثم بيدي "

قال ببرود سريعاً

" سُحقاً لثقة النساء الحمقاوات "

ضحكت وقالت

" سنلتقي غداً واتصل بي ما أن تصل للندن ... وداعاً "

دست هاتفها في جيب بنطالها الواسع الأنيق والمصنوع من

الكتان أسود اللون مع خطوط بيضاء طويلة رقيقة جداً وتزين

أطرافه من الأعلى ثلاث أزرار كبيرة باللون الأبيض وقد غطت

أطراف خصره الطويل بلوزة بيضاء من القماش الناعم بأكمام

قصيرة وأزرار سوداء صغيرة .

تبدلت ابتسامتها للحزن تدريجياً حتى اختفت نهائياً وتنهدت في

صمت ما أن تذكرت غضبه الشديد حين قررت المجيء إلى هنا

ورفضها لأمر الطلاق الذي وضع مطر قراره بيدها ورغم كل ذلك

لم يستطع إلا إجبار نفسه على مسامحتها وتفهم أسبابها .

غادرت المطبخ تطرد كل تلك الأفكار من رأسها ونظرها على باب

الشقة المغلق تتساءل عن الذي غادره منذ الصباح ولم يرجع

حتى الآن !

من عادته أن يتغيب لساعات طويلة لكنه يزور المنزل لمرة نهاراً

ولا يتأخر لمنتصف الليل هكذا !

ما أن كانت ستتحرك باتجاه غرفتها وقفت مندهشة حين استدار

القفل فجأة وانفتح الباب وظهر جسده الطويل مطأطىء الرأس

قليلاً ينظر لما تفعل يداه وكأنه خرج من أفكارها !

تبعته بنظرها وهو يستدير ويغلق الباب بالمفتاح وذاك طبعه منذ

عرفته هنا ، وما أن أغلقه تحرك من هناك ودون أن ينظر لها

بالرغم من سيره في اتجاهها بينما كانت عيناها تتفحص ملامحه

المرهقة والمتجهمة باستغراب قد زادته شكوكها بتأخره فقالت

بقلق شديد

" هل كل شيء على ما يرام ؟ "

لم يعلق كما لم تزح نظره عن الفراغ الذي كان يسير فيه وكأنه

في عالم وحده الموجود به !

وتبعته نظراتها وهو يجتازها نحو باب المطبخ هامساً

بصوت خشن

" تعالي أريدك في أمر "


حدقت في مكانه باستغراب لوقت وشعرت بضربات قلبها تتعالى

وخشيت مما يحمله وهو بتلك الحالة ويريدها في أمر ما تجهله !

تحركت عند تلك الفكرة ودخلت المطبخ خلفه فكان جالساً أمام

الطعام الذي غطته بأوراق القصدير حين يئست من قدومه قبل

نومها وسحبت الكرسي وجلست أيضاً ونظرها المتوجس لم

يفارقه بينما كان ينظر لمفاتيحه في يديه التي كان يضعها على

الطاولة وقال بصوت بدى فيه التعب بشكل واضح

" أريدك أن تتحدثي مع ماريه وتحاولي إقناعها للانتقال
والعيش معنا هنا "

حدقت فيه باستغراب قليلاً قبل أن تهمس

" هي تعيش مع تيم ! "

حرك رأسه وهمس ولم يرفعه ولم ينظر لها

" لا هي في منزل قريب والديها الآن "

اضطربت ضربات قلبها بشكل أكبر وخشيت أن يكون مكروهاً قد

أصابه وقالت تحاول إبعاد تلك الأفكار عن رأسها وتجنب توقع

المزيد منها

" تركت شقته ! "

تبعت نظراتها المفاتيح التي رماها على الطاولة مصدرة رنيناً

جعل توترها يزداد كما الأجواء المشحونة حوله قبل أن تعود

بنظرها له ما أن قال ونظره عليهم

" شيء من هذا القبيل ورفضت طلبي لذلك قد تنجحين في
إقناعها "

ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة تشبه صعوبة خروج الكلمات من

شفتيها ولازالت تحدق فيه بريبة وتوجس

" ما الذي حدث معه ؟ وهل هو سبب عدم عودتك
لهذا الوقت ؟ "

أشاح بوجهه جانباً وقال باكتئاب

" كنت أبحث عنه ولم أجده "

ارتفعت يدها لصدرها وانقبضت أصابعها على قماش بلوزتها في

حركة لا إرادية وهمست بصعوبة

" هل هو بخير ؟ "

نظر لعينيها هذه المرة وقال بصوت مرتخي

" سيكون كذلك بالتأكيد "

شعرت ببعض الارتياح واستطاعت التنفس بشكل طبيعي أخيراً

فهو على الأقل يبدو واثقاً مما يقول ، كان التعب واضحاً على

ملامحه وخطوط وجهه الرجولية العميقة كما التجهم المخيف وقد

قال ببعض الهدوء الممزوج بالجدية

" اتركينا الآن من ذلك وأريدك أن تزوريها غداً وتتحدثي معها "

تغيرت ملامحها فجأة وابتسمت وهي تجدها الفرصة المناسبة

لمقابلة زين فهي كانت تفكر في حجة تقدمها لخروجها غداً دون

أن يمانع وقالت بابتسامة متسعة

" لا تقلق بهذا الشأن وسأحضرها معي إلى هنا وإن مرغمة "

ظهرت أول ابتسامة تقاوم تجهم ملامحه الرجولية وإن كانت أقل

من أن يقال عنها ابتسامة وهمس بصدق

" شكراً لك "

لم تستطع منع الاستغراب من التسلل لنظراتها وهي تراه يهتم

لوجودها هنا أكثر من اهتمامه لاختفاء ابنه !

كانت تلحظ أموراً غريبة تحدث مؤخراً من قدومه وماريه معه قبل

أيام وبكاءها الشديد حينها وملامحها التعيسة ثم طلبه منها إيصال

تلك الورقة لها في شقتهما لكنها كانت ولازالت لا تستطيع

السؤال ولا التدخل فيما يرفض هو الإفصاح عنه وكي لا يتحول

الأمر لمشكلات إن تدخلت هي فيه كما كانوا يصفونها لأعوام ،

مدت شفتيها بعبوس بسبب تلك الأفكار فالبشر لا يمكنهم نسيان

مغامرات طفولتك مطلقاً وإلصاقها بك .

تبعه نظرها وهو يقف فجأة ويخرج هاتفه الذي علا رنينه مجتاحاً

صمت المكان بنغمته التي صممتها الشركة المصنعة له دون

تغييرها كعادة اغلب الرجال ولم يهتم ولا لسقوط الكرسي خلفه

بسبب وقوفه السريع وأجاب من فوره قائلاً

" ماذا حدث معكم ؟ "

وهذا ما جعلها تقف على طولها أيضاً وملامحها تتبدل من

التوجس للخوف ما أن قال بصوت غاضب ومصدوم في آن معاً

" ماذا !! "

ارتفعت يدها لصدرها دون شعور منها وعلمت بأن الأمر يخص

ابنه ويبدو ثمة من يبحثون عنه أيضاً معه ! وما زاد وضعها

سوءاً مغادرته باتجاه الباب صارخاً بغضب هذه المرة

" هل أصاب الجنون عقله ! "

وركضت خلفه ما أن غادره باتجاه باب الشقة قائلاً بأمر حازم

" اتصل برواح فوراً وأنا قادم "


ووصلت معه للباب وما أن ضرب جبينه بيده متأففاً عادت راكضة

قبله ناحية المطبخ وأخذت المفاتيح بسرعة من الطاولة وعادت

بخطوات راكضة نحوه فاقترب وأخذهم منها بينما قالت بنفس

لاهث تنظر له وهو يستدير للباب ويفتحه

" ما الذي يحدث لا تتركني أ... "

لكنه قاطعها وهو يضع المفاتيح في يدها التي أمسكها بيده

الأخرى وشد عليها مؤكداً بحرص ينظر لعينيها

" أغلقي الباب ولا تفتحيه لأحد دون علمي ومهماً قال لك فقد
لا أعود الليلة "


وخرج مغلقاً الباب خلفه وتركها لهواجسها .. لألم قلبها ولنظرة

الضياع في عينيها فأغلقت الباب كما طلب منها وعادت نحو

الداخل متمتمه بحزن تتذكر تلك الغائبة

" ليرحمك الله .. إنهما لازالا يتعذبان بعدك ، لو كنتِ موجودة
الآن لربما .. "

وقاطعت نفسها واستغفرت الله باكتئاب وهي تتوجه ناحية المطبخ

لتضع الطعام الذي لن يأكله أحد في الثلاجة وقلبها يناجي كما

شفتيها بدعاء هامس حزين شملهما معاً هو وابنه .

*
*
*


وقف أمام باب سيارته في الشارع المكتظ بالسيارات كما المارة

والهاتف على أذنه وقال لمن يحدثه في الطرف الآخر

" كل شيء بات واضحاً يا أبان "

وتابع وهو يفتح الباب ويجلس على الكرسي بينما قدمه الأخرى

لازالت في الخارج

" هو من قتلهما لكنه أخطأ وقتل الرجل الذي وضعناه لمراقبتها
بدلاً من الذي دخل المنزل وهذا كان سبب اختلاف ملابسه "


وصله الصوت المحبط مباشرة

" سيكون وضعه سيئاً إذاً فالقتيل رجل مخابرات "

فتح الدرج أمام الكرسي بجانب كرسيه منحنياً له وقال وهو يضع
الأوراق التي جلبها معه فيه

" وضعه سيء في جميع الأحوال وإن كان القتيل زوجته فقط "

قال محدثه مباشرة

" كنا سنجد له عذراً لتخفيف الحكم بحجة خيانتها مع رجل آخر
كما بدا له "

استوى في جلوسه وأغلق بابه قائلاً بهدوء

" ما فهمته من لجنة الإدعاء أن التفاؤل أمر صعب للغاية "


وأدارت يده مفتاح السيارة بينما تمتم بضيق

" لقد أفسد كل شيء وكنا سنمسك بذاك الرجل وتلك المرأة معه
وستنكشف لنا حقائق كنا نجهلها "

وصله صوته متنهداً

" أقدار لا يمكن تغييرها "

حرك رأسه موافقاً وهمس وسيارته تدخل الطريق الرئيسي

" بالفعل "

قال ذاك مباشرة

" سأتولى توكيل محامٍ ممتاز يدافع عنه لعل الحكم يكون مخففاً
ولا أريد أن يعلم يمان مطلقاً لأنه سيرفض بكل تأكيد ويعتبر أتعابه
ديناً في عنقه "
قال بضحكة

" لهذا الحد ! "

قال بضيق

" وأكثر يا رجل إنه معقد ولا يمكنك فهم طريقة تفكيره "

قال مبتسماً ويده تدير المقود والسيارة تدخل شارعاً أكثر اتساعاً

وأقل ازدحاماً

" لو أنك مكانه ما كان سيكون هذا رأيك وستتصرف مثله تماماً "

قال والضيق لم يفارق صوته بعد

" أنا لست غريباً عنه بل صديق طفولته وزوج شقيقته لكنه
يملك دماغ بغل في رأسه "


ضحك ولم يعلق وأبعد هاتفه ينظر لشاشته حين صدر عنه صوت

تنبيه لمكالمة أخرى ونظر باستغراب لاسم عمته فهي لا تتصل

به في العادة وسيكون ثمة امر دفعها لهذا فالوقت ليس ليلاً

لتتصل للاطمئنان عليه ! قال سريعاً وهو يقرب الهاتف لشفتيه

" سنتحدث لاحقاً يا ابان ثمة اتصال لدي .. وداعاً الآن "

وفتح الخط لها ووضع الهاتف على أذنه فوصله صوتها سريعاً

" هل أنت هنا في حوران يا عمير ؟ "

غضن جبينه باستغراب وقال ونظره على المرآة أمامه والسيارات

التي تتبع سيارته منذ خروجه

" أجل وكنت سأغادر للتو ... ماذا هناك عمتي ؟ "

وصله صوتها سريعاً

" تابع طريقك بني جليلة متعبة قليلاً سنطلب لها طبيبة
وستكون ... "

قاطعها باستغراب

" تعب ماذا وما بها ؟! "

قالت بعد صمت لحظة

" تقيئت كثيراً ولا يمكنها السير تبدو لي تشعر بدوار
أو ما شابه "

اشتدت أصابعه على المقود بقوة وأداره بحركة قوية قائلاً بضيق

" كل هذا وتريدين أن أغادر ! لما لم تتصلي بي حتى
الآن عمتي ؟ "

واتخذت سيارته طريقاً فرعياً بينما أشار بالضوء الخلفي الأحمر

للسيارات التي تابعت طريقها بسبب إشارته تلك مغادرين من

دونه بينما وصله صوتها القلق

" لقد أخذت لها الخبز والعصير صباحاً وكانت بخير ، قالت فقط

بأنها تشعر بوهن الشديد رغم نومها لوقت طويل ويبدو أن

حالتها زادت سوءاً الآن "

همس ينهي الاتصال معها

" حسناً أنا قادم عمتي "

ورمى هاتفه جانباً بحركة غاضبة وزاد من سرعة سيارته التي

كانت تجتاز السيارات الأخرى بطريقة جنونية ولا يتوقف عن

لوم نفسه فما حدث مع شقيقها ثم إهمالها لطعامها كان السبب ،

لو أنه وضع عقلاً في رأسه ولم يخبرها عمّا حدث ما كانت لتعلم

وتَحْمل الكارثة في قلبها وحدها والجلسة كانت ستكون سرية ،

حتى الرقم الذي أرسل لها تلك الرسائل لم يكن تجاوزها لأمره

بالهين بالتأكيد ، وعاد شعوره بالغضب يتعاظم أكثر فهو لم

يتوصل ولا لهوية صاحبه ولم يستطيعوا تتبعه لأنهم لم يتمكنوا

من الاتصال به وتقرير شركة الاتصالات عنه بأنها ملك لأحد

العمالة الوافدين وقد سافر لبلده منذ وقت أي سيكون باع

الشريحة لمجهول فقط ليحصل على ورقة نقدية ولعبها ذاك

السافل ببراعة .

نظر لهاتفه ما أن علا رنينه وللاسم الظاهر على شاشته ورفعه

لاذنه فوصله صوته مباشرة قائلاً

" لما قطعت طريقك يا عمير هل ثمة مشكلة ما ؟ "

قال وسيارته تعبر آخر منعطف قبل الشارع الموجود فيه منزله

" تابعو طريقكم سألحق بكم "

قال بِشر من فوره

" أبلغ القوات الخاصة لا تغادر سيارتك لوحدها يا عمير "


همس بحسناً وهو يدس هاتفه في جيبه وكانت سيارته حينها أمام

باب المنزل الذي فُتح له بالتعرف عليه آلياً ، وخلال جزء من

الثانية كانت السيارة تقف أمام باب المنزل ونزل منها ضارباً بابها

بقوة وصعد العتبات بخطوات راكضة لم تتغير وهو يدخل ويصل

السلالم المشترك ويصعد درجاته كل ثلاثة منها في خطوة واحدة

نظرات من كانت في الأسفل تتبعه وقد لوت شفتيها بضيق قبل أن

تختفي مجدداً بينما وصل هو للأعلى لم يكن يراها وإن وقفت في

طريقه وأسرع ناحية باب غرفتهما المفتوح وما أن أصبح في

الداخل نظر للنائمة على السرير ووقفت عمته من فورها حيث

كانت تجلس بجانبها بينما كانت عيناها هي مغمضتان وتنفسها لا

يدل على نومها فتوجه نحوها وجلس حيث كانت تجلس عمته

ووضع يده على جبينها ثم وجنتها المحمرة بشدة وكانت حرارتها

منخفضة فرفع نظره لعمته التي لامست كتفه تحاول إخفاء القلق

الذي كانت ترى أعظم منه في ملامحه ونظرته تلك هامسة

" ستكون بخير لا تقلق بني فالطبيبة ستصل قريباً "

وقف وقال وهو يبعد اللحاف عن جسدها

" لن أنتظر أي طبيبة سآخذها للمستشفى "

لكن الواقفة بقربه كان لها رأي آخر وهي تمسك بذراعه قائلة

" اتركها تراها أولاً إنها تقيم هنا ولها عيادة قريبة فقد لا يحتاج
الأمر لنقلها وإحداث بلبلة أنت في غنى عنها يا عمير "

قال بضيق يشير بيده للنائمة قربهما

" صحتها أهم عمتي وعليها أن تخضع لكشف عام وتحاليل
شاملة ، ما الذي ستفعله تلك الطبيبة ؟ "

قالت ولازالت متمسكة برأيها

" أخبرتك بأنها تمتلك عيادة أي أنه يمكنها فعل كل هذا من دون
نقلها لأي مكان والتحاليل والكشوفات يمكن إجراؤها في أي وقت
ومكان هي ستكشف عليها فقط "

أومأ برأسه وإن لم يبدو عليه الاقتناع ونظر ناحيتها سريعاً ما أن
وصله صوت أنينها وعاد للجلوس مجدداً وتخللت أصابعه شعرها
ناحية اذنها وصدغها قبل أن يطبطب على وجنتها هامساً

" جليلة "

ففتحت عيناها قليلاً وازداد عمق أنفاسها وانحنت عمته نحوها

حينها قائلة

" جليلة ما الذي تشعرين به ؟ ماذا يؤلمك ؟ "

تحركت شفتاها الجافة هامسة بتعب

" أريد ماء عمتي "

فنظرت لابن شقيقها قبل أن توليه ظهرها قائلة

" سأجلبه أنا "

وغادرت الغرفة بينما ساعدها هو على الجلوس بتمرير يده تحت

رأسها ورفعها بخفة ويده الأخرى تمسك بساعدها وأحاطت كتفاها

ذراعه فسقط رأسها على كتفه وعاد جفناها للإنسدال ببطء

فضرب وجنتها بيده قائلاً

" جليلة افتحي عينيك "

فارتفعا مجدداً وببطء أشد ودخلت عمته تحمل كوب ماء في يدها

وناولته إياه ما أن مد يده لها ووقفت تراقبها بحزن وهي تحاول

الشرب منه بينما كان هو يميله لشفتيها على دفعات صغيرة كي لا

ينسكب الماء منه ومده لها مجدداً ما أن أبعدت رأسها تنزله

للأسفل ومررت أصابعها في غرتها ترفعها للأعلى بحركة بطيئة

فقالت التي كانت تمسك الكوب بكلتا يديها

" يبدو لي أنها استعادت وعيها "

حاول رفع رأسها وكفه وأصابعه تحيط بوجنتها وفكها وقال

" ما الذي يؤلمك يا جليلة ؟! "

رفعت رأسها حينها وبشكل أكبر وغطت عيناها بظهر يدها وخرج

همسها متعباً

" أشعر بالدوار وألم في معدتي "

واشتدت شفتاها بسبب تألمها الذي كانت تصفه فنظر لعمته وقال

مندفعاً وكأنها تعيش معها

" ما الذي أكلته اليوم ؟ "

حركت رأسها في حيرة وقالت

" لقد جلبت لها العصير الذي نعده
بأنفسنا كل صباح والخبز أيضاً وجميعنا أكلنا منه !! "

نظر لها ما أن سقط رأسها على كتفه مجدداً ومسحت يده على

شعرها وأدنى شفتيه من جبينها وقبّله بنعومة قبل أن يحضنها

بكلتا ذراعيه ودفن شفته وذقنه في شعرها فابتسمت عمته بحياء

وغادرت الغرفة حين أدركت بأن وجودها بات لا حاجة

ولا داعٍ له .

وما أن وقفت خارج الغرفة نظرت ناحية السلام وللتين صعدتا منه

واحدة منهما ابنتها والأخرى ستكون الطبيبة المنتظرة بالتأكيد

والتي كانت في منتصف الأربعين تقريباً ممتلئة الجسد قليلاً

بشرتها شديدة البياض تلبس حجاب بني ناعم لم يتجاوز طوله

كتفيها وتضع نظارة شمسية كبيرة مثبتة فوقه ويبدو على

شخصيتها ومشيتها كما ثقتها بأنها طبيبة بالفعل كما كانت تحمل

حقيبة في يدها وتسير مسرعة نحوها فأشارت لها بيدها على

الغرفة التي دخلتها فوراً دون طرق ولا وقوف للاستئذان وكأنها

في أروقة مستشفى !

وما أن أصبحت في الداخل حتى خرج ابن شقيقها من ذات الباب

وأغلقه خلفه نظراتها تراقبه وهو يقف مواجهاً له يدس يديه في

جيبي بنطلونه نظره يرتفع مع رأسه للأعلى ويرجع للباب أمامه

كل حين وكأنه يحصي الدقائق بنفاذ صبر .

كانت نظراتها له تحمل القلق والحزن في آن معاً قلقة على الفتاة

الطيبة الرقيقة وحزينة على حال ابن شقيقها الذي لم يكن يخفى

توثره وانفعاله كما قلقه الشديد لا في وجهه ولا تصرفه ، بينما

كانت نظرات الواقفة بجانبها مختلفة تماماً فكانت كلها نظرات

غضب واستهجان ولم يعجبها قط قلقه الواضح للعيان وكانت

تشعر بالمكان يضيق بأنفاسها حد الاختناق فهمست لوالدتها

" سأنزل للأطفال أمي "

وغادرت باتجاه السلالم دون أن تنتظر تعليقها ولا أن ترى إيماءة

رأسها موافقة فهي كانت تنتظر فقط خروج تلك الطبيبة ليطمئن

قلبها على النائمة في الداخل ونظراتها تنتقل من الباب الموصد

لابن شقيقها والذي باتت رؤيته للساعة في معصمه طقس جديد

من طقوسه ونظر لها حين نفذ الصبر منه كما يبدو وقال بضيق

مشيراً بيده لباب الغرفة

" ما بها نامت في الداخل هذه ؟ "

قالت في تفهم واضح

" علينا لانتظار لتقوم بعملها فلن يعجبك بالتأكيد أن تخرج
خلال خمس دقائق "

تأفف نفساً طويلاً ومرر أصابع يده في شعره وصولاً لقفا عنقه

وتركها هناك وبدأ يشتت نظره في أماكن عده فمدت يدها

لكتفه وقالت

" ستكون بخير يا عمير لما كل هذا القلق ؟ "

نظر لها وقال

" ما كان عليا تركها تهمل نفسها وطعامها هكذا "

قالت في حيرة

" لقد تأكدت بنفسي من تناولها لطعام العشاء البارحة كما
الفطور اليوم "

أبعد يده عن عنقه منزلاً إياها وصولاً لنحره وحرك رأسه في

حيرة مماثلة دون أن يُعلق وانفتح باب الغرفة حينها فتحرك نحوه

مباشرة وهي تتبعه ودخلا حيث التي كانت تجلس على ظهر

السرير هذه المرة تحاول بأصابع مرتجفة إغلاق الأزرار الأخيرة
في بيجامتها القطنية تقف قربها التي كانت تجمع أغراضها في

حقيبتها وأغلقتها ونظرت نحوهما مبتسمة قبل أن يستقر نظرها

على عينيه تحديداً والتي كان ينقل نظراتها بينهما وقالت باسمة

" لا داعي للقلق فكل ما في الأمر أن زوجتك حامل "


*
*
*

وقفت تنظر حولها قبل أن تتحرك مسرعة في اتجاه الممر الآخر

حتى كانت أمام التي فتحت باب جناحها وخرجت منه فقالت

هامسة تنظر لعينيها

" لقد غادر رواح ! أين سيذهب في هذا الوقت ؟ "

قالت بلا اكتراث

" لا يعنينا هذا ومغادرته أفضل من بقائه "

ونظرت تراقب المكان حولها قبل أن تنظر ناحيتها وقالت هامسة

" هل جلبتِ ما طلبته منك ؟ "

حركت جمانة رأسها من فورها ورفعت يدها التي كانت تحمل فيها

زجاجة معتمة بكتابة طبية طبعت على ورقة صفراء ملصقة عليها

ورفعت اليد الأخرى والممسكة بقوة بحقنة مملؤة بسائل أحمر

فاتح اللون فاتسعت ابتسامتها وسارت أمامها وهي تتبعها حتى

اجتازتا الممر الطويل وكانتا أسفل السلالم المؤدي لهدفهما

وهمست ملتفته لها حينها

" علينا أن نُسرع "

وصعدتا بأقدام حافية كما اتفقتا مسبقاً ومنذ مغادرة جناحيهما

وتسارعت خطواتهما وهما تصعدان السلالم القصير نسبياً حتى

كانتا في الأعلى وتسارعت الخطوات أكثر نحو هدفهما تسير

الأولى بكل ثبات وعزم يغذيه حقدها الأسود بينما كانت ضربات

قلب السائرة خلفها تتعالى تدريجياً كلما اقتربتا من هدفهما وما

زاد وضعها سوءاً الظلام والسكون من حولها وأقرت معترفة

لنفسها بأنها إن كانت وحدها لعادت أدراجها منذ وقت فكانت

تلتفت في جميع الاتجاهات وهي تحاول الالتصاق بالسائرة أمامها

قدر الإمكان حتى أصبحتا أمام الباب الذي وقفتا ناحية الصندوق

المعلق بجانبه وأخرجت أسماء هاتفها من جيبها وفتحته ونظرت

له وهي تضغط الأزرار الكثيرة المتعاقبة نظرها ينتقل بينهما بينما

تردد شفتيها كل رقم تنقله بأمر لسبابتها حتى سمعتا صوت

طقطقة خفيفة تلاها صوت ضجيج كهربائي خفيف رافقه ابتعاد

الباب المؤمن ببطء مما جعلهما تنظران لبعضهما وبينما كانت

إحداهما تبتسم بانتصار كانت الأخرى تبتسم بدهشة وتحركت ما

أن همست لها

" هيا لنسرع "

فتبعتها من فورها تحاول أن تكون بجوارها تماماً وهما تجتازان

الباب لتنتقلا من مكان مظلم لآخر أشد منه ظُلمة فأنارت أسماء

هاتفها تحركه في المكان الساكن الدامس تظهر معالمه في بقعة

الضوء المتحركة أمامهما حتى استقر ناحية باب الغرفة المغلق

فهمست جمانة

" ها هو هناك "

حركت رأسها وما أن تحركتا خطوة للأمام توقفتا مكانهما بسبب

الصوت الذي صدر من الجانب الآخر خلفهما وكأنه شيء ما ثقيل

يتم سحبه على الأرض فنظرتا لبعضهما أولاً وكأن كل واحدة

منهما تتأكد من أن الاخرى قد سمعت ما سمعته هي فتلك الجهة لا

أبواب فيها !

التفتتا معاً ما أن تكرر الصوت وعلا قليلاً وتوجه نور الهاتف نحو

مصدر الصوت عند الأرضية وضربات القلوب تصل الحناجر

والتوجس والريبة تجعل الحركة تسير كفيلم سينمائ بطيء

واتسعت العينان حين ارتفع الضوء ليستقر على الجسد الضخم

الطويل والشعر المشعث المليء بالغبار فصرختا معاً بقوة

تحضنان بعضهما حيث سقط الهاتف والنور معه نحو الأرض .


*
*
*

ركن سيارته عند الطريق المقابل لوجهته ونزل وأغلق بابها

ونظر لباب المحكمة الضخم المفتوح في الجانب الآخر يخرج منه

ويدخل إليه جميع تعابير الوجوه وما يمكن قراءته فيها ونظر

للملف الموجود في يده فها قد حانت اللحظة التي لا ينكر بأنه كان

يتمنى أن لا يصل لها بعد أن اطلع عليه ، لا يعلم ما ستكون تبعات

كشف ما يحتويه وما ستنتهي له تلك الساعات التي سيقضيها

هناك في الداخل فهو لا يقف أمام أي قاضٍ بل أمام وزير العدل

ذاته كقاضي وحيد في أول جلسة يعرفها لا يكون فيها ثلاث قضاة

يتشاورون في الحكم وعلم بأن مهمة الجميع في تلك القاعة لن

تكون بالهينة ولا ينكر بأنه يخشى من خسارة كلا الطرفين ولن

يبتهج بفوز المنتصر منهم بالحكم ومهما كان الحكم الذي سيتم

النطق به وخلال جلسة واحدة !

سحب نفساً عميقاً لصدره وتحرك نحو هدفه يجتاز السيارات

السائرة ببطء لازدحام المكان ببذلته السوداء ذات القماش الفاخر

لا يحمل أي حقيبة في يده كأي محامٍ يدخل ذاك المكان بل ملف

وحيد يراه يحمل ما تعجز عنه عشرات الحقائب وملايين العقول

والقلوب .


اجتاز الطريق المزدوج بخطوات شبه راكضة تباطأت ما أن كان

أسفل سلالم الباب الذي يتسع لأكثر من عشرة أشخص يدخلون

معاً وصعد عتباته بخطوات ثابتة وإن كان التردد والتوتر لهما

منه النصيب الوفير والذي ازداد حدة ما أن اجتاز الباب المتسع

حيث المكان الأكثر منه اتساعاً في مساحة شاسعة تتحرك فيها

الناس بعشوائية .. أبواب مفتوحة وأخرى موصده وأروقة

وممرات تصلها بأجزاء أخرى منها وتقدمت خطواته الواسعة

الثابتة يفكر في هدفه هنا فقط وهو تأدية المهمة التي وكلت له

على أكمل وجه وأن لا يهتم لتبعاتها وإن كرهتها نفسه .

" أباااان "
وقف متسمراً مكانه منتصف طريقه المستقيم وظن للحظات أنه

تخيل ذاك الصوت القادم من خلفه ! تلك البحة الرجولية والصوت

العميق الآمر والذي ميزه من بين كل ذاك الضجيج حوله والذي

تحول للصمت فجأة لا يعلم لأنه لم يعد يسمعه أم أن الجميع سمع

ما سمع ولاذوا بالصمت التام !

وتجلت له كل تلك الشكوك والخيالات ما أن استدار بجسده ووقع

نظره على صاحب الصوت ذاته حقيقة لا توهم فيها كما كان يظن

وعلم لما تسلل الصمت للمكان حينها تباعاً بينما تحركت خطواته

نحوه وكأنه منوم مغناطيسياً ولم يبعد نطره عن العينان بالنظرة

الصقرية الحادة لم ينتبه ولا للجسدين الأنثويين خلفه حتى كان

أمامه مباشرة وانتقل نظره حينها ليده التي مدها له وعاد ورفعه

لعينيه بصدمة حين وصله صوته الجامد جمود الصخر

" هاته وغادر لمنزلك "

فتح فمه وأغلقه وحاول أن يقول ما لا يعلم ما سيكون ولم يصدر

عنه أي صوت وعقله يحاول استيعاب ما يحدث !

ونجح الأمر أخيراً وهو يسمع صوته يخرج من جوفه

" هل ألغيت الأمر ؟ "

" لا "

كان جواباً منطقياً أوصله للا منطقية فكيف يكون هذا وتستمر

القضية بعمود ناقص !

رفع يده والملف فيها وقال ببرود

" يمكنك أخذه بالتأكيد لكني لن أغادر "

أخذه منه قائلاً بحزم

" ستعتبره أمراً يا أبان وتغادر "

لو كان رجلاً آخر يقف أمامه الآن وإن كان هو وفي مكان غير

هذا المكتظ بالناس لكان صرخ مصرحاً برفضه فهو من اختاره

لهذا لما يطرده ؟

كان يقاوم الكلمات كي لا تخرج منه مرغماً وانطفأت شعلة

غضبه تماماً ما أن انتبه لصاحبة العينان الحزينة خلف كتفه

الأيمن تلاه انتباهه لأخرى تقف يمينها لا يعرفها ولم يراها يوماً

تكبرها سناً ! لكن ثمة أشياء غريبة في ملامحها تجعله يشك

باختلاط دمائها بأخرى غير عربية كما ملابسها !

عاد بنظره لعيني الواقف أمامه تمسك أحد يديه الملف الذي أخذه

منه والأخرى يدسها في جيب بنطلون بذلته كحلية اللون يبتعد

بسببها طرف سترتها المفتوحة مبرزة الجسد المنحوت بطريقة

رجولية لا تخفيه تفاصيل القميص الناصع البياض وقال

بصوت منخفض

" حسناً كما تريد مطر شاهين "


وغادر مجتازاً له بل لهم ثلاثتهم ووجهته كما نظره ثابتاً وهو

الباب الذي دخل منه بينما من تركه خلفه استدار حينها لمن

أصبحتا في مواجهته ورفع يده والملف فيها ومدها نحو التي

نقلت نظراتها المصدومة بينه وبين عينيه وخرج صوته حازماً

كأمر لا نقاش فيه يشبه قوته .. تلك القوة المنبعثة من عينيه كما

تفاصيله جميعها

" أنتِ من سيقرأ هذا أمام القاضي يا تيما "

فانفرجت شفتاها بذهول وامتلأت عيناها بدموع رقيقة دمجت

الصدمة والفزع معاً في مزيج غريب وتحرك رأسها في ايماءة

رافضة والدموع تتجمع أكثر في الأحداق الواسعة وانتفض

جسدها ما أن صرخ فيها بأمر

" أمسكي يا تيما "

فارتفعت يدها له وأخذته منه ليس بسبب غضبه فقط بل والصوت

الانثوي الذي همس قربها

" لا تبكي أمام الناس يا حمقاء كوني قوية لو أردتها
أن ترجع له "

فأمسكته كلتا يداها تشهق الهواء كالغريق لصدرها تراقب من بين

دموعها سجينة الرموش الكثيفة الذي أولاها ظهره وسار

بخطوات ثابتة بينما عجزت هي عن التحرك من مكانها تشعر

بالتجمد في جميع أطرافها لولا اليد التي أمسكت بيدها وسحبتها

معها خلفه مجتازين التجمعات التي وقفت تراقب ما تراه ولا

تفهمه ، ولن يستغرب أحد هذا فلم يتوقع أيّاً منهم هذا الرجل هنا

يجهلون ما يحدث والأنظار جميعها تتبع الجسد الرجولي الطويل

والسائر بخطوات واسعة واثقة وشموخ وكبرياء عرفوه عنه من

قبل أن يروه حقيقة أمامهم وليس صوراً عبر شاشة مضيئة وإن

كانت حية ، وزاد كل ذلك السائرتان خلفه الفتاة بزي المدرسة

صاحبة الجمال الطفولي الواضح والعينان الدامعة الحزينة تسحبها

من يدها المرأة ذات القوام الممشوق والسيقان الطويلة يغطيهما

بنطلون مشدود وقميص ضيق بأكمام قصيرة تناثرت فوقه

خصلات الشعر الطويل المموج تسير بأريحية وثقة وكأنها

عارضة أزياء تعتلي المنصة لا ترى سوى هدفها وهو الرجل

السائر أمامهما والحرس من حولهم يجعلون مسافة محددة بينهم

وبين جميع الموجودين هناك .

**********

المخرج :~

بقلم / Hanita

♥من مطر إلى غسق♥

تظنين أني لا أملك قلباً و إنما حجراً صوان!!

ويحكِ هلّا فكرت قليلاً و أنصفتني يا ابنة صنوان؟!!

من ذا الذي أهداك مدينة بأكملها؟! من أهداك مدينة العمران؟!!

من ذا الذي يدفع عمره ثمناً ليحميك من كيد غيلوان؟!!

أنا من هجرني الوسن كبحر قد هجر الشطآن...

أنا من بات عالمي مظلماً خالياً من جمال الألوان...

لكنني لست نادماً و لن أكون قادراً على النسيان...

كيف سمحتِ لنا بأن نكون ضحيتي غيسانةٍ و جبران؟!!

بعد ما قمتِ بفعله لا تندمي فلستُ أملك فضيلة الغفران..

أكملي دربك ليس هناك طريق عودة فقد فات لكلينا الأوان...


نهاية الفصل ..


 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 09:03 AM   المشاركة رقم: 1590
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئة مميزة


البيانات
التسجيل: Feb 2015
العضوية: 289774
المشاركات: 1,941
الجنس أنثى
معدل التقييم: شيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسيشيماء علي عضو ماسي
نقاط التقييم: 4305

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شيماء علي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 

اوووووه .. نزل الفصل الجديد!
ما توقعته الا بعد العيد صراحة بس احلى مفاجئة â‌¤â‌¤

الحمد لله ع السلامة والله يجعلها اخر الغيبات

 
 

 

عرض البوم صور شيماء علي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 10:32 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية