لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-07-21, 11:03 PM   المشاركة رقم: 1576
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

جلس على طرف السرير يُغلق أزرار بيجامته وتنهد بنفاذ

صبر مغمضاً عينيه بسبب التي قالت بضيق تقف قربه

" ما معنى صمتك هذا يا ضرار ؟ "

وتابعت حين لم يعلق وقد وصله صوتها المتضايق ممزوجاً

ببحة بكاء

" هل هو إبني لوحدي من مات مقتولاً على يديها ؟ "

وتحول الأمر لصراخ باكي وهي تتابع بغضب من صمته

" لا أفهم معنى ما تفعلونه جميعكم ! بل وما الذي لازالت
تفعله تلك القاتلة هنا ؟ "

نفض قميص بيجامته وهو يقف حيث كان قد وصل لزره

السفلي يغلقه والتفت ناحيتها وقال بحدة

" لا أعلم ما الذي لا تفهمينه فيما قلت وأعدت حتى سئمت
من تكراره ؟ "


تساقطت الدموع من عينيها وضربت بيدها على صدرها

وصاحت بحرقة

" إبني هذا الذي قتل يا سلطان .. إبني وقاتلته حرة طليقة
تعيش وتنام وتأكل في ذات المكان الذي أنا فيه فكيف تريد
مني أن أصمت وأفهم ؟ "


تنهد بضيق نفساً قوياً خرج من شفتيه كتأفف طويل قبل أن

يشير بيده للبعيد قائلاً بحزم

" القضية على مكتب وقاص وإن كانت المذنبة فسيأخذ
القانون مجراه "


وكان تصريحه ذاك بمثابة رمي الحطب في النار في قلب

التي صرخت بحدة وانفعال

" ولأنها على مكتب ابنك ذاك أنا أعلم جيداً ما الذي
سيحدث "

اتسعت عيناه بغضب قبل الصدمة وقال

" ما الذي تعنيه بقولك هذا يا أسماء ! "


وقاطعها ما أن كانت ستسرد ما في جعبتها دون اهتمام

بينما رفع سبابته مهدداً بحزم

" وقاص أنزه من أن يبيع مبادئه من أجل أحد وأياً كان
افهمي هذا ؟ "

ورغم كل ذلك فقد احتجت بعنف صارخة تلوح بيدها بغضب

" سيجد لها ثغرة ما وسيخرجها جدها منها وإن بتقديم
تقارير عن وجودها سابقاً في المصح النفسي ولن يترك
حفيدته تدخل السجن بينما إبني ... "


وتبدل صوتها للبكاء وهي تضرب صدرها مجدداً وصرخت

بحرقة أم مذبوحة في ابنها الوحيد

" إبني أنا لا يُهم مات انتهى لا أحد يهتم به "

وازداد صراخها كما بكاؤها حدة وهي تتابع

" بل ومنذ كان طفلاً وفتياً وحتى حين أصبح رجالاً
يُعامل كطفل ولا حق له ولا في الاقتصاص الآن من
قاتله متعمداً "

حرك رأسه بقوة ينظر لعيناها الباكية تتساقط منها الدموع

دون توقف وكان هو من ضرب بقبضته على صدره هذه

المرة قائلاً بألم

" ومن قال أني لا أشعر به ؟ هو إبني أيضاً وفقدته وهو في
ريعان شبابه "


صرخت من فورها تشير بيدها خلف كتفه وحيث باب الغرفة

" وقاتلته أمامك هنا ولا تتحدث ؟ لا رأي لك ولا مع ابنك
ولا والدك "


وكان ذاك ما جعله يشتعل مجدداً وبغضب أشد من سابقه

وصرخ فيها وكأنه إعصار مدمر

" لا أحد يتحكم في رأيي يا أسماء فتوقفي عن رش
النار بالبنزين "


اشارت لنفسها هامسة بصدمة

" أنا ! "

تنفس بقوة علا معها صدره ونزل وعاد للصراخ مجدداً

يشير لها بسبابته

" أجل وبأسلوبك هذا جعلت ابنك يكره أشقائه ويعاديهم
حتى مات "

وكانت تلك الرصاصة التي جعلت لسانها يقذف حممه

مجدداً وصرخت

" لا تتهرب من ضعفك أمامهم باتهامي "


" أسمااااء "


اتسعت عيناها تنظر مصدومة ليده التي يبست في الهواء

عالياً قبل أن تنظر لعينيه المشتعلتان بغضب وأشارت

لنفسها وهمست وعيناها تمتلئ بالدموع

" تضربني يا سلطان ! "


شد أصابعه في قبضة واحدة وأنزلها بحركة عنيفة يشد

فكيه بقوة حتى كان يشعر بهما سيتحطمان ورفع سبابته

بينهما وهمس من بين أنفاسه اللاهثة بغضب

" قسماً لولا أني أتفهم ما تمرين به لكنت فعلتها "


ارتجف جسدها من شدة ما كانت تشعر به والذي كان آخره

الخوف منه .. بل هو الألم والحسرة والغضب وحتى

الكراهية لكل من تراه السبب في موت ابنها الوحيد والذي

حلمت وكأي أم أن تراه رجلاً ناجحاً وأباً عظيماً وحُرمت من

كل ذلك وليس الآن بل منذ وقت طويل .. طويل جداً وهي

ترى الأفضلية لأشقائه دونه حتى أصبح ينعته الجميع

بالفاشل وتزوج بمجنونة خرساء ولم يمانع أحد منهم كما لم

تعلم أو يهتم ليكون موته على يد ابنتهم تلك ، وها هي

تراهم الآن يسعون لإنقاذها من عقوبة فعلتها تلك وكأنها لم

تفعل شيئاً ويختلقون لها تبريرات سخيفة وكأن ذاك الذي

قتلته حشرة وضيعة وليس رجلاً وابنهم من دمهم ولحمهم

غاب ولن يراه أحد مجدداً بسببها وعلى يديها .


خرجت الكلمات من بين ارتجاف شفتيها وكأنها تنطق

كل حرف من عينيها الدامعة والمشتعلة بحقد تنظر

لعيناه تحديداً

" لن أكون وهي في مكان واحد يا سلطان ... إما أنا
وإما هي "

وراقبت عيناها المحمرتان من البكاء والغضب الذي همس

ب( لا حول ولا قوة إلا بالله ) وقد التفت للسرير يعدل

وسائده بحركة غاضبة فنفضت يديها بحركة غاضبة أيضاً

عادت معها دموعها تتقاطر من عينيها وتوجهت جهة باب

الغرفة وخرجت منها ضاربة إياه خلفها بقوة وجلست فوق

أريكة صالون جناحها تكمل بكائها الموجع وحيدة تتكئ

بمرفقها على المسند الجنابي بينما تخفي عينيها الباكية في

كفها تُسند رأسها بها وتبكي دون توقف ينتفض جسدها مع

كل شهقة وعبرة لا ترى سوى صورته أمام عينيها مما

يزيد وضعها السيء سوءًا ، ضربت يدها الأخرى على

فخذها المغطى بقماش بيجامتها القطنية بلون القرنفل

ومسحت يدها عليها وخرجت كلماتها الباكية كأنين

ظبية جريحة

" يا حرقة قلبي عليك والنار التي تشتعل في داخلي
كالجحيم يا بني "


وكانت بالفعل نار تتآكلها من الداخل تشعر بها في كل قطرة

دم تسري في عروقها لم تستطع معها ولا الجلوس

فاستقامت واقفة ووجهتها باب الجناح وخرجت تعاود لف

شعرها الأسود الناعم وغرست المشبك فيه تثبته جيداً

ووجهتها الطريق المؤدي للسلالم المشتركة بين الطابق

الموجودة به والذي يليه تمسح عيناها المحمرتان من كثرة



البكاء بقوة بطرف أكمام بيجامتها تزيل الدموع عنهما

وصعدت عتبات السلم بخطوات غاضبة تشبه نار الحقد

المشتعلة في عينيها والتي كانت تجعلها لا ترى أمامها شيئاً

سوى عدوها الوحيد ومن تراه السبب في كل ما هي

فيه الآن .


عبرت الممر المؤدي لغرفتها وفي كل خطوة تضرب قدمها

وكأنها تريد تحطيم الأرضية الرخامية من تحتها تنفيساً

عما تشعر به بل وتأكيداً على ما هي عازمة عليه .


وصلت باب الجناح والذي وقفت أمامه تنظر له بدهشة فهي

لم تتخيل أن تجده مفتوحاً أمامها هكذا ونسيت تماماً في

غمرة غضبها أنه ثمة باب سيمنعها عنها تتحصن خلفه منذ

الصباح بل ومنذ غادر حارسها ذاك الذي لا يسمح لأحد

وبأوامر منه من الاقتراب منها سوى زوجة والده التي

ربته تلك وذاك ما كان يزيدها غضباً وقهراً يقومون بحماية

مجرمة قاتلة منهم بدلاً من أن يكون العكس وأن يسلموها

للقضاء كي لا تُجرم في حق شخص آخر ! وشعرت وكأن

قدرة الله فتحت أمامها هذا الباب لتنتقم لفلذة كبدها الانتقام

الذي لم يسمحوا للقضاء بتطبيقه عليها لعل النار المتأججة

داخلها تهدأ ولو قليلاً .


شدت قبضتاها بجانب جسدها بقوة تدفع الأنفاس الحارة

لرئتيها في دفعات متتالية تكاد تشعر بأسنانها تتحطم من

شدها عليها وتقدمت نحو الداخل تشعر بإعصار ضخم

يلتف حولها يكاد يحرق كل ما تمر به لتتوقف تلك الخطوات

فجأة وما أن أصبحت وسط المكان ونظرت للجالسة على

الأريكة المستطيلة يغطيها قماش من الجلد الأبيض الفاخر

وهمست بصدمة

" جُمانة !! "

وانتقلت نظراتها المستغربة لعينيها المجهدتان من البكاء

وأنفها المحمر ووجنتاها المشتعلتان بسبب كثرة مسح

الدموع التي لم تجف حتى الان فكانت وكأنها ترى نفسها

في مرآة تعكس مشاعر من ينظر إليها !

وحين لم يصدر عن الجالسة مكانها سوى امتلاء مقلتيها

بدموع زاد انعكاسها ولمعانها العدسات الاصطناعية التي لم

تعد تفارقهما نقلت نطرها منها لباب الغرفة المفتوح يظهر

من خلاله السرير الخالي تماماً وعادت بنظرها لها وخرج

صوتها مبحوحاً متأثراً بالبكاء الذي لم يغادرها

لساعات طويلة

" ما الذي تفعلينه هنا ! وأين تكون تلك القاتلة ؟ "


وكان ذاك ما جعل الجسد الممتلئ باعتدال بات مختلفاً كثيراً

عن السابق ينتفض واقفاً والدمعة المتحجرة في مقلتيها

تنساب ببطء يشبه كلماتها المليئة بالألم

" خرج بها وقاص منذ وقت ومن أمامي وكأنها زوجته
ولست أنا ... "


وتحولت الدمعة اليتيمة لقطرات متتابعة وتبدل الصوت

المنخفض المتألم لصراخ باكي وهي تشير لنفسها

" بل ولم ينظر ناحيتي ولا مجرد النظر وكأني والخزانة
في الغرفة سواء "


قالت حينها أسماء بحقد ومن بين أسنانها نظراتها تؤكد

كل ما تقول

" قسماً لو وجدتها هنا لقتلتها وقطعت لحمها بأسناني "

قالت حينها جمانة باكية

" وهذا ما كنت سأفعله لولا دخوله فجأة "


همست الواقفة أمامها بصدمة

" كنتِ ستقتلينها !! "

رفعت قبضتها وقالت بحقد وإن كانت ليست مقتنعة

بقوتها لفعلها

" وكانت السكينة في يدي والفرصة مواتية وها
قد ضاعت "


حركت تلك رأسها تشير بعيداً قائلة بحقد

" وكنت سأفعلها قبلك لكن زوجك ذاك نام في ممر غرفتها
البارحة وأخفاها هنا صباحاً "

وكانت وكأنها وجهت صفعة قوية بيد من فولاذ لها وتيبست

ملامحها بصدمة وعيناها الدامعة تكاد تتمزق من الاتساع

الذاهل وخرج صوتها اخيراً من مكان لا يمكن أن

يكون جوفها

" نام معها هناك ! "

قالت التي لا تزيد حالها إلا سوءاً مؤكدة

" أجل ورأيته بأم عيني يدخل ممر غرفتها ولم يغادره "

فعلى نحيبها وتذكرت من فورها تلك القبلة وما فعلت أمام

عينيها ويدها تضرب على صدرها وكأنها تمنع روحها

بالقوة من مغادرة جسدها مما جعل تلك تقترب منها

وأمسكتها من ذراعيها وقالت ودموعها تنساب من عينيها

" عدوي وعدوك واحد يا جمانة وعلينا أن نثأر لنفسينا
منه وعليها أن تخرج من هنا قبل أن تبقى ونخرج نحن ...
تسمعين يا جمانة ؟ "


لكنها كانت وكأنها لا تسمعها ولم تتوقف عن الترديد

باكية ونظرتها معلقة بالسقف بينما يدها تضرب صدرها

دون توقف

" قلبي يحترق .. قلبي يحترق يا الله "

وكانت تنتحب دون توقف كذبيحة تصارع خروج الروح

يدها لازالت تضرب فوق قماش الفستان الناعم الذي يغطي

صدرها وعيناها تذرف الدموع دون توقف فحضنتها تبكي

معها بينما تبكي حالها ونفسها وكل واحدة منهما وضعت

سبب تعاستها في شخص واحد فقط تراه لا يستحق ولا

الحياة التعيسة التي يحياها الآن .

" ما بكما ! ما الذي حدث هنا ؟ "

ذاك الصوت الرجولي العميق الصارخ فوق بكائهما ومن

يميزه جميع ساكني ذاك المكان هو ما جعل مسلسل النحيب

الطويل يتوقف فجأة وافترقتا بحركة لا شعورية ونظرت

العيون الباكية له فوراً فلم يغب عن أي منهما صاحب ذاك

الصوت وقد أكده ما رأتاه أمامهما وجسده قد اجتاز باب

الجناح الإلكتروني المفتوح بخطوتين نحو الداخل ينظر لهما

عاقداً حاجبيه وملامحه الصلبة زادها عبوس قاتم فاق ذاك

الذي عهدوه في ملامحه سنوات عيشهما معه في مكان

واحد طالت أو قصرت ولم تتحدث أياً منهما ولم ينتظر هو

المزيد وقد انتقلت نظراته لباب الغرفة المفتوح قبل أن

يقول بجدية وقد عاد بنظره ينقله بينهما

" ما بها زيزفون ولما تنوحان هنا ؟ "

لم تستطع أسماء النطق بأي كلمة ومن عرفته جيداً لأعوام

بينما فعلتها الواقفة بجانبها وصدمتها فبالرغم من أنها هي

التي عاشت معه لسنوات وهو والد زوجها لم تقوى على

فعلها ولم تتخيل أبداً أن تفعلها جمانة التي يعرفونها سابقاً

والتي لم تُصبح هنا سوى من أربعة أعوام تقريباً وصاحبة

الشخصية المهزوزة التي تبكي وحيدة بعيداً عن الجميع

أكثر مما تترجم مشاعرها بالأفعال خاصة وهما موجودتان

هنا دون مبرر تقدمانه في طابق لا يسكنه أحد من تلك

العائلة بل وجناح يفترض أنه محمي برمز سري لا يعرفه

الكثير منهم ، وانتقلت نظراتها ناحيتها ما أن قالت بألم

وبكاء بل وحسرة كان أقرب للضيق

" اسأل عنا نحن وليس هي فواحدة قتلت ابنها والأخرى
تسرق منها زوجها "

واطبقت شفتيها المرتجفة بسبب بكائها ما أن خرجت كلماته

القاسية وملامحه تزداد عبوساً صارخاً

" سألت عنها وليس عنكما فمن لا تملك الجواب تصمت "

فلم تعلق أيّا منهما ليس فقط خوفاً منه بل وبسبب الذي

دخل من باب الجناح حينها وكانت رقية التي تنقلت نظراتها

بينهم باستغراب وسيكون هذا حال كل من سيقتحم هذا

المكان بالتأكيد ، لكن ليس بحثاً عن ساكنه مثلهم فهي رأتها

ووقاص يغادران بسيارته وصعدت فقط لتُنزل صينية

الطعام ظناً منها أن وقاص أغلقه قبل مغادرته واستغربت

حين وجدته مفتوحاً ولم تكن تتخيل أن تجد واحداً منهم

هنا فكيف بثلاثتهم !

تبادلت جمانة والواقفة بجانبها نظرات صامتة قالت الكثير

مما تفهمه كلاهما دون حديث مفاده أن حق كل واحدة

منهما عليها أن تأخذه بيديها فلن يمنحوه لها وهم عائلة

وهي غريبة عنهم مهما كانت مكانتها وتحركتا من هناك

الواحدة في إثر الأخرى وكل واحدة منهما رمقت رقية نظرة

حارقة وهي تخرج بينما نظراتها المستغربة تتبعهما فهي

في نظر الأولى تناصر وقاص في دفاعه عن قاتلة ابنها

وفي نظر الأخرى تقف مع عدوتها ضدها ولم تعترض

يوماً على ما يفعله زوجها بها وهي التي يحترمها ويحبها

وكأنها والدته ، ولن تستطيع بالطبع أيّا منهما أن توجه

ذاك الغضب المدفون تحت الصمت المكرهة عليه لضرار

السلطان فكان من نصيبها هي .

عادت نظراتها سريعاً للذي قال بجمود ينظر لها

" أين هي زيزفون ولما تم نقلها إلى هنا ؟ "
وراقب عيناها التي كان أثر البكاء لازال يظهر عليهما فهي

لازالت بين الحين والآخر تفقد سيطرتها على دموعها ما أن

تتذكر ابن زوجها وآلمها رحيله بالقدر الذي لم تتخيله يوماً

فبالرغم من طباعه ومنذ صغره وكل ما كان يفعل تألمت

لفكرة أنه غاب ولن يعود مجدداً وهو في ريعان شبابه ..

كما تتألم لحال والدته وهي أم مثلها وتعلم معنى أن تقلق

على بنها إن تأخر ليلاً فكيف أن يموت ؟

أخفضت نظرها وقالت بحزن

" وقاص من نقلها إلى هنا وهو من أخذها معه منذ قليل "


وارتفع نظرها لعينيه مجدداً ورأت فيهما ما توقعته تماماً

وهو يقول بحزم لازال حاجباه يحتفظان بانعقادهما المعهود

وإن كانت تراه اسوأ

" ولما ! "

لم تكن تعلم عن أيهما يسأل فقالت بقلة حيلة وبعد

تنهيدة قصيرة

" لا أعلم يا عمي "

وما أن كان سيستدير مغادراً أوقفته يدها التي لامست

ذراعها فالتفت برأسه ونظر لعينيها التي تغلبت نظرة الحزن

فيهما على حزن صوتها قائلة

" حالها لا يسر يا عمي ووقاص لم يفارق ممر غرفتها
البارحة ولم تكن ليلة هينة عليها كما يبدو وما أن طلعت
شمس الصباح نقلها إلى هنا وهو يصر على أنه ثمة
شخص ثالث كان معهما وقت الحادثة ... "


وتكسر صوتها وهي تبعد يدها عنه وحضنتها لصدرها بينما

غشت عيناها سحابة دموع رقيقة قائلة برجاء كسير

" لم أراها هكذا من قبل .. لقد أصبحت منفصلة عمّا حولها تماماً
وكل ما اخشاه أن تمرض مجدداً وترجع للمصح .. يكفيها ما
قاسته كل حياتها "

وتدلت الدمعة من طرف رموشها وهي تراقب انسدال جفنيه

وكأنه يخفي شيئاً يكره أن تراه في العينان الحازمة طوال

الوقت والذي لم تخفيه أضلعه وهو يتنهد نفساً عميقاً قبل

أن يستدير مغادراً لا تسمع سوى صوت اصطدام رأس

عصاه المذهب بالأرض فرفعت نظرها عالياً للسقف

وأغمضت عيناها الدامعة هامسة بعبرة مكتومة

" يا الله كن رحيماً بقلبها الصغير فهو لن يتحمل المزيد "


*
*
*


" توقف هنا "

أخفض سرعة السيارة ونظر ناحيتها باستغراب ما أن وصله

همسها بتلك الكلمات الجوفاء وشكَ لوهلة أنه تَخيل هذا وبأنه ثمة

نسيم هواء ما اخترق زجاج سيارته واصطدم بطبلة أذنه يحاول

إيقاظه من دوامة أفكاره السوداء تلك والتي لازالت تبتلعه وتقذفه

لتعود وتبتلعه مجدداً ودون توقف .

التصقت نظراته بها وهو يوقف السيارة حيث كانا فوق جسر

كليفتون حينها بينما لازالت هي تنظر ناحية نافذتها وهو حالها

ذاته ليس منذ غادرا المختبر فقط بل ومنذ غادر بها من قصرهم ،

ولم يكن سبب استغرابه أن تحدثت أخيراً وبأي شيءٍ كان بل أن

تطلب منه أن يتوقف هكذا فجأة وهنا !!

وما أن امتدت يدها لقفل الباب قال باستغراب

" ما الذي تفعلينه يا زيزفون ! "

وراقب ما يظهر له من وجهها وهو القليل جداً بينما وصله

صوتها المنخفض

" أريد أن أنزل قليلاً ولن أهرب "

تنهد نفساً طويلاً مغمضاً عينيه قبل ينظر لها وقال بهدوء

" ومن قال بأني أخاف هروبك أو أفكر فيه ..؟ أنتِ لست الفاعلة
يا زيزفون وكلانا يعلم هذا جيداً "

لكنها لم تعلق لم تنظر له ولم تقل شيئاً وفتحت الباب هذه المرة

وإن كان صوتاً فقط صدر عنه ولم يُفتح بعد فأمسكت يده برسغها

من تحت قماش قميصها المصنوع من الشيفون في تفصيل متسع

الأكمام يضيق عند رسغيها بقصة عريضة وقد أبعدها ما أن

نظرت له وقال بهدوء ينظر لعينيها

" زيزفون أنتِ في فترة حداد الآن ولولا الضرورة ما أخرجتك "

" أنا لست في حداد على أحد "

اتسعت عيناه بدهشة ما أن همست بتلك الكلمات وقال بعد صمت

برهة لم تفارق فيه نظراته عيناها

" بلى وهو زو... "

وبتر عبارته تلك ما أن تحول مزاجها للحدة فجأة وفي أول رد

فعل مغاير لسلوكها الجديد وصرخت

" أنا لست زوجة له ولم أكن يوماً كذلك فلم يأخذ أحد برأيي
ولم أوافق عليه "

عاد للتحديق الصامت في عينيها والتي التمعت زرقة السماء

فيهما بشهب كم كان يراها حين تغضب في تلك الحالات النادرة

أيضاً فهي كانت ذات مزاج بارد ساخر أغلب الأحيان يتبدل للكره

والحقد ما أن يكون الحديث عنهم أو عن ماضيها ويتحول لبارود

قاتل ما أن يُمس كبرياؤها بالطريقة التي تقرها هي لا ما يظنه

محدثها .. تنفس بعمق نفساً طويلاً وقال بتأني يجنبها ونفسه

تبعات هذا المزاج عليها وفي هذا الوقت خاصة

" لكنك زوجته قانونياً وشرعاً وجدك هو وليك "

كان جلياً له من اشتداد فكيها أن كلامه لم يُعجبها وتوقع هجوماً

نارياً آخر لكن الكلمات خرجت من بين أسنانها جامدة جمود

الصخر متأنية وكأنها تقول كل كلمة منها بمفردها

" لا وصاية ولا ولاية له علي ولم يأخذ برأيي في
جميع الأحوال "

حرك رأسه بنفاذ صبر وقال بذات هدوئه يحاول إيصال ما يريد

بأقل ضرر

" وكيف يفعل ذلك وهو يظن كما الجميع حينها أنك خرساء ؟ "

عاد مزاجها للإشتعال فجأة وأدارت رأسها ونظرت له وقالت بحدة

ترمي يدها جانباً

" والخرساء لا تفهم ويتم تزويجها دون علمها ! "

اشتدت قبضة يده التي لازالت تمسك بالمقود وخرجت كلماته جادة

حازمة هذه المرة

" ليس هذا هو موضوعنا الآن يا زيزفون بل أنك امرأة
زوجها توفي و... "

لكنها لم تترك له مجالاً ليكمل ما كان يريد قوله ويعلم كلاهما ما

يكون سلفاً وقد فتحت الباب بحركة غاضبة قائلة ببرود

" اعتبرها جلسة محاكمة إذاً أم ستخبرهم بأني في فترة حداد ؟ "

ونزلت من فورها هامسة من بين أسنانها بغضب همساً لم تسمعه

سوى الريح حولها

" زوجي الذي وافقت عليه لازال حياً ولم يمت بعد "

وضربت الباب خلفها بقوة تاركة نظراته المتأسية تتبعها وهي

تقترب من حافة الجسر تضم نفسها بذراعيها وخصلات شعرها

الذهبية تتراقص كنغمات موسيقى عذبة حول جسدها .

ليته فقط يستطيع فعل أي شيء لأجلها ولا يريد أي مقابل له

ولا أن تتغير مشاعرها نحوه ولم ينتظر ذلك منها يوماً

فقط لتكون كأي امرأة غيرها وتنسى كل ذاك الحقد والسواد

الذي يغلف قلبها .

يعذرها في طلبها هذا وإن كان يرفضه فما حدث تلك الليلة بأكملها

ليس أمراً يمكن تجاوزه بسهولة كيف وهي شهدت مثيلات لها

طوال سنوات طفولتها حتى حولتها لطفولة مليئة بالألم ..

قُتلت جدتها أمام عينيها واحترقت والدتها أمامها وقَتل شقيقها

رجلاً ليسقط جسده أمام ناظريها فكم من صور عادت وتجسدت

أمامها وهي تعيش ذات الموقف مجدداً ؟

خاصة وأنه لازال يجهل هوية ذاك الفاعل وإن كان من داخل

قصرهم أم خارجه ! فهي مطاردة من ماضيها وكوابيسه التي

تلاحقها في نومها وصحوتها وباتت الآن مطاردة من شخص

مجهول أيضاً ليضيف كابوساً آخر لحياتها .

شعر بجسده ارتجف مع صوت رنين الرسالة الذي خرج من هاتفه

حتى شعر بها اصطدمت بقلبه وارتفعت ضرباته حد الجنون ،

وبالرغم من أنه لم يغادر ذاك المكان إلا من دقائق قليلة لن تصل

لساعة بالتأكيد وكان رفيقه سيتحدث معه حسب اتفاقهما لكن أي

شيء يصدر عن هذا الجهاز المخبئ في جيب سترته كان سيقوده

ودون شعور له .

انتقل نظره مع حركة يده وهو يدسها في جيبه وأخرجه منه ونظر

لشاشته التي لازالت مضاءة وانعقد حاجباه باستغراب وهو ينظر

لإسم جده !

خطف نظرة سريعة ناحية التي لازالت تقف مكانها وعلى وضعها

ذاته وكأنه يخشى أن تغفل عيناه عنها لثوان معدودة ولا يجدها

وعاد بنظره للرسالة التي فتحها يقرأ حروفها باستغراب لا بل

بصدمة أو اندهاش

( خذها لترى شقيقها يا وقاص )

وفي السطر الذي يليه كان اسم المستشفى ..

وما لم يتوقعه أن يكون هنا في بريستول !

ولم تكن تلك المفاجأة الأخيرة وعيناه تنتقل للسطر الأخير

( أرهم بطاقتك الشخصية لعلهم يتركوها تدخل )

عادت نظراته للتنقل بين الأسطر وكأنه يخشى أن يكون قرأ شيئاً

منها بشكل خاطئ !

وانفرجت شفتاه وكأنه يحاول التحدث مع الكلمات وهي ستسمعه

ولم يصدر عنه للأسف سوى أنفاس متشنجة كحال كل عصب في

جسده حينها ولم يعد يمكنه فهم كل هذا فكيف علم جده بمكانه

وكيفية الدخول له !

هل ذهب لزيارته مسبقاً ؟

سيكون هو الجواب بالتأكيد لكن كيف وصل له !

وما علاقة مطر شاهين بإختفائه فهو ذكر اسمه يصرخ به بغضب

حين علم بأمر حفيده ذاك فما سر العداء القديم بينهما وأي حديث

قد يكون دار بينهما !

نظر للواقفة مكانها مجدداً وغرس أصابع يده الحرة في شعره

الكث الناعم وتنهد بعجز فهما كانا يتجادلان منذ لحظات على

قرار نزولها وها هو مكلف بنقلها لمكان آخر أيضاً !

لا يعلم إن كان جده فاته أن يفكر في هذا أم أنه يحمل في قلبه ذات

مخاوفه من أن تتسبب الحادثة في إرجاعها للحالة التي غادرت

بها المصح النفسي أو حتى الحالة التي أدخلتها له وسينهار كل ما

تم فعله لأجلها طيلة عشرة اعوام فهي دخلت لحالة تشبه ما حكت

له عنها مربيتها تلك حين تم جلبها لها ما أن غادرت المصح

النفسي فهي لا تشبه البتة ولا حالة الكراهية والحقد التي كانت لا

تفارقها فترة وجودها معهم .

تنهد هامساً يستغفر الله وهو يدس هاتفه في جيبه ويفتح باب

السيارة وينزل منها وكانت النسائم الباردة في استقباله تتلاعب

بخصلات شعره القصير تلتها سترته التي اغلق زرها وهو يستدير

حول السيارة بخطوات سريعة تباطأت ما أن اقترب منها حتى

أصبح يقف خلفها تماماً وواجهه منظر أضواء المباني واعمدة

الطرقات المتفرقة حيث منطقة لاي وودز ومنظر الأشجار العالية

والطبيعة الخلابة حول النهر يشعر به ككل مرة كان يأتي إلى

هنا وحيداً ويراه فيها وكأنه علاج روحاني تشعر بأنه يمتص

الكثير من الطاقة السلبية المشتعلة داخلك ، وكالمعتاد سرقه

للحظات من كل ما يتحرك في رأسه كالدوامة التي لا نهاية لها ..

وكم تمنى أن يكون له ذات التأثير الايجابي عليها لعل روحها

الضائعة بين ماضيها وحاضرها وذكرياتها المؤلمة أن

تستكين قليلاً .


انتقل نظره لها وللخصلات الذهبية المتطايرة حول رأسها وهمس

من خلفها ببطء ورِقة وكأنه يخشى أن تدفعها كلماته وترميها

لأسفل النهر

" زيزفون علينا أن نغادر "

وحين لم يصدر عنها أي رد فعل تنهد بأسى وعلم أي مهمة صعبة

كانت تنتظره لجعلها تتحرك من هنا لولا رسالة جده ، أمسك

بذراعها وادارها ناحيته وأمسك بكلتا ذراعيها قبل أن تفكر في

العودة لوضعها السابق وما هو واثق منه تماماً وقال بتأني ينظر

لعينيها التي كانت تخفيها عنه ظلال خصلات غرتها المتطايرة

رغم أنوار الجسر القوية

" هل تريدين رؤية شقيقك يا زيزفون ؟ "

وكما توقع تماماً وهو يرى حركة شفتيها البطيئة لتسمح للأحرف
الهامسة لتخرج

" إسحاق ؟! "

فشعر بأدق وريد في جسده يتمزق مع تسرب ذاك الهمس الموجع

من أذنيه لآخر قطرة دم في جسده حتى كانت قشعريرة لم يشعر

بمثيل لها يوماً وكم كره نفسه حينها وعائلته وكل ما يمت للقلب

السلطان بصلة من جدهم الأكبر لآخر حفيد لهم فقد كان من

الأحرى بتلك السلالة أن اندثرت وانقطع نسلها ولم ترتكب كل هذا

الجُرم بأحدهم فكيف إن كان هذا الأحد جزء منهم ودمائهم تجري

في عروقه .


تنقلت نظراته في عينيها بضياع وخرجت الكلمات الحزينة

رغماً عنه

" أيمكنك مسامحتنا يوماً ما ؟ أثمة أمل أن يكون هناك مشاعر
غير الحقد نحونا ومهما كان ذاك الثمن ؟ "

انتظر بلهفة أن تجيب يشعر بالثواني القصيرة بين صمتها وتحرك

شفتيها تمر وكأنها أعوام طويلة استطاع فيها أن يرى كامل

مأساتها تُعرض أمامه حتى مات الأمل في داخله وهو يتخيل أن

يكون مكانهما وكيف يمكن أن تكون مشاعره حيالهم ؟

لكن الجواب كان أقسى مما رسم له من مشاعر جعله يشعر بكل

شيء يصمت تماماً من حوله وحتى ضربات قلبه المجنونة ما أن

تحركت تلك الشفاه الزهرية ببطء وعبر همسها الرياح ليصل

وحده ويتخلل كل خلية في جسده وليس فقط أذنيه

" ليس وضرار السلطان حي يتنفس لم يعلم معنى المعاناة التي
تركنا جميعنا فيها "

أبعد حينها يديه عنها ولم يعرف أين يذهب بهما لينتهي به الأمر

بأن غرس أصابعهما في شعره وشده للخلف ينظر بعجز عن قول

أي شيء للتي لم تنتظر ذلك كما يبد وتحركت مجتازة له نحو

السيارة المتوقفة خلفه تماماً لأن كل واحد منهما يعرف الجواب

بالتأكيد ولن يقدم لها أحد ذاك الثمن .

تحركت أصابعه نزولا لعنقه واستدار بجسده للخلف ونظر بتفكير

عميق تبدل لما يشبه الصدمة للجالسة مكانها داخل السيرة تهيم

بنظرها للفراغ ملامحها اكتسبت جموداً مريعاً وقد تذكر الأوراق

التي تخص أسهمها في شركتهم وبعض المعلومات والأرقام

الدقيقة عن حسابات الشركة فهل هذا ما كانت تخطط له أن تدمر

جدها بتلك الطريقة ونجيب من كان يساعدها في ذلك !

حرك رأسه بعدم استيعاب يتخيل أن يكون ذاك تفكيرها والطريقة

التي تريد الانتقام بها منه !

بل ومنهم جميعاً بأن تجردهم من كل ما يملكونه !

والأسوأ من كل ذلك أن يكون نجيب من قدم لها هذا وبكل سهولة

فهل وصل حقده عليهم لذاك الحد !

فلن يكون تعاطفاً معها بالتأكيد ؟.

شعر بتيبس مريع في قدميه وهو يجرهما بصعوبة نحو السيارة

ولا يعلم حقاً كيف تمكنت أصابعه من تشغيلها ولا كيف استطاع

قيادتها مجدداً والطريق من أمامه يشعر بها تلتوي في مكنها

كثعبان ضخم بسبب الدوامة التي بدأت تزداد حدة داخل رأسه حتى

كان يسمع ضجيج التوائها الغاضب في أذنيه تكاد تفقده عقله

وليس تركيزه فقط .. العقل الذي لم يعد يمكنه استيعاب كل ما

يحدث وينكشف أمامه وقد فاق طاقة تحمله كمخلوق بشري .

أغمض عينيه لبرهة قبل أن يفتحهما على اتساعهما وكأنه يتأكد

من سلامة نظره واشدت قبضتاه على المقود وهمس بصوت

خافت مرتجف وهو يديره دورة شبه مكتملة ليدخل الطريق الذي

سيأخذه لوجهته تحديداً

" يا رب ساعدني على كل هذا "


*
*
*

جمعت مذكراتها في حركة سريعة ووضعت حقيبتها على

كتفها واتجهت مسرعة ناحية باب الغرفة ترفع خصلات

شعرها للأعلى بنظارتها السوداء الكبيرة تثبتها فيه تخشى

أن يسبقها والدها وينسى بأنه سيوصلها معه ، وهذا كان

بطلب من أويس احترمه والدها ولم تعترض هي عليه بأن

تتوقف عن استخدام سيارتها الخاصة فكلاهما يعلم جيداً

معنى أن يكون الشخص قد ولد وعاش وتربى في الجنوب

حيث لازالت تحتفظ تلك القرى بأصول حياتها السابقة وإن

كانت الأقرب في البلاد للعاصمة حوران مهما بعدت عنها .


ما أن كانت ستغلق باب الغرفة توقفت فجأة ومقبض الباب

لازال في يدها ما أن علا صوت رنين هاتف لم يكن

الموجود في حقيبتها بل خرج من درج الطاولة قرب

سريرها فهمست باستغراب

" ماريه !! "

فهو الهاتف الذي وضعت فيه تلك الشريحة وأرسلت

الرسائل منه كما طلبت هي منها لكن لما تتصل هذا

الوقت الباكر !

نظرة للساعة في يدها وتذكرت أن الوقت عندهما مختلف

فنظرت خلفها تزم شفتيها وعادت بنظرها لمصدر الصوت

الذي عاد للرنين بإلحاح وضاعت بين أن تلحق بوالدها

أو تجيب ؟

وقررت نهاية الأمر أن تجيب عليها فقد يكون الأمر

ضرورياً فهي طلبت منها أن لا تتصل بها ولم تطلب أن

لا تجيب عليها .

فتحت الدرج بحركة سريعة وأخرجت الهاتف الذي لازال في

رنين مستمر وفتحت الخط ووضعته على اذنها قائلة

" ما... "

وتيبس لسانها قبل أن ينطق باقي الحروف التي علقت في

الهواء ما أن وصلها الصوت الرجولي الغاضب صارخاً

" من تكون أنت ؟ أجب "

واتسعت عيناها بذهول ما أن علمت هوية صاحب ذاك

الصوت .. وكيف لها أن تنساه وإن كانت مكالمة واحدة

تلك التي سمعته فيها سابقاً .. وعاد لضرب طبلة أذنها بقوة

حتى كانت تكاد تُجزم بأنه يصل لكل من في المنزل حين

تابع بذات صراحة الغاضب

" من أنت ومن أين توصلت لهذا الرقم ومن هو سيدك "

زاد ارتجاف يدها وغرست أسنانها في شفتها بخوف فماريه

حذرتها من أن يعرف أحد بما طلبته منها ، شعرت بدرجة

حرارتها ترتفع حتى كانت تشعر بحبة عرق تتسرب من

طرف صدغها ببطء وعيناها تتحركان ناحية باب غرفتها

وللذي دخل منه ولازالت تستمع للصوت الغاضب يكرر

ذات السؤال

" إن كنت رجلاً فتحدث أو أنا من سيعلم كيف يصلك
ويجعلك تنطق "

وعلمت من صمت والدها المفاجئ ينظر لها باستغراب بأنه

يسمع صوت الرجل المزمجر وإن كان لا يفهمه فكان كطوق

نجاة لها كي لا تُفسد ما طلبته منها صديقة طفولتها وإن

كانت لا تفهمه جيداً فلم تخبرها سوى بأنه أمر يخص

حمايتاها وحمايته وعليها أن لا تفشل فيه .


اتجهت ناحيته بخطوات راكضة ومدته له بحركة سريعة

بينما كان ينظر هو له باستغراب في يده ورفع نظره لها ما

أن أشارت له على اذنها تطلب منه أن يتحدث وهمست

تحرك يدها بسرعة

" تحدث معه .. الرقم لماريه "

فانصاع من فوره وإن كان لا يفهم شيئاً بسبب ملامحها

المرتبكة المذعورة وكانت تعلم بأن هذا الرجل لن يُفسد

الأمر ولن يتصرف بعشوائية كما أنه يتميز بصوت أصغر

من سنه بكثير عبر الهاتف ولطالما كانت صديقاتها

يخبرنها بذلك حين كان يجيب على الخط الثابت للمنزل بل

وهي التي تعرفه جيداً وتسمعه كل يوم تقريباً حين يحدثها

لأي أمر .

قضمت طرف ظفر إبهامها بتوتر تراقبه وهو يضعه على

أذنه ويقول بحزم بينما نظراته لم تفارق عينيها

" من أنت وماذا تريد ؟ "

وعلمت من اتساع نظراته المصدومة أي كلمات سيكون

سمعها الآن منه زاده صراخه حين قال

" أنت هو من عليه أن يُعرف بنفسه وأنت تتحدث بهاتف
لا يخصك "

لامست يدها وجنتها تشد شفتها بأسنانها حين علا صراخ

من باتت تسمعه بشكل واضح تماماً بسبب ما قاله والدها

" لآخر مرة أسألك من تكون ومن ورائك ؟ "

فقالت له بسرعة تحرك يدها أمام شفتيها هامسة

" براء هارون .. قل براء هارون "

فتنهد بضيق وقال بحدة وهو يرمقها بنظرات تفهمها جيداً

" براء هارون فمن تكون أنت "

غطت شفتيها بأطراف أناملها ما أن أبعد الهاتف عن أذنه

ونظر له بصدمة قبل أن ينظر لها قائلاً بوجوم

" قال إذاً أنا قاتلك ! "

وتابع بضيق يريها شاشة الهاتف في يده

" هل أفهم من يكون هذا يا زهور وماذا يريد ؟ "

تلعثمت قليلاً قبل أن تقول

" هو تيم زوج ماريه "

غضن جبينه وقال باستغراب

" زوج ماريه ! "

قالت من فورها

" أجل أبي ماريه .. ألم يأتي لأخذها من منزل عمها وسافر
بها خارج البلاد ؟ وهذا الرقم لها فعلاً "

ازداد الاستغراب في نظراته وقال بحزم

" ولما يتصل بك ويهدد ويتوعد ؟ وما علاقة براء هذا
أنتحل أنا شخصيته ! "

حركت يدها قبل أن تقول معترفة باندفاع

" براء هذا ابن عم ماريه كما أن الشريحة في الهاتف له
وماريه من اتصلت بي وطلبت مني هذا "

وعبست ملامحها ما أن قال بضيق يشير بالهاتف في

يده لصدغه

" قولي أمراً يصدقه العقل يا زهور "


وتابع بذات ضيقه يلوح به ناحيتها

" أنا لم أقل ما قلت إلا لتوقعي أن يكون الأمر كما فهمت
وبأنه هاتفك ولا تريدين الإجابة لا أن ألعب دور غيري "


زمت شفتيها قبل أن تحررهما قائلة برجاء

" ماريه من طلب هذا أبي أقسم لك ولا علاقة لي
ولا لك بالأمر "

كانت تأمل أن يتفهم موقفها لكن النتيجة كانت عكسية كما

يبدو ولم يزدد ضيقه إلا شدة وهو يقول مشيراً للهاتف

بعينيه قبل أن ينظر لعينيها مجدداً

" لا أرى الأمر كذلك مطلقاً وهو أمامك يهدد ويتوعد بقتله
ما أن علم أنه هو ويبدو كان يتوقع شخصاً آخر فهلّا
شرحت لي ما يحدث مفصلاً ؟ "


تنهدت قائلة باستسلام

" أنا لا أعلم التفاصيل لأخبرك بها أبي "

عاد بالتلويح نحوها بالهاتف في يده قائلاً باستياء

" جل ما أخشاه وواثق منه أن يجلب هذا الأمر
المشكلات لك "


قوست شفتيها بينما تابع هو توبيخه القاسي

" ولا تنسي يا زهور أنك أصبحت متزوجة الآن ولن أكون
أنا المسؤول عنك لأجد حلاً للأمر حينها دون أن تُعاقبي وقد
يكون عقابك أقسى مما تتوقعين ذاك الوقت "


عبست ملامحها قائلة برجاء

" أبي أنا حقاً لا علاقة لي واويس يعرف زوجها جيداً فهو
من كان يترافع عنه دائماً في قضايا الطلاق التي يرفعها
عمها "


وتابعت وابتسامة تزين شفتيها وبمزاج انقلب فجأة

" ثم أنا لم أوافق عليه إلا حين علمت بأنه مثلك تماماً
يسعى لفعل كل ما أحب وأريد ويقف بجانبي كلما لزم الأمر
وذاك ما جعلني أحبه "


تنهد يحرك رأسه ومد لها الهاتف قائلاً بجمود

" أتمنى بالفعل أن لا تصدق ظنوني "
وما أن أخذته منه قال وهو يتجه نحو الباب

" اتبعيني هيا تأخرنا بما فيه الكفاية "


وغادر من فوره فنظرت للهاتف في يدها في ِحيرة قبل أن

تفتح درج الطاولة وتضعه في مكانه السابق ولا تعلم إن

كان دورها قد انتهى وعليها أن تتوقف عن إرسال تلك

الرسائل أم لا ! ولا يبدو أن الأمر بات يحتاج المزيد .


رفعت كتبها وغادرت جهة باب غرفتها مسرعة وهمست

بحزن وهي تحتضنهم ونظرها على عتبات السلم حيث

خطواتها

" كم أخشى عليك من كل هذا يا صديقتي "


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:06 PM   المشاركة رقم: 1577
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 





*
*
*

احتضنت نفسها بقوة وانخفض رأسها وتدلت الخصلات

التي جففها الهواء البارد تتساقط تباعاً على وجهها وعيناها

الدامعة وبكت ..

بكت مجدداً وبكت أيضاً رغم تجمد تلك الأجفان كباقي

جسدها المرتجف تشهق بأنين مع كل عبرة تخرج من

ضلوعها بالرغم من محاولاتها المضنية لكتمانها ، ولم تعد

تعلم ما يمكنها احتضانه نفسها أم جسدها المرتجف ؟

ألمها أم روحها المعذبة أم جميعهم معاً ؟ .

ارتفعت يدها لشفتيها يغطيها قماش منشفة الحمام تخفي

عبرتها الباكية والتصق جسدها أكثر بالحديد البارد لحاوية

القمامة الكبيرة التي وجدتها ملاذاً لها فلم تستطع اجتياز

أكثر من أربع مباني سكنية بعد خروجها من هناك فهي لا

تملك مالاً ولا هاتفاً وحتى إن فكرت في إيقاف سيارة أجرى

فلن تستطيع أن تركبها وهي هكذا لا يغطي جسدها سوى

منشفة الحمام وليس لديها مكان تذهب إليه في كل الأحوال

وانتهت للمكان الذي لن يطردها أحد منه وهو الشارع .

شهقت بقوة ونظرت مفزوعة جانباً حتى شعرت بالحاوية

الثقيلة تهتز مع اصطدام جسدها بها وهي تهرب من اليد

التي أمسكت بكتفها فجأة تنظر بذعر لطيف الشخص الذي

أبعد يده عنها ولا تستطيع رؤيته بسبب ضوء هاتفه القوي

الموجه نحوها وشدت بيدان مرتجفة ياقة المنشفة في

حركة لا شعورية تستر جسدها وتدحرجت دمعتان من

أطراف رموشها ما أن وصلها الصوت المرأة المُسنة والتي

قالت باستغراب

" ما الذي تفعلينه هنا ؟! "

فلم تستطع قول أي شيء ولم يخرج من شفتيها المرتجفة

سوى الشهقات المكتومة وتقطع أنفاسها القوية تتحرك

معها خصلات شعرها المتيبسة أمام وجهها لازالت تنظر

لها من بينها .


وما أن رفعت يدها واخفت عيناها عن الضوء الذي لم تعد

تحتمله المقلتان المجهدتان من البكاء أبعدت حينها الواقفة

فوقها هاتفها وسمعت صوت وضعها لكيس كان في يدها

وسيكون ما جاءت هنا بسببه لترميه حيث باقي أكياس

القمامة بالتأكيد ولم تكن تتخيل بأنها ستجد أحداً مرمياً

في طريقها .. الفارق الوحيد أنه يبكي رميهم له عكس

الذي تحمله معها والموجودات في الحاوية خلفها .

لم تستطع إمساك عبرتها عند تلك الفكرة رغم شدها القوي

على شفتيها بيدها مما جعل التي وضعت هاتفها جانباً تنزل

على قدميها أمامها ومسحت يدها على شعرها تبعده عن

وجهها قائلة بقلق

" لما تبكي وما تفعلينه هنا يا فتاة ! "

وقالت بحزن ما أن لم تجد منها أي استجابة

" يالا الفتاة المسكينة "

ووقفت ومدت يدها نحوها قائلة

" هيا قفي لآخذك لمنزلك بسيارتي "

" لا منزل لدي "

شعرت المرأة المسنة بالتعاسة ما أن سمعت الصوت الرقيق

الباكي ذاك وكأنه لطفلة تائهة ووحيدة وشعرت بالشفقة

اتجاهها وإن كانت لا تعرفها ولا تعلم عن قصتها وقالت

بأسى حزين

" آه يا إلهي .. وأنا ليس لديا في الوقت الحالي غرفة غير
مستأجرة في منزلي لتنامي فيها الليلة "

وتابعت تشدها من ذراعها لتقف

" سأوصلك لأي مكان تريدين إذاً ولا تبقي هنا "

وحين لم تستجب لها وقد شدت ذراعها منها هامسة
ببحة وحزن

" لا أحد لي ولا أريد أحداً "

قالت تحاول رؤية ملامحها المخفية في ظل الحاوية الكبيرة

بينما خرج صوتها جاداً بعض الشيء

" وبقاؤك هنا ليس حلاً يا صغيرتي فما أن يتأخر الليل لن
يبقى هنا سوى الرجال الثملين وتكونين في خطر كبير
حينها "

وعادت تحاول مساعدتها على الوقوف مجدداً قائلة

" هيا عليك الذهاب من هنا الآن ولابد وأنه لك قريب ما
لتقضي الليلة لديه ثم يمكنك أن تقرري ما عليك فعله "

ولم تترك لها أي مجال للاعتراض أو الرفض ولن تستطيع

نكران حقيقة ما قالته وبأن بقاؤها هنا لن يجلب لها أي

حلول بل سيوقعها في مشكلات أكبر حجماً بالرغم من أنها

فعلاً كانت تكره أن تلجأ لأي أحد منهم .


*
*
*


نزلت من سيارتها وضربت بابها تبعد خصلات شعرها

الحمراء اللامعة بعد أن طارت أمام عينيها ونظرت عالياً

لأنوار الشقة التي كانت مضاءة قبل أن تنظر جانباً وزمت

شفتيها بحنق ما أن وقع نظرها على السيارة اللامبرغيني

الذهبية المتوقفة بجانب سيارته تماماً وهذا دليل آخر على

وجوده هنا بل ووجودها أيضاً وكم باتت تشتهي اللحظة

التي لا تجدها ولا سيارتها تلك هنا وتختفي من حياتها

للأبد ، نظرت لوجهتها وهي باب المجمع السكني وتحركت

نحوه متمتمه بحقد

" ستبتعدين عنه ورغماً عنك أيتها الإيطالية الرعناء "

صعدت العتبات بخطوات أنيقة تشبه ثوبها الناري القصير

والمصنوع من الحرير والحذاء المرتفع المشابه له في

اللون تلتف أشرطته الحمراء حول ساقيها شديدة البياض

حتى وصلت باب الشقة الذي نظرت له باستغراب وهي

تلمحه من قبل أن تصل مفتوحاً وتلك ليست عادته إن كان

داخل الشقة أو خارجها ! وتبدلت نظرتها للذهول ما أن

وقفت أمامه تنظر للفوضى والتحف المحطمة وتحركت

خطواتها نحو الداخل واتسعت شفتاها المطلية بأحمر شفاه

لامع بلون الدم وهي تنظر للغرفة التي كان بابها مفتوحاً

على اتساعه .. للزجاج وقطع المرايا المتناثرة على الأرض

ولحطام التلفاز والفوضى العارمة حيث الغرفة التي تعلم

كما تعرف نفسها لمن تكون !

انتقلت نظراتها المصدومة ناحية باب المطبخ قبل أن تنظر

جهة باب غرفته المغلق وكانت ستتحرك ناحيته لولا أوقفها

الجسد الذي لمحته يقف عند باب الشقة خلفها ونظرت

باستغراب ناحيته وكأنها تتأكد من سلامة نظرها وعقلها

وأنه هو فعلاً !

كانت أزرار سترته العلوية مفتوحة بينما كان يعلو صدره

ويهبط بشدة وانتقل نظرها ليده التي كان يمسك بها برميلاً

بلاستيكيا أصفر سميك مع كتابة حمراء صغيرة ومتراصة

وارتجف قلبها لا شعورياً حين ارتفع نظرها لوجهه ولعينيه

تحديداً فقد كان فيهما غضباً كفيلاً بإحراق العالم بأسره لم

تراه ولم تعرفه فيهما من قبل بالرغم من جدية ملامحه

وجموده الدائم !

وعجزت الكلمات عن الخروج من شفتيها المتصلبتان تماماً

ولا لتسأله عمّا جال في خاطرها حين لمحته وأين كان وهي

التي لم تجده في الأسفل بينما كانت سيارته هناك وخالية

منه ! بل ولم تستطع ولا قول ماذا حدث وما بك !

كانت تشعر بنظرته تلك ستحرقها إن هي تكلمت ففكرت

أولاً في أن تبرر سبب وجودها هنا كي لا يغضب من قدومها

من دون إبلاغه ككل مرة لكنها لم تجد فرصة لذلك ونظراتها

الذاهلة تتبعه وقد تحرك من مكانه أخيراً ودخل الشقة

بخطوات واسعة وارتفعت يدها لشفتيها تكتم شهقتها

المصدومة ما أن فتح غطاء ذاك البرميل في يده ورماه

بحركة غاضبة وبدأ يسكب ما فيه في جميع أرجاء الردهة

الواسعة وقفزت بشهقة مصدومة ما أن كاد يصل البنزين

لثوبها وهو يرشه بعشوائية وكأنه لا يهتم أو لا يراها هنا !

ركضت بخطوات مسرعة ومتعثرة خلفه ما أن رمى ما في

يده حين فرغ تماماً وتوجه لباب الشقة مجدداً وخرجت معه

قبل أن يفعل ما تفكر فيه وهي لازالت في الداخل ، وذاك ما

حدث فعلاً حينها فما أن غادرت الباب بخطوة واسعة التفتت

لتلك الشقة تتراجع خطواتها للخلف تنظر بصدمة فاغرة

فاها على اتساعه يتبع نظرها القداحة المشتعلة التي رماها

في الداخل لينتشر لهبها في المكان قبل أن تصل الأرض

وبدأت ألسنة النار تكبر في لمح البصر والدخان يخرج من

الباب بدفعات باتت تكثر وتتسع وبدأ صوت الضجيج

والصراخ في الخارج يصلها مع أصوات فرقعة الأخشاب

التي كانت تتآكلها النيران فهفت بيدها أمام وجهها وسعلت

بقوة ونظرت للذي تحرك ووجهته السلالم ما أن علا

الصراخ في الخارج وتبعته من فورها مناديه له تخترق

بجسدها أجساد من ركضوا يصعدون السلالم ليصلوا لمكان

الحريق وقد تبعته نظرات مستغربة لمن تعرفوا عليه وهو

يغادر دون أن يهتم للنيران التي كانت تلتهم شقته !.

خرجت من باب المبنى تبحث عنه بعينيها بين المزدحمين

في الأسفل ورؤوسهم كما نظرهم للأعلى حيث يرتفع عمود

الدخان الأسود عالياً حتى وجدته أخيراً وكان قد وصل

لسيارته فركضت نحوه مناديه مجدداً لكنه لم يلتفت ناحيتها

أيضاً بل ركبها وأغلق بابها بقوة فوقفت مكانها ما أن

تراجع بها للخلف بحركة قوية علا معها صوت عجلاتها

القوي على الطريق المعبد وتراجعت للخلف مسرعة ما أن

استدار بها بحركة قوية أخرى وكاد يصدمها دون أن يهتم

لذلك ولم يظهر لها سوى يديه الممسكة بالمقود تحركه بقوة

وغضب وغادر من هناك نظراتها لا زالت تتبع السيارة

المبتعدة ورفعت يديها تحرك رأسها بصدمة هامسة

" هل فقد عقله أم ماذا ؟! "


*
*
*

مرت الدقائق متعاقبة وهو يجلس مكانه على السرير بينما يسند

مرفقيه على ركبتيه منحنٍ بجذعه للأمام ينظر للأرض وقد تدلت

يداه بين ساقيه المنفرجتان يفكر في كل ما قالته زوجته تلك ،

والأسوأ أنها لن تتوقف عن ترديد ذات أسطوانتها تلك ولن تكون

المرة الأخيرة ويعرفها جيداً ، هو يثق في وقاص .. يثق في ذكاء

وقدرات ابنه كما نزاهته لكن قول هذا لها لم يزيد الأمر إلا سوءاً

، فإن كان ابنه يملك دليلاً على وجود شخص ثالث معهما كما

قالت رقية فلا يمكنه اتهام الفتاة ولا التسرع في الحكم عليها

فقضايا القتل تحديداً أسرارها شائكة وحين تُكشف قد تنصدم

بأن المدان بريء كما أن البريء هو الفاعل .

حضن رأسه بيديه تتخلل أصابعه شعره يشده بقوة وكأنه يريد

انتزاعه من منابته وأغمض عينيه بقوة أكبر وألمه يشعر به في

مكان مختلف تماماً ..

من قال بأنه لا يتألم لموت ابنه ؟

هو ابنه مهما حدث ويموت مقتولا ً .. جميعها أقدار الله لا ينكر

ذلك لكن أن يموت نائماً في فراشه أو بسبب حادث ما ليس كما

أن يموت بسبب قتل أحدهم له بينما لايزال حراً طليقاً ولم ينل

جزاء فعلته ، كان موته فاجعة عصفت بالجميع ولا يمكنه نكران

ذلك .. بل وجعل مشاكل عدة تطفو للسطح فهذه المرة الأولى

التي تصفه فيها زوجته تلك بأنه يتبع أوامر والده تتهمه بالضعف

أمامه بل وأمام ابنه أيضاً !

رفع رأسه ونظر للتي كانت وكأنها خرجت من أفكاره تلك وقد

دخلت الغرفة مجدداً ووقفت أمامه مباشرة وكتفت ذراعها لصدرها

عيناها كما وجهها قد ازداد وضعهم سوءاً بسبب البكاء فعاد

بنظره للأسفل وقال بجمود

" تعوذي من الشيطان يا أسماء واتركي الليلة تمضي
على خير "

وتنهد بأسى ما أن وصله صوتها الحانق مختلطاً بعبرة مكتومة

" أجل فأنا التي تُفسد حياتك وحياة الجميع "

وتابعت من فورها بصراخ باكي

" أنا المخطئة الوحيدة هنا والجميع على صواب "

وقف على طوله حينها وقال صارخاً

" لا حول ولا قوة إلا بالله "

وتحرك مجتازاً لها ووجهته الباب خلفها فاستدار رأسها معه

قبل جسدها وقالت بغضب

" أين ستذهب ؟ "

كان حينها قد فتح باب الغرفة فالتفت لها وقال بتهديد غاضب

" سأبتعد من هنا قبل أن تفقدي زوجك أيضاً وتعرفينني جيداً
إن طلقت فلا رجوع ولا تراجع "

وغادر المكان بأكمله ضارباً باب الجناح خلفه ولم يسمع أي

تعليق منها ويعلم جيداً بأنها لن تفعلها ، قادته قدماه ناحية الجناح

الأقرب له من هناك والذي كان يخص زوجته الصغرى وما أن

فتح باب الغرفة وجدها تجلس على سريرها تقلب في هاتفها

فاستوت جالسة تنظر له وهو يرتمي جالساً على السرير بتنهيدة

عميقة بعد أن ألقى السلام عليها بهمس خافت فعادت بنظرها

لهاتفها دون اهتمام وذاك أقصى ما كان يتمنى ويريد وقد حققته

له ، ولم تمضي دقائق قليلة حتى نظرت ناحيته وكان يتكئ برأسه

للأعلى مغمضاً عينيه وقالت باستياء

" لما لم يسمح والدك لإبني بحضور جنازة شقيقه ؟ "

تأفف نفساً طويلاً ولازال مغمضاً عينيه وكأنه يتحسر على الثواني

القليلة التي خدعته بصمتها فيها قبل أن يهمس بتملق

" ولما لم تسألي والدي ؟ "

استدارت بكامل جسدها نحوه وقالت بضيق تنظر لوجهه ولازال

على وضعه يغمض عينيه

" لأنك أنت والده أم نسيت ؟ "

فتح عيناه حينها ونظر ناحيتها وصرخ يضرب براحة يده

ناحية صدغه

" حلفتك بالله ارحميني يا سارة فرأسي سينفجر "

لكن تصريحه الغاضب ذاك لم يزد الأمر إلا سوءاً وقد انتقلت

للصراخ الغاضب أيضاً

" سينفجر من حديثي فقط ؟ ألا يحق لإبني أن يحضر جنازة
شقيقه كباقي أشقائه ؟ لما تتعمدون نفيه هكذا بعيداً
عنكم وعني ؟ "

استوى في جلوسه بحركة واحدة غاضبة ونظر ناحيتها

وقال بحدة

" امتحاناته الأسبوع القادم وشقيقه مات ولن يعود للحياة بوجوده
وقت دفنه كما أظن "

وتلقف أنفاساً حادة شعر بها تذبح صدره كنصل سكين حاد حتى

ظهر ذلك على ملامحه وكأنه يصارع المرض لكن الجالسة أمامه

لم تهتم لذلك كما لم تقتنع بما قال ..

بل وجادت عليه بالمزيد وهي تصرخ معترضة

" ما في الأمر إن كان هنا ليومين حتى انتهاء الجنازة ثم غادر ؟
لا أعلم لما لا رأي لك فيما يخص ابنك ؟ "

وقف حينها على طوله خارج السرير يقاوم ارتجاف ساقيه التي

باتت عاجزة عن حمله كما يبدو وصرخت بشدة جعلت أوردة

نحره تنبض بوضوح بينما لوح بيده بغضب

" لو كنت أصررت على مجيئه ما كان والدي ليعترض لكني
أوافقه الرأي فدراسته أهم من تضييع الأسبوع المتبقي له في
السفر هنا وهناك "

صرخت ايضاً تحرك رأسها بقوة

" وهل توقف الأمر عند هذا الحد ؟ "

حدقت فيها العينان المجهدة والمحمرة من قلة النوم والتعب وحتى

الغضب بذهول بينما تابعت هي بغضب محتج

" لقد أخبرني اليوم بأنه لن يكون هنا في الإجازة لأنكم
ارفقتموه بالدورات الصيفية "

وامتلأت عيناها المليئة بالغضب بدموع رقيقة سبحت في فضاءها

المتسع وقالت بحرقة

" لا أفهم لما تبعدوه متعمدين هكذا عني وعن عائلته ؟ "

تنهد بقوة مستغفراً الله يبعد نظره كما وجهه عنها وقد تخللت

أصابعه شعره للخلف قبل أن ينظر لها مجدداً وقال بضيق

" ضرار متفوق كثيراً في دراسته ويحبها فما نفع تركه هنا
تحت رعايتك غير أن يصير عدواً لشقيقيه "

كان رد فعلها الأولي أن حدقت فيه بصدمة قبل ان تصيح

محتجة بغضب

" لما لا تتوقف عن تكرار اتهاماتك الزائفة والتي تتحجج
بها لعجزك عن كسر قرارات والدك بشأن ابنك ؟ "

وكان ذاك ما جعل البركان ينفجر فعلياً وأشار لها بسبابته بقوة

رغم ارتجاف يده صارخاً بغضب

" أجل معك حق ولهذا أطعته وتزوجتك .. ولأجل كل هذا
تخافونه ولا تحترمونني "

اجفلت بشكل واضح بسبب كلماته قبل الغضب الذي لم تعرفه فيه

يوماً مع كل حالات الغضب التي عرفته فيها وكانت ستتحدث لولا

قاطعها بتهديد غاضب وسبابته تلامس شفتيه المرتجفتين

بهمس غاضب

" لازلت أحذرك ولآخر مرة يا سارة وإن تكرر هذا من لسانك
مجدداً فأنتِ طالق ولا مكان لك هنا ولا ... ابن "

وقال آخر كلمة بصراخ رامياً سبابته تلك جانباً وغادر ضارباً باب

الغرفة على اتساعه تلاه باب الجناح الذي صفقه بكل قوته تاركاً

خلفه امرأة اخرى تشتعل في صمت بينما توجه لثالثة قبل أن يقرر

النوم خارج ذاك المكان بأكمله ويرتاح .

ضرب باب جناحها وهو يفتحه وتركه خلفه مفتوحاً وفتح باب

الغرفة بقوة حيث التي كانت مختفية عنه خلف باب الخزانة

المفتوح وظهر رأسها ما أن فتح الباب وقالت باستغراب تنظر

لملامحه المتجهمة المتعبة

" سلطان ما بك ! "

لا يعلم استغربت وجوده هنا أم ملامحه التي جمعت هموم أعوام

طويلة خرجت الآن للسطح ؟

ولم يهتم لفهم ذلك ولا للبحث عن جواب له بل اتجه ناحية السرير

الواسع وقال وهو يبعد اللحاف عنه بحركة قوية غاضبة

" أريد أن أنام فقط وأرتاح يا رقية رجاءً "

نظرت للساعة باستغراب من نومه في هذا الوقت الباكر قبل أن

تتوجه نحوه قائلة بابتسامة

" ما رأيك في أن أدلك لك رأسك ستشعر بالتحسن وتنام "


لم يمانع ذلك واستسلم لها وهي تجلس ووضع رأسه على فخذها

وتنهد بارتياح مغمضاً عينيه ما أن تخللت أصابعها شعره وبدأ

الاسترخاء يزحف ببطء لملامحه كما باقي أطرافه المتشنجة بينما

اكتفت هي بالصمت والتركيز على ما تفعل تنظر لملامحه بحزن

وابتسامة محبة لا تفارق شفتيها .

كان لا يريد غيرها زوجة له كما كانت والدة وقاص قبلها لكن

والده وجنونه بكسر لعنة الابن الواحد جعله يدفع ثمن إطاعته له

وكان الثمن غالياً جداً وهو فقط من يتحمل تبعاته الآن .

انقطع حبل أفكاره تلك ما أن تغلب عليه النوم وسريعاً جداً بسبب

الصمت والهدوء وأصابع التي تتقن جيداً الطريقة التي كانت

تطبقها دائماً في الماضي وكلما عاد من شركتهم متعباً وفي وقت

متأخر تحاول أن تزيل عنه ولو جزء بسيط من كل ذاك التعب .

سحبت فخذها ببطء تدس الوسادة مكانه ما أن تأكدت من تعمقه

في النوم وغطت جسده باللحاف تنظر برحمة لملامحه المتعبة

حتى خلال نومه .. قبّلت جبينه وابتعدت عنه هامسة

" لا حرمنا الله من وجودك "

وغادرت بعدها الغرفة تغلق بابها خلفها بهدوء .

*
*
*

نزل السلالم يصل لمسمعه حديثهما متداخل الكلمات

لانخفاضه فوقف وأمال جسده من فوق السياج الخشبي

كعادته التي لازمته منذ صغره وظهر له ما كانا يشاهدانه

في شاشة الهاتف وقالت عمة والده تشير للصورة بإصبعها

" هذه الأجمل وأفضل من التي اخترتها "

قالت آستريا حينها

" لا هذه ثمنها مبالغ فيه كثيراً وتلك مشابهة لها ولا تختلف
عنها وسعرها أفضل "

مد شفتيه يحرك رأسه بفهم بينما قالت الجالسة ملاصقة لها

" سعرها يكمن في جودة الخشب الذي صنعت منه "

وتابعت بابتسامة

" ثم شراع الصغير لا يستحق إلا الأغلى والأفضل "


اعتدل في وقوفه حينها ونزل باقي عتبات السلم بخطوات

قافزة واستدار حوله ما أن وصل أسفله وتوجه نحوهما

ولازالتا في نقاشهما تشاهدان صوراً أخرى كما يبدو له ،

وما أن مر بجوارهما ومقصده الاريكة قربهما نظر لهما

بطرف عينيه قائلاً ببرود

" لا أعلم لما لم يسموني شراع ؟ "

لم تستطع جويريه إمساك ضحكتها بينما ابتسمت آستريا في

حياء تنظر لهاتفها في يدها تُقلب الصور بأصبعها دون أي

تركيز بينما ارتمى هو بجسده على الأريكة المريحة والتي

غاص فيها باسترخاء فارداً ذراعيه فوق ظهرها وقال

يضرب بأصابعه عليه في حركة متناغمة بينما ينظر متعمداً

للسقف

" حتى الغرفة يشترون له الأغلى ثمناً وهو لا يعلم إن كان
نائماً فيها أم في الشارع "

خرجت ضحكة آستريا المكتومة حين فقدت السيطرة الكلية

عليها بينما قالت عمته تشير له بيدها

" أنت آخر من يتحدث عن الأشياء الأغلى ثمناً فلم أرى
طفلاً حظي بما حظيت أنت به في طفولتك "


وتابعت تشير بيدها بعيداً هذه المرة

" لم تترك والدتك شيئاً يشتريه المال لم تحضره لك ، هذا
غير الذي اشتراه جدك وأعمامك ، وقبو المنزل القديم
يشهد فأغراضك وألعابك حين كنت طفلاً تملأ أكثر من ثلثه
مع كل اتساعه "

وتابعت بضيق ما أن رمقها بطرف عينيه ببرود وقد عادت

تشير له بيدها

" لقد دللوك دلالاً لولا شدة والدتك أحياناً لكنت الآن لا
تستطيع التحكم في لعابك وهو يتسلل من بين فكيك "

كانت الضحكة التي أطلقتها آستريا حينها حقيقية لم تستطع

ولا مجرد التفكير في كتمها أو إمساكها وهي تقهقه بها قبل

أن تمسك فمها بيدها تخفي باقيها حين رمقها بنظرة حانقة

بينما قال بضيق مخاطباً الأخرى

" يعجبك هكذا جعلتِ الثنانية تسخر مني ؟ "

قالت ببرود تبعد نظرها عنه

" أنا لم أقل سيئاً وعليك أن تفخر بهذا لا أن تستاء "

شد شفتيه بضيق وقال

" أنا كنت صغيراً ولا أذكر شيئاً مما تقولين لكني الآن ... "

وشد جفن عينه بسبابته ينزله للأسفل ينظر متعمداً لأستريا

وهو يتابع

" سأرى وأعي كل شيء وهم يشترون له كل ذلك "


ضحكت آستريا بينما رمت الجالسة بجانبها يدها نحوه في

تجاهل له وقالت وهي تنظر للهاتف الذي لازالت تمسكه

" دعينا نرى الخزانة بشكل واضح لنرى ما سنطلب من
تعديلات عليها "

قامت بما طلبت منها على الفور بينما نصب هو ساق على

الأخرى وقال ببرود يرمقهما بنظرة جانبية وقد عادتا

لمناقشة تفاصيل ما تتناقشان فيه

" عليكما اختيار سرير كبير يناسب تلك الغرفة لأنني
سأنتقل إلى هناك لأراقب كل شيء "


ضحكتا معاً هذه المرة وقالت جويرية تكتم ضحكتها ونظرها

لازالت على شاشة الهاتف بينما توجه حديثها للجالسة

ملاصقة لها

" يبدو جدياً فيما يقول وعليكم وضع آلة مراقبة
في غرفته "

نظر لها يضيق عينيه بينما ضحكت آستريا وقالت

" هو أكثر من سيحبه وسترين ذلك بعينيك "

وتابعت مبتسمة بصدق تنظر له

" ثم هو لن يكون في معزة ابن الكاسر رحمه الله
ولدى الجميع "


ابتسم ابتسامة واسعة حينها ونفخ صدره وقال ناظرا لها

" كنت سأبعث برسول لقبيلتك ليأتوا لأخذك من هنا
لكني تراجعت "

ضحكت ونظرت لشاشة هاتفها حين قالت الجالسة بجانبها

" انظري لهذا اللحاف كم هو جميل ويناسبها "

نظرت لها وقالت مبتسمة

" فلنتأكد من جنسه أولاً عمتي فقد تكون أنثى "

قالت مبتسمة

" لا بأس أنثى أنثى لونه غامق وجميل "

" آستريااا "

وقفت المعنية بالأمر ما أن وصلهم الصوت الرجولي الخشن

المرتفع وتحركت بخطوات مسرعة صوت ضربات شبشبها

المنزلي المصنوع من قاعدة خشبية على الأرضية الرخامية

والذي بالكاد تظهر تفاصيله مع قدميها من تحت فستانها

الطويل الواسع وحده ما يُسمع متجهة نحو ممر غرفتهما

ونظرات الكاسر تتبعها قبل أن ينظر للتي تركت لها هاتفها

لازالت تقلب في الصور الموجودة فيه وقال ببرود معلقاً

على صوت عمه المتجهم

" لازال يُزمجر ! "


قالت التي رمت يدها بلامبالاة بينما نظرها لازال على

الهاتف في يدها

" سيعتاد ويرضى بعد أيام فلا حل له غيره "

لكن رد فعله هو كان مغايراً وهو يقول بضيق

" لما لم يتقبل الأمر كعمي رماح أم أنه ليس شقيقها
مثله ! "

رفعت نظرها وأمسكت الهاتف بين يديها تنزله لحجرها

ونظرت للفراغ وتنهدت قائلة بوجوم

" ومن قال أن حديث رماح يعني تقبله أو رضاه بالأمر ؟ "


رمقها باستغراب قبل أن يقول بضيق

" وإن يكن فهو لم يقل شيئاً سيئاً ولم ينفث نيران
غضبه بنا "

وتابع ببرود مستاء وهو يبعد نظره ووجهه جانباً

" كلٌ له من اسمه نصيب بالفعل "

قالت التي نظرت له بضيق

" لو سمعك لجعلك تؤمن بها أكثر "

نظر لها وقال بضيق مماثل يشير بيده لنفسه ثم للبعيد

" هل وحده من يشعر وله قلب ؟ جميعنا تأثرنا بما حدث
لكن هذا لا يعني أن نلقي باللوم عليها أو نغضب ممن
يجهلون الأمر مثله "


زمت شفتيها وكأنها تمنعها من موافقته فيما قال قبل أن

تقول بجدية

" هو ليس غاضب منا ولا منها "

" لا أفهم لما تدافعين عنه عمتي ! "

نظرت له مصدومة من تصريحه واتهامه وقالت بحزم

" أنا لا أدافع عنه بل أتفهم بأنه لكل واحد منا شخصيته
التي تختلف عن الآخر في ردود أفعالها "

رمى يده بلامبالاة نحوها متمتماً

" أعتذر عن هذه الكلمة عمتي فهي حجة سخيفة للغاية "


تنفست بنفاذ صبر تحرك رأسها يأساً منه قبل أن تقول

بحزم تشير له بيدها

" هل سأحكم عليك إذاً بأنك لا تهتم بأمرها لهذا تمزح
وتضحك ؟ "

نظر لها بصدمة وكأن حشرة ما لسعته وقال بضيق

" لا أهتم ! "

وتابع من فوره وبكآبة

" إن ضحك الوجه فلا يعني أن القلب لا يبكي "

نظرت له بحزن ازداد أكثر ما أن لمعت عيناه ببريق حزين

بالرغم من أن صوته خرج متضايقاً

" ما جئت هنا وغادرت غرفتي إلا لأبحث عمّا ينسيني
قليلاً ما حدث "


وضرب على صدره واحمر جفناه فجأة مع امتلاء عيناه

بالدموع وهو يقول بحرقة تغلبت على صوته

" قسماً لو كنت تحت العاشرة ما نام أحد منكم ليلة
البارحة بسبب نواحي الباكي فلن يستطيع أحد لومي
على ذلك حينها "

نظرت له بعينين دامعة وعجزت عن قول أي شيء بينما

أنزل هو رأسه يتكئ بمرفقيه على ركبتيه منحني الظهر

ومسح عينها بحركة قوية من كفيه تحركت معها أصابعه

اتجاه صدغيه وأمسك رأسه تتخلل تلك الأصابع خصلات

شعره مما جعلها تغمض عينيها بحزن وأسى قبل أن تنظر

له تمسح عيناها أيضاً وخرجت عن صمتها قائلة بحزن

" جميعنا لم ننم البارحة ولا عمك رماح الذي بقي نور
غرفته مضاءً حتى الفجر لكن ما بيدنا نفعله ؟ وقول
أي شيء لن يأتي بنتيجة سوى شجارات جديدة بين
بقايا عائلة شقيقي "

ومسحت دموعاً ملأت عينيها مجدداً ودون أن تنزل ونظرت

له ما أن قال بأسى ولازال يحضن رأسه بيديه ونظره

للأرض تحته

" لولا أنه منعنا جميعنا من الوصول لها لكنت عندها
منذ البارحة "


قالت حينها بحزم خالف جميع مشاعرها السابقة ورغم

الحزن في عينيها

" أنت لم تعد طفلاً يا كاسر وذهابك لن يغير في
الأمر شيئاً "

رفع رأسه واستوى في جلوسه ونظر لها وقال بجدية وإن

كان الحزن لازال يسيطر على العينان التي لم تجف الدموع

من رموشها بعد

" أنا ما كنت لأحاول تغيير ما قررت هي وتريد وأثق بها

وبأنه من حقها أن تقرر مصيرها كأي شخص في هذه البلاد

ومتأكد تماماً وبعد علمنا بما حدث هناك بأنه ثمة سبب ما

وكبير جداً دفعها لكل ذلك "

وتابع بذات نبرته الجادة يشير ناحية ممر غرفة عمه هناك

" ثم كلام عمي رماح كان واقعياً حين قال بأنها لجأت لمن
كانت موقنة بأنه سينصفها عكس عائلتيها "

تنهدت في حيرة وعجز متمتمه

" أراح الله قلبها وقلوبنا جميعاً عليها "

وتابعت بحزن وشرود

" كل ما أخشاه أن تُضيف خسارة جديدة لكتاب حياتها
المليء بالحزن والألم "


تبدلت نظراته للأسى محدقاً بها يفكر في أن تكون النتيجة

كما قالت ورغم ذلك قال وباقتناع تام

" سيكون خيارها وعلينا فعلاً أن نحترمه فهي ابنة هذه
العائلة وليس مطر شاهين .. وعمي عقبة كان هو وجدي
شراع كالشقيقين طوال حياتهما "

تنهدت بأسى تحرك رأسها قبل أن ترفع نظرها له وقالت

تغير مجرى الحديث بأكمله

"هل جهزت نفسك للمدرسة فغداً يومك الأول ؟ "

أشاح بوجهه جانباً وتمتم ببرود

" لا شيء يمكن تجهيزه لليوم الأول عمتي "


قالت متجاهلة تعليقه ذاك

" سيكون لك أصدقاء جدد سريعاً كما أن وجود شقيقتك
معك هناك سيجعلها تتميز عن العمران كثيراً "

حرك رأسه هامسا دون اهتمام

"أجل "

سألت ونظراتها تتنقل في ملامحه بترقب

" هل اتصلت بك البارحة ؟ "

وانتظرت بفضول جوابه الذي كان مغايراً لتوقعاتها ما أن

تنهد قائلاً بشرود واجم

" لا وتمنيتها لو فعلت ولم أستطع فعلها أنا ، وحتى قاسم
اتصلت به وسألته وقال بأنها لم تحدثه ولم يفعل هو ذلك "


تنهدت بأسى وحزن فقد مر يومان لم تعرف أسوأ منهما

من قبل إلا موت الكاسر وشقيقها شراع ولازالت ترى أن

المصائب لم تأتي بعد بما أن ذاك الرجل لازال يتمسك

بصمته كما يُمسك يده وتلك المحاكمة لم تأتي بعد ، نظرت

له وقالت بهدوء حزين

" قد يكون ذلك أفضل وجيداً فعلتما فإن كانت تريد اجتياز ما
حدث وحيدة فهذا من حقها ولن تزيد مكالمتك تلك وضعها
إلا سوءاً "


اومأ برأسه دون أن يتحدث ونظر لجيب سترته الرياضية ما

أن علا صوت رنين هاتفه منها وفتح السّحاب الخاص به

وأخرجه ونظر لشاشته وقال وهو يقف

" هذا عمي رماح سأرى ما يريد "

وغادر بخطوات واسعة باتجاه ممر غرفته نظراتها تتبعه

وتنهدت بحزن على حال ابن شقيقها ذاك فهي لم تراه يغادر

غرفته منذ شجاره الاخير مع رعد كما الكاسر أيضاً وحتى

آستريا كانت هي من اقترحت عليها مُصرّة أن تختارا غرفة

طفلها رغم أن الوقت ما يزال مبكراً وكل ذلك لكي تسليها

قليلاً وتسلي نفسها معها فما حدث غلّف ذاك المنزل كاملاً

بالكآبة والحزن .


تنهدت مستغفره الله ووضعت هاتف آستريا على الطاولة

المجاورة للأريكة التي كانتا تجلسان عليها لتجده هنا فيما

بعد وما أن وقفت حتى نظرت مصدومة للكاسر الذي ظهر

راكضاً من الممر الذي غادر منه قبل أن يقف ويقول صارخاً

" تعالي عمتي بسرعة "


فلم تشعر بنفسها ولا تعب ساقيها ولا ظهرها وهي تركض

نحو المكان الذي اختفى منه مجدداً تشعر بقلبها سيخرج من

مكانه محطماً أضلعها حتى وصلت باب الغرفة المفتوح

ووقفت وضربت بكفها على صدرها في شهقة مصدومة

تنظر لجسد رماح الملقى على وجهه فوق أرضية الغرفة

وقد جثى الكاسر على ركبتيه قربه يحاول رفعه من ذراعه

ونظر لها وقال صائحاً

" عمتي تعالي ساعديني لا تقفي هكذا "


فأسرعت نحوه تسمي بالله بهمس مرتجف تمسك دموعها

مرغمة بسبب توصيات الأطباء وتحذيرات الجميع وساعدته

في أن يعيداه لسريره مجدداً وأجلساه عليه ونظرت لكرسيه

الذي كان في الجانب الآخر مما يعني بأنه لم يسقط وهو

يحاول الجلوس عليه فهو لم يسقط من قبل أبداً ولا في

انتقاله منه للسرير وللحمام فهل حاول الوقوف والمشي !

وتأكد لها ذلك ما أن نظرت له حين ضرب بقبضته على

فخذيه بشكل عشوائي فشهقت بصدمة ونزلت دموعها

رغماً عنها ما أن رأت دموعه لحظتها وهو يشتمهما مع

كل ضربة من قبضته بقوة وشعرت بكل شيء في جسدها

انتفض نحوه لكن وما أن اقتربا منه حتى صرخ ملوحاً بيده

دون أن ينظر لهما

" أريد أن أكون لوحدي "


وحين لم يستجب ايّا منهما لكلامه وقد تحرك الكاسر مجدداً

ناحيته صرخ بعنف أكبر

" غادرا لا أريد أحداً "


فأمسكت به وسحبته معها مجبراً وخرجت مغلقة الباب بقوة

كي لا يعود للداخل كما تُجزم أنه يريد أن يفعل واكتشف

حينها فقط بأن دموعه كانت تملأ وجهه ما أن نظر لها وقال

بضيق وصوت مبحوح من حبس البكاء

" لما أخرجتني عمتي فهو يحتاجنا الآن وإن رفض ذلك "


امتلأت عيناها بالدموع مجدداً بالرغم من أن صوتها خرج

حازماً تنظر لعينيه الباكية

" لن نفيده في شيء وهو يرفضنا .. رماح وأعرفه جيداً
منذ صغره فكيف بوضعه هذا "


تركها والتفت جهة جدار الغرفة التي تركاه فيها واتكأ عليه

بجبينه وكفيه وضرب رأسه به ضربات خفيفة متتالية يبكي

بصمت فنزلت دموعها تسقي وجنتيها ولامست كفها كتفه

وقالت ببؤس وبحة بكاء

" أخبرتك بأن ألمهما واحد وأن كل واحد منهما يُحمل نفسه
ذنب عجزه عن فعل شيء من أجلها فرعد أيضاً يلوم نفسه
أكثر مما هو غاضب منها "


وراقبته بحزن وهو يتركها ويغادر يمسح عيناه ودموعه

بأكمام سترته الربيعية الخفيفة واستندت بيدها على الجدار

بجانبها وملأت الدموع عيناها تنظر له حتى اختفى من

هناك ونظرت حينها لباب الغرفة المغلق قبل أن تتحرك حيث

اختفى الكاسر قبل قليل تتمنى من الله أن يحفظ ما تبقى من

هذه العائلة ويُخفف كرباتها وأوجاعها .

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:10 PM   المشاركة رقم: 1578
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

دخل بخطوات مسرعة يدفع كل من يعترض طريقه بقوة وغضب

بل وطريقة مهينة تجعل النظرات والهمهمات الغاضبة تتبعه حتى

وصل الممر المقصود وظهر له شقيقه الواقف يستند بظهره على

الجدار خلفه مكتفاً ذراعيه القويان لصدره بينما نظره تركز تحديداً

على الواقف قريباً منه وتحرك بخطوات شبه راكضة نحوه وهجم

عليه يمسك بقميصه بسرعة لم يستطع ولا شعيب تداركها إلا

متأخراً وهو يمسكه من ذراعيه ويبعده عنه صارخاً

" توقف يا عيسى "

لكنه كان كالثور الهائج يريد الافلات منه بأي طريقة لينقض على

فريسته مجدداً ونظراته الغاضبة لا تفارق الذي كان يحاول ترتيب

قميصه بينما يتجنب النظر له وها هو ما فر منه جميع من كانوا

هناك يتحقق وأصبح هو المتهم الأول بمحاولة قتله ، وبالرغم من

أن شقيقه الأكبر لم يبدي ذات العداء والاتهام نحوه لكنه أيضاً لم

يعلق بشيء حين حكا له ما حدث وبطلب منه تحديداً وتجنب ذكر

الرجل المسؤول عن المستشفى بالطبع ، لكن صمته لا يعني أنه

يصدقه تصديقاً مطلقاً لأنه يراه عكس شقيقه هذا الذي يصرخ

ويثور أكثر مما يفعل بل يفعل دون حديث وهو من يجب الخوف

منه فالرجال أفعال كما يقولون وليس أقوالاً وفي الشر أيضاً

على ما يبد .

تراجع خطوة للوراء حين عاد لمهاجمته وقد دفعه شعيب بعيداً

وقال صارخاً

" قلت توقف أو أمرت رجالي برميك خارجاً "

صرخ حينها وهو يشير ليمان الذي كان ينظر له بصمت

" أتركني أقتله فلن ينجو بفعلته "

صرخ فيه شعيب مجدداً

" توقف يا عيسى حتى نعلم من وراء الأمر "

قال بانفعال غاضب

" ومن غيره وهو من جلبه إلى هنا ؟ "


تأفف شعيب بقوة قبل أن يقول بحدة

" يقول بأنه ليس هو وعلينا التأكد أولاً "

شخر بسخرية ممزوجة بغضب حارق قبل أن يقول

" وقل أنك صدقته يا شعيب ؟ "

أشار بيده لباب غرفة العناية المزدوج وقال بجدية

" سنعلم الحقيقة من نوح نفسه ولن يفلت الفاعل من العقاب
حينها فتريث "

ونظر ليمان وقال مشيراً برأسه نظراته كما ملامحه عابسة
عبوساً مخيفاً

" يمكنك المغادرة "


فتحرك من فوره لم تفته نظرات عيسى الحارقة له حتى اختفى

من أمامه ونظر حينها لشقيقه وقال بغضب يشير ورائه

" أُنظر لعجرفة ذاك الصعلوك ؟ كيف تركته يغادر ؟
! حتى أنه لا يهتم بتهديدي ! "

انفتح الباب قربهما حينها وخرجت منه الممرضة التي نظرت لهما

بضيق ولم يترك لها شعيب المجال لتقول ما يعلمه جيداً وأشار لها

بيده في علامة اعتذار صامت وأمسك بذراع شقيقه وابتعد به من

هناك حتى نهاية الممر حيث انتهى بباب حديدي مزدوج وكبير

غطا الجدار بأكمله وتركه حينها بحركة غاضبة وقال من

بين أسنانه

" ما لديه قاله لي ولن يجدي شجارك معه في شيء "

لكن الواقف أمامه كان له رأي مختلف تماماً وقال بضيق

" كان عليك سَجنه حتى نعلم من الفاعل أولاً "

أشار برأسه بعيداً قائلاً بحزم

" لن يستطيع الفرار منا بالرغم من أني أستبعد أن يكون هو "

وارتسمت السخرية على ملامحه وطرف شفتيه وأشار له هو هذه

المرة وقال

" ثم أنا أراك غاضب منه أكثر من قلقك على شقيقك الذي لم
تفكر أن تسأل عن حالته ! "


حدق فيه عيسى بصدمة قبل أن يقول مستنكراً

" ماذا تقصد بهذا ! "

أشارت يده جانباً حيث الباب الذي تركاه بعيداً خلفهما وقال بجدية

" أقصد بأن الطبيب قال لا نزيف في الدماغ وخلال الساعات
القادمة سيتم إخراجه من العناية إن استمر وضعه مستقراً "

قال عيسى من فوره

" علينا نقله لمكان آخر أو السفر به للخارج إن احتاج الأمر ولا
تثق فيما يقوله هؤلاء الأطباء المبتدئين "

حرك رأسه رافضاً قبل يقول وهو يدس يديه في جيبي بنطلونه

وقد أشار برأسه بعيداً

" أفضل وأمهر الأطباء يمكننا جلبهم إلى هنا بالمال لما نخاطر
بنقله من مكان لآخر ؟ ثم لا تنسى بأنه ينتظرنا ما هو أهم
والانشغال عنه سيضيع الفرصة منا "

حدق فيه باستغراب قبل أن يهمس

" عن ماذا تتحدث ! "

أخرج حينها يديه وكتفهما لصدره ومد وجهه نحوه قائلاً بتملق

ممزوج ببعض الضيق

" عن دجى الحالك وقضية الثأر والمحكمة يا أحمق أتحدث "

وتابع بجدية ظهرت جلية في صوته الخشن العميق

" فأنا لازالت أجمع أكابر كل عائلة في القبيلة والبعض
من مشايخ قبائل الجنوب لموعد محدد لن نكون الغائبين
عنه بالتأكيد "


نظر له الواقف أمامه بصمت لبرهة وقبل أن يقول عاقداً حاجبيه

" وماذا إن مات شقيقك هل ستترك عزائه ! "

واتسعت عيناه بصدمة ما أن أشار بيده قائلاً بحدة

" وإن متم جميعكم ولم يبقى غيري سأترك دفنكم وأكون هناك "

ففغر فاه وتحول الأمر لابتسامة ساخرة سريعاً وصفق بيديه

لمرتين متباعدتين وقال متملقاً

" أجل يا شعيب غيلوان .. من هذا الذي كان يعايرني
قبل قليل ؟ "

فشد شعيب على فكيه بقوة وغضب قبل أن يهمس ونظراته

المشتعلة لا تفارق العينان الساخرة أمامه

" إن كنت لا تعلم ما يعنيه الأمر لنا جميعاً لكنت عذرتك "

قال بضحكة ساخرة

" وبما سيفيدني إن كنتُ ميتاً "

تمتم شعيب بجمود

" سيفيد كل فرد من الجنوب حين يعلمون "

كان رد فعله على كلام شقيقه الأكبر سناً ذاك أن قهقه ضاحكاً

قبل أن يتحول الأمر لضحكات مكتومة يخفيها بقبضته الملاصقة

لشفتيه ما أن كانت نظرات الواقف أمامه ستلتهمه حياً ولا يستبعد

أن ينهال عليه ضرباً وقال يمسك ضحكته الساخرة

" هل ستقنعني الآن بأن كل ما يعنيك في الأمر الجنوب
وقبائله ؟ "

كشر حينها شعيب عن أنيابه كحيوان مفترس وقال بهمس غاضب

وإصرار وهو يرفع سبابته بينهما

" بل كل شيء وسأقتل تلك العائلة فرداً فرداً إن استلزم الأمر
وليتحقق ما أريد "

تنهد الواقف أمامه بضيق وقال يبعد وجهه ونظره عنه

" لا أرى الأمر مجدياً "

قال شعيب بحزم

" سيجدي وسترى بعينيك "


عاد بنظره له وحدق في عينيه بتفكير قبل أن يقول بجمود

" أراكما كلاكما تهذيان بما لن تنالاه مستقبلاً "

وتابع من فوره وبجدية يلوح بسبابته نحو وجهه

" وعليك أن تعلم يا شعيب بأن كل عام يمضي ليس في صالحك
وسنجلس حينها نندب حظنا جميعاً "

اشار له بيده وقال بضيق

" إن كان لديك حل غيره فأدلي بدلوك وأرحنا "

فرد ذراعيه جانباً وقال بحدة وغضب

" وما الحل مع شخص تريد أن تخنقه بيديك ولا تستطيع
أن تقتله ولا تريده أن يموت "


وأنزل يديه بقوة ما أن أنهى حديثه ذاك ونظر جانباً وتأفف

بغضب ووصله صوت الواقف أمامه والذي قال بحزم

" إذاً تصمت وتترك ذلك لغيرك "

نظر له سريعاً وقال بضيق

" لا أرى أننا نفعل شيئاً ذو نفع "

حرك رأسه بقوة يشير به للبعيد وقال بضيق أشد

" قل هذا لنفسك ولهما "

ونظر له باستغراب ما أن تبدلت ملامحه فجأة وقد ابتسم وقال

" نسيت أن أخبرك أن زكريا اتصل بي لأنه لم يستطع الاتصال
بك ولديه أخبار تسر القلب "


حدق فيه بصمت لبرهة قبل أن يهمس

" ماذا هناك ؟ "

وراقبه بفضول وقد أشار بإبهامه خلف كتفه قائلاً بحماس باسم

" الفتاة المجنونة باتت تقترب من حبل المشنقة ولن تخرج
منها هذه المرة وبتهمة قتل جديدة "

عاد للتحديق في عينيه بصمت قبل أن يقول بجمود

" وماذا عن شقيقها ؟ لا فائدة من كل ما يفعله هناك إن لم
يصل له خاصة وأنه بات يعلم أمراً مهماً سيفسد كل ما بنيناه "

قال عيسى محركاً كتفيه بلامبالاة

" وما في الأمر إن رأى زكريا معنا ؟ قد لا يكون سمع ما قلناه "

لكنه قابل لامبالاته تلك بالغضب قائلاً

" كيف لم يسمع ونحن كنا نتشاجر بأصوات عالية حينها ؟ "

شد شفتيه بضيق وقال يغير مجرى الحديث

" هو قال بأنه لم يستطع الوصول لمكانه حتى الآن "

وعاد لتحريك كتفه بلامبالاة متمتماً

" ثم قد لا يعيش أساساً "

لكن شعيب يبدو لم يعجبه الموضوع الجديد أيضاً وهو

يقول بضيق

" مؤكد لن يعرف مكانه لأن الأحمق أضاع الفرصة
الأولى والأخيرة "


وتابع بحدة يشير بسبابته بعيداً

" ثم أنا قلت وبشكل واضح تماماً بأنه عليه أن يصل له عن
طريق شقيقته تلك لا أن يلف حبل المشنقة حول عنقها من الآن
فهو يتصرف على هواه .. ذاك فقط ما يفعله "

واولاه ظهره ما أن أنهى حديثه ذاك مواجهاً للنافذة المغلقة أمامه

يمسك وسطه بيده وأنفاسه الغاضبة تظهر له بوضوح من خلفه

فلوى شفتيه بضيق .. يكره تلقيه للتوبيخ الدائم عن أي تقصير

يحدث منهما وكأنه هو الفاعل وليس هما ! قال يغير مجرى

الحديث بأكمله هذه المرة

" إن مات عيسى بسبب ما حدث فهي فرصتنا لرمي المدعو
يمان في السجن "

وانتظر للحظات تعليق الذي كتف ذراعيه لصدره ونظر جانباً

ولازال يوليه ظهره وقد همس بصوت منخفض

" وهذا ما كنت أفكر فيه "

ضحك حينها قائلاً

" حقاً ! "

وتابع يراقب نصف وجهه المقابل له والابتسامة المتسعة لازالت

تزين شفتيه

" لهذا كنت هادئاً حينها وكأن شيئاً لم يكن ؟! "

استدار له بكامل جسده وقال عاقداً حاجبيه بضيق

" أجل ومن دون تسرع ومشاجرات كما كنت تفعل "

حدق فيه بصمت للبرهة قبل أن يقول بنظرة تفكير

" لكنه أيضاً من يأوي ابنة الإيرلندية لديه "

أبعد شعيب نظره عنه وهو يهمس ببرود

" سنجد لها حلاً ما ليست مشكلة "

فابتسم الواقف أمامه بشر وقال ناظراً لعينيه

" وإن نجا منها علينا إيجاد مصيبة ما قانونية لتدميره بما أنه
ملتصق بنا أما شقيقته تلك فكل ما أنتظره أن تخرج من حصن
ابنة شاهين "

أومأ برأسه موافقاً ورفع نظره له وقال بجدية

"المهم الآن أريدك أن تبقى هنا قريباً منه حتى نرى ما سيكون
وضعه وأنا عليا الذهاب لمدن السويداء فوراً أريد مقابلتهم جميعاً
وجهاً لوجه والتحدث معهم "

قال عيسى سريعاً

"وماذا إن علم ابن شاهين من خلالهم عمّا تنوي فعله ؟ "

قال بجمود يشير بسبابته لرأسه

" وهل جننت لأخبرهم ماذا سنفعل هناك ؟ لن يعلموا شيئاً
حتى نكون أمام القاضي في المحكمة "


وربتت يده على كتفه وقال مغادراً

" لا تتركه حتى يغادر من هذه الغرفة أنا أعتمد عليك "

وغادر مبتعداً عنه ونظراته تتبعه حتى اختفى وتحرك من مكانه

حينها ناحية الباب الذي كانا أمامه قبل قليل وارتمى بجسده على

أحد الكراسي المصفوفة بجانبه وتأفف متذمراً فهو لم ينقله ولا

لأحد مستشفيات حوران الخاصة ليجد مكاناً أفضل من هذا

يجلس فيه .


نصب ساق فوق الأخرى واتكأ بظهره للخلف وكتف ذراعيه

لصدره فكلها ساعات قليلة ويخرجوه من هنا ويتحرر .

ابتسم بسخرية من أفكاره تلك فعن أي حرية يتحدث فسيجد

نفسه يتلقى أوامر اخرى عليه تنفيذها ودون رفض أو تذمّر .


هب واقفاً ما أن انفتح الباب بجانبه على مصراعيه ونظر

للممرضة التي خرجت أولاً تسير للوراء تسحب شيء ما بيديها

اكتشف سريعاً بأنه السرير الذي يضعون شقيقه فوقه والغائب

عمّا حوله تماماً ملفوف الرأس بضمادة كبيرة قبل أن تخرج

الممرضة الأخرى والتي كانت تدفع السرير معها ونقل نظره

منهما للطبيب الذي خرج خلفهما فترك كل شيء وتوجه

نحوه قائلاً

" ما وضعه ولما أخرجتموه من هنا !؟ "

وابتسم بارتياح ما أن قال الذي وقف مقابلاً له

" وضعه أصبح جيداً وفتح عينيه وتحدث معنا منذ قليل لذلك
سيتم نقله لغرفة اخرى "

حدق خلفه باستغراب حيث السرير الذي تدفعه الممرضتان بعيداً

قبل أن يعود بنظره له وقال

" لكنه لم يكن في وعيه ! "

قال الذي ابتسم من فوره

" هذا لأننا حقناه بالمسكن قبل قليل فهو لازال يتألم بسبب
الجرح البليغ في رأسه "

وتركه وسار في ذات الاتجاه قائلاً

" يمكنك رؤيته والتحدث معه ما أن يفيق .. حمداً لله
على سلامته "

*
*
*

كان الصمت رفيقاً لطريقهما خلال شوارع بريستول كما كانت

رحلتهما السابقة ، ورغم تحرك كل شيء من حوله في المدينة

الصاخبة إلا أن أفكاره كانت لا تترك له إلا حيزاً ضيقاً ليركز على

طريقه .. أفكار باتت كحلقات سلسلة ضخمة من الفولاذ كلما

غادر حلقة منها جذبته الأخرى لها ولا يعلم متى تنتهي وكم

سيتحمل هذا العقل البشري الموجود في رأسه قبل أن يفقده

وللأبد فلم يعرف يوماً معنى ما وجد فيه نفسه الآن فإن فر من

التفكير في الجريمة المعقدة التي تنتظره بسبب اعتراف المتهمة

بها بارتكابها تلقفته مسألة مرض شقيقه المتوفى واحتمالية نقل

المرض لها فليس ثمة رجل عاقل تكون كهذه زوجة له ولا

يقربها .. وذاك ما كان يرعبه في الأمر ويجعله يفر من التفكير

فيه لتعاود مأساته طريقها ويختطفه لغز آخر ينتظر بشغف حيزاً

له في العقل المشوش بالأفكار وتعود التساؤلات التي لا يجد لها

أجوبة تامة شافية آخرها ظهور شقيقها أمامه ومعرفة جده

بمكانه ! ولن يكون هو من وضعه في ذاك المكان بالتأكيد لما كان

قال بأنهم قد يسمحوا له بالدخول بل كان سيأمرهم وهم يطيعون

فقط ! فمن وراء هذا إن لم يكن جده ؟

هو ذات الشخص القوي الذي كان يحميها وتكفل بشفائها بالتأكيد

لكن من يكون إن لم يكن مطر شاهين !

وهل منع جده من رؤية حفيده ذاك !.

تنفس عميقاً يستغفر الله بهمس أجش كئيب يشبه كل ما يجتاح

دواخله وها هو قذف بنفسه خارج الحلقة الجديدة ليكون فريسة

للتي تليها بلا شك .

وكم حمد الله حين وجد أن الخارطة الإلكترونية في شاشة السيارة

أمامه تشير بوميض أحمر أنه وصل الوجهة التي حددها لها ،

وما أن رفع نظره للبناء الذي انكشف له من خلف أشجار الزينة

وأوراقها اللامعة تحت الأضواء المنتشرة بكثرة ظهرت بوضوح

اللافتة التي استقرت أعلاه كُتب اسمه عليها وكما كان يتوقع

تماماً كان مصحاً خاصاً ومن حجم مبناه لا يبدو أنه يشمل

تخصصات متنوعة .. وهو ما أكده له ظهور لافتته بشكل أوضع

مع استدارة سيارته لدخول المرآب الخاص به حيث كان متخصصاً

بالأمراض العصبية وجراحة المخ والأعصاب ومؤكد سيكون هذا

مكانه بما أنه في غيبوبة دماغية لا يعلم أحد غير الله متى قد يفيق

منها .. وهذا إن شاءت أقداره وحدث ذلك فعلاً .

كان الطريق الحجري المخصص والذي سلكاه بين المرآب

والمشفى متعرجاً قليلاً وكأنهم يتعمدون جولة كئيبة في الحديقة

الجميلة التي تحيط بواجهته ! بينما تجنب مجرد النظر ناحية

رفيقته الصامتة تماماً والتي لا يُسمع سوى صوت خطواتهما

وكأنه يحترم كل شيء يخص لحظاتها هذه وهو من يعلم جيداً

الارتباط الروحي قبل الغريزي الذي يربطها بشقيقها التوأم ذاك

كما يجزم بأنه الخيط الرفيع الذي يربط بينها وبين الموت إن

كانت تتنفس أم لا .

ما أن اجتازا الباب الزجاجي الواسع المفتوح على مصراعيه كانا

أمام ردهة واسعة جداً حوت ثلاث طاولات استقبال في أماكن

متفرقة وصالونات جلدية جلس القليلون على بعضها وعلم

فوراً أي مشفى ذاك وبأنه وجهة أغنياء تلك المدينة فقط .

وقف عند طاولة الاستقبال الرئيسية في الأسفل وما أن نظرت له

الشقراء الجالسة خلفها مبتسمة تنتظر ما يريد قوله لم يعرف

حقاً ما عليه التفوه به ومن أجل من هو هنا وبأي اسم تم تسجيله

كنزيل لديهم بإسمه الحقيقي أم اسم مزور كشقيقته ؟

وهل قول اسمه الذي يعرفه سيشكل خطراً عليه بما أنه تعرض

لحادث مدبر ؟

تمنى لحظتها لو أنه اتصل بجده وسأله عن هذا لكنه لم

يذكره له !

فقام بأمر واحد ذكره في رسالته تلك ما أن قالت التي تبدلت

ابتسامتها لأخرى مستفهمة

" تفضل سيدي .. بما يمكنني مساعدتكما ؟ "

فمد لها بالبطاقة التي أخرجها من محفظته الجلدية وما أن

استلمتها منه ونظرت لبياناتها رفعت نظرها له وقالت وهي تقف

" مرحبا بك سيدي كيف يمكننا تقديم خدماتنا لك ؟ "

وعلم حينها أن وضيفته المدونة فيها السبب قبل اسم عائلته فقال

ما أمره عقله سريعاً بقوله أو لم يجد لديه غيره

" ثمة مريض هنا لديكم عليا رؤيته "

انحنت لشاشة الحاسوب أمامها سريعاً وهي تقول

" ما هو اسمه ؟ "

فتنهد بعجز ونظر للأسفل بينما تخللت أصابعه خصلات شعر

قفا عنقه وما أن رفع نظره لها كانت تنظر له رغم انحناء

جسدها بميلان جانبي خفيف بسبب يدها التي لازالت أصابعها

تقف منتظرة على لوحة المفاتيح تنتظر جوابه الذي لا يعرفه

أساساً ! فنظر يميناً ناحية الباب الواسع في حركة لا إرادية

قبل أن يعود بنظره لها وقال بابتسامة محرجة

" لا أعلم "

فخرجت منها ضحكة صغيرة وهي تستوي واقفة وقالت

" وكيف سنوصلك له وأنت لا تعرف اسمه ! "

نظر يساراً حيث الواقفة خلف كتفه بخطوة واحدة والتي وجدها

تنظر للفتاة وقد نظرت له حينها ودون أن تتحدث تنظر لعينيه فقط

وفهم أنها أيضاً ترفض قول اسمه الحقيقي ولا تملك غيره فزم

شفتيه بقوة ونظر للتي لازالت واقفة تنتظره وقال

" هو في غيبوبة مؤكد لا يوجد الكثير من المرضى في حالته "

وما أن طال تحديقها في عينيه لثوانٍ معدودة دون حديث علم أنه

أصاب الحقيقة ولا نزيل غيره بتلك الحالة هنا حالياً وهو من يعلم

جيداً تكلفة الليلة الواحدة التي ينامها المريض هنا ومثل هذه

الحالات لا تتكرر لديهم كثيراً خاصة ولندن لا تبعد عنهم سوى

مسافة ساعتين كحد أقصى .

وتأكد له ذلك حين رفعت سماعة الهاتف وتحدثت سريعاً ولازالت

تنظر لعينيه بينما تعمدت خفض صوتها بشكل واضح عمن حولها

" النزيل سمحاق السلطان لديه زوار "

فحدق فيها باستغراب وهي تضع السماعة ولم تترك له مجالاً ولا

للتفكير وهي تشير بيدها يساراً قائلة

" من هناك .. ستكون ثمة ممرضة في انتظارك عند الممر
رقم ثلاثة "

فشكرها هامساً وتحرك في ذاك الاتجاه تستشعر أذناه حذاء التي

تبعته فوراً وفي صمت وتمنى لو تشاركا الأفكار معاً وإن كانت

مثله لم تتوقع أن يتم استخدام اسمه الحقيقي أم لا ؟ لكنه لن

يحاول فعلها بالتأكيد فثمة طريق طويل جداً أمامه ليجعل منها

امرأة يمكنه تبادل الأحاديث الكثيرة معها ولتغادر صمتها الطويل

وانزوائها عن الجميع والذي لم تترك لها مصائبها المتوالية مجالاً

للتحرر منه .

كان بالفعل ثمة ممرضة بثياب زهرية مخصصة تنتظرهما عند

تشعب نهاية الممر القصير الذي سلكاه والتي طلبت بطاقته قبل أن

تسير أمامهما دون أن تسلمها له وسارا خلفها في منحنيات ثلاث

وكأنهم يدورون حول المكان وهم بداخله ! حتى أصبحوا أخيراً

في ردهة صغيرة بها طاولة استقبال مدمجة مع جدرانها وكأنها

لغرفة خلفها يجلس فوق المقعد الوحيد هناك شاب بثياب زرقاء

غامقة تخص الممرضين الذكور كما يبدو ، ووقفا خلف رفيقتهم

التي سلمته البطاقة دون تتبادل أي حديث معه وغادرت ونظراته

تبعتها بحركة سريعة منه قبل أن ينحني لحاسوبه ودوّن

المعلومات منها ونظره ينتقل بينها وبين شاشته ثم استوى واقفاً

ونظر لوقاص ومد يده له ببطاقته بينما كانت الأخرى ترفع

سماعة هاتف وضع بجانب جهاز الحاسوب اللوحي فأخذها منه

بينما نظراته تراقب شفتيه حين قال لمن انتظره بعض الوقت

" ثمة زوار "


كان هذا فقط ما قاله ورفع نظره بهم بعد أن لامست أصابعه زراً

ما في لوحة الحاسوب قائلاً بجدية وكأنه رجل مخابرات

وليس ممرضاً !

" عليكما أن تعلما أن المكان مراقب بالكامل بعد اجتيازكما الباب
الأخضر وثمة جهاز يكشف عن المعادن فيه وإن كان رأس
دبوس سيكتشفه "

وما أن أنهى حديثه ذاك عاد للنظر لشاشة حاسوبه فتحرك وقاص

بعد نظرة سريعة للتي سارت خلفه ولم يستغرب كل تلك الحماية

حوله فيبدو أن ذاك الرجل يعلم أي خطر يحدق به وبات مقتنعاً

أكثر بأنه ليس جده من فعلها ووضعه هنا ليضيف له لغزاً جديداً

حوله وحول هذان التوأمان وأشباح مطارديهما !.

ما أن وصلا الباب الذي قال عنه وجد هناك ما استغرب تغيبه

حتى الآن وهم رجال أمن بأسلحة مثبتة في أحزمتهم وكان

عددهم ثلاثة ، ولم يكن يمكنه وصفهم مطلقاً برجال أمن فلباسهم

لم يكن يشبه ملابس الموجودين عند باب المشفى في الخارج

لتوفير الحماية عند حدوث أي شغب بل كانت ثيابهم سوداء كما

أجسادهم وعضلاتهم التي برزت من ملابسهم تلك وكأنهم

قوات خاصة !

والأغرب من ذلك ملامحهم الأقرب للعرب منها للإنجليز !

وهذا دليل آخر أنه ذاك الرجل وليس جده ، بينما لم يجتز أيّا

منهم ذاك الباب وكأنه يُخشى حتى من خيانتهم !

توجه أحدهم نحوه وطلب بطاقته وبطاقة زيزفون ولأول مرة منذ

دخولهما فأخرجها له وكانت بإسمها الحقيقي وهو الاسم الذي تم

إضافته لجميع أوراق جريمة مقتل نجيب وبطلب من جده ويوافقه

هو على ذلك تماماً فوجودها أمام القضاء البريطاني باسم مزور

قد تكون عواقبه وخيمة جداً ولن يصعب عليهم كشفه وبكل

سهولة بمجرد التحري عنه .. وبالرغم من أن هذا الاسم له جرائم

سابقة في بلادها هناك لكن لا حل أمامهم غيره .

كان عليه هذه المرة ترك هويتيهما معهم لوقت خروجهما

عكس السابق ووقف ما أن وصل الباب الذي كان يبعد عنه بضع

خطوات فقط ونظر للطاولة الخشبية البيضاء بأذرع حديديّة لامعة

مخصصة للمستشفيات موضوعة بجانبه وفهم سبب وجودها

سريعاً وهو ما جعله يخرج مفاتيحه من جيبه كما محفظته التي

كانت تحوي حوافاً معدنية ووضعها فوقها قبل أن ينزع ساعته

أيضاً والتفت وهو يضعها معهم للتي نظرت له بصمت بعد أن

كانت عيناها تتبع حركة يده وانحنت للأسفل ونزعت حذائها

الذي كان يحوي دبوساً حديدياً ووقفت حافية القدمين وارتفعت

يداها بعدها لشعرها ودستهما تحته خلف عنقها ونزعت السلسال

الذهبي الذي جلبه لها سابقاً يحوي خواتم الزواج الخاصة

بوالديها وجدتها ولا يفهم لما كل هذا والمكان مراقب كما

يقولون ! مؤكد يخشون من أمور لا تلتقطها أجهزة المراقبة

ويبدو أن ذاك الرجل يهتم لسلامته أكثر حتى من شقيقته !

وما أن عبرا ذاك الباب تباطأت خطواته القصيرة خلاله حين سمع

حديث من تركهم هناك وقد قال أحدهما

" كيف سُمح لهما ! "

وتابع خطواته مكرهاً ولو كان الأمر بيده لتوقف لسماع أي تعليق

على ما قال رفيقهما بالرغم من أن الأمر لا يحتاج أن يتأكد أكثر

بأنه لا يُسمح لأحد وأيًّا كان باجتياز هذا الباب !.


*
*
*

ابتسمت لنفسها وهي تضع حبة الكرز أعلى الكعكة وتذكرت

السنوات الماضية حين كانت تعدها والدتها في كل مرة وهي

لا تفعل شيئاً سوى هذا ثم تقول بأنها من أعدها .

ضحكت بخفة وهي تبعد يديها عنها وها قد مر العشاء بدون

مشكلات تنتهي بها لتوبيخ معتبر من والدتها ، ولا تنكر أيضاً

بأنها أمسكت لسانها بالقوة حين تطرق ضيفهم لذات الموضوع

على طاولة العشاء و يبدو مستاءً بالفعل من تلك العائلة ومن

ابنة شقيقه أيضاً .. ووالدتها كانت على حق ما ذنب ماريه تتحمل

أفعال تلك البلهاء المدللة ؟

بالرغم من أنها تخشى أن تنتهي لذات نهايتها وهي الانتحار

وبسبب الشخص نفسه .

حملت الكعكة بين يديها واستدارت حيث والدتها التي كانت قد

حملت الأطباق والشوك وقالت بضحكة صغيرة

" ها قد انتهيت أخيراً "

وتحركت من مكانها مبتسمة تتبع التي سارت أمامها

قائلة بضحكة

" يفترض أنك تعلمتها من كثرة ما انتظرت لحظة وضع
الكرزة لسنوات "

اجتازت باب المطبخ تسير خلفها قائلة بابتسامة واسعة

" يكفيني هذا الشرف "

واتبعت كلماتها تلك بضحكة رقيقة اختفت بسرعة البرق حين

قالت التي عبرت غرفة الطعام أمامها

" من حسن حظك أن زوجك ثرياً ولديهم خادمات "

لوت شفتيها متنهدة بضيق وقالت باستياء تنظر لقفاها أمامها

" أمي لما تعشقين تعكير مزاجي وكأنك تكرهين رؤيتي
مبتسمة ؟! "


وكان رد فعلها الوحيد أن حركت رأسها مبتسمة في يأس منها

ولم تعلق لأنهما حينها قد اقتربتا من المكان الذي عادوا للجلوس

فيه بعد العشاء وبعد أن اعتذر ضيفهم بلباقة عن اقتراحها لتناول

الكعك في غرفة الشاي المخصصة والتي تطل على حديقة المنزل

الخلفية ونافورتها الصغيرة الجميلة بسبب الظلام وقد قال

وبكل صراحة

( الشاي بعد العشاء يكون في غرفة الموسيقى أما تلك الغرفة فلقهوة الفطور وللشاي بعد الغذاء )

ولم ينزعج أي منهم من ملاحظته تلك وهم يعلمون طباعه جيداً

واكتفوا بابتسامة ابنه المحرجة وهو يحرك رأسه لهم معتذراً

في صمت بينما ابتسما هما له في تفهم ، وحمدت مضيفتهم

الله لحظتها أن ابنتها لم تكن هناك لأنها تولت مهمة حمل

الأطباق للمطبخ لما كانت لتفوت الفرصة أبداً وتعرفها جيداً .

وضعت الأطباق على الطاولة وكانت قد بدأت بتوزيعها أمامهم

حين وضعت ساندرين الكعكة قائلة بضحكة

" وضعت آخر حبة كرز طازجة للتو فوقها "

فقال فاليريو مبتسماً وهو يرفع شوكته ونظره عليها أمامه

" أنتِ من أعدها ! تبدوا شهية فعلاً "

وسبق والده أي تعليق أو حديث أو حتى ضحكات وهو ينظر له

بضيق ورفع عصاه وكأنه سيضربه بها قائلاً بصرامة

" لما ترفع شوكتك قبل أن يضعوا حصتك في طبقك ؟ كم مرة
سأنبهك للتصرف بلباقة "

وانطلقت حينها الضحكات المؤجلة حتى منه هو نفسه المعني

بالأمر عدا والده الذي كان يتمتم بضيق وهو يعيد عصاه مكانها

ليقطع كل تلك الضحكات جرس باب المنزل والذي جعل رنينه

الصمت يعم المكان بينما تبادل ساكنيه نظرة مستغربة قبل أن

تقول ساندرين وهي تتجه نحوه

" سأفتح أنا "

وتحركت بخطوات شبه راكضة ناحية الباب الخشبي الثقيل الذي

وإن كان يبعد عنهم مسافة لابأس بها إلا أنه لا يفصله عن مكان

جلوسهم أي شيء لذلك تبعت الأحداق جميعها خطواتها نحوه

بينما لم يعاود الواقف خلفه الرنين حتى وصلت خطواتها

المسرعة له وفتحته بيد بينما كانت تمسك يدها الأخرى الجزء

الصغير الثابت منه ممتدة الذراع ووقفت مكانها مصدومة تنظر

للتي كانت تقابلها في ذات هيئة وقوفها وكأنها تسند نفسها به

عن السقوط أرضاً خصلات شعرها وغرتها الجافة تجمعت في

مجموعات بسبب ابتلالها سابقاً وتعرضها للهواء وكانت تتدلى

على جانبي وجهها وجبينها حتى أطراف رموشها وإن لم تستطع

إخفاء العينان المتورمة الحزينة والشفتين المطبقة بقوة وكأنهما

ممنوعتان قسراً عن إصدار أي ردة فعل في لحظات صمت

قصيرة كم كانت طويلة على كلتيهما كما الجالسون هناك ينظر

الجميع بترقب وفضول فطري نحو ظهر التي كانت تخفي كل

شيء عنهم والتي لم تجتز صدمتها بسهولة سامحة لشفتيها

بالهمس في ذهول

" ماريه !! "

فلمعت عينا الواقفة أمامها بشيء لم تكن تجزم بأنه دموع بل

تعبير أقوى من ذلك وأكثر عمقاً وقهراً وقد حررت شفتيها أخيراً

وخرج همسها خافتاً من بينهما وكأنه يخرج من نظرة الانكسار

والضياع في عينيها

" آسفة لا مكان لي غير هذا "

وكان ذاك زر التشغيل الذي جعل الواقفة أمامها تترك الباب

وتوجهت نحوها هامسة

ب ( ياالله )

بحزن ويداها تلامس خصلات شعرها وجانب وجهها انتقالا

لذراعيها قبل أن تعود بهما لوجهها وكأنها فقدت الصلة بينهما

وبين عقلها وقالت بأسى حزين

" ما هذا الذي تقولينه ماريه ! "


وشعرت بالندم على كل ما قالته لها سابقاً حين غادرت معه

بالرغم من غضبها المتأجج منه لكنها تسببت بالأذى لها هي

وليس لذاك المتحجر للأسف ، وازداد ارتباكها حين شعرت بأنها

لم تعد تقوى على التوازن أكثر لازالت يدها تتمسك بطرف الباب

بقوة وكأنه أملها الوحيد للصمود فنظرت للخلف بينما عادت

لتمسك بذراعيها ونادت بوجل ظهر جلياً في ملامحها قبل صوتها

" أمي "

مما جعل الجالسة هناك تثب واقفة وتحركت نحوها بخطوات

مسرعة مخلفة حيرة أكبر لدى الجالسين مكانهم ، وما أن وصلت

حيث تقف ابنتها حتى شهقت تضع يدها فوق صدرها تنظر للتي

لازالت تقاوم بوهن لتبقى واقفة على قدميها ولحالتها المزرية

وقد بدأت تنكس رأسها للأسفل ولا أحد يعلم وهناً منها أم خجلاً

منهم وهي التي كانت تضعهم آخر خياراتها في كل شيء قبل

اليوم ؟ قالت ما أن اجتازت صدمتها

" ماريه ما بك ! "

وعجز لسانها عن قول غير ذلك حين لم تعد تعرف عن ماذا تسأل

تحديداً ! ونظرت سريعاً لزوجها الذي بات يقف بجانبها فقد تبعها

بعدما تغلب عليه ارتيابه للأمر ، ولم يكن وضعه بأفضل حالاً

منهما إلا أنه اجتاز الأمر بسرعة أكبر ونظر لابنته التي كانت

تسندها ما أن خارت قواها تماماً وقد قالت بضيق امتزج بالكثير

من التعاسة

" أُنظر أبي ماذا فعل بها .. أُنظر "

فتشتت نظراته الضائعة بينهما وما أن كانت زوجته ستتحدث رفع

يده المجاورة لها وقال بحزم وإن تعمد خفض صوته

" ليس وقت قول أي شيء وهما هنا .. خذاها لغرفة كين سريعاً
لا نريد أي مشكلات الآن ولا أي تَسرّع "

وتحرك من مكانه عائداً حيث ضيفاه اللذان كانا يراقبان ما يجري

من بعيد باستغراب بينما تنقلت نظراتهما بينه وبين المرأة التي

رافقت ابنته نحو الممر الشرقي لا يظهر لهم من ملامحها شيئاً

تسندها ممسكة بخصرها تساعدها على السير وتولت زوجته

إغلاق الباب ولحقت به حين جلس مكانه ولم تستطع أضلعه أن

تخفي تنهده القوي لحظتها وكأنه ينفس عن كرب عظيم يشعر به

داخله ، وكسر فاليريو حاجز الصمت المشحون حينها قائلاً ينظر

له باستغراب

" من تكون تلك المرأة وما بها ! "

فنقل نظراته المشتتة بينهما وكان سيتحدث لولا أن سبقته التي

وقفت بجانب كرسيه قائلة بسرعة

" هي جارتي وصديقة ساندي "


وتبادلت مع زوجها نظرة خاطفة قبل أن تعود بنظرها للعينين التي

لازالت تحدق فيها باستغراب متابعة

" لقد تشاجرت مع زوجها مجدداً "

واطبقت شفتيها فور أن نطقت بآخر كلمة وكأنها تقنع لسانها بأنه

أجاد صياغة الأكذوبة ولا يحتاج الأمر للمزيد ، ونظرت لفالريو

الذي قال باستغراب عاقداً حاجبيه

" يضربها !! "

فقالت مسرعة تحرك يدها

" لا لا .. "


ونظرت لزوجها نظرة استجداء لأي مساعدة منه فهما لا يعلمان

إن رأيا ملامحها رغم أنهما لم يلتقيا بها منذ أصبحا هنا ولا

يريدان أن يتعرفا عليها مستقبلاً ليعلما الحالة التي جاءت بها هنا

والأب تحديداً مع رأيه المتعصب نحوها ، تحدث غاستوني وخرج

عن صمته قائلاً بضيق

" ولما تغادر منزلها بمنشفة الحمام ! ما سوء التصرف هذا ؟ "

فكورت شفتيها في امتعاض ونظرت لزوجها الذي أشار لها برأسه

ونظرة فهمتها فوراً فتنهدت بقلة حيلة ولحقت بابنتها وضيفتهم

الجديدة الغير متوقعة .


*
*
*


اتكأ برأسه على الجدار خلفه وكتف ذراعيه لصدره لا شيء

يُسمع سوى صوت الطنين المتقطع لأحد الأجهزة والخارج من

الباب المفتوح هناك حيث المكان الذي تركها تدخل له لوحدها

وكأنه يحترم اختلائها بشقيقها وإن كان ذاك الشقيق مُغيب تماماً

عمّا حوله فكان وكأنه احترام لاختلائها هي بمشاعرها وبعيداً عنه

بالرغم من تساؤلات نفسه المتضاربة حول تلك المشاعر مع

الظروف التي تعيشها ! وظهرت صورتها أمام عينيه والهواء

يتلاعب بخصلات الشعر الشقراء رغم ابتعاده عن وجهها وهي

تضع شرطها لمسامحتهم ونسيان كل ما عانته بسببهم .. بل وهي

تقتله مجدداً تذبحه تمزق روحه ولا يمكنه لوم غيرهم على كل

هذا فما من أحد يمكنه تخيل أن يعيش مأساتها تلك ويغفر

بسهولة ، بل وجزء واحد منها كان كافياً لجعل أي واحد منهم

يكرههم ما عاش في هذه الحياة فكيف بموت والدها مقهوراً

منبوذاً بلا هوية وقبل أن تعرفه وتراه ثم تخلي والدتها عنها

لحمايتها من مصير شقيقها المجهول يليه موت جدتها وأمام

عينيها بعد مأساة طويلة مع الفقر والعوز والتهجير في بلاد حرب

وموت وتشرد وحين عادت لحضن والدتها واجتمعت بشقيقها

كانت مأساتها الأعظم من كل تلك الكوارث مجتمعة ورغم عظمها

وهو موت تلك الأم محترقة أمامها وشقيقها ذو العشرة أعوام

يقتل الزوج وفي وجودها أيضاً ولسبب لازال مبهماً حتى في

ملفات القضاء وكأنه ثمة من يخفيه متعمداً !

فما المتوقع منها ؟

وماذا كان ينتظر أن تجيب ؟

وكيف يمكنهم لومها ؟

فلو أن جدها بالفعل اعترف بابنه لكان ووالدته منذ البداية هنا

معهم واستطاع أن يحي حياة كريمة ولكان أبناؤه ترعرعوا معهم

ومثلهم تماماً .


يعلم بأن القدر لا يمسكه ولا يغيره البشر لكن قرارات جده كانت

خاطئة جميعها فيما يخصهم ولا يمكن لأحد الدفاع عنه والتحجج

بالأقدار لتبرئته ، وها هو يراه اليوم يزيد الجروح نزيفاً بدلاً من

شفائها وكأنه يترفع عن الاعتراف بأخطائه !

تنهد بعمق مغمضاً عينيه وكأنه يهرب من صورتها التي لاحقته

حتى في تلك الظلمة القاتمة لأنها تعيش في أماكن أخرى غير تلك

العينان ولا يمكنه إخراجها منها .. لا من عقله الذي يرفض

التفكير في أي أمور لا تخصها ولا القلب الذي فقد السيطرة عليه

تماماً ومنذ وقت .
مرر يده من تحت السترة المفتوحة ناحية ذاك النابض وسط

أضلعه يشعر وكأن حجراً يطرق جداره من الداخل واستوى واقفاً

ما أن علا رنين هاتفه في جيبه وتبدلت تلك الطَرقات المتقطعة

لحوافر خيل تعدو داخله في سباق طويل وكأنه شعر بحقيقة هوية

المتصل بينما عجزت يده عن رفع الهاتف الموجود فيها لأذنه

وكأنها تخدرت بسبب ثقله الذي لا يساوي شيئاً !

فلا يمكنه توقع حجم الفاجعة التي قد تصيبه قبل الجميع إن كان

الخبر الذي يحمله له هو ما يخشاه ويهرب من التفكير فيه منذ

علم بحقيقة مرض شقيقه .. الهروب الذي كان أسوأ وأشد قسوة

من الاستسلام ذاته .

سحب الهواء بقوة لصدره ما أن تكرر الاتصال مجدداً وهمس ب

( يا رب ) وهو يرفعه لأذنه ما أن فتح الخط بأصابع مرتجفة ولم

يستطع النطق بأي كلمة وهو يشعر ببرودته تلامس بشرة وجهه

وتوقف لسانه عن العمل تماماً واصطدمت أنفاسه فقط به لتعلن

عن وجوده للذي كان يقول

" وقاص تسمعني ؟! "

كان يريد قول نعم لكنه عجز عن تحريك فكيه .. أنفاسه اللاهثة

وحدها ما كانت تستطيع العبور مندفعة بقوة وتمنى في قرارة

نفسه أن يتحدث ذاك فقط ولا يستمر في تعذيبه أكثر من هذا لكنه

يبدو كان مصراً على التأكد من أنه يسمعه أولاً حتى كان سيقطع

الاتصال معه لولا أن وصلت رسالته الصامتة له أخيراً وأكد كل

ذلك الصوت الباسم الذي ضرب قلبه قبل اذنيه

" أجب إن كنت تريد سماع أخبار تسرك "

نزلت يده والهاتف فيها لحصنه وسقط ظهره ودون شعور منه

على الجدار خلفه وتحررت أنفاسه لتخرج في نفس واحد طويل

يشعر به خرج من أعماقه وأخفى بكف يده الأخرى عيناه ونزلت

دموعه رغماً عنه وأخفض رأسه وقد اهتز كتفاه يخفي كل ذاك

البكاء الرجولي وسط أضلعه وتمنى أن استطاع فعل أي شيء

آخر .. أن خر لله ساجداً .. أن صرخ بكل ما لديه من قوة حتى

وصل صوته لجميع الجدران في ذاك المكان الواسع وعلم كل من

سمعه بأنه صوت رجل اهتزت دواخله وهو ينتصر على الفاجعة

، لكنه عجز عن كل هذا وانهار الرجل الشبه صامد في داخله

يبكي كطفل صغير بدلاً عن كل ذلك ، ولن يلوم نفسه أو يعاتبها

فوحده من يعلم بحالها ووحده من يفهم وعاش معاناتها القاتلة كل

تلك الساعات .. فقط ما لم يتمناه حينها ويحمد الله عليه أنها

ليست أمامه الآن لما كان استطاع السيطرة على نفسه ليمنعها من

احتضانها بقوة حتى تتحطم عظامها في حضنه ليستطيع استيعاب

كل هذا فلا يمكنه وصفه سوى بعودة الميت للحياة أو نجاته من

الموت أمام عينيك .


مسح عيناه بكفه بقوة وشفتاه لا تتوقف عن حمد الله هامساً ودس

الهاتف في جيبه وأخذته خطواته ناحية تلك الغرفة ولم يعد يريد

سوى ذلك وهو رؤيتها وإن من بعيد ليرى المرأة التي عاش

لساعات وكأنها أعوام طويلة في كابوس مرعب وهو فقدانها

وللأبد وبقدرة الله وحده عادت له وبمعجزة ما انتهى كل ذلك

وكأنه لم يكن .

وقف حيث الفاصل الزجاجي الموجود في جدار الغرفة تمسك يده

بحافة إطاره الخشبي العريض بينما نظراته الحزينة من بين

الرموش التي لازالت مبللة بالدموع تركزت عليها .. بل عليهما

معاً على الجسد النحيل النائم فوق السرير والأجهزة تتصل به من

كل جانب والجالسة على الكرسي الوحيد قرب سريره تمسح يدها

على شعره ببطء ودون توقف بينما كان ما يظهر له من رموشها

المنسدلة يؤكد أنها تنظر للوجه الذي لم يظهر له بوضوح سوى

من عظام بارزة تغطيها بشرة بيضاء شاحبة واتكأ بجبينه على

برودة الزجاج السميك أمامه وغشت عيناه سحابة رقيقة ولامعة

من الدموع ما أن انحنت نحوه وحضنته بذراعها تدفن وجهها بين

ذقنه وصدره وبكت ، بكت بعبرة حارقة موجعة لم يعرفها سوى

في بكائها عليه سابقاً وكأنها تُحرر صراخاً عاش في داخلها

أعوام طويلة وتُخرج ألماً لم يعد يمكنها الاحتفاظ به في قلبها أكثر

من ذلك وهمس بأسى حزين وغصة سجينة ينظر لجسدها

المرتجف الباكي من بين دموعه

" أجل ... أخرجي كل ما يمكنك إخراجه يا زيزفون أرجوك "


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:13 PM   المشاركة رقم: 1579
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

نظرت لها بأسى حين رفضت مساعدتها وجلست بنفسها على

السرير وشدت لحافه فوق ساقيها وهي تحضنهما وتدفن ملامحها

في ركبتيها وقد تساقطت على ذراعيها خصلات شعرها المتيبس

وكأن أمطاراً قوية اصابته قبل أن يجف بسبب رياحٍ باردة لم

تعرف معنى تجفيف المياه بل تجميدها حد الجفاف !.

شدت على أسنانها بقوة وكأنهما فكي وحش عملاق تسحق ذاك

الرجل بينهما يعلو صدرها ويهبط بشدة تمنع نفسها بالقوة عن

قول ما يكاد يقتلها كتمانه وهو شتمه دون توقف فها قد حدث ما

تعرفه جيداً وتوقعته وقالته عنه سابقاً وهذا أكثر ما يشعرها

بالقهر لصمتها مجبرة عن قوله مجدداً لأنه ليس وقته ولن يكون

أبداً ولن تجرحها بكلماتها تلك بعد ما سمعته منها عند الباب لتظن

بأنه غير مرحب بها هنا وأنه لا عائلة لها فوالدها يُعد الآن

قريبها الوحيد .

جلست أمامها برفق وتبدلت نظراتها لها للحزن ولها أن تتخيل ما

تشعر به الآن وهي أكثر من يعلم ما يعنيه لها ذاك التمثال

الفرعوني المتحجر ولن تستطيع أن تتوقع ما فعله هذه المرة لكن

ما هي أكيدة منه أنه من طردها للشارع بهذه الهيئة لما كانت

لتخرج هكذا أبداً وفي منتصف الليل ! وسيكون قد فقد مرؤته

ودماءه العربية من عروقه بالتأكيد ليسمح بهذا وهي زوجته !.

ارتفعت يدها نحوها حين لم يصدر عنها أي رد فعل ولا صوت

نحيب أو عبرة مكتومة سببها البكاء في صمت !

لامست أصابعها خصلات شعرها وقالت بهدوء حزين

" ماريه هيا لتستحمي وسأحضر لك ثوباً تنامين فيه
وشراب دافئ "

وارتدت يدها لصدرها وتجمعت دموع رقيقة في مقلتيها الزرقاء

حين خرج همسها الحزين بوجع قاسي

" أريد والدي فقط "

واختنق صوتها عند نطقها لتلك الكلمة ( والدي ) الشخص الوحيد

الذي تحتاجه الآن وتريده وتعلم بأن كلمته لن يثنيها أحد ومهما

كان ، كانت الكلمة التي أصابتها في قلبها تتخيل نفسها من دون

أحد .. لا والداها لا شقيقها ولا حتى والدتها .. لا أحد لها سوى

زوجها ذاك فكيف كانت ستكون حالها وما سيفعله بها وهي

وحيدة مقطوعة الجناحين ؟

تجمعت الدموع أكثر في عينيها ومدت يدها ليدها وأمسكت

بأصابعها بقوة وتكسر صوتها الحزين وإن كانت تدّعي القوة

وهي تقول ونظرها على الملامح التي لا تراها أساساً

" الله الذي أخذه لديه لن ينساك ماريه ويرى كل شيء "

وازداد شدها على يدها وإن كانت لازلت تحضن بها ساقيها بينما

ارتفعت يدها الأخرى تمسح بها عيناها الدامعة وإن لم تفارقها

تلك الدموع ولا تعلم حقاً ما يمكنها قوله غير ذلك ؟

لن تقول بأن والدها لن يسكت له عن هذا ولا والده أيضاً فهي

باتت تشك في مقدرتهما على فعل أي شيء له بعدما شهدته سابقاً

بنفسها وهو يأخذها من أمامهم لم يوقفه أحد أو يفرضَ عليه

قراراً كان مخالفاً لقراراته وفي كل مرة .

لكن هذه لا يجب الصمت عنها أو لن تثق هي أيضاً في مقدرة

والدها على الدفاع عنها إن احتاجته يوماً وكانت في موقفها الآن

فهل سينصف ابنته حينها بينما ترك هذه اليتيمة الآن ؟

إن كان لشاهر كنعان ابنة هل كان ليرضى لها بكل هذا ؟

تركت يدها أصابعها ووقفت ووجهتها باب الغرفة المفتوح

تشعر بالأبخرة تتصاعد من رأسها بل ومن جميع مسامات

بشرتها بسبب الغضب المشتعل داخلها وقد وجدت والدتها

أمامها ما أن وصلت الباب والتي وقفت متفاجئة بخروجها

العاصف وقالت بقلق تحاول النظر لداخل الغرفة من خلف كتفها

" كيف أصبحت الآن ؟ "

قالت بحدة تنفث أولى نيران غضبها بها

" على ماذا ستصبح أمي وهي وصلت للتو ؟ "

حدقت فيها الواقفة أمامها بصدمة قبل أن تقول بضيق

" وما بك تصرخين بي هكذا وكأنني الفاعل ؟ "

فهمست لها بغضب من بين أسنانها لتخفض صوتها واستدارت

للباب واغلقته قبل أن تنظر لها مجدداً قائلة بضيق وصوت

منخفض قدر استطاعتها وما سمح به غضبها

" تطلب والدها أمي وتعتذر عن مجيئها لأنه لا أحد لها غيرنا ..

أتعين معنى هذا ؟ "

وازداد اشتعالها وهي ترى الصدمة على ملامحها وقد ارتفعت

أناملها لشفتيها فالتمعت عيناها بدموع الغضب والقهر ولوحت

بيدها في حركة غاضبة وهي تهمس

" لن يكون والدي بعد اليوم إن لم يأخذ بحقها منه ولا شاهر
كنعان رجلاً يستحق تلك الكلمة "

وشهقت بصدمة تمسك وجنتها بينما عيناها الدامعة تنظر بصدمة

للتي شدت أصابعها في قبضة واحدة بعد صفعها لها ولأول مرة

تفعلها في حياتها بالرغم من كل طباعها التي لا تعجبها وقالت

بحدة بينما أشارت سبابة يدها الأخرى ناحية نهاية الممر الذي

جاءت منه

" فخر لك أن يكون والدك وها هو أمامك غيرك يتمناه "

نظرت لها بغضب وإن لم تنفس عنه بينما كانت عيناها تلمعان

بدموع القهر وإن كان الغضب في عيني والدتها لم يخف وكأنها

تتحداها أن تقول كلمة أخرى لتصفعها مجدداً بل وقد تفعل أكثر

من هذا مع نظراتها تلك ، ولم يدم ذاك طويلاً وهي تجتازها

مغادرة باتجاه غرفتها بينما خرجت كلماتها باردة كالصقيع تعاكس

جميع مشاعرها تلك اللحظة

" وها هي اليتيمة التي لا أحد لها غيره هنا ... "

وكانت حينها قد وصلت باب غرفتها والذي ضربته بقوة وقت

دخولها وصرخت حينها تنظر له متابعة باقي حديثها وكأنها هي

من تقف أمامها صارخة

" ولنرى ما سيفعل من أجلها باعتبارها ابنته "

بينما من تركتها واقفة مكانها هناك وصل لمسمعها كل كلمة

قالتها لازالت تنظر ناحية باب غرفتها المغلق بغضب من سلوكها

وهي تعلم جيداً بأنها ستسمعها ، مشاعر تبدلت لأخرى لا تفهمها

ما أن نظرت لباب غرفة ابنها سابقاً والقابع أمامها تفكر في كل

كلمة قالتها ابتداءً بنقلها لكلمات ماريه التي آلمتها حد الألم ذاته

انتقالاً للكلمات التي صفعتها ولأول مرة في حياتها بسببها وباتت

لا تعلم كان غضباً من إهانتها لوالدها ووالده معه وبكل وقاحة أم

قوة مزعومة لموقفهم السابق والذي يعلم الجميع بأنه انتهى

بالصمت والرضوخ التام لقرارته بشأنها خاصة وهو قد خطب فتاة

أخرى بينما هي زوجته ؟ ولم تكن هذه الأولى التي تغادر فيها

شقته وتدخل منزلهم بحال يشفق لها الجدران ، لكنهما لم

يستسلما دون محاولة وإن كانت فاشلة وما كان عليها أن تخطئ

في حق والدها وهي نفسها لا تعلم ما يمكن أن يصير إليه حالهم

إن هم فقدوه فجأة ، ولن تنسى له أنه من أنقذ ابنها من الضياع

ورباه تربية لم ينلها أمثاله في هذه البلاد ليكون رجلاً تفتخر به ،

وواثقة من أن تركه لماريه تقرر بنفسها سابقاً ليس لأنه لا

يعتبرها ابنة له بل لأنه يريدها سيدة قراراتها في أمر

يخصها وحدها .

تنهدت بعمق حين وجدت نفسها تعود لذات المنعطف وعقلها

يسأل نفسه

( هل كان يمكنه الاعتراض حين جاء لأخذها من هنا بعدما كانت
آثار صفعه لها تركت علامتها على وجهها حتى أدمت شفتيها ؟
هل كان يستطيع أن يمنعه إن طلبت هي ذلك منه ؟ )

استغفرت الله بهمس خرج معه الهواء من شفتيها كتأفف خفيف

فبالفعل لم ولن يستطيع أحد ردع ذاك المحارب العنيد عمّا يقرره

ويريده ، ولتنجوا بنفسها من كل تلك الأفكار أمسكت مقبض الباب

وأدارته ودفعته للداخل لتنهي كل ذاك الحديث المتلف للأعصاب

ولدماغها قبلها .

وما أن ظهر لها جسد التي لازالت تحضن ركبتيها وتخفي وجهها

فيهما حتى تبدلت ملامحها للحزن واعتصر الألم قلبها فكم عانت

هذه الفتاة وما يفوق سنوات عمرها بكثير إن كان قبل أو بعد

مجيئها إلى هنا ليقتل كل ما هو جميل فيها ابتداءً من ابتسامتها

التي النظر لها وحده يكفيك لتنسى كل هموم حياتك وترى الجميع

يسلبها إياها بقسوة حتى تموت نهاية الأمر من شفتيها الجميلة

ووجهها البريء وإلى الأبد .. وانتهاءً بقلبها المُحب النقي الذي لا

يعرف الكره والحقد يواجه طعنات الخذلان الواحدة عقب الأخرى .

تحركت خطواتها نحوها حتى جلست بجوارها وأحاطت يدها

برأسها وأجبرتها على النوم في حضنها حتى انصاعت لها

وأحاطتها بذراعيها تشعر بدموعها ستخونها .. وفعلتها فعلاً

لحظة أن سمعت بكائها المكتوم والذي يبدو كانت تحبسه لوقت

طويل داخلها وها قد تحرر ورغماً عنها .

مسحت يدها على شعرها بحنان وتركتها تبكي في حضنها وإن

كانت تجزم بأنها تقاوم تلك الدموع والعبرات بكل ما تبقى لديها

من قوة ولم تجد كلمات تواسيها بها ، لم تستطع أن تقول لها بأن

عمها الحارثة لن يصمت عمّا حدث وإن كانوا يجهلونه فيكفي

خروجها ووصولها بهذه الهيئة ! ولا والده ولا أيّا كان وبدأت

تتساءل إن كانت ابنتها على حق ؟ حركت رأسها بعنف فالتفكير

بتلك الطريقة مجرد جنون وإن سمعتها تتبرأ منه مجدداً

ستقطع لسانها .

عادت لاحتضانها بكلتا يديها فهذا ما تراها تريده الآن وليس

مواعظ أو تذكيراً بما مضى فهي قوية من الداخل وإن كانت أكثر

فتاة رقة وهشاشة عرفتها في حياتها وموقنة من أن لها قلباً

يمكنه تحمل ما تعجز عنه الكثيرات .

لكن كل ذلك تلاشى وانقشع حين سمعت همسها الباكي يضرب

قلبها قبل أذنيها

" أريد والدي أرجوكم "

فملأت الدموع عينيها وباستماته تمكنت من حبس عبرتها مكانها

كي لا تخرج ومسحت يدها على شعرها وقالت بحزن بينما

نظراتها الدامعة تهيم في الفراغ

" وأنا مثلك تماماً ناديت والدي أياماً طويلة حين كنت مع طفلي

وحيدان نجوب شوارع لندن لا شيء لدينا نأكله وأرسل إلينا الله

عمك الحارثة لينقذنا مما وحده سبحانه يعلم ما سيكون لأنه كان

يرانا ولم ينسانا يوماً "

وقبلت رأسها قبل أن تتابع بحزن وأسى وعينان دامعة

" عليك أن تكوني فخورة به ماريه فهو لم يتركك للجوع

وللشارع .. ذاك هو عمره وما كان ليزيد يوماً عمّا قدره الله له

لكنه ترك لك ثروة لم ولن تضامي بعدها "

مسحت بعدها بطرف كم قميصها عيناها الباكية لكن كلماتها تلك

لم تراها إلا زادت بكائها حدة وكأنها غرست سكينها في جرحها

بدلاً من أن تواسيها !

وانتبهت حينها لباب الغرفة وقد سمعت طرقاً خفيفاً عليه وعلمت

هوية الطارق من فورها ولِما لم يدخل فسيكون الحارثة وضيفاهما

ينويان المغادرة بالتأكيد وعليها توديعهما ، وكم حمدت الله أنهما

لم يريا وجهها لأن ذاك العجوز لن يعجبه ما يحدث بالتأكيد حين

سيعلم هويتها مستقبلاً خاصة بعدما أبدى استيائه من تهميشهم

كعائلة لها فلعل الأمور تُحل بطريقة أقل ضرراً على الجميع .

وقفت سريعاً وتوجهت ناحية الباب وغادرت مغلقة إياه خلفها

ببطء وبعد أن قبّلت رأس التي ابتعدت عنها مجبرة وتركتها تتكئ

بهمومها على الخشب المصقول لظهر السرير وحضنت نفسها

بينما نظراتها الكسيرة الحزينة تراقب الاوراق المتراقصة أمام

زجاج النافذة المغلقة يظهر بريق لونها الأخضر ويختفي مع

حركتها المتناغمة تحت الأضواء في الخارج وابتسمت بمرارة

تمتلئ عيناها بالدموع وهي تتذكر كلماتها

( مال !! )

كل لعنة في حياتها كان سببها تلك الكلمة .. بسببه عاشت طفولة

قاسية مع عمها وبسببه تزوجت طفلة بينما طُرد ذاك الزوج من

حياتها وللأبد .. وبسببه أيضاً عاشت ذليلة مهانة محرومة من

أغلى ما تملكه كل امرأة في الوجود وهو شرفها أمام الناس فهي

لم تعرف إلا التعاسة منه وبسببه ، وحتى حين أصبحت هنا لم

يغير في واقعها شيئاً ، لم تستطع أن تشتري به سعادتها وأي

سعادة تلك التي تُشترى بالمال !

بلى هي اشترتها يوماً كان بعيداً جداً بينما ثمنه علمت عنه قريباً

ولكنه لم يكن من ذاك المال أبداً ، انسابت دمعة يتيمة على

وجنتها المشتعلة بشدة تشعر بها كجمرة ساخنة أحرقتها وجفنها

قبلها وهي تتذكر تلك اللحظات وكأنها الآن تُعرض أمامها .

" ماذا تفعلين هنا ! "

أجفلت وفي قفزة واحدة أصبحت مقابلة له بينما الدرج الذي

أغلقته دون شعور والخزانة كاملة باتت خلفها فهي لم تترك مكاناً

لم تبحث فيه عنهم ولأيام وحين وجدتهم يمسك بها !

ما هذا الحظ الرائع الذي تمتلكه ؟ ظهرت على شفتيها ابتسامة

واسعة كمن وقع في مأزق لا مخرج منه ودست يدها خلف ظهرها

تنظر لعينيه التي كانت تخفي ابتسامة ماكرة وقد ظهرت واضحة

على شفتيه وسند يده على الخزانة بجانب رأسها بينما مد

الأخرى أمامها وهمس

" هات ما تخبئينه "

فالتصق جسدها بالخزانة أكثر حتى شعرت ببرودتها تتسلل عبر

قماش بلوزتها البيضاء الخفيفة والتي كانت بدون أكمام وبقصة

قصيرة عند بداية خصرها كاشفة عن بنطلون جينز غامق وصل

طوله لنصف ساقيها تزينه فصوص بيضاء تأخذ شكل مفتاح

موسيقي كبير عند فخذها الأيسر ، أمسكت ابتسامتها بأسنانها

تغرسها في شفتها دون أن تتحدث بينما كانت ترسلها عيناها

أيضاً لعينيه التي ابتعد نظرها عنهما وتستغرب من ضربات قلبها

التي لازالت تفقد سيطرتها عليها كلما كان قريباً منها هكذا !

خاصة وقد سند يده الأخرى بجانب رأسها ليحاصرها بين ذراعيه

كالفرسية ، وكانت فريسة بالفعل وقعت في غرام سجانها ..

وكيف لا تغرم بتلك الملامح الرجولية بالغة الوسامة القريبة منها

ولا تتوتر أطرافها جميعها وليس قلبها فقط فهي رأت الكثيرين

ممن تتغير نظرتها لهم ما أن تراهم عن قرب إلا هذا الوجه وسيماً

حد الوسامة عن بعد وكلما اقتربت منه اكتشفت بأنه أجمل

مما رأت .

اتسعت ابتسامتها وهي تحرر شفتها ببطء من قبضة أسنانها حين

همس ببرود وهو يدنوا برأسه منها

" هيا أقري بجريمتك قبل أن يصدر الحكم بدون استماع "

فأمالت رأسها بحركة طفولية وقالت بابتسامة رقيقة أعادتها

جميعها طفلة حجور بجسد امرأة وثياب نظيفة

" لا أصدق أن تكون قاضٍ ظالم "

واتسعت ابتسامتها أكثر حتى كانت تكاد تتحول لضحكة حين رفع

رأسه عالياً ترتسم ابتسامة حقيقة على شفتيه بينما لازال

يحاصرها بيديه وعلمت بأنه رآها تلك الطفلة لحظتها بالفعل كما

كانت متيقنة بأنه سيقاوم سلاحها ذاك وذلك ما حدث فعلاً حين

أنزل رأسه ونظر لعينيها ولازالت آثار تلك الابتسامة ترتسم على

شفتيه وملامحه بينما لمعت عيناه بمكر وقال ويداه تبتعد

عن الخزانة

" عليك قول ما لديك إذاً ثم نرى ما الذي يمكن الحكم به "

لوت شفتيها بامتعاض فها هو كما توقعت لن تنجوا منه كما لن

تتنازل عمّا بحثت عنه كثيراً وقالت بابتسامة مرتبكة

" وما عقوبة السرقة أيها القاضي ؟ "


واتسعت عيناها بصدمة ما أن همس بمكر مكتفاً يداه لصدره

" قطع يدك بالتأكيد "

ورمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تخرج يدها المقبوضة

وقالت باعتراض

" لا ليس عدلاً فهي لي "

مد يده وقال

" حسناً دعينا نرى ونحكم "

فتهدت بضيق وفتحتها متأففة وغرضها أن يراها فقط وكانت

القطع النقدية التي أعادتها له سابقاً مع خاتم الزواج حين كانت

غاضبة منه لكنه ألبسها الخاتم مجدداً ولم يعدهم لها وهو من

أرسلهم أول مرة وقت وصولها لمنزل عمها الحارثة وكانت

القطعتان النقديتان اللتان أعطتهما له في صغرها وكل ظنها أنها

ستكفي لشراء دواء والدته عندما ذهب لعمها يطلبه منه وهو

رفض ، بينما كانت الثالثة العملة الرومانية التي لم تكن تفارقه

في طفولته وكان يرميها عالياً في الهواء ويعود ويلتقطها في

حركات متتالية وهو يراقب الشارع أمامه بينما كانت هي تراها

اعجوبة لا يستطيع فعلها غيره تراقبه بانبهار .

كانت ثوان فاصلة بين فتحها ليدها وقبضها عليهم مجدداً كي لا

تخسرهم لكنها كانت كافية للذي تحركت يده كالبرق الخاطف

خلال تلك الثواني المعدودة حتى اعتقدت بأنها لم ترها ولم تشعر

بها لولا أكد لها ذلك العملة الوحيدة التي تبقت في يدها فصاحت

معترضة تضرب الهواء بقبضتها التي حوت العملة الرومانية فقط

فقد كان من السرعة أن اختار العملتين وأخذهما في لمح البصر !

ضربت الأرض بقدمها وقالت محتجة بضيق

" هذا ليس عدلاً فأنت من أعطاني إياها "

اعاد يده اليسرى بجانب رأسها يسندها على باب الخزانة ومال

برأسه نحوها هامساً بسخرية

" أخطأتْ ... "


وتابع بذات نبرته الساخرة وهو يشير لقبضتها بعينيه

" ثم ها نحن متعادلان وكلٌ أخذ نصيبه "

فنظرت ليدها وهي تفتحها وللقطعة النقدية النحاسية القديمة التي

تآكلت حوافها تقبع وسط كفها وأمالت شفتيها بعبوس ورفعت

رأسها له وقالت محتجة

" بل هذه لك ... "

وتابعت تشير بسبابتها ليده المقبوضة على باقي العملات

" وتلك لي "

وما أن مدت يدها لها رفع قبضته عالياً وقال بمكر وهو ينظر

لعينيها المعلقتان بيده عالياً ترمقها بضيق

" بل هذه لي لأنك قبضتِ ثمنها من خمسة عشر عاماً مضت "

فنظرت حينها لعينيه باستغراب وهمست ببلاهة

" قبضتُ ثمنها !! "

التوت شفتيه بابتسامة جانبية وقال

" أجل ووقت الدفع "

رمشت بعينيها باستغراب جعل ابتسامته تتبدل سريعاً لتلك التي

تعشق وتجعل ملامحه تزداد وسامة فحبست أنفاسها بصعوبة

وقالت تنظر لعينيه المحدقتان بها

" وماذا كان !! "
" تيم "

كان همسه خافتاً متأنياً وعميقاً لامس قلبها كفراشة وقفت فوقه

بنعومة حتى كانت تشعر بالأرض تختفي تحتها وكأنها تطير عالياً

وأسرت عيناه حدقتاها الذهبيتان اللتان التمعتا بالدموع سريعاً

وانفرجت شفتاها ببطء وهمست دون شعور منها

" أنت !! "

أنزل يده حينها وقال بملامح هادئة ساكنة بينما لم تفارق نظراته

عيناها التي برقت كقطعة ذهب نقي تبلل تحت اشعة الشمس

" أجل "

وتحولت ابتسامته لضحكة صغيرة كتمتها شفتاها حين قفزت

متعلقة بعنقه وقبّلته .. كانت قبلة طويلة لم يستطع قطعاً إلا

الاستلام لها وأنزل يده من الخزانة لخصرها يشد جسدها نحوه

وما أن اشتدت ذراعاها حول عنقه حتى شاركت يده الأخرى في

احتضانها بعد أن وضع القطع النقدية على السطح الرخامي

للأرفف السفلية من خزانة المطبخ بجانب الجزء الطويل منه

والموجود خلفها ، وكان ذاك الرنين الخفيف الذي صدر عنهما ما

جعلها تدفع جسدها من بين ذراعيه فجأة محررة لشفتيه وابتعدت

عنه وبحركة خاطفة واحدة نظرت نحوهما خلفها واختطفتهما

سريعاً وهي تركض مجتازة له ليوقفها بعد ركضها بخطوات

صوت رنين إحداهما خلفها لتكتشف حينها بأنها تمتلك واحدة

منهما فقط بينما سقطت الأخرى أرضاً تحت قدمي الذي كان يقف

مكانه ينظر ناحيتها ممسكاً لخصره بيديه وقال يرمقها بنظرات

عابسة وحاجبان معقودان

" يالك من مخادعة "

حركت كتفها وقالت مبتسمة بمكر

" لم تكن نيتي الخداع قطعاً لكنك من أتاح الفرصة لي أيها
القناص الأول "

همس بكلمة يونانية لم تسمعها جيداً ولن تفهمها وإن سمعتها

ومن ملامحه تدرك جيداً أنها لن تكون غزلاً ولا مديحاً وتراجعت

خطوة للوراء حين انحنى يرفع القطعة النقدية من الأرض تحته

وارتسمت الدهشة على ملاحها حين رماها نحوها ما أن استوى

واقفاً والتقطتها بسهولة ولن تستغرب هذا وأن يستطيع تقدير

المسافة بينهما ونظرت له حين اتكأ بظهره على الخزانة خلفه

وكتف ذراعيه لصدره لتتسع عيناها حين قال ببرود

" ألغينا اتفاق البيع إذاً "

" ماذا تقصد ؟! "

خرجت الكلمات مندفعة منها بسرعة تحدق فيه بذهول وكان

جوابه سريعاً أيضاً وهو يرفع حاجباً واحداً وينزله متمتماً

" أقصد أن نقودك لديك ولا مقابل لك لدي "

حركت رأسها برفض وقالت محتجة

" أنت أهم من ذلك بكثير .. لن تُقدّر بدرهمين لم يعد لهما قيمة
ولا في البلاد التي كانت تستخدمهما "

وكان رد فعله الوحيد أن حرك كتفيه بعدم اكتراث وتحرك من

مكانه يدس يديه في جيبي بنطلونه الجينز ومر بجوارها ونظر

لعينيها وهو يجتاز بينما همست شفتاه

" لديك نعم أنا لا "

فتبعته بنظراتها العابسة وهو يجتاز باب المطبخ بخطوات كسولة

بالرغم من أنه لا يمكن وصفها بهذه الكلمة مع تلك الهيئة

والشخصية المتفردة ومدت شفتيها في عبوس تعلن هزيمتها

رغماً عنها .. أو لا تعلم هل تسعد بكلماته تلك رغم إعلان

خسارتها ؟ فأن تكون تلك القطع النقدية مهمة لديه هكذا وأن

يبيعها نفسه بها أمر يجعلها التفكير فيه فقط تُجن به أكثر .

نفضت يدها مستسلمة وركضت نحوه وأوقفته تمسك بيده قبل أن

يصل لغرفته وأدارته نحوها ووضعت القطعتان فيها قائلة بضيق

" ولتعلم فقط بأنك أهم من أموالنا مجتمعة "

ورفعت نظرها له وقد تبدل كل ذاك الضيق لابتسامة غريبة مزجت

الحزن والحب والسعادة جميعها معاً يمكن قراءتها على صفحات

وجهها دفعة واحدة وفي العينان التي التمعت ببريق دافىء

واشارت لقلبها هامسة

" هذا فقط يمكنه تقدير ذلك "

فابتسم تلك الابتسامة الرقيقة التي تعشق مجدداً وقفرت للخلف

بضحكة صغيرة ما أن امتدت يده لها تعلم نيته جيداً وتراجعت

للوراء ما أن تقدم بخطوة نحوها ورمت القطعة النقدية الموجودة

في يدها والتي التقطها بسهولة قائلة

" وخذ هذه أيضاً لا أريد أن أدخل السجن بتهمة تهريب الآثار " .

تدلت دمعة جديدة من رموشها لتسقط في حضنها مباشرة

وانقبضت أصابع يدها بقوة حتى آلمتها ورفعتها لصدرها لا تعلم

تحضنها أم تحضن نفسها بها ولازالت العينان الدامعة تراقب

الظلام في الخارج تشعر بتعاستها تتعاظم وبأن تلك الذكريات التي

تجتاحها رغماً عنها لا تزيد حالها إلا سوءاً ، وتساءلت بمرارة

لما يفعل بها ذاك الرجل كل هذا ؟ لما لا يعتبرها زوجته وهو

يحرمها منه ونفسه منها هكذا ويقتلها بحجة أنه يحميهما !

رفعت قبضتها لشفتيها حين تغلبت عليها عبرتها أيضاً وكأنها

تمنعها بها وهمست بوجع ودموع عادت لكسر القيود مجدداً

تتقاطر من عينيها تباعاً

" لما لا يضعها مكان ماريه للحظة واحدة فقط ؟ "


*
*
*

ابتسمت ولازالت مغمضة العينين وهي تشعر بملمس يده أسفل

معدتها وصوت همسه بتمتمات مرتبة متتالية بينما كانت تضطجع

على جانبها الأيمن تتوسد ذراعها العاري ويتكئ هو خلفها تماماً

ملاصقاً لها ويسند نفسه بمرفقه مرفوع الجذع ، وببطء فتحت

عينيها لتواجها الأنوار الموزعة في الخارج كقناديل تتأرجح في

الفضاء بريق يخطف القلوب قبل الأبصار حيث الشرفة الموجودة

كواجهة زجاجية مقابلة للبحر وللجسر الممتد منه تمتد الأضواء

مع امتداد جانبيه الخشبيان في انحناء جعلها كموجة تزين الأنوار

المصطفة في أعمدة على امتداد الشاطئ المظلم قبلها وقاومت

ضحكة مكتومة وهي تهمس له

" لا يُتعبني و يبدو نائماً فدعه وشأنه "

وعادت لإغماض عينيها ببطء وانحبست أنفاسها حين شعرت

بنعومة ملمس شفتيه على عنقها والتفت ذراعه حول خصرها

يحضن جسدها فلازالت قبلاته كما لمساته في كل مرة تشعر

وكأنها الأولى وهمس قرب أذنها

" لم أكن احاول تهدئته بل أتحدث معه "


استدار رأسها له حينها ورفعت ذراعها وأحاطت عنقه به ونظرت

لعينيه وقالت باسمة

" وماذا كنت تخبره ؟ "

انتقلت يده لوجهها ولامست أصابعه نعومة خصلات غرتها

المتدرجة جانباً وقال مبتسماً

" كنت أوصيه على والدته وشقيقته "

فماتت ابتسامتها وظهر جلياً على ملامحها ما كان يصرخ به قلبها

حينها في ضربات مجنونة ، وفي تبدل استطاع ملاحظته بكل

سهولة عبّرت عنه كلماتها التي خرجت مرتجفة وكأنها

تجبرها بالقوة

" ماذا يحدث معك يا مطر ؟! "

ولم تستطع نظرة الاستفهام التي رأتها تكتسي ملامحه حينها أن

تجعل قلبها المضطرب بشدة يهدأ ولا أفكارها المشوشة حد

الشعور بالألم في رأسها بل وكافة أطرافها ولا ترقرق الدموع

الدافئة في عينيها وهي تهمس ببحة ونبرة مستجدية حزينة

" لن تموت أو تسافر مجدداً وتتركني وابنتك يا مطر لن
أسمح لك "

ارتسمت حينها ابتسامة تسللت ببطء لملامحه تعاكس كلياً الحزن

والفزع المرتسم على الملامح الفاتنة المقابلة له وقبّل كتفها

العاري صعوداً لوجنتها ثم طرف رأسها قبل أن يعود وينظر

لعينيها وقال مبتسماً

" لن أسافر وأترككم يا غسق .. "

واخترق طيف ضحكة صغيرة بحة صوته الرجولي وهو يتابع

" لكن أن لا أموت هذه ليست بيدي قطعاً فكيف أعد بها ؟ "

عادت الدموع للتكدس في عينيها وهمست ببحة

" تفهم جيداً ما أعنيه يا مطر "

تنهد مبتسماً ولامست أصابعه ذقنها ممرر إبهامه على نعومة

شفتيها المتوردة وقال بتأني ينظر لعينيها

" لقد عشت في خطر الموت طيلة الأعوام الطويلة الماضية ومنذ
وضعت على عاتقي حلم توحيد أقطار البلاد وكنت أخوض المعارك
بسلاحي مع رجالي وها أنا أمامك لم أمت فما الذي سأخفيه عنك
الآن قد يكون فيه هلاكي ؟ "

وانتقلت أصابعه لعينيها التي أغمضتهما ببطء ومسح الدموع

برفق ورقة عن رموشها وتابع بنبرة رجولية عميقة شابها طيف

حزن خفي

" أنا والموت لم نفترق أعواماً طويلة ولن نفترق لأنه قدرنا
وينتظر فقط أمراً منه سبحانه فهل يمكنك أنتِ أن تعديني بألا
تموتي ! "

وأبعد يده لطرف وجهها ففتحت عيناها وهمست بعتاب رقيق تنظر

لعينيه بحزن

" أجل هو قدرنا لكن هذا لا يعني أن نُفزع غيرنا بذكره وتذكره فقد لا يموت الإنسان حتى يكون هرماً "

تخللت أصابعه شعرها يلامس إبهامه وجنتها وقال ببعض الجدية

محدقاً في عينيها

" بل هو حقيقة علينا أن لا نتجاهل التفكير فيها كي تكون الدافع
لردعنا عن الخطأ "

تحركت شفتاها المطبقة في صمت قبل أن تتحرر الكلمات منها

قائلة بهمس حزين

" وإن يكن لا توصيه علينا فأنت من عليه رعايتنا جميعاً وهو
معنا حتى يكون رجلاً "

ابتسم واتكأ بجانب رأسه على ظهر السرير وقال ونظره لم

يفارق عينيها

" قد لا يعجبك نوع رعايتي له حينها "

تمتمت من فورها ببرود

" حينما يكبر يقرر بنفسه "

خرجت منه ضحكة صغيرة ولامست أصابعه حمالة قميصها

الرقيقة ينزلها من كتفها لذراعها وقال ونظره يتبع حركة يده

" وماذا إن اختار أن يكون كوالده "

أبعدت يدها عنه بحركة غاضبة وقالت

" عليه أن لا يتزوج مطلقاً حينها "

همس بضحكة خافتة

" إهانة مقبولة من والدته "


وارتفع نظره لعينيها مجدداً وما أن قالت ببرود

" ثم قد يكون أنثى "

حرك عينيه بتفكير لبرهة وقال ما أن عاد ونظر لعينيها وابتسامة

جانبية تزين شفتيه

" قلبي يقول عكس ذلك "

لكمت بقبضتها صدره العاري ناحية قلبه وتمتمت بعبوس

" لو أستطيع فقط أن أفهم قلبك هذا "

أمسك يدها ووضعها عليه يحضنها جهته وقال بتأني ينظر لعينيها

" وحدك من يستطيع التنقل عبر حجراته لكنك تصابين بالصمم ما
أن تدخليه محاولة فعلها "

زمت شفتيها بقوة في ضيق ودفعته بضربة من قبضتها وزحفت

مبتعدة عنه وعن السرير بأكمله وجلست أسفله تتكئ بظهرها

عليه وتحضن ركبتيها وفخذيها التي انكشفت بنزول قماش

القميص القصير عنها وشعرت بحركته واهتزاز السرير خلفها

حتى جلس على الأرض بجوارها وأمسكت يده بإحدى يديها

وشدها نحوه بينما لازالت تتجنب النظر له وتحضن ركبتيها

بذراعها ويدها الأخرى ، ولم تستطع منع رأسها من الاستدارة

نحوه ولا النظر له حين مرر سبابته في كفها قائلاً

" ما رأيك أن نلعب لعبة "


وحدقت في عينيه بفضول لازالت تقابل بعبوس الابتسامة التي

ارتسمت على شفتيه لتعطي معانٍ لا يمكن وصفها للوسامة

المتجلية في ذاك الشارب واللحية المشذبة بعناية يعكسها بياض

البشرة النقية والملامح الرجولية الحادة والعينان السوداء

الواسعة فكيف لها أن تلوم نفسها في عشق هذا المحيا !

ورغم كل ذلك تمسكت بضيقها منه تراقب عيناه التي تحولت

للنظر لكفها بين يديه وهو يقول

" إن خسرتِ فعليك أن تضحكي "

وختم كلماته بضربة خفيفة من يده اليمنى لكفها الذي لازال

يمسكه بالأخرى فغضنت جبينها باستغراب واقترب حاجباها

الرقيقان ونظرت لعينيه التي رفعهما لها مجدداً لازالت تلك

الابتسامة تزين شفتيه وكورت شفتيها الجميلة قبل أن تقول ببرود

" وكيف هذا أكون خاسرة وأضحك ! "

وارتفع حاجباها ما أن ضحك وضرب كفها بيده مجدداً لكن ضربة

أقوى هذه المرة وقال بضحكة

" ضحكك معناه خسارتك يا غبية "

فلم تستطع إمساك الضحكة التي تغلبت عليها مما جعله يفرقع

أصبعيه قبل أن يشير لها بسبابته قائلاً بضحكة

" قا قد خسرتِ "

ولم يزدها ذلك سوى ضحكاً ترفع رأسها تسنده على السرير

خلفها ونظرت ناحيته ودفعته من كتفه قائلة بضحكة

" تباً لك من محتال "

وعادت بنظرها للأعلى مبتسمة وأغمضت عينيها تستمع لصوت

الأمواج خلفها رغم هدوء البحر وتشعر بملمس أصابعه

المحتضنة لكفها وقالت مبتسمة

" كم أتمنى أن يتوقف الزمن "

وملأت صدرها بالهواء في تنهيدة عميقة أعربت عن كل

مشاعرها تلك تتمنى بالفعل أن لا تنتهي اللحظات التي جعلتهما

يجتازا كل تلك الجراح وكل الألم وتراكمات الماضي والحاضر

وكأنهما يلتقيان الآن فقط وتزوجا من لحظات قليلة فهذا المكان

تشعر معه بسحر ما غريب وكأن ما ينقصهما كان الابتعاد عن

كل شيء ! .

فتحت عيناها ونظرت ناحيته ما أن وصلها صوته العميق

الرجولي ببحته المميزة وهو ينظر عالياً متكئاً برأسه للخلف

مثلها بينما اكتسى الهدوء ملامحه

" أنا لا أريده أن يتوقف بل أن يركض سريعاً وسريعاً جداً "

وأدار رأسه ونظر لعينيها وتابع مبتسماً

" أريد أن اراه وهو فتي ... "

وافلتت ضحكة صغيرة من شفتيه تخللت صوته العميق وهو يتابع

" وأنتِ تسيرين خلفه غاضبة تهددينه بي وهو يتابع طريقه رأسه
كالصخر مثلك تماماً "

وضحك حين لكمته بقبضتها على صدره ضاحكة ولم تستطع

مقاومة الدموع التي ملأت عيناها رغم ابتسامتها فهذه المرة

الأولى التي يتحدث عن أحلامه وأن تحوي تلك الأحلام عائلته

فخرجت كلماتها متأثرة ببحة واضحة

" بل سيكون عظيماً مطيعاً لوالديه مثلك تماماً من صلبك
وتربيتك "


واغمضت عينيها وانصاعت له ما أن جذبها لحضنه تحيط ذراعه

بعنقها وقبّل رأسها والتفت ذراعها حول خصره تنام على صدره

وحيث تريد أن تبقى وتعيش للأبد .

فتحت عيناها ما أن شعرت بالقطرة المالحة تفارق رموشها نزولاً

ووقع نظرها على أثرها كبقعة متسعة بين أسطر الكلمات في

المصحف الكبير بين يديها فسارعت بمسحها بطرف كمها القطني

الطويل من عليه تخشى أن تتشربها أنسجة الورق موبخة لنفسها

ولا تعلم كيف انساقت مع ذكرياتها تلك حتى انفصلت عن العالم

تماماً !

وباتت رؤية الأحرف أكثر صعوبة وعيناها تمتلئ بالدموع مجدداً

لازالت تحاول تجفيف الورقة برفق ودون أي ضرر مهما كان

بسيطاً تلعن نفسها وفشلها ولا تعلم كم من عمر وأعوام تحتاجها

لتشفى من مرض ذكرياتها معه وهي تعود بها من حيث بدأت في

كل مرة .

أغلقت المصحف ووضعته جانباً وحضنت رأسها بيديها تسند

مرفقيها بالوسادة تحتهما وحيث كانت تضع مصحفها وتخللت

أصابعها خصلات غرتها الطويلة الناعمة التي انسابت من بينها

ورفعتها عالياً مع ارتفاع رأسها تهمس متعوذة بالله من الشيطان

ولا تفهم لما يزداد توترها كلما اقترب وقت المحاكمة التي سعت

لها رغم كل المخاطر والمعوقات ! تشعر بضيق مريع تعزي

نفسها في كل حين بأنه سيختفي ما أن ينتهي الأمر بطلاقها .

لا تريد أن تتراجع مجدداً ولا أن تضعف ويضيع كل ما فعلته

وأقحمت غيرها فيه معها لكنها أيضاً لا تفهم سبب القلق الذي

ينتابها في نوبات قوية متفرقة ! ومؤكد سببه توترها الغير

خاضع لسيطرتها ولازالت تعزي نفسها في كل مرة بأنه أمر

طبيعي بسبب ما هم مقدمون عليه وهي خصوصاً فأمامها الكثير

مما ستواجهه ويحتاج كل ذرة صمود منها وأمام جميع من لهم

صلة مباشرة بها ، فتشجع نفسها في كل مرة بأن الأمر سيكون

سرياً للغاية سيقتصر على السيد عقبة وقائد وابن جوزاء الحالك

وعليها أن تطمئن أكثر لهذا لا أن تغضب منه فعدم حضوره

سيكون في صالحها كما اختياره لذاك المحامي المبتدئ والأدلة

القوية الموجودة لديها بالرغم من أنها تمنت للحظات أن يكون

موجوداً ويقدم بنفسه تبريراته لا محاميه ..

لكنها تعود وتؤكد لنفسها بأن هذا سيكون الأفضل كي لا تعود

غسق الحمقاء في وجوده والتي تفقد كل قوتها أمامه .

مسحت عيناها بقوة من أثر الدمعة التي لم تفارقهما ما أن ارتفع

صوت الطرق الخفيف للباب مخترقاً الصمت الموحش وأفكارها

المتزاحمة بضجيج مزعج ودست خصلات غرتها خلف أذنيها

وحمحمت قبل أن تقول

" تفضل "

فهي تعلم هوية الطارق والزائر الوحيد لها هنا والتي تراها

ترفض حتى أن تكون إحدى الخادمات من تطرق بابها بينما

زوجها لا يقترب من هنا أبداً ويرسلها هي لها إن اراد التحدث

معها وفي مكتبه .

اغتصبت ابتسامة أجبرت شفتيها عليها وإن لم تخفي حزن عينيها

المرهقة امتناناً للتي دخلت مبتسمة تمسك في يدها صينية تحوي

الكوب الكبير ذاته والممتلئ بالحليب الأبيض النقي بينما أغلقت

الباب بيدها الأخرى وتوجهت نحوها قائلة بابتسامة جميلة

تشبه قلبها

" لابد وأنه ينتظرني بشغف وبات يحبني "

وضحكت وهي تضع الصينية على الطاولة بقرب الاريكة التي

كانت تجلس عليها فقالت محرجة

" بل كلينا علينا الاعتذار منك "

ورفعت يديها تأخذ الكوب منها ما أن ناولتها إياه بنفسها ككل مرة

وقد لامست أصابعها كفاها قائلة بحان ظهر رائعاً في عينيها

الباسمة

" تشعرينني بأني ضيف ثقيل كلما سمعت هذا "


فاتسعت عيناها بصدمة وكانت ستبرر لولا سبقتها وهي تجلس

بجانبها بينما يستدير جسدها نحوها قائلة بابتسامة

" أعلم ما تريدين قوله وأفهمك بنيتي ... "

وتابعت بابتسامة متسعة ويدها تربت على فخذها

" هيا اشربيه بأكمله أريده أن يعلم أن جدته لم تنساه "

فالتمعت عيناها بحزن وامتنان وهمست ببحة

" ما أسعده بهذه الجدة "

ورفعته لشفتيها تشرب منه بينما قالت تلك باسمة

" أجل فلولاها كانت والدته ستقتله جوعاً "


أبعدت الكوب وقالت تبادلها الابتسامة وإن لم تصل لعمق

ابتسامتها تلك

" كيف يموت جوعاً وأنتِ لا تغادري إلا وصينية الطعام معك ؟ "

تنهدت حينها وقالت بعتب بينما تابعت هي الشرب على دفعات

صغيرة متتالية

" وتُسمين تلك اللقيمات التي أجبرك عليها طعاماً ! "

وتابعت حين لم تعلق سوى بأن أخفضت نظرها بحزن

" ألا ترين بهوت بشرتك والتعب الواضح في العينين
الجميلتين ؟ "



ووضعت يدها على كتفها وتابعت بحزن

" أنتِ تقسين على نفسك وعليه هكذا يا غسق "

أبعدت حينها الكوب الذي أصبح نصفه فقط مملوءاً بالحليب

وانزلته لحجرها تحضنه بكلتا يديها وقالت بحزن مماثل ونظرها

شارد للفراغ

" مرحلة وسنجتازها معاً ويتغير كل شيء حينها "

" متأكدة ؟ "

نظرت لها سريعاً بينما تابعت التي قالت بجدية تنظر لعينيها

" عليك أن تكوني واثقة يا غسق أو ستكون تلك المرحلة
مجرد موت بطيء لن ينتهي أبداً "


أنهت عبارتها تلك بعزم قوي بالرغم من أنها شعرت بتأنيب

الضمير للحظات وهي ترى الحزن والكثير من الوجع في عينيها

بسبب كلماتها لا إقراراً منها بحقيقتها لكنها عازمة على المتابعة

مهما كانت قاسية عليها فمسحت يدها على ظهرها بحنان قائلة

" تابعي شرب ما في الكوب لأحكي لك عن صديقة قديمة لي
كانت تتحدث معي قبل قليل "

وضعت الكوب في الصينية قائلة

" لا يمكنني شرب المزيد حقاً "

فقالت بضحكة تراقبها وهي تسحب منديلاً ورقياً وتمسح

شفتيها برفق

" لم أستطع ولا لمرة واحدة إقناعك بشرب كل ما فيه "

نظرت لها وقالت

" أنا لست من عشاق الحليب ويعد هذا إنجازاً حقيقياً "

وتابعت بابتسامة صغيرة وهي تضع المنديل في الصينية

" ثم لا تنسي بأنه ليس الوحيد يومياً "

واستوت في جلوسها مقابلة لها تنظر لعينيها تنتظر بأدب أن تقول

ما كانت تريد قوله وشعرت بألم غريب حين خرجت تنهيدتها

الحزينة مع شرود عينيها بحزن بعيداً عنها وكأنها تسترجع ذكرى

قديمة قاسية وقالت

" إنها صديقة قديمة لي كانت ابنة جار لنا حين كنت وأهلي نسكن
الهازان وكانت تكبرني بعامين أحبت شاباً وأحبها وكانت متعلقة
به كثيراً ، لم تكن علاقة طويلة تلك التي ربطتهما قبل أن يصبحا
زوجين بل عظمت وتوطدت بعد زواجهما لكن العائق في حياتهما
كانت عائلته خاصة وأنهما يعيشان في غرفة معهم في ذات
المنزل لظروف البلاد ذاك الحين وصعوبة توفير لقمة العيش
فكيف بمنزل مستقل "

تنهدت بعمق وحزن مجدداً وتابعت

" لم نكن على تواصل دائم بعد أن تزوجت لعيشها بعيداً عني بعد زواجها منه وكانت زياراتها لعائلتها نادرة جداً قبل طلاقها منه "

تنقلت نظراتها الحزينة في ملامحها وشعرت بغصة في حلقها وهي تهمس

" تطلقا ! "

اومأت لها إيجاباً وتابعت بذات النبرة الحزينة كما الشرود الحزين

" كانت تحبه كثيراً وجعلها بالفعل تتعلق به بسبب تعامله معها
وهذا ما كان يجعلها تستحمل كل ما كانت تعانيه من قسوة من
والدته وشقيقته على أمل أن يتمكنا يوماً من الاستقلال في منزل
يخصهما لتكمل حياتها معه دون أن تخسره ، وبعد أن حملت
وأجهضت لأكثر من مرة والسبب واحد وهو أعمال المنزل الشاقة
التي كانت تقوم بها لوحدها مع تحذيرات الطبيبة لها بأن حملها
لا يمكن أن ينجح إلا بالراحة والأعمال الخفيفة جداً لمشاكل في
رحمها حينها أصبحت تفكر وبجدية في أنه عليهما الخروج من
هناك فلا جسدها ولا نفسيتها ولا أجنتها يمكنهم استحمال كل ذلك
ولم تعد عبارات زوجها الممتنة ولا حبه لها أو مشاعرها نحوه
تساعدها على الصمود أكثر "

لاذت بالصمت للحظة قبل أن تنظر ليديها وتابعت

" حتى كانت المرة التي اتصل فيها بها شقيقها ووجدها تبكي
وكانت تلي إجهاضها الأخير وكانت عائدة من عيادة الطبيبة للتو
متعبة نفسياً قبل التعب الجسدي وتشاجرت مع والدة زوجها فور
وصولها ولأول مرة تتحدث منذ أعوام عاشتها معهم خادمة
مطيعة تسمع دون أن تعلق ولا بكلمة فلم تراعي تلك المرأة أنها
أجهضت للتو ومتعبة ولا تحتاج توبيخاً لأعمال كان الأولى
بابنتها أن تفعلها ، وما أن سألها شقيقها عن حالها حتى انهارت
باكية وهي التي لم تشتكي لعائلتها يوماً خاصة وأنهم يحبون
زوجها كإبن لهم لحسن تعامله معهم وحين ألح عليها شقيقها
لتحكي له عمّا يضايقها تحدثت لأنه كان غاضباً ويظن أن زوجها
السبب وهو الذي لم يجرحها بكلمة يوماً ، ولم تكن تتخيل أن
تنهي تلك المكالمة معه وهي تبتسم بسعادة بعد كل ذاك البكاء فقد
أخبرها بأن صديق له مسافر هو وعائلته ومنزله قريب من منزل
عائلة زوجها هناك وبأنه ألح عليه كثيراً كي يتزوج ويعيش فيه
ليحفظه له خاصة مع ظروف البلاد وأنه تعرض للسرقة مرتين
ولأن شقيقها بحكم عمله يزور المنطقة التي تعيش فيها هناك من
حين لآخر لكنه لم يستطع لأنه وحيد أبويه ، كانت ليلتها تنتظر
بلهفة عودة زوجها لتخبره بأنه يمكنهما العيش في ذاك المنزل
وأن حلمها بالاستقلال وإنجاب أبناء لتكون لهما عائلة وحياة
سعيدة قد تحقق أخيراً لكنها لم تتوقع قط التبدل الذي رأته في
ملامحه فور إخباره وكان وجود والدته وشقيقته وحيدتان بعد
وفاة والده حجته الأولى والتي لم يجدي معها محاولاتها لإقناعه

بأنه سيكون قريباً منهما فالمنزل لا يبعد كثيراً عن منزلهم
يفصلهم شارع واحد فقط ، وكانت المرة الأولى التي يرفض لها
فيها طلباً وهو الذي لا تسمع منه كلمة لا في أمر وبدأت علاقتهما
تتخذ منحى آخر منذ ذاك اليوم وحين علمت بأن حلمها لا يمكن
تحقيقه مهما طال الوقت ، واعترفت لي بنفسها أنها باتت
عصبية معه بشكل خاص وبدلاً من صبرها وكتمانها عن أفعال
عائلته كما كانت تفعل سابقاً بات هو متنفسها بينما لم يكن يقابل
هو كل ذلك سوى بالصبر وكل ما يفعله بعد أن تنتهي ثورة
غضبها والذي كان يشتعل لأتفه سبب وكأنها تبحث له عن الزلة
الصغيرة فور وصوله منهكاً من عمله أن يمسك رأسها ويقبله ولا
يقول سوى كلمة واحدة ( أحبك ) قبل أن يتركها وينام دون حتى
عشاء لأنها لم تحضره له فلا يخرج للمطبخ لتناول أي شيء ،
لكنها لم تعد ترى ذلك إلا استغلالاً منه لعاطفتها نحوه ومحاولة
تحريكها بها كيف يشاء بأفعاله تلك وباتت تقيس كل فعل له بتلك
النظرة حتى علمت والدته بما كانت تخطط له وازدادت معاملتها
لها سوءاً فقررت القرار الذي أصرت بأنه لا تراجع لها عنه
وغادرت منزل زوجها وعادت لمنزل أهلها واشترطت عليه أن
يوافق على الانتقال لذاك المنزل أو أن يفترقا وبشكل نهائي
وساندتها عائلتها في قرارها ذاك بعد علمهم بكل ما كانت تخفيه
عنهم طوال تلك الفترة ورغم مجيئه لمنزل عائلتها عدة مرات
لتعود معه إلا أنها كانت مصرة على رأيها ورفضت حتى طلبه
المتكرر لأن يتحدث معها ووضعته في خيار حقيقي بينها وبين
عائلته واختارهم هم نهاية الأمر "

وابتسمت بمرارة وهي تتابع دون أن تنظر للتي امتلأت عيناها

بالدموع تأثراً بكل ذلك

" كانت ورقة طلاقها صدمة كبيرة بالنسبة لها وعندما أعطاها
إياها شقيقها أغمي عليها ودخلت المستشفى فهي توقعت بأن حبه
لها أكبر من أن يتخذ قراراً كذاك وبأنه لن يتخلى عنها وهي التي
تحملت كل ما رأته من ظلم من عائلته وصبرت من أجله ، لقد
توقعت جميع السيناريوهات إلا ذاك وعانت كثيراً فترة الثلاثة
أشهر التالية وبتهور وافقت على الخاطب الذي تقدم لها فور
انتهاء عدتها وكأنها تنتقم منه بذلك لكنها كانت تنتقم من
نفسها فقط "


تنهدت بأسى ومسحت وجهها بكفاها والدموع التي لم تفارق

عينيها ونظرت لها وقالت بحزن

" حتى اليوم واللحظة يا غسق لازالت نادمة وكلما اتصلت بي
بكت وهي تتحسر على قرارها ذاك "

وتابعت بأسى حزين وهي تشير لنفسها

" في عمري هذا وهي تكبرني بعامين لم تستطع نسيانه مهما
حاولت وتبكي حتى مقاومتها لنفسها كي لا تخون زوجها الحالي
ولا بقلبها بينها وبين نفسها وعاشت التعاسة باقي سنوات حياتها
ومن دونه "

وعادت بنظرها للفراغ متابعة بحزن عميق

" قالت لي مرة قبل أعوام : لقد عشت تعيسة في جميع الأحوال
فليتني عشتها معه ولا تضاعفت من دونه "


وابتسمت بمرارة هي أقرب لضحكة متألمة وقالت

" ولغرابة القدر أن شقيقته تلك تزوجت بعد طلاقها منه بعام
رغم كبر سنها ووالدته مرضت مرضاً لم يستطع جسدها تحمله
أكثر من عامين وتوفيت "


شهقت حينها غسق وهمست بحسرة وألم

" ليتها انتظرت قليلاً "

نظرت لعينيها الدامعة وقالت بجمود وإن لم يفارق الحزن عيناها

" بل ليتها استطاعت أن تكون سعيدة بعيداً عنه فزوجها الآخر
بالرغم من أنه لم يكن قاسياً معها فقد كان جافاً للغاية جعل
حسرتها على تلك الأيام تزداد أكثر "


وسحبت نفساً عميقاً قبل أن تتابع بحزن وقد عادت للنظر لعينيها

" تصوري أن زوجها السابق لم يتزوج حتى اليوم ؟ يعيش وحيداً
في منزل عائلته القديم ذاته رغم مقدرته على شراء غيره وأفضل
منه ألف مرة وأغلب الناس قد تركت تلك البيوت القديمة منذ
زمن أو رممتها ! حتى أنه لم يغير أو يجدد فيه شيئاً لا أعلم
يعاقب نفسه أم يرفض الابتعاد عن ذكرياتهما فيه ؟! "


وحركت رأسها متحسرة وهي تتابع

" كان قراراً متسرعاً من كليهما فرفضت هي التنازل ورفض هو
جرح كرامته ودفعا ثمن ذلك تعاسة أبدية سبهها كان ورقة تم
إمضاؤها في المحكمة مجاناً بينما كان ثمنها فيما بعد غالياً جداً "

ولامست يدها ذراعها بحنان وقالت تنظر لرموشها المنسدلة
في حزن

" أنا لا أريد بما قلت يا غسق أن أشبهك بها ، صحيح قصتكما
مختلفة لكني أخشى أن تنتهي لنهايتها لأنها اتخذت قراراً تجاهلت
فيه عواطفها كما فعل هو تماماً وكان الثمن قاسياً جداً .. أقسى
من جرح الكرامة ومن التنازلات "


وأبعدت يدها عنها ما أن أنزلت رأسها ونظرت ليديها التي كانت

تشدها ببعضهما بقوة وكأنها تفرغ مشاعرها فيهما حتى احمرت

مفاصل الأصابع شديدة البياض والنعومة فامتدت يدها نحوهما

وأمسكتهما وقالت بهدوء حزين تنظر لما يظهر لها من وجهها

" ليس كل رجل يمكن نسيانه يا غسق فكيف إن كان ذاك الرجل
مطر شاهين ؟ شعب بلاد كاملة وأغلبهم لم يروه سوى على
شاشات التلفاز لا يستطيعون انتزاع حبه من قلوبهم فكيف بامرأة
هي زوجة له عرفت حضنه وقربه ؟ "


رفعت رأسها حينها ونظرت لها وقالت بعبرة مكتومة وأسى حزين
عيناها تمتلئ بالدموع مجدداً

" أنا أحتاج أن أكون قوية في هذا لا أن أتراجع عنه أرجوك
يا خالة "

حركت رأسها وتنهدت في حيرة وقالت ويدها ترتفع لجانب وجهها

حتى لامست خصلات غرتها الناعمة

" وأنا أريدك قوية في قرارك كما في اتخاذه أيضاً وأن تكون قوتك
في التفكير في عواقبه متساوية أيضاً "

وأبعدت يدها عنها ما أن أشارت لنفسها وقالت والبكاء يخنق
صوتها لأول مرة

" وكرامتي ؟ هل ترضى امرأة بكل ما فعله بي وإن كان مطر
شاهين ؟ "
وضربت بسبابتها على صدرها وهي تتابع بحرقة

" أترضى امرأة بأن يستغل الرجل مشاعرها اتجاهه لتغفر أخطاءه
في كل مرة دون أن يهتم لجراحها المتراكمة منه ؟ "

وسالت أول دمعة من عينيها وقالت بعبرة

" ليته أنصفني لمرة واحدة فقط لأجدها لكبريائي المكسور حجة
وأقدمها لكرامتي المذبوحة عذراً "

وغطت شفتيها بظهر كفها وأصابعها ما أن ارتجفتا وبكائها يزداد

تدريجياً وقالت التي امتلأت عيناها بالدموع ومسحت
على ذراعها

" إن لم تكوني واثقة من تجاوز مشاعرك لكل هذا فلن تداوي
كرامتك التي ضحيت من أجلها جراح ابتعادك عنه ووجوده
بعيداً عنك يا غسق "


سالت الدموع مجدداً من عينيها وصرخت بحرقة تضرب بقبضتها
ناحية قلبها

" أعلم بأني أضعف من أن أنتصر على حبه في داخلي لكني
سأنتزعه من مكانه وأقتله إن هو أثناني عن فعل ما أنا
عازمة عليه "

واشارت لنفسها وهي تتابع ببكاء

" كان اعتبرني كأي فرد من شعبه الذي لم يظلمه يوماً .. كان
اعتبرني غريبة عنه وأنصفني لمرة واحدة في الخمسة عشر
عاماً التي مضت يقتل فيها غسق في كل ثانية "

وسحبت الهواء لصدرها في عبرة متقطعة قبل أن تعود
وتقول ببكاء

" لم أشعر يوماً بأنني أنتمي لأحد عشت غريبة كل حياتي مع
عائلة اكتشفت بأنها ليست عائلتي ثم مع عائلة عشت غريبة
بينهم لأكتشف بعد أعوام طويلة أنهم هم عائلتي الحقيقية !
بينما كان هو يعلم كل ذلك ويخفيه عني "


وبدأت تعد على أصابعها بينما نظراتها الدامعة على عيني
الجالسة أمامها متابعة بوجع

" والد يموت ووالد ميت يعود للحياة وطفلة أنجبها من رحمي
قطعة مني تؤخذ مني وأول وآخر ما سمعته هو صرختها
وقت ولادتها "

وتقاطعت عبراتها وهي تحكي عن أكثر ما يؤلمها ويبكيها بوجع
تشير بيدها لنفسها

" ثم تعود شابة تحاول لملمة عائلة تشتت بسببه وتبحث عن
حضن أم تشعر بالضياع فيه لأنها لم تستطع أن تهبها ما حرمت
منه معها مهما حاولت "


كانت الجالسة مقابلة لها تمسح دمعاتها المتسربة كل حين تنظر
لها بحزن وقد عادت للعد بأصابعها مجدداً وبحركة غاضبة ونبرة
باكية بألم


" خيانة تلو الخيانة و امرأة تتحول بسبب ذلك وباعتراف منه
لمقالات في الصحف وسخرية في أعين الناس وأحاديث تسلية
لشعب دولة بأكمله "

وحركت رأسها بقوة ونبرتها تتبدل للجمود فجأة وإن لم تتوقف
عيناها عن سكب دمعتها بالتتابع قائلة ببحة

" أنا لا أشبه صديقتك تلك لأن زوجها احترمها وأحبها وإن لم
يكن عادلاً بينها وبين أهله لكنه لم يجرح كرامتها يوماً وبكافة
الطرق وعلى الملأ كي لا يجد له قلبها سبباً تكرهه به مستقبلاً
وتواجهه به "


وخانتها عبرتها الموجعة لتلحق بدموعها بينما يدها تضرب
على قلبها "

سحقاً لهذا سحقاً إن أجبرني على الغفران مجدداً .. لا أريده فليمت
وأموت معه أشرف لي وله "


ودخلت في نوبة بكاء موجع تحضن وجهها بيديها فحضنتها فوراً

وضمتها لصدرها تمسح بيدها على شعرها تشعر بقلبها ينفطر مع

كل شهقة وعبرة تخرج من بين أضلعها فيبدو أن قصة صديقتها

تلك لم تجدي في شيء غير زيادة أوجاعها لذلك قررت أن لا

تخبرها بأقسى جزء منها وما جعلها ترويها لها الآن وهو سبب

اتصال تلك الصديقة بها اليوم وهي تخبرها باكية بأنها علمت قبل

ساعات بموته وحيداً في منزله ذاك وقد وجده أحد الجيران ميتاً
في غرفته وفوق سريره والناس تتناقل هناك ما وجدوه حينها

وهي الغرفة القديمة التي كان ينام فيها عمرها أعوام طويلة وهي

ذاتها غرفتهما في الماضي ، وكان هذا ما جعلها تتشجع وتتحدث

معها في الأمر ولأول مرة منذ أصبحت هنا ويبدو عليها أن لا

تفكر في فعلها مجدداً .

لكنها ليست نادمة أيضاً فها هي دفعتها للتحدث على الأقل بدلاً من

الكتمان في داخلها فمنذ أصبحت هنا لم تراها بكت ولم تتكلم أبداً

وتعلم جيداً بأنه مثلما ترفض معدتها الطعام تأبى عيناها النوم

والراحة بالتأكيد .


همست تسمي الله بحزن وهي تمسح على شعرها وقبلت رأسها

تدفن شفتيها في نعومة الشعر الحريري المجموع في الخلف

تتذكر كلماتها الباكية وهمست بوجع

" كسر الله قلب كل امرأة تحاول كسر أخرى "


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:17 PM   المشاركة رقم: 1580
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,194
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

استمرت في تقطيع الصور التي لا تفعل شيئاً سوى العودة لها

وتمزيق قطعها لقطع أصغر منها في كل مرة تفرغ فيها كل ما

تكبته وكل ما زلزلها انكشافه لها دفعة واحدة والفاجعة تلو

الأخرى فلا العائلة التي كانت تكره هي عائلتها ولا عائلة لها

لتصب جام غضبها عليها مستقبلاً .

لم تستطع ولساعات أن تقنع نفسها بما علمته وكأنها في حلم أو

كابوس كل ما تريده الاستيقاظ منه أو أن يخبرها أحدهم بأن كل ما

حدث مجرد أكذوبة ومزاح كان الغرض منه اختبار قوة تحملها ،

لكن الساعات مرت الواحدة تلو الأخرى ولم يحدث شيء من

ذلك .. لم تستيقظ ولم يطرق باب غرفتها أحد يحمل آلة تصوير

على كتفه ضاحكاً لتعلم بأنها دعابة فكل ما قاله إذاً كان حقيقة

عليها فقط تصديقها ومهما طال الوقت وتهربت منها .

والحقيقة المفجعة أضعاف ذلك أن من عبّرت عن كرهها لهم

لأعوام طويلة وطوال الوقت ليسوا سوى غرباء عنها وأكذوبة

باتت الآن تتمنى العيش فيها مجدداً .

رمت قصاصات الصور المكومة أمامها بغضب صارخة

" هذه غيسانة خذوا .. خذوها "

واستمرت ترميهم بعيداً عن سريرها تصرخ وتردد ذات الكلمات

حتى خارت قواها وتهاوى جسدها على ظهر السرير صدرها يعلو

ويهبط بقوة بسبب تعاقب أنفاسها وسالت الدموع من عينيها في

خطان مستقيمان تنظر ناحية السماء المطلة عليها من باب

الشرفة المفتوح حتى الآن وحيث كان يقف من رمى تلك القنبلة

المدمرة في وجهها ، وعادت بها الذكريات للوراء لصرختها

الهستيرية ما أن استوعبت ما قاله حتى كانت موقنة أن كل من

في هذه البلاد قد سمعها حينها ولم تعد ترى ولا تعلم شيئاً بعدها

ولم تفهم بسبب الصدمة فقدت الوعي أم بسبب الأدوية التي كانت

تأخذها وتتسبب في نومها أغلب الوقت !

فكل ما تذكره أنها حين أفاقت كان باب الشرفة مفتوحاً فعلمت

على الفور بأنه لازال هنا ولم يغادر كما لم تكن تعلم كم نامت من

الوقت الذي بقي فيه هو واقفاً هناك ؟

وحينها فقط علمت لما كان يفعل هذا دائماً ولا غرفة تجمعهما معاً

لوحدهما يتجنبها طوال الوقت مكتفياً بإرسال المال لها فقط

وتلقي مكالماتها الغاضبة .

فغادرت السرير وسارت بصعوبة ناحيتها فلازالت تعاني من

مضاعفات كل تلك الحبوب التي حاولت الانتحار بتناولها

وأمسكت بطرف إطار الباب الزجاجي ما أن وصلته وكما توقعت

كان يقف هناك يستند بمرفقيه على حافة الشرفة يشبك أصابعه

وينظر للأسفل وحيث كان المكان يرتفع عدة طوابق عن الأرض

كما يبدو واضحاً من المباني الكثيرة المرتفعة والطرقات

المتقاطعة والمليئة بالسيارات على مد النظر .

ملأت صدرها بالهواء قبل أن تزفره قائلة

" من هو والدي ؟ "

" لا أعلم "

لم يتأخر رده وكأنه يستعجل قتلها بباقي الحقائق المخفية عنها

وارتجف جسدها لا تعلم بسبب ثقل ما قال عليها أم البرود في

صوته فهي لم تنسى قطعاً ما قاله قبل أن يكشف لها حقيقتها

واكتشافه لكل ما فعلته انتقاماً منهم جميعاً وهو أولهم بسبب ما

كانت تراه جرماً في حقها .

اشتدت أصابعها على خشب إطار الباب وقالت بضيق وإن

بنبرة ضعيفة

" ما معنى أنك لا تعلم ! "

واشتدت نبرتها تلك وهي تتابع بضيق أشد

" من يعلم إذاً ؟ "

وكانت نبرته أكثر بروداً من سابقتها وهو يقول ودون أن

ينظر ناحيتها

" لأني لا أعلم فعلاً قلت لا أعلم .. لست مجبراً على
الكذب عليك "

زمت شفتيها بضيق وتخللت أصابع يدها الحرة خصلات شعرها

بجانب وجهها تشده بها للخلف بقوة وحركة غاضبة حين تحركت

خصلاته المموجة مع الهواء تمسكه بعيداً وكأنها تفرغ انفعالها

فيه أكثر من فكرة إبعاده وقالت ولم يغادر الضيق صوتها كما

ملامحها تذكره بكلماته

" وكنت تخفي الأمر عني لأعوام طويلة !

أكنت مجبراً مثلاً ؟ "


وتعالت أنفاسها بحدة حين لم يعلق ويبدو لم تنتظر ذلك وهي

تتابع بينما نزعت أصابعها من شعرها بحركة أخرى عنيفة

" وكيف تمنحني اسم عائلتك وأنت لا تعلم من أكون ابنته ؟ "

واتسعت عيناها فجأة حين أدرك عقلها حقيقة كانت غائبة عنها

وقالت بصدمة

" أم أني أحمل فقط اسمك المزور في إنجلترا ! "

" أجل "

كانت ثالث قذيفة مدمرة يرميها بها مباشرة في وجهها وإن كانت

تقف خلفه تقريباً لازال يتجنب النظر لها كما لايزال يُخرج كل

كلمة ببرود أشد من سابقتها حتى شعرت بأطرافها تتجمد بسبب

ما قال أكثر من طريقة قوله له وخرجت الكلمات منها لا تعلم من

أين تحديداً من شفتيها أم عقلها المشوش أو قلبها المحطم

وكأنها تخرج من عمق تمثال مجوف لازالت تنظر لما يظهر لها

من جانب وجهه

" من هو والدي الحقيقي إذاً فمن حقي أن أعلم أم سأكمل بقية
حياتي بدون هوية ؟ "

وتبعت نظراتها حركته وهو يخفض رأسه أكثر وكأنه ينظر لشيء

ما في الأسفل وبالتأكيد رجاله الذين سيكونون مطوقين المكان

كاملاً لحمايته فكما عرفته أعواماً طوال هناك لديه رجال يفدونه

بأرواحهم ويحمونه حتى من أنفسهم فكيف بالأمر هنا ؟

شعرت بالثواني أعواماً تمضي وهي تنتظر كلماته التي لم

ترحمها لا من جمودها ولا معناها حين رفع رأسه قائلاً "

ما لديا قلته لك "

فضربت الإطار بيدها بغضب صارخة في أول انفعال لها

قائلة بحدة

" كيف لا تعلم ؟ لابد وأن والدتي كانت تعلم وأخبرتك "

تمتم ببرود

" ولا هي تعلم "

فغرت فاها بصدمة وشعرت بأنفاسها توقفت تماماً قبل أن تتحرك

خطوة اخرى لتصبح في الخارج معه ولازال نظرها معلق بالجزء

الصغير من ملامحه الظاهر لها وقالت بحرقة تلوح بيدها في

حركة محتجة

" كيف لا تعلم أقنعني بهذا ! هل نامت واستيقظت ووجدت
نفسها حاملاً بي ؟! "

وامتلأت عيناها بدموع القهر وهي تصرخ بانفعال بينما بدأت

خصلات شعرها المتطايرة مع الهواء تحول بينها وبين النظر له

" وهل صدّقت فعلاً بأنها لا تعلم ! لا أراك بهذا الغباء مطلقاً "

استوى في وقوفه حينها واستدار نحوها ونظر لعينيها لأول مرة

منذ وقوفها هناك وقال بحزم ينطق جدّية

" بلى صدقتها وهي كانت صادقة بالفعل فهي لا تعرف من يكون
وهو لا يعلم عنك لكان قتلك دون أدنى تراجع "

علت الصدمة ملامحها وتطايرت خصلات شعرها بعيداً عن وجهها

كشعاع شمس مموج وحدقت فيه العينان الممتلئة بالدموع بعدم

تصديق وهمست بصعوبة

" قتلني !! "

ولم يرحمها قط وهو يرمي بالفاجعة الجديدة نحوها قائلاً بجمود

" أجل لأنك الشيء الذي سيأخذه لحبل مشنقته "

فكان رد فعلها الوحيد أن حدقت فيه بصدمة لم تغادر ملامحها بعد

بينما تابع هو وكأنه لا ينتظر تعليقاً منها وبنبرته الجامدة ذاتها

" لقد تعرفت عليه والدتك وحملت بك وهي لا تعرف هويته
الحقيقية التي ماتت وهي تجهلها "


وارتفع رأسه قليلاً وكأنه ينظر لها من عليائه وهو يتابع بصوت

عميق يشبه شخصيته كما البحة المميزة فيه

" كنتِ تحملين اسم عائلة والدتك التي قامت بنسبك لها وتم
تغييره للعائلة التي حمل عمي دجى اسمها وقت هجرته هناك
وهو اللقب ذاته الذي حملته أنا فيما بعد ولم يتم تسجيلك قَط بإسم عائلتي الحقيقي "


وسكت بعدها لبرهة بينما هبّ النسيم مجدداً وتراقصت معه

خصلات شعرها الطويل المموج وتحركت شفتاها المتصلبتان

وقالت بصعوبة

" ولماذا يقتلني إن علم بوجودي ! وكيف أكون السبب
في مشنقته ! "


وانتظرت بأعصاب مشدودة شفتاه لتتحرك وترحمها حتى قال

" لأن والدتك حملت سراً خطيراً يخصه وما جعله يحاول قتلها قبل
تغيير هويتكما وأنتِ فقط الدليل بأنه الشخص ذاته لأن دمائكما
واحدة "


دارت الأفكار في رأسها كالإعصار حتى شعرت بالألم يتضاعف

في صدغيها يحاول تحليل وفهم ما قال قبل أن تقول بعدم استيعاب

" أتقصد بأنني الدليل على هوية صاحب السر الذي تحصلت
عليه والدتي "


قال من فوره

" أجل "

فشعرت بالأرض تدور تحتها وسندت ظهرها بالجزء الثابت من

الباب الزجاجي خلفها وقالت بكلمات لاهثة وكأنها كانت تركض

لأميال طويلة

" وموتي معناه موت سره ؟ "

لم يعلق ولم يتحدث مما أكد لها صحة تحليلها فصرخت فيه بقوة

" لما أخبرتني بكل هذا الآن ! "

وامتلأت عيناها بدموع القهر وهي تشير لنفسها صارخة
" أي عقاب قاسٍ هذا الذي اخترته للانتقام مني يا مطر ؟ "

قال بضيق عاقداً حاجبيه بشده

" ظننتك أصبحتِ تفهمين مطر شاهين لا أن تزدادي غباءً "

ابتلعت إهانته مع كل فاجعة سبقت واحتجت بضيق غاضب

تلوح بيدها

" لما أخبرتني الآن إذاً ولما أخفيتم الأمر عني ؟ "

وتخلى هو أيضاً عن جموده حينها صارخاً بحدة

" لأن الأمر لا يحتمل المزيد من التهور منك يا غيسانة فأنتِ
المتضرر الوحيد إن علم ذاك الرجل بوجودك فأنا لم أتخذك
وسيلة لكشفه طوال الأعوام الماضية ورغم اقتراح العديدين لي
بفعل ذلك كي لا أعرضك للخطر بدون ذنب "


اتسعت عيناها تحدق فيه بتفكير للحظات قبل أن تهمس

" ولما تريدون اكتشاف هويته ! "


وراقبت يده التي مررها على قفا عنقه يتجنب النظر لها أنفاسه

القوية تخرج متعاقبة قبل أن ينظر لعينيها ويقول بجدية مبعداً يده

بحركة غاضبة

" لأنه السبب الأول في كل ما تمر ومرت به البلاد "

انفرجت شفتاها وكأنها تحاول قول شيء تعجز عن إخراجه

أو صياغة عبارات له بينما انتقلت نظراتها الضائعة في ملامحه

ما أن تابع بنبرة قوية تشبهه في كل شيء

" كانت الأوراق الموجودة لدى والدتك تحمل أسراراً خطيرة
بسببها ضاعت بلاد كاملة ودفع شعب دماءً كانت ولازالت تنزف "


وارتفع صوته بحدة وهو يرمي بيده جانباً

" كان السبب في دمار كل ما فعلته من أجل هذه البلاد لأعوام
ولم أتوقع حينها قط أن يكون السبب في السعي لتدمير كل ذلك "


فالتصقت بالباب خلفها تنظر له بذهول وقد اشتد فكاه بقوة

وخرجت الكلمات من بين أسنانه المطبقة بغضب يشير

بسبابته لنفسه

" ولعب لعبته الحقيرة وبسببها أضعت اربعة عشر عاماً خارج
وطني أحميه من المجهول ودفع مطر شاهين ثمناً أغلى من كل تلك الأعوام "

واشاح بوجهه بحركة قوية وهو يهمس بغضب وكراهية

" تباً له من رجل "

تجمعت الدموع في عينيها مجدداً وإن لم تغادر مكانها وتحركت

شفتاها لتقول شيئاً منعه نظره لها وكلماته الغاضبة وهو يشير

لها بسبابته بحركة قوية

" ولن أسمح لابنته أن تشاركه كل ذلك وبجهل منها لذلك عليك
أن تعلمي يا غيسانة بأن تصرفاتك ستكون السبب في دمارك قبل دمار هذه الأرض "

وتابع بلهجة قوية وكأنه يلقي خطاباً يشير بسبابته للأسف بعيداً

حيث المدينة بمعالمها العمرانية وأبراجها العالية وطرقاتها
المتداخلة

" كل ما تريه هنا أمامك كان مجرد خِرب وخراب .. طرقات
ترابية ومنازل طينية لا كهرباء فيها ولا ماء ينتظر الناس فيها
كل يوم أن تسقط قذيفة ما فوق بيوتهم أو تتلقى خبر مفجع من
الحدود عن موت أحد أحبائها "


واشتدت حدة صوته الغاضب وهو يضرب على صدره

" كل هذا بنيته بسنوات شبابي بدماء رجالي بحرماني من
عائلتي .. دفعت ثمنه غالياً ولازلت أدفع المزيد ولن أسمح لأيّاً
كان أن يعيده كما كان عليه لتضيع تضحياتي وتضحيات رجالي
وللأبد وليضيع وطن عرف شعبه معنى الأمان والراحة بعد
عناء طويل "


حركت رأسها بقوة قائلة بأسىى غاضب

" وما الذي فعلته أنا يدمر ما تتحدث عنه ! "

وكان الجواب في انتظارها وأقسى مما توقعته وهو يقول بضيق

وشده لقبضتيه بجانب جسده يعبر عن كل ما يشعر به حينها

" منذ أن غامرتِ بنفسك ثم بابنتي من أجل ذاك القرص اللعين
فتحتِ أعيناً كانت غافلة عنا ، ووصول والدك ذاك لهويتك
ولهوية رجالي هناك قبل أن نصل إليه معناه دماراً لا يمكنك تخيله
وفقدي لشبّان هناك أهم ما لدي أن يكونوا أحياء "


وعلا الغضب ملامحه وصرخ وسبابته تشير لها

" تحملت من أذاك الكثير يا غيسانة وعلى مر أعوام وكل ما
فعلته أني وفرت لك فيها ما يجعلك تعيشين في أفضل حال ولم
أُخلف وعدي لوالدتك قط لكن ذلك لم يجعل منك امرأة تُقدر
كل هذا "


عادت الكلمات لخيانتها وهي تحرك شفتيها كالغريق تحدق فيه

بضياع بينما تابع هو ودون انتظار عاقداً حاجبيه بقوة

" أتعلمين ما قالته وآخر طلب طلبته مني قبل وفاتها ؟ "

تعالت أنفاسها وآخر ما تفكر فيه هو الفضول لمعرفة ذلك لكنها

لن تستطيع منع هذا أيضاً وتقوست شفتاها وهي تحدق فيه بأسى

وهو يحرك سبابته نحوها قائلاً بحزم


" طلبت أن لا تعلمي بحقيقة أنك لستِ شقيقتي وقالت بالحرف
الواحد إن شعرتَ يوماً بأنها تحمل دماء والدها النجسة في
عروقها وبأنها نسخة أخرى عنه فلا تتوانى لحظة واحدة
عن قتلها ودفنها "


تجمعت الدموع في عينيها وشدت شفتها بأسنانها وكأنها تمنعها

من الارتجاف باكية تنظر له من خلف تلك المياه المالحة وقد قال

بجدية وإن بنبرة أقل ارتفاعاً من سابقاتها

" وأنا لازلت أرى أنك تستحقين فرصة أخيرة بعدما أضعتِ
الكثير وبالرغم من تدميرك لزواجي وعائلتي نهائياً .. إكراماً
لوالدتك أولاً وما فعلته لنا ولأنك كنت تعلمين حقيقتي طيلة
الأعوام الماضية ولم تفكري في إيذائي يوماً "


خانتها كل قوتها تلك وانسابت الدموع من عينيها والتي لم يفعلها

كل ما علمته رغم عظمه وعادت تقول مجدداً وبصوت مرتجف

" وما ذنبي أنا فيما فعل والدي ؟ "


أشاح بوجهه جانباً ومسحت يده على لحيته بحركة بطيئة مع

سحبه لنفس قوي وتحريره سريعاً ونظر لها وقال بجمود

" لم يحملك أحد ذنب أفعاله ولن أفعل أبداً بل تحدثت عمّا
فعلته أنتِ "


لم تتحدث ولم تستطع قول أي شيء ولا إيجاد أي تبرير لفعلتها

تلك بعد كل ما علمته ، بل ولم ترفع ولا يدها لمسح الدموع عن

وجنتيها وتجمدت نظراتها عليه وقد تحرك من مكانه ووقف

أمامها مباشرة ورفع سبابته قائلاً بجدية

" أمر واحد فقط عليك معرفته بأن التهور وكشفه لهويتك لن
يضر أحداً غيرك وثمنه سيكون موتك بينما سيكشف هويته لنا "


ابتلعت عبرتها حتى انتفض صدرها بقوة تمنعها من الخروج

مكتفيه بتحرر تلك الدموع من قيودها وهي تعاود النزول مجدداً

فوق الوجنتان ناصعة البياض بينما تابع الواقف أمامها بجدية

وقد أبعد نظره عنها

" يمكنك البقاء هنا في بلادك محمية منه إن أردتِ ذلك أو العودة
هناك وسأحميك كما كنت دائماً ما لم تتهوري بما سيكون ثمنه
حياتك "


وغادر بعدها بخطوات واسعة ثابتة تشبه شخصيته وتركها

لعبراتها التي تحررت ما أن سمعت صوت الباب وهو يغلقه خلفه

ونزل جسدها للأرض ببطء لازالت تبكي بنحيب مرتفع تنظر

عالياً للسماء .


وقفت وغادرت سريرها تحاول الهرب من الذكريات التي لا مفر

لها من تكرارها حتى تموت وبدأت بتحطيم كل شيء وجدته

أمامها بغضب تصرخ رافضة لكل ذلك فها هي الأكاذيب التي كانت

تحيكها حول ذاك الوالد وبأنه كان يضرب والدتها ويؤذيها تبين

أنها صحيحة فهي ابنت رجل نجس خان بلاده وتلاعب بمشاعر

والدتها وهجرها وحاول قتلها ومستعد لقتل ابنته الآن إن علم

أين تكون وبدم بارد ، وعلمت الآن لما كانت خالة والدتها تنعت


دمائها بالنجسة دائماً وهي التي كانت تعتقد بأنها تعني

العرب إجمالاً .


صرخت بعنف هستيري في الممرضتين اللتان دخلتا مسرعتين

ناحيتها وحاولت تجاوزهما والفرار لكنهما سرعان ما أحكمتا

إمساكها من ذراعيها حتى غرز الذي دخل بعدهما رأس الحقنة

أعلى ذراعها مما جعل جسدها يتهاوى ببطء مع تخدر لسانها

وتحول كل شيء أمامها لظلام قاتم .


*
*
*

سار معهما وهو يعدهما بزيارة قريبة كما طلبا منهم وعبارات

التوديع تتكرر بين شفتيه كآلة تسجيل مبرمجة حتى بات المكان

ساكناً تماماً بعد رحيلهما فأغلق الباب خلفهما ونظر سريعاً للتي

كانت تقف خلفه تلتزم الصمت التام حتى أنها لاحظت نظرات

فاليريو الواضحة لها وفهمت بأنه انتبه للتغير الذي طرأ عليها

فعقلها كما قلبها وحواسها جميعاً تركتها في تلك الغرفة هناك

وخرجت مرغمة لتوديعهما .

حركت رأسها بعجز ما أن قرأت نظراته المتسائلة وكأن الكلمات

غادرت عقله وبجميع اللغات التي يتقنها وعجزت هي أيضاً عن

التعبير بغير ذلك ومؤكد فهم من نظرتها وحركتها تلك إجابة

سؤاله دون حديث فخرجت الكلمات المتشنجة من حنجرته نهاية

الأمر قائلاً بتوجس ظهر جليا على ملامحه قبل صوته

" ماذا حدث ؟! "

حركت رأسها بذات الحركة المشتتة وهي تهمس

" لا أعلم "


تنقلت نظراته بين عينيها باستغراب وهمس أيضاً وكأنه أُصيب

بالعدوى منها

" هل علمتما منها السبب ؟ "

قالت ببحة وحزن

" لم تقل شيئاً "

والتمعت عيناها بحرقة دموع لا وجود لها وتحجرش همسها

ببحة غريبة

" قالت فقط أريد والدي "

وتبعت نظراتها الحزينة الذي تلقى كلماتها كما توقعت تماماً وهو

يضرب كفيه ببعضهما قبل أن يوليها ظهره وغرس أصابعه في

شعره يشده للخلف وتعلم جيداً بما يشعر وما تأثير الكلمة عليه

وعلى أي شخص تربطه بها صلة فكيف إن كان رجلاً مما يعني

أنها لا تجد منصفاً لها ولا أحد يمكنه تخفيف ألمها ولا تشتيت

حزنها .. لا سند ولا ظهر ولا منصف مما جعلها تطلب من لو أنه

كان موجوداً الآن لكان له تصرف مختلف تماماً بالتأكيد بل ومنذ

زمن طويل وليس هذا اليوم فقط .

استدار جسدها معه ما أن تحرك مجتازاً لها دون أن يقول شيئاً

وتبعته وهي تعلم أين وجهته وما أن وصل باب الغرفة وأمسك

مقبضه بيده وضعت يدها على كفه تمنعه وهمست ما أن

نظر لعينيها

" علينا تركها لترتاح وتكون نفسيتها في وضع أفضل "

حرك رأسه بإيماءة خفيفة موافقاً وهمس وهو يعود بنظره ليده

ويدير المقبض ببطء ويفتحه

" سأطمئن عليها فقط "

وما أن اتسع الباب قليلاً حتى شعر بقلبه ينقبض بشدة آلمت

أضلعه وكأنه انفجر بالداخل لحظة أن وقع نظره على جسدها

المنكمش نائمة فوق السرير بدون غطاء تخفي وجهها في

ذراعيها تضم ساعديها فوق رأسها ولا يعلم إن كانت نائمة بالفعل

أم لا ؟ كل ما يعلمه حينها أنها جثة ميتة تتنفس وشعر بالقهر

والغضب من نفسه ومن كل شيء وكلمات زوجته ترن في أذنيه

وكأنه يسمعها منها هي الآن

( أريد والدي )

اشتدت أصابعه على مقبض الباب بقوة لازال نظره على الجسد

الذي احتضنه قماش بيجامة ابنته وعلى الشعر البني المتناثر

بنعومته خلف رأسها المحاط بذراعيها البيضاء وشعر بالألم مع

كل انتقال لنظراته على الجسد الملقى هناك وحتى القدمان

البيضاء الصغيرة وكأنه جثة مرمية وسط ساحة حرب انتهت للتو

تاركة جثة وحيدة خلفها لم يكلف أحد نفسه بدفنها أو أخذها معه .


مسح وجهه بكفه وأمسك عيناه بأصابعه بقوة لا يعلم مما يهرب

تحديداً منها أم نفسه ؟ من ضعفهم أم من تخاذلهم حيالها ؟

أغلق الباب بهدوء ما أن شعر بيد الواقفة خلفه على كتفه مجدداً

وتحرك من هناك وحملته خطواته للمكان الذي جاء منه والتفت

لها ما أن قالت وقد وصلا بهو المنزل

" ماذا ستفعل ؟ "

حرك رأسه مطبقاً شفتيه وتنهد قائلاً

" علينا أن نعلم منها ما حدث أولاً ثم سأ... "


قاطعته تغضن جبينها بقوة

" ما الذي تريد معرفته يا حارثة والفتاة أمامك دخلت بمنشفة
الحمام وحالها يتحدث دون شرح ولا سؤال ! "

قال من فوره وبجدية

" وإن يكن فعلينا أن نعلم أولاً وعليا التحدث صباحاً مع والده "

أمالت شفتيها بعدم رضا قبل أن تشير بيدها جهة الممر قائلة

" وما الذي فعله والده في المرات الماضية ؟ "

رفع سبابته وقال بحزم

" يبقى والده وعليه أن يعلم ، وإن لم يتصرف حيال الأمر
فلكل حادثٍ حديث "

وغادر باتجاه ممر غرفتهما نظراتها تتبعه حتى اختفى عنها

فتنهدت بعمق وكانت ستغادر ناحية المطبخ لتنهي تنظيف

ما تبقى من عشاءهم الذي انتهى بأن لم يمس كعكتهم تلك أحد

غير ضيفاهما لولا أوقفها الخيال الواقف ناحية الممر الذي

غادرته قبل قليل وما أن تقدمت نحوه خطوتين ظهرت لها ملامح

وجه ابنتها والتي جمعت الغضب والحزن معاً في انسجام غريب لا

يتقنه سوى أمثالها ممن لا يُظهرون تلك المشاعر إلا نادراً ، وما

لفت نظرها كان العينان المحمرتان فانقبضت أصابع يدها اليمنى

دون شعور منها وهي تنقل نظرها لأثارهم على وجنتها البيضاء

فلن يكون صفعها لها السبب في البكاء الذي لا يظهر سوى في

تلك العينين فقط فهي تعرف ابنتها جيداً فما يؤلمها ليس رد فعلها

بل ما قالت هي عن والدها ولازال راسخاً في عقلها .

تحركت من مكانها وتقدمت نحوها حتى كانت تقف أمامها تماماً

وقالت بكل ما استطاعت من هدوء تنظر لعينيها

" ساندرين الحكم دون معرفة أمر خاطئ جداً وعواقبه ستكون
سيئة عليك وعلى والدك أيضاً فمن الحكمة التروي حتى ... "

" ماذا قال ؟ "

قاطعتها هامسة بتلك الكلمات دون أن تهتم لما كانت تقول أو

لمتابعته فتنهدت تحرك رأسها بأسى ويأس منها لكنها لم تعلن

استسلامها بعد وقالت بحزم هذه المرة تنظر لعينيها

" الندم على قول ما لم يسمعه منك سيكون أهون كثيراً من أن
يعلم بما تفكرين نحوه وتقولين ثم يتبين لك عكس ذلك "

قالت التي ارتسمت السخرية على شفتيها ممزوجة بالكثير

من المرارة

" أتعلمين أمراً أمي ؟ الأمر سيء في الحالتين "

نظرت لها باستغراب تظنها تعلق على ما قالت هي لكن تبين لها

العكس حين تابعت بضيق ممزوج بحرقة

" إن كنت يوماً في موقف مشابه لها الآن وكان له موقفاً قوياً
معي فسأحزن .. وإن لم يفعل ذلك فسأموت قهراً "

ولم تنتظر منها أي تعليق وهي تتابع بحدة وعينان دامعة بقهر

" أتعلمين لما أمي ؟ "


وأجابت عن نفسها أيضاً وصوتها يرتفع بحرقة

" لأنه أنصف ابنته ولم يفعلها مع قريبته اليتيمة أمي أو سيكون
متخاذلاً مع كلينا .. وكل واحدة منهما أقسى من الأخرى "

خرجت حينها الواقفة أمامها عن صمتها وقالت بحزم تحاول أن لا

ينتهي الأمر كالمرة السابقة

" لا تيم يشبه رواح ولا أنتِ تشبهين ماريه ساندي فلا تجعلي
الشيطان صديقاً لك "

رمت يدها بقوة صارخة

" وفيما سيختلف عنه ؟ كلاهما رجلان أم تعتقدين أن ابن
السلطان سيكون مختلفاً عن ابن خاله ؟ "


وحركت سبابتها أمام وجهها متابعة بلهجة قوية

" لا أمي مخطئة كثيراً فنحن من جعلنا لذاك الجليدي حجماً أكبر
منه وما أن يرى ابن عمته تخاذلكم اتجاه ماريه سيفعل مثله
وأكثر بكثير مع ابنتكم "

قالت الواقفة أمامها بضيق

" ساندرين والدك قال بأنه سيتحدث مع والده غداً وأعلم جيداً
بأنه لن يقف مكتوف اليدين هذه المرة فلنتروى قبل أن نطلق
أحكاماً "

شخرت بسخرية ممزوجة بالغضب وقالت

" وما الذي سيفعله والده ؟ كان هو دائماً من يقرر ويفعل كما
يريد ويحلو له "

تنهدت بيأس منها وقالت تحاول تغيير الحديث الذي لا طائل

منه الآن

" ماذا قالت لك عمّا حدث بينهما فهو الأمر الأهم الآن "

ضربت كفاها ببعضهما قائلة بحدة

" لم تقل شيئاً .. لا شيء .. ولم أسألها فلست من الوقاحة أن
أجرؤ على فعل ذلك الآن وهي التي اعتذرت عن لجوئها لنا "

وما أن أنهت قصفها المباشر لها أولتها ظهرها مغادرة لكنها

توقفت فجأة بعد خطوات قليلة والتفت لها مجدداً وكأنها نسيت

شيئاً ، وكانت بالفعل نسيت أهم ما عليها قوله وهي ترفع سبابتها

مهددة تلمع دموع القهر في عينيها تراها من بعيد

" لكن قسماً أمي هذه المرة إن لم يكن لأحد موقفاً اتجاهها أن
أفعلها أنا وليقتلني ذاك الكنعاني المتحجر إن أراد فأنا لا أخافه "

وغادرت وتركتها تنظر بذهول للمكان المظلم الخالي منها .


*
*
*

حين اقتربت خطواتها الحافية من الباب الخشبي المؤمن

بالحراسة كان هو يقف خارجه ينتظرها هناك فقد انتصر على

نفسه نهاية الأمر وأقنعها بالابتعاد عن ذاك المكان بأكمله وعن

صوت بكائها الذي كان يعلم بأنها في زمان ومكان آخرين ما كانت

لتشاركه أحد بل وما كان ليصدر عنها فوقف هنا ينتظرها عيناه

لا تفارق الباب الذي عبرته الآن وكأنه يخشى فقدانها وأن لا

تخرج منه .

إبتعد عن الجدار خطوة يقف على استقامته حيث كانت هي حينها

تلبس حذائها منحنية بجسدها قليلاً تلبسه بيد واحدة ورفعت

سلسالها وقبضت أصابعها عليه لم ترفع نظرها به ولا بأي شيء

أو أحد حولها وتحركت من هناك وسارا معاً ما أن مرت بجانبه

لم يتحدث ولم تفعل هي ولن تفعل بالتأكيد حتى غادرا مبنى

المستشفى وأحياء المدينة أيضاً وكان كامل تركيزه مع القيادة

بالرغم من أن تلك العينان جمحت عنه في مرات قليلة لتلمحها

وهي تنظر للخواتم المعلقة في سلسالها تنظر لها بين أصابعها

منذ خروجهم من هناك وكم تمنى لو يعلم ما كانت تفكر فيه

حينها ! لكن هيهات لعقل المحامي الذكي الموجود في رأسه أن

يصل لذلك فقد آمن تماماً بأنها المرأة التي سمع عنها كثيراً

ولم يراها سابقاً

( المرأة التي يعجز عن فهمها الرجال ) .

ما أن عبرت سيارته بوابة قصرهم أبطأ في سرعتها حتى توقفت

على مبعدة قليلاً عن بابه الداخلي ونظر ناحيتها حينها يسند

ساعده على المقود وقال ينظر لجانب وجهها المقابل له

" كنتُ تركت رمز الباب لوالدة رواح فقط ولا أعلم كيف
استطاعت جمانة الدخول ! "

تنهد بقلة حيلة حين لم تعلق ولازالت على وضعها ذاته تنظر

للخواتم والماسات اللامعة بين أصابعها وقال بهدوء

" ماذا كانت تريد منك يا زيزفون ؟ "

ارتفع نظرها للأمام وتحركت شفتاها حينها متمتمه ببرود

" لما لا تسألها إن كانت تجرؤ على قولها "

حدق فيها باستغراب وأدارت هي رأسها ونظرت لعينيه

وقالت باشمئزاز

" لما لا تخبرني كيف رضيت بالزواج بواحدة مثلها ؟ "

لم يستطع التحكم في ابتسامته التي تحولت لضحكة صغيرة وهو

يسند جانب رأسه بمسند الكرسي خلفه ولازال ينظر لعينيها

فها هي عادت زيزفون التي يعرف والتي ما كان ليتخيل أن

ينتظر عودتها حين ستتخلى عن معاملتها الباردة الجافة ولسانها

اللاذع إلا اليوم !

وفهم الآن لما طلب منه جده أخذها إلى هناك لأنه كان سيفقدها

وللأبد حين سترجع لحالتها السابقة وهو ما نوه عنه طبيبها في

الملف الذي تركه وأن عودتها لحالة الانهيار القديمة معناه عدم

شفائها نهائياً ولا مكان لها حينها سوى مستشفى الأمراض

العقلية .

كان يرى الضيق واضحاً وهو يرتسم في عيناها الجميلتان بسبب

رد فعله ذاك ولن يستغرب هذا ، وتبدلت الشفاه الزهرية لخط

رفيع تشدهما حانقة قبل أن يتحررا وقالت بضيق

" لا أفهم لما لا تُحسن الاختيار وأنت تستبدل شيء بآخر ليكون مكانه ... "

وتركت نظراته تنتقل للاستغراب وهي تتابع بضيق بينما قد

استدارت للباب تفتحه

" يالك من مدعاة للشفقة "

ونزلت ضاربة الباب خلفها ففتح بابه ونزل ولحق بها بخطوات

مسرعة وأمسك بذراعها وأدارها نحوه وقال باستغراب محدقاً

في عينيها

" ماذا تعنين باستبدال شيء بآخر ! "

" لا شيء "
همست بها بجمود وهي تستدير متابعة طريقها بينما وقف هو
ينظر لها حتى اختفت خلف ظِلال الأشجار ومرر أصابعه في

شعره للخلف حتى اجتمعت أيداه عند قفا عنقه وتنهد يحرك رأسه

في حيرة فستصيبه هذه المرأة بالجنون لا محالة !.

تحرك بخطوات ثابتة نحو الطريق الذي سلكته حتى دخل للبهو

الواسع والساكن لا أحد يتحرك فيه بالرغم من أن الوقت لم يتأخر

بعد لينام الجميع ! سار باتجاه المطبخ ووجد مبتغاه هناك ومن

قبل أن يدخل ونظر بضيق للتي تبدلت نظرتها المحبة له

وابتسامتها الصادقة للاستغراب وقال

" خالتي أهكذا تكون الأمانة لديك ؟ "

رمشت عيناها قليلاً تحاول ترجمة وفهم ما يعنيه فسبقها قبل أن

تفكر في طرح أي سؤال قائلاً بضيق

" هل تركت رمز الباب لديك لأجد جمانة في الداخل ! "


" جمانة ! "

همست بها باستغراب فقال من فوره وبضيق أشد

" أجل خالتي ولا تنظري لي هكذا وكأنك لا تعلمين شيئاً فوحدك
من يملك رمزه السري "

قالت بذهول

" لم أفتح لها أقسم لك بني "

كان هو من حدق فيها باستغراب حينها قبل أن يشير لصدغه

بأصابعه قائلاً بحنق

" كيف دخلت إذاً اشرحي لي هذا الآن ؟ "

تحركت عيناها في الفراغ بتفكير شارد قبل أن تنظر له قائلة

" تركت إحدى الخادمات هناك حين طلبني رواح لتنزل بصينية
الطعام وكان ذلك قبل مجيئك ومغادرتكما "


قال بضيق

" خالتي تركت رمز الباب لك لتدخلي وتخرجي وحدك فقط "


حركت رأسها وقالت مقرة

" كان عليا النزول يا وقاص ولم أرد ترك الصينية والسكين فيها
بجانبها لذلك طلبت ... "
قاطعها قائلاً بحزم

" سأغير الرمز مجدداً ولن تأكل حتى أكون هنا "


حدقت فيه بصدمة وقالت

" ما هذا يا وقاص ! ماذا إن حدث لها مكروه وأنت بعيد ؟ "


لم يعق وقد أشاح بوجهه جانباً فحركت رأسها في حيرة قائلة

" ثم لما تخشى عليها منا وهي كانت هنا لأشهر ولم يقربها
أحد بسوء ! "


أدار ظهره لها وقال بجمود مغادراً

" انتهى الحديث في الأمر خالتي "


فحركت رأسها بعجز وعادت للداخل متمتمه

" هذا ولم يعلم من وجدت أيضاً حين صعدت ! "

بينما صعد من تركها خلفه عتبات السلم بخطوات واسعة سريعة

وسار عبر الممر الطويل الساكن كسكون التُحف واللوحات الزيتية

المنتشرة فيه وفتح باب جناحه ما أن وصله ودخل ووقف مكانه

وسط ردهته ونظر ناحية باب الغرفة المحاذية لغرفتهما هناك

لبعض الوقت قبل أن يتخذ قراره ويتوجه نحوه وفتحه مباشرة

ودون أن يطرقه فقفز الجسد الأنثوي الشبه مستلقي على السرير

لينساب القماش الحريري الأبيض الناعم على كامل جسدها بعد

أن كان يرتفع فوق ركبتيها ووقفت دون أن تنتبه للهاتف الذي

سقط من يدها وابتسمت بتوتر لكن نظراته القاسية جعلتها تتخذ

موقفاً دفاعياً وهي تبادر بالهجوم قائلة بانفعال

" لا تنظر لي هكذا وتصدق أكاذيبها وأني أريد قتلها "

حدق فيها باستغراب قبل أن يهمس بشك

" ومن أخبرك بأن هذا ما قالته لي ! "

نظرت له بصدمة وتمنت أن قتلت نفسها بسبب غبائها الذي

لا يفارقها فقد نسيت تماماً بأنه محامٍ وليس أي محامي يمكنها

التلاعب بأفكاره ، وإن كانت تلك أخبرته حقيقة ما حدث فهي

الآن وبكل غباء أكدت له صدقها وكان عليها أن تنكر حين يخبرها

وليس العكس ، قالت في محاولة جديدة منها لتقديم نفسها

كضحية

" ومؤكد لم تخبرك بأنها هددتني باتهامي في مقتل نجيب "

" ماذا !! "

كانت عيناه متسعة بصدمة وهو يهمس بتلك الكلمة وشك بأنها

هددتها بقتلها وقت دخولها هناك بينما تابعت الواقفة قرب

سريرها تشد يديها كي لا يظهر ارتجافهما قائلة بضيق

" أجل وقالت بأنه لا دليل لدي لتغيبي وقت الجريمة "

حرك رأسه بعدم استيعاب قبل أن يقول بضيق

" ما هذا الهذيان يا جمانة ؟ "

فوجدتها فرصة مواتية تماماً ففكت يديها من بعضهما قائلة
بانفعال


" هي الحقيقة وأعلم بأنها ستنكرها وتتهمني أنا بقتله
ومحاولة قتلها "


لكنه خان توقعاتها وهو يصرخ فيها بحدة

" هي لم تخبرني بشيء يا جمانة "

حدقت فيه بصدمة قبل أن تهمس بارتجاف جمع الغضب

والذهول معاً

" مستحيل أنت تدافع عنها فقط لأنك ... "


قاطعها سريعاً وبحزم

" لا شيء يجبرني على فعلها "


فتحت فمها لتقول مسرعة باقي ما خططت له سابقاً في حال

سألها عن الأمر لكنه أمات محاولتها تلك وهو يرفع سبابته مهدداً

وخرجت الكلمات من بين أسنانه

" ولعلمك فقط يا جمانة فثمة شخص ثالث كان موجوداً وقت

الجريمة بالفعل وبالأدلة القاطعة فاحتفظي بلسانك في حلقك

ولا تقدمي نفسك للقانون وأنت لست الفاعلة "
وغادر وتركها جسدها يرتجف من هول ما سمعت للتو وتعلم جيداً

بنزاهته كمحامٍ ومن ثقته مما يقول لما كان حذرها وتركها تُقدم

كبديلة عنها في جريمتها تلك .. وما جعل ارتجافها ذاك يتبدل

للغضب هو احتمالية نجاة تلك المرأة من السجن بالفعل وهي التي

باتت تشيد أمالاً كثيرة على ذلك وبأنها ستنتهي لمصيرين لا ثالث

لهما إمّا السجن أو المصح النفسي وستبتعد عن حياتهما نهائياً

لتستعيد هي الزوج الذي اكتشفت الآن وبعد التحاقها بكل تلك

الدورات عبر الانترنت بأنها كانت وحدها فقط المسؤول عن

خسرانها له لذلك عليها أن تُبعد تلك المرأة عن حياته قبل أن تفكر

في استعادته ، وكما قدمته لها هي على طبق من فضة عليها

أن تسلمها إياه على واحد من ذهب إن بالطيب أو الإكراه .

تحركت خطواتها يتبعها صوت حفيف القماش الفاخر لقميص

النوم الذي لبسته للفت نظره فقط وطعنها مجدداً حين لم يُكلف

نفسه ولا عناء النظر له على جسدها بل ولا ما انكشف من ذاك

الجسد بسبب تفاصيله المغرية ولم تشعر أبداً بلذة حصولها على

الجسد الذي طالما حلمت به وإن لم تصل به للجسد المثالي بعد

إلا أنه بات متناسقاً وأقل بشاعة بكثير عن السابق حتى أنها

اكتسبت أنفاً أجمل وشفاه باتت متعادلة في الحجم وجميعه

طار أدراج الرياح .


ما أن وصلت باب الغرفة وقفت تنظر باستغراب تبدل للاحتراق

سريعاً تراقبه وهو يغادر باب الجناح ضارباً إياه خلفه يحمل في

يده حاسوبه الشخصي وفي الأخرى ملف يحوي الكثير من

الأوراق وارتجف جسدها غضباً وتأكد لها ما قالت والدة نجيب

عن الليلة السابقة فاتجهت للقطعة الخارجية من قميصها لبستها

وربطت الحزام حول جسدها وغادرت بخطوات مسرعة غاضبة

ذات الوقت لتتأكد بنفسها هذه المرة .

وما أن وصلت أسفل السلالم الذي صعده وقفت تنظر للأعلى

بعينين امتلأت سريعاً بالدموع وغطت شفتيها المرتجفة بيدها

ونظرت لطيف المرأة الذي اقترب منها عبر الظلام الجزئي وسالت

دمعاتها والكحل الأسود معهما في خطان مستقيمان وهي تنظر

لعينيها حتى وقفت أمامها وهمست بصوت باكي مرتجف

" ذهب لها "

همست الواقفة أمامها بجمود

" أجل رأيت هذا "

لم يزدها تأكيدها ذاك سوى بكاءً وألماً وأشارت لنفسها

قائلة بعبرة

" أنا زوجته يتركني ويذهب لها ! "

وازداد نحيبها بالرغم من خروج صوتها في همس مبحوح

" لقد قالتها سابقاً بأنها تتركه لي بإرادتها وستأخذه متى
أرادت ذاك "

قالت المقابلة لها بنبرة جادة يغلفها الكثير من الجمود كملامحها

تلك اللحظات

" لن ينفعك البكاء ولا التحسر في شيء وعلينا أن نتحرك "

تتابعت أنفاسها المختلطة بعبرتها وحركت رأسها هامسة

" أجل قبل أن يُثبت وقاص براءتها "

" براءتها !! "

همست أسماء بذلك في صدمة وقالت المقابلة لها تؤكد كل ذلك

" أجل فهو يقول بأنه ثمة شخص ثالث كان موجوداً وقت

الجريمة بالأدلة الثابتة وأعرف وقاص جيداً إنه محامٍ ماهر

ولن يتوقف حتى يحدث ما يريد

" خرجت تلك من جمودها الذي تبدل لغضب مكبوت هامسة

من بين أسنانها

" بل لأنهم يريدون تبرأتها لأنها ابنتهم ليس لأنها ليست الفاعل
فما أعلمه أنها اعترفت بفعلتها تلك لكنهم يرفضون الاعتراف بهذا
وجميعهم "


همست جمانة بحماس غاضب

" ماذا سنفعل إذاً "

رفعت تلك يدها والهاتف فيها تقبض عليه بقوة وقالت بحقد

" ما أن يكون رمز ذاك الباب لدينا سنتحرك فوراً والليل موعدنا
مع تلك القاتلة "

همست الواقفة أمامها بتساؤل

" وماذا إن لم يقم بتغييره ؟ "

قالت متأكدة

" سيفعل بما أنه وجدك في الغرفة "

قالت التي يتغلب خوفها على كل ما تفعل كالعادة

" وكيف سندخل ليلاً وهو سيكون هنا ! "

همست تلك من فورها

" سننتظر الفرصة المواتية وإن لم يحدث خلال يومان سنتخذ
خطة بديلة "


وأمسكت كتفها وقالت تشجعها بإصرار

" عليك أن لا تترددي يا جمانة وأن لا تكوني جبانة إن كنتِ
تريدين استعادة زوجك بالفعل "


حدقت فيها بصمت لبرهة وهمست بإصرار

" بلى أريد "

ابتسمت لها وقالت

" عودي لغرفتك إذاً ولا تقتربي من هنا مجدداً حتى نكون معاً
وننفذ مخططنا "

اومأت لها برأسها موافقة وغادرت عائدة أدراجها ونظرات من

تركتها هناك تراقبها حتى اختفت ونظرت حينها لأعلى السلالم

المظلم وهمست من بين أسنانها بحقد اشتعل وميضه بقوة

في عينيها

" أنا من سيقتص لإبني منك يا قاتلة "


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 09:32 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية