كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
نظرت لها بأسى حين رفضت مساعدتها وجلست بنفسها على
السرير وشدت لحافه فوق ساقيها وهي تحضنهما وتدفن ملامحها
في ركبتيها وقد تساقطت على ذراعيها خصلات شعرها المتيبس
وكأن أمطاراً قوية اصابته قبل أن يجف بسبب رياحٍ باردة لم
تعرف معنى تجفيف المياه بل تجميدها حد الجفاف !.
شدت على أسنانها بقوة وكأنهما فكي وحش عملاق تسحق ذاك
الرجل بينهما يعلو صدرها ويهبط بشدة تمنع نفسها بالقوة عن
قول ما يكاد يقتلها كتمانه وهو شتمه دون توقف فها قد حدث ما
تعرفه جيداً وتوقعته وقالته عنه سابقاً وهذا أكثر ما يشعرها
بالقهر لصمتها مجبرة عن قوله مجدداً لأنه ليس وقته ولن يكون
أبداً ولن تجرحها بكلماتها تلك بعد ما سمعته منها عند الباب لتظن
بأنه غير مرحب بها هنا وأنه لا عائلة لها فوالدها يُعد الآن
قريبها الوحيد .
جلست أمامها برفق وتبدلت نظراتها لها للحزن ولها أن تتخيل ما
تشعر به الآن وهي أكثر من يعلم ما يعنيه لها ذاك التمثال
الفرعوني المتحجر ولن تستطيع أن تتوقع ما فعله هذه المرة لكن
ما هي أكيدة منه أنه من طردها للشارع بهذه الهيئة لما كانت
لتخرج هكذا أبداً وفي منتصف الليل ! وسيكون قد فقد مرؤته
ودماءه العربية من عروقه بالتأكيد ليسمح بهذا وهي زوجته !.
ارتفعت يدها نحوها حين لم يصدر عنها أي رد فعل ولا صوت
نحيب أو عبرة مكتومة سببها البكاء في صمت !
لامست أصابعها خصلات شعرها وقالت بهدوء حزين
" ماريه هيا لتستحمي وسأحضر لك ثوباً تنامين فيه
وشراب دافئ "
وارتدت يدها لصدرها وتجمعت دموع رقيقة في مقلتيها الزرقاء
حين خرج همسها الحزين بوجع قاسي
" أريد والدي فقط "
واختنق صوتها عند نطقها لتلك الكلمة ( والدي ) الشخص الوحيد
الذي تحتاجه الآن وتريده وتعلم بأن كلمته لن يثنيها أحد ومهما
كان ، كانت الكلمة التي أصابتها في قلبها تتخيل نفسها من دون
أحد .. لا والداها لا شقيقها ولا حتى والدتها .. لا أحد لها سوى
زوجها ذاك فكيف كانت ستكون حالها وما سيفعله بها وهي
وحيدة مقطوعة الجناحين ؟
تجمعت الدموع أكثر في عينيها ومدت يدها ليدها وأمسكت
بأصابعها بقوة وتكسر صوتها الحزين وإن كانت تدّعي القوة
وهي تقول ونظرها على الملامح التي لا تراها أساساً
" الله الذي أخذه لديه لن ينساك ماريه ويرى كل شيء "
وازداد شدها على يدها وإن كانت لازلت تحضن بها ساقيها بينما
ارتفعت يدها الأخرى تمسح بها عيناها الدامعة وإن لم تفارقها
تلك الدموع ولا تعلم حقاً ما يمكنها قوله غير ذلك ؟
لن تقول بأن والدها لن يسكت له عن هذا ولا والده أيضاً فهي
باتت تشك في مقدرتهما على فعل أي شيء له بعدما شهدته سابقاً
بنفسها وهو يأخذها من أمامهم لم يوقفه أحد أو يفرضَ عليه
قراراً كان مخالفاً لقراراته وفي كل مرة .
لكن هذه لا يجب الصمت عنها أو لن تثق هي أيضاً في مقدرة
والدها على الدفاع عنها إن احتاجته يوماً وكانت في موقفها الآن
فهل سينصف ابنته حينها بينما ترك هذه اليتيمة الآن ؟
إن كان لشاهر كنعان ابنة هل كان ليرضى لها بكل هذا ؟
تركت يدها أصابعها ووقفت ووجهتها باب الغرفة المفتوح
تشعر بالأبخرة تتصاعد من رأسها بل ومن جميع مسامات
بشرتها بسبب الغضب المشتعل داخلها وقد وجدت والدتها
أمامها ما أن وصلت الباب والتي وقفت متفاجئة بخروجها
العاصف وقالت بقلق تحاول النظر لداخل الغرفة من خلف كتفها
" كيف أصبحت الآن ؟ "
قالت بحدة تنفث أولى نيران غضبها بها
" على ماذا ستصبح أمي وهي وصلت للتو ؟ "
حدقت فيها الواقفة أمامها بصدمة قبل أن تقول بضيق
" وما بك تصرخين بي هكذا وكأنني الفاعل ؟ "
فهمست لها بغضب من بين أسنانها لتخفض صوتها واستدارت
للباب واغلقته قبل أن تنظر لها مجدداً قائلة بضيق وصوت
منخفض قدر استطاعتها وما سمح به غضبها
" تطلب والدها أمي وتعتذر عن مجيئها لأنه لا أحد لها غيرنا ..
أتعين معنى هذا ؟ "
وازداد اشتعالها وهي ترى الصدمة على ملامحها وقد ارتفعت
أناملها لشفتيها فالتمعت عيناها بدموع الغضب والقهر ولوحت
بيدها في حركة غاضبة وهي تهمس
" لن يكون والدي بعد اليوم إن لم يأخذ بحقها منه ولا شاهر
كنعان رجلاً يستحق تلك الكلمة "
وشهقت بصدمة تمسك وجنتها بينما عيناها الدامعة تنظر بصدمة
للتي شدت أصابعها في قبضة واحدة بعد صفعها لها ولأول مرة
تفعلها في حياتها بالرغم من كل طباعها التي لا تعجبها وقالت
بحدة بينما أشارت سبابة يدها الأخرى ناحية نهاية الممر الذي
جاءت منه
" فخر لك أن يكون والدك وها هو أمامك غيرك يتمناه "
نظرت لها بغضب وإن لم تنفس عنه بينما كانت عيناها تلمعان
بدموع القهر وإن كان الغضب في عيني والدتها لم يخف وكأنها
تتحداها أن تقول كلمة أخرى لتصفعها مجدداً بل وقد تفعل أكثر
من هذا مع نظراتها تلك ، ولم يدم ذاك طويلاً وهي تجتازها
مغادرة باتجاه غرفتها بينما خرجت كلماتها باردة كالصقيع تعاكس
جميع مشاعرها تلك اللحظة
" وها هي اليتيمة التي لا أحد لها غيره هنا ... "
وكانت حينها قد وصلت باب غرفتها والذي ضربته بقوة وقت
دخولها وصرخت حينها تنظر له متابعة باقي حديثها وكأنها هي
من تقف أمامها صارخة
" ولنرى ما سيفعل من أجلها باعتبارها ابنته "
بينما من تركتها واقفة مكانها هناك وصل لمسمعها كل كلمة
قالتها لازالت تنظر ناحية باب غرفتها المغلق بغضب من سلوكها
وهي تعلم جيداً بأنها ستسمعها ، مشاعر تبدلت لأخرى لا تفهمها
ما أن نظرت لباب غرفة ابنها سابقاً والقابع أمامها تفكر في كل
كلمة قالتها ابتداءً بنقلها لكلمات ماريه التي آلمتها حد الألم ذاته
انتقالاً للكلمات التي صفعتها ولأول مرة في حياتها بسببها وباتت
لا تعلم كان غضباً من إهانتها لوالدها ووالده معه وبكل وقاحة أم
قوة مزعومة لموقفهم السابق والذي يعلم الجميع بأنه انتهى
بالصمت والرضوخ التام لقرارته بشأنها خاصة وهو قد خطب فتاة
أخرى بينما هي زوجته ؟ ولم تكن هذه الأولى التي تغادر فيها
شقته وتدخل منزلهم بحال يشفق لها الجدران ، لكنهما لم
يستسلما دون محاولة وإن كانت فاشلة وما كان عليها أن تخطئ
في حق والدها وهي نفسها لا تعلم ما يمكن أن يصير إليه حالهم
إن هم فقدوه فجأة ، ولن تنسى له أنه من أنقذ ابنها من الضياع
ورباه تربية لم ينلها أمثاله في هذه البلاد ليكون رجلاً تفتخر به ،
وواثقة من أن تركه لماريه تقرر بنفسها سابقاً ليس لأنه لا
يعتبرها ابنة له بل لأنه يريدها سيدة قراراتها في أمر
يخصها وحدها .
تنهدت بعمق حين وجدت نفسها تعود لذات المنعطف وعقلها
يسأل نفسه
( هل كان يمكنه الاعتراض حين جاء لأخذها من هنا بعدما كانت
آثار صفعه لها تركت علامتها على وجهها حتى أدمت شفتيها ؟
هل كان يستطيع أن يمنعه إن طلبت هي ذلك منه ؟ )
استغفرت الله بهمس خرج معه الهواء من شفتيها كتأفف خفيف
فبالفعل لم ولن يستطيع أحد ردع ذاك المحارب العنيد عمّا يقرره
ويريده ، ولتنجوا بنفسها من كل تلك الأفكار أمسكت مقبض الباب
وأدارته ودفعته للداخل لتنهي كل ذاك الحديث المتلف للأعصاب
ولدماغها قبلها .
وما أن ظهر لها جسد التي لازالت تحضن ركبتيها وتخفي وجهها
فيهما حتى تبدلت ملامحها للحزن واعتصر الألم قلبها فكم عانت
هذه الفتاة وما يفوق سنوات عمرها بكثير إن كان قبل أو بعد
مجيئها إلى هنا ليقتل كل ما هو جميل فيها ابتداءً من ابتسامتها
التي النظر لها وحده يكفيك لتنسى كل هموم حياتك وترى الجميع
يسلبها إياها بقسوة حتى تموت نهاية الأمر من شفتيها الجميلة
ووجهها البريء وإلى الأبد .. وانتهاءً بقلبها المُحب النقي الذي لا
يعرف الكره والحقد يواجه طعنات الخذلان الواحدة عقب الأخرى .
تحركت خطواتها نحوها حتى جلست بجوارها وأحاطت يدها
برأسها وأجبرتها على النوم في حضنها حتى انصاعت لها
وأحاطتها بذراعيها تشعر بدموعها ستخونها .. وفعلتها فعلاً
لحظة أن سمعت بكائها المكتوم والذي يبدو كانت تحبسه لوقت
طويل داخلها وها قد تحرر ورغماً عنها .
مسحت يدها على شعرها بحنان وتركتها تبكي في حضنها وإن
كانت تجزم بأنها تقاوم تلك الدموع والعبرات بكل ما تبقى لديها
من قوة ولم تجد كلمات تواسيها بها ، لم تستطع أن تقول لها بأن
عمها الحارثة لن يصمت عمّا حدث وإن كانوا يجهلونه فيكفي
خروجها ووصولها بهذه الهيئة ! ولا والده ولا أيّا كان وبدأت
تتساءل إن كانت ابنتها على حق ؟ حركت رأسها بعنف فالتفكير
بتلك الطريقة مجرد جنون وإن سمعتها تتبرأ منه مجدداً
ستقطع لسانها .
عادت لاحتضانها بكلتا يديها فهذا ما تراها تريده الآن وليس
مواعظ أو تذكيراً بما مضى فهي قوية من الداخل وإن كانت أكثر
فتاة رقة وهشاشة عرفتها في حياتها وموقنة من أن لها قلباً
يمكنه تحمل ما تعجز عنه الكثيرات .
لكن كل ذلك تلاشى وانقشع حين سمعت همسها الباكي يضرب
قلبها قبل أذنيها
" أريد والدي أرجوكم "
فملأت الدموع عينيها وباستماته تمكنت من حبس عبرتها مكانها
كي لا تخرج ومسحت يدها على شعرها وقالت بحزن بينما
نظراتها الدامعة تهيم في الفراغ
" وأنا مثلك تماماً ناديت والدي أياماً طويلة حين كنت مع طفلي
وحيدان نجوب شوارع لندن لا شيء لدينا نأكله وأرسل إلينا الله
عمك الحارثة لينقذنا مما وحده سبحانه يعلم ما سيكون لأنه كان
يرانا ولم ينسانا يوماً "
وقبلت رأسها قبل أن تتابع بحزن وأسى وعينان دامعة
" عليك أن تكوني فخورة به ماريه فهو لم يتركك للجوع
وللشارع .. ذاك هو عمره وما كان ليزيد يوماً عمّا قدره الله له
لكنه ترك لك ثروة لم ولن تضامي بعدها "
مسحت بعدها بطرف كم قميصها عيناها الباكية لكن كلماتها تلك
لم تراها إلا زادت بكائها حدة وكأنها غرست سكينها في جرحها
بدلاً من أن تواسيها !
وانتبهت حينها لباب الغرفة وقد سمعت طرقاً خفيفاً عليه وعلمت
هوية الطارق من فورها ولِما لم يدخل فسيكون الحارثة وضيفاهما
ينويان المغادرة بالتأكيد وعليها توديعهما ، وكم حمدت الله أنهما
لم يريا وجهها لأن ذاك العجوز لن يعجبه ما يحدث بالتأكيد حين
سيعلم هويتها مستقبلاً خاصة بعدما أبدى استيائه من تهميشهم
كعائلة لها فلعل الأمور تُحل بطريقة أقل ضرراً على الجميع .
وقفت سريعاً وتوجهت ناحية الباب وغادرت مغلقة إياه خلفها
ببطء وبعد أن قبّلت رأس التي ابتعدت عنها مجبرة وتركتها تتكئ
بهمومها على الخشب المصقول لظهر السرير وحضنت نفسها
بينما نظراتها الكسيرة الحزينة تراقب الاوراق المتراقصة أمام
زجاج النافذة المغلقة يظهر بريق لونها الأخضر ويختفي مع
حركتها المتناغمة تحت الأضواء في الخارج وابتسمت بمرارة
تمتلئ عيناها بالدموع وهي تتذكر كلماتها
( مال !! )
كل لعنة في حياتها كان سببها تلك الكلمة .. بسببه عاشت طفولة
قاسية مع عمها وبسببه تزوجت طفلة بينما طُرد ذاك الزوج من
حياتها وللأبد .. وبسببه أيضاً عاشت ذليلة مهانة محرومة من
أغلى ما تملكه كل امرأة في الوجود وهو شرفها أمام الناس فهي
لم تعرف إلا التعاسة منه وبسببه ، وحتى حين أصبحت هنا لم
يغير في واقعها شيئاً ، لم تستطع أن تشتري به سعادتها وأي
سعادة تلك التي تُشترى بالمال !
بلى هي اشترتها يوماً كان بعيداً جداً بينما ثمنه علمت عنه قريباً
ولكنه لم يكن من ذاك المال أبداً ، انسابت دمعة يتيمة على
وجنتها المشتعلة بشدة تشعر بها كجمرة ساخنة أحرقتها وجفنها
قبلها وهي تتذكر تلك اللحظات وكأنها الآن تُعرض أمامها .
" ماذا تفعلين هنا ! "
أجفلت وفي قفزة واحدة أصبحت مقابلة له بينما الدرج الذي
أغلقته دون شعور والخزانة كاملة باتت خلفها فهي لم تترك مكاناً
لم تبحث فيه عنهم ولأيام وحين وجدتهم يمسك بها !
ما هذا الحظ الرائع الذي تمتلكه ؟ ظهرت على شفتيها ابتسامة
واسعة كمن وقع في مأزق لا مخرج منه ودست يدها خلف ظهرها
تنظر لعينيه التي كانت تخفي ابتسامة ماكرة وقد ظهرت واضحة
على شفتيه وسند يده على الخزانة بجانب رأسها بينما مد
الأخرى أمامها وهمس
" هات ما تخبئينه "
فالتصق جسدها بالخزانة أكثر حتى شعرت ببرودتها تتسلل عبر
قماش بلوزتها البيضاء الخفيفة والتي كانت بدون أكمام وبقصة
قصيرة عند بداية خصرها كاشفة عن بنطلون جينز غامق وصل
طوله لنصف ساقيها تزينه فصوص بيضاء تأخذ شكل مفتاح
موسيقي كبير عند فخذها الأيسر ، أمسكت ابتسامتها بأسنانها
تغرسها في شفتها دون أن تتحدث بينما كانت ترسلها عيناها
أيضاً لعينيه التي ابتعد نظرها عنهما وتستغرب من ضربات قلبها
التي لازالت تفقد سيطرتها عليها كلما كان قريباً منها هكذا !
خاصة وقد سند يده الأخرى بجانب رأسها ليحاصرها بين ذراعيه
كالفرسية ، وكانت فريسة بالفعل وقعت في غرام سجانها ..
وكيف لا تغرم بتلك الملامح الرجولية بالغة الوسامة القريبة منها
ولا تتوتر أطرافها جميعها وليس قلبها فقط فهي رأت الكثيرين
ممن تتغير نظرتها لهم ما أن تراهم عن قرب إلا هذا الوجه وسيماً
حد الوسامة عن بعد وكلما اقتربت منه اكتشفت بأنه أجمل
مما رأت .
اتسعت ابتسامتها وهي تحرر شفتها ببطء من قبضة أسنانها حين
همس ببرود وهو يدنوا برأسه منها
" هيا أقري بجريمتك قبل أن يصدر الحكم بدون استماع "
فأمالت رأسها بحركة طفولية وقالت بابتسامة رقيقة أعادتها
جميعها طفلة حجور بجسد امرأة وثياب نظيفة
" لا أصدق أن تكون قاضٍ ظالم "
واتسعت ابتسامتها أكثر حتى كانت تكاد تتحول لضحكة حين رفع
رأسه عالياً ترتسم ابتسامة حقيقة على شفتيه بينما لازال
يحاصرها بيديه وعلمت بأنه رآها تلك الطفلة لحظتها بالفعل كما
كانت متيقنة بأنه سيقاوم سلاحها ذاك وذلك ما حدث فعلاً حين
أنزل رأسه ونظر لعينيها ولازالت آثار تلك الابتسامة ترتسم على
شفتيه وملامحه بينما لمعت عيناه بمكر وقال ويداه تبتعد
عن الخزانة
" عليك قول ما لديك إذاً ثم نرى ما الذي يمكن الحكم به "
لوت شفتيها بامتعاض فها هو كما توقعت لن تنجوا منه كما لن
تتنازل عمّا بحثت عنه كثيراً وقالت بابتسامة مرتبكة
" وما عقوبة السرقة أيها القاضي ؟ "
واتسعت عيناها بصدمة ما أن همس بمكر مكتفاً يداه لصدره
" قطع يدك بالتأكيد "
ورمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تخرج يدها المقبوضة
وقالت باعتراض
" لا ليس عدلاً فهي لي "
مد يده وقال
" حسناً دعينا نرى ونحكم "
فتهدت بضيق وفتحتها متأففة وغرضها أن يراها فقط وكانت
القطع النقدية التي أعادتها له سابقاً مع خاتم الزواج حين كانت
غاضبة منه لكنه ألبسها الخاتم مجدداً ولم يعدهم لها وهو من
أرسلهم أول مرة وقت وصولها لمنزل عمها الحارثة وكانت
القطعتان النقديتان اللتان أعطتهما له في صغرها وكل ظنها أنها
ستكفي لشراء دواء والدته عندما ذهب لعمها يطلبه منه وهو
رفض ، بينما كانت الثالثة العملة الرومانية التي لم تكن تفارقه
في طفولته وكان يرميها عالياً في الهواء ويعود ويلتقطها في
حركات متتالية وهو يراقب الشارع أمامه بينما كانت هي تراها
اعجوبة لا يستطيع فعلها غيره تراقبه بانبهار .
كانت ثوان فاصلة بين فتحها ليدها وقبضها عليهم مجدداً كي لا
تخسرهم لكنها كانت كافية للذي تحركت يده كالبرق الخاطف
خلال تلك الثواني المعدودة حتى اعتقدت بأنها لم ترها ولم تشعر
بها لولا أكد لها ذلك العملة الوحيدة التي تبقت في يدها فصاحت
معترضة تضرب الهواء بقبضتها التي حوت العملة الرومانية فقط
فقد كان من السرعة أن اختار العملتين وأخذهما في لمح البصر !
ضربت الأرض بقدمها وقالت محتجة بضيق
" هذا ليس عدلاً فأنت من أعطاني إياها "
اعاد يده اليسرى بجانب رأسها يسندها على باب الخزانة ومال
برأسه نحوها هامساً بسخرية
" أخطأتْ ... "
وتابع بذات نبرته الساخرة وهو يشير لقبضتها بعينيه
" ثم ها نحن متعادلان وكلٌ أخذ نصيبه "
فنظرت ليدها وهي تفتحها وللقطعة النقدية النحاسية القديمة التي
تآكلت حوافها تقبع وسط كفها وأمالت شفتيها بعبوس ورفعت
رأسها له وقالت محتجة
" بل هذه لك ... "
وتابعت تشير بسبابتها ليده المقبوضة على باقي العملات
" وتلك لي "
وما أن مدت يدها لها رفع قبضته عالياً وقال بمكر وهو ينظر
لعينيها المعلقتان بيده عالياً ترمقها بضيق
" بل هذه لي لأنك قبضتِ ثمنها من خمسة عشر عاماً مضت "
فنظرت حينها لعينيه باستغراب وهمست ببلاهة
" قبضتُ ثمنها !! "
التوت شفتيه بابتسامة جانبية وقال
" أجل ووقت الدفع "
رمشت بعينيها باستغراب جعل ابتسامته تتبدل سريعاً لتلك التي
تعشق وتجعل ملامحه تزداد وسامة فحبست أنفاسها بصعوبة
وقالت تنظر لعينيه المحدقتان بها
" وماذا كان !! "
" تيم "
كان همسه خافتاً متأنياً وعميقاً لامس قلبها كفراشة وقفت فوقه
بنعومة حتى كانت تشعر بالأرض تختفي تحتها وكأنها تطير عالياً
وأسرت عيناه حدقتاها الذهبيتان اللتان التمعتا بالدموع سريعاً
وانفرجت شفتاها ببطء وهمست دون شعور منها
" أنت !! "
أنزل يده حينها وقال بملامح هادئة ساكنة بينما لم تفارق نظراته
عيناها التي برقت كقطعة ذهب نقي تبلل تحت اشعة الشمس
" أجل "
وتحولت ابتسامته لضحكة صغيرة كتمتها شفتاها حين قفزت
متعلقة بعنقه وقبّلته .. كانت قبلة طويلة لم يستطع قطعاً إلا
الاستلام لها وأنزل يده من الخزانة لخصرها يشد جسدها نحوه
وما أن اشتدت ذراعاها حول عنقه حتى شاركت يده الأخرى في
احتضانها بعد أن وضع القطع النقدية على السطح الرخامي
للأرفف السفلية من خزانة المطبخ بجانب الجزء الطويل منه
والموجود خلفها ، وكان ذاك الرنين الخفيف الذي صدر عنهما ما
جعلها تدفع جسدها من بين ذراعيه فجأة محررة لشفتيه وابتعدت
عنه وبحركة خاطفة واحدة نظرت نحوهما خلفها واختطفتهما
سريعاً وهي تركض مجتازة له ليوقفها بعد ركضها بخطوات
صوت رنين إحداهما خلفها لتكتشف حينها بأنها تمتلك واحدة
منهما فقط بينما سقطت الأخرى أرضاً تحت قدمي الذي كان يقف
مكانه ينظر ناحيتها ممسكاً لخصره بيديه وقال يرمقها بنظرات
عابسة وحاجبان معقودان
" يالك من مخادعة "
حركت كتفها وقالت مبتسمة بمكر
" لم تكن نيتي الخداع قطعاً لكنك من أتاح الفرصة لي أيها
القناص الأول "
همس بكلمة يونانية لم تسمعها جيداً ولن تفهمها وإن سمعتها
ومن ملامحه تدرك جيداً أنها لن تكون غزلاً ولا مديحاً وتراجعت
خطوة للوراء حين انحنى يرفع القطعة النقدية من الأرض تحته
وارتسمت الدهشة على ملاحها حين رماها نحوها ما أن استوى
واقفاً والتقطتها بسهولة ولن تستغرب هذا وأن يستطيع تقدير
المسافة بينهما ونظرت له حين اتكأ بظهره على الخزانة خلفه
وكتف ذراعيه لصدره لتتسع عيناها حين قال ببرود
" ألغينا اتفاق البيع إذاً "
" ماذا تقصد ؟! "
خرجت الكلمات مندفعة منها بسرعة تحدق فيه بذهول وكان
جوابه سريعاً أيضاً وهو يرفع حاجباً واحداً وينزله متمتماً
" أقصد أن نقودك لديك ولا مقابل لك لدي "
حركت رأسها برفض وقالت محتجة
" أنت أهم من ذلك بكثير .. لن تُقدّر بدرهمين لم يعد لهما قيمة
ولا في البلاد التي كانت تستخدمهما "
وكان رد فعله الوحيد أن حرك كتفيه بعدم اكتراث وتحرك من
مكانه يدس يديه في جيبي بنطلونه الجينز ومر بجوارها ونظر
لعينيها وهو يجتاز بينما همست شفتاه
" لديك نعم أنا لا "
فتبعته بنظراتها العابسة وهو يجتاز باب المطبخ بخطوات كسولة
بالرغم من أنه لا يمكن وصفها بهذه الكلمة مع تلك الهيئة
والشخصية المتفردة ومدت شفتيها في عبوس تعلن هزيمتها
رغماً عنها .. أو لا تعلم هل تسعد بكلماته تلك رغم إعلان
خسارتها ؟ فأن تكون تلك القطع النقدية مهمة لديه هكذا وأن
يبيعها نفسه بها أمر يجعلها التفكير فيه فقط تُجن به أكثر .
نفضت يدها مستسلمة وركضت نحوه وأوقفته تمسك بيده قبل أن
يصل لغرفته وأدارته نحوها ووضعت القطعتان فيها قائلة بضيق
" ولتعلم فقط بأنك أهم من أموالنا مجتمعة "
ورفعت نظرها له وقد تبدل كل ذاك الضيق لابتسامة غريبة مزجت
الحزن والحب والسعادة جميعها معاً يمكن قراءتها على صفحات
وجهها دفعة واحدة وفي العينان التي التمعت ببريق دافىء
واشارت لقلبها هامسة
" هذا فقط يمكنه تقدير ذلك "
فابتسم تلك الابتسامة الرقيقة التي تعشق مجدداً وقفرت للخلف
بضحكة صغيرة ما أن امتدت يده لها تعلم نيته جيداً وتراجعت
للوراء ما أن تقدم بخطوة نحوها ورمت القطعة النقدية الموجودة
في يدها والتي التقطها بسهولة قائلة
" وخذ هذه أيضاً لا أريد أن أدخل السجن بتهمة تهريب الآثار " .
تدلت دمعة جديدة من رموشها لتسقط في حضنها مباشرة
وانقبضت أصابع يدها بقوة حتى آلمتها ورفعتها لصدرها لا تعلم
تحضنها أم تحضن نفسها بها ولازالت العينان الدامعة تراقب
الظلام في الخارج تشعر بتعاستها تتعاظم وبأن تلك الذكريات التي
تجتاحها رغماً عنها لا تزيد حالها إلا سوءاً ، وتساءلت بمرارة
لما يفعل بها ذاك الرجل كل هذا ؟ لما لا يعتبرها زوجته وهو
يحرمها منه ونفسه منها هكذا ويقتلها بحجة أنه يحميهما !
رفعت قبضتها لشفتيها حين تغلبت عليها عبرتها أيضاً وكأنها
تمنعها بها وهمست بوجع ودموع عادت لكسر القيود مجدداً
تتقاطر من عينيها تباعاً
" لما لا يضعها مكان ماريه للحظة واحدة فقط ؟ "
*
*
*
ابتسمت ولازالت مغمضة العينين وهي تشعر بملمس يده أسفل
معدتها وصوت همسه بتمتمات مرتبة متتالية بينما كانت تضطجع
على جانبها الأيمن تتوسد ذراعها العاري ويتكئ هو خلفها تماماً
ملاصقاً لها ويسند نفسه بمرفقه مرفوع الجذع ، وببطء فتحت
عينيها لتواجها الأنوار الموزعة في الخارج كقناديل تتأرجح في
الفضاء بريق يخطف القلوب قبل الأبصار حيث الشرفة الموجودة
كواجهة زجاجية مقابلة للبحر وللجسر الممتد منه تمتد الأضواء
مع امتداد جانبيه الخشبيان في انحناء جعلها كموجة تزين الأنوار
المصطفة في أعمدة على امتداد الشاطئ المظلم قبلها وقاومت
ضحكة مكتومة وهي تهمس له
" لا يُتعبني و يبدو نائماً فدعه وشأنه "
وعادت لإغماض عينيها ببطء وانحبست أنفاسها حين شعرت
بنعومة ملمس شفتيه على عنقها والتفت ذراعه حول خصرها
يحضن جسدها فلازالت قبلاته كما لمساته في كل مرة تشعر
وكأنها الأولى وهمس قرب أذنها
" لم أكن احاول تهدئته بل أتحدث معه "
استدار رأسها له حينها ورفعت ذراعها وأحاطت عنقه به ونظرت
لعينيه وقالت باسمة
" وماذا كنت تخبره ؟ "
انتقلت يده لوجهها ولامست أصابعه نعومة خصلات غرتها
المتدرجة جانباً وقال مبتسماً
" كنت أوصيه على والدته وشقيقته "
فماتت ابتسامتها وظهر جلياً على ملامحها ما كان يصرخ به قلبها
حينها في ضربات مجنونة ، وفي تبدل استطاع ملاحظته بكل
سهولة عبّرت عنه كلماتها التي خرجت مرتجفة وكأنها
تجبرها بالقوة
" ماذا يحدث معك يا مطر ؟! "
ولم تستطع نظرة الاستفهام التي رأتها تكتسي ملامحه حينها أن
تجعل قلبها المضطرب بشدة يهدأ ولا أفكارها المشوشة حد
الشعور بالألم في رأسها بل وكافة أطرافها ولا ترقرق الدموع
الدافئة في عينيها وهي تهمس ببحة ونبرة مستجدية حزينة
" لن تموت أو تسافر مجدداً وتتركني وابنتك يا مطر لن
أسمح لك "
ارتسمت حينها ابتسامة تسللت ببطء لملامحه تعاكس كلياً الحزن
والفزع المرتسم على الملامح الفاتنة المقابلة له وقبّل كتفها
العاري صعوداً لوجنتها ثم طرف رأسها قبل أن يعود وينظر
لعينيها وقال مبتسماً
" لن أسافر وأترككم يا غسق .. "
واخترق طيف ضحكة صغيرة بحة صوته الرجولي وهو يتابع
" لكن أن لا أموت هذه ليست بيدي قطعاً فكيف أعد بها ؟ "
عادت الدموع للتكدس في عينيها وهمست ببحة
" تفهم جيداً ما أعنيه يا مطر "
تنهد مبتسماً ولامست أصابعه ذقنها ممرر إبهامه على نعومة
شفتيها المتوردة وقال بتأني ينظر لعينيها
" لقد عشت في خطر الموت طيلة الأعوام الطويلة الماضية ومنذ
وضعت على عاتقي حلم توحيد أقطار البلاد وكنت أخوض المعارك
بسلاحي مع رجالي وها أنا أمامك لم أمت فما الذي سأخفيه عنك
الآن قد يكون فيه هلاكي ؟ "
وانتقلت أصابعه لعينيها التي أغمضتهما ببطء ومسح الدموع
برفق ورقة عن رموشها وتابع بنبرة رجولية عميقة شابها طيف
حزن خفي
" أنا والموت لم نفترق أعواماً طويلة ولن نفترق لأنه قدرنا
وينتظر فقط أمراً منه سبحانه فهل يمكنك أنتِ أن تعديني بألا
تموتي ! "
وأبعد يده لطرف وجهها ففتحت عيناها وهمست بعتاب رقيق تنظر
لعينيه بحزن
" أجل هو قدرنا لكن هذا لا يعني أن نُفزع غيرنا بذكره وتذكره فقد لا يموت الإنسان حتى يكون هرماً "
تخللت أصابعه شعرها يلامس إبهامه وجنتها وقال ببعض الجدية
محدقاً في عينيها
" بل هو حقيقة علينا أن لا نتجاهل التفكير فيها كي تكون الدافع
لردعنا عن الخطأ "
تحركت شفتاها المطبقة في صمت قبل أن تتحرر الكلمات منها
قائلة بهمس حزين
" وإن يكن لا توصيه علينا فأنت من عليه رعايتنا جميعاً وهو
معنا حتى يكون رجلاً "
ابتسم واتكأ بجانب رأسه على ظهر السرير وقال ونظره لم
يفارق عينيها
" قد لا يعجبك نوع رعايتي له حينها "
تمتمت من فورها ببرود
" حينما يكبر يقرر بنفسه "
خرجت منه ضحكة صغيرة ولامست أصابعه حمالة قميصها
الرقيقة ينزلها من كتفها لذراعها وقال ونظره يتبع حركة يده
" وماذا إن اختار أن يكون كوالده "
أبعدت يدها عنه بحركة غاضبة وقالت
" عليه أن لا يتزوج مطلقاً حينها "
همس بضحكة خافتة
" إهانة مقبولة من والدته "
وارتفع نظره لعينيها مجدداً وما أن قالت ببرود
" ثم قد يكون أنثى "
حرك عينيه بتفكير لبرهة وقال ما أن عاد ونظر لعينيها وابتسامة
جانبية تزين شفتيه
" قلبي يقول عكس ذلك "
لكمت بقبضتها صدره العاري ناحية قلبه وتمتمت بعبوس
" لو أستطيع فقط أن أفهم قلبك هذا "
أمسك يدها ووضعها عليه يحضنها جهته وقال بتأني ينظر لعينيها
" وحدك من يستطيع التنقل عبر حجراته لكنك تصابين بالصمم ما
أن تدخليه محاولة فعلها "
زمت شفتيها بقوة في ضيق ودفعته بضربة من قبضتها وزحفت
مبتعدة عنه وعن السرير بأكمله وجلست أسفله تتكئ بظهرها
عليه وتحضن ركبتيها وفخذيها التي انكشفت بنزول قماش
القميص القصير عنها وشعرت بحركته واهتزاز السرير خلفها
حتى جلس على الأرض بجوارها وأمسكت يده بإحدى يديها
وشدها نحوه بينما لازالت تتجنب النظر له وتحضن ركبتيها
بذراعها ويدها الأخرى ، ولم تستطع منع رأسها من الاستدارة
نحوه ولا النظر له حين مرر سبابته في كفها قائلاً
" ما رأيك أن نلعب لعبة "
وحدقت في عينيه بفضول لازالت تقابل بعبوس الابتسامة التي
ارتسمت على شفتيه لتعطي معانٍ لا يمكن وصفها للوسامة
المتجلية في ذاك الشارب واللحية المشذبة بعناية يعكسها بياض
البشرة النقية والملامح الرجولية الحادة والعينان السوداء
الواسعة فكيف لها أن تلوم نفسها في عشق هذا المحيا !
ورغم كل ذلك تمسكت بضيقها منه تراقب عيناه التي تحولت
للنظر لكفها بين يديه وهو يقول
" إن خسرتِ فعليك أن تضحكي "
وختم كلماته بضربة خفيفة من يده اليمنى لكفها الذي لازال
يمسكه بالأخرى فغضنت جبينها باستغراب واقترب حاجباها
الرقيقان ونظرت لعينيه التي رفعهما لها مجدداً لازالت تلك
الابتسامة تزين شفتيه وكورت شفتيها الجميلة قبل أن تقول ببرود
" وكيف هذا أكون خاسرة وأضحك ! "
وارتفع حاجباها ما أن ضحك وضرب كفها بيده مجدداً لكن ضربة
أقوى هذه المرة وقال بضحكة
" ضحكك معناه خسارتك يا غبية "
فلم تستطع إمساك الضحكة التي تغلبت عليها مما جعله يفرقع
أصبعيه قبل أن يشير لها بسبابته قائلاً بضحكة
" قا قد خسرتِ "
ولم يزدها ذلك سوى ضحكاً ترفع رأسها تسنده على السرير
خلفها ونظرت ناحيته ودفعته من كتفه قائلة بضحكة
" تباً لك من محتال "
وعادت بنظرها للأعلى مبتسمة وأغمضت عينيها تستمع لصوت
الأمواج خلفها رغم هدوء البحر وتشعر بملمس أصابعه
المحتضنة لكفها وقالت مبتسمة
" كم أتمنى أن يتوقف الزمن "
وملأت صدرها بالهواء في تنهيدة عميقة أعربت عن كل
مشاعرها تلك تتمنى بالفعل أن لا تنتهي اللحظات التي جعلتهما
يجتازا كل تلك الجراح وكل الألم وتراكمات الماضي والحاضر
وكأنهما يلتقيان الآن فقط وتزوجا من لحظات قليلة فهذا المكان
تشعر معه بسحر ما غريب وكأن ما ينقصهما كان الابتعاد عن
كل شيء ! .
فتحت عيناها ونظرت ناحيته ما أن وصلها صوته العميق
الرجولي ببحته المميزة وهو ينظر عالياً متكئاً برأسه للخلف
مثلها بينما اكتسى الهدوء ملامحه
" أنا لا أريده أن يتوقف بل أن يركض سريعاً وسريعاً جداً "
وأدار رأسه ونظر لعينيها وتابع مبتسماً
" أريد أن اراه وهو فتي ... "
وافلتت ضحكة صغيرة من شفتيه تخللت صوته العميق وهو يتابع
" وأنتِ تسيرين خلفه غاضبة تهددينه بي وهو يتابع طريقه رأسه
كالصخر مثلك تماماً "
وضحك حين لكمته بقبضتها على صدره ضاحكة ولم تستطع
مقاومة الدموع التي ملأت عيناها رغم ابتسامتها فهذه المرة
الأولى التي يتحدث عن أحلامه وأن تحوي تلك الأحلام عائلته
فخرجت كلماتها متأثرة ببحة واضحة
" بل سيكون عظيماً مطيعاً لوالديه مثلك تماماً من صلبك
وتربيتك "
واغمضت عينيها وانصاعت له ما أن جذبها لحضنه تحيط ذراعه
بعنقها وقبّل رأسها والتفت ذراعها حول خصره تنام على صدره
وحيث تريد أن تبقى وتعيش للأبد .
فتحت عيناها ما أن شعرت بالقطرة المالحة تفارق رموشها نزولاً
ووقع نظرها على أثرها كبقعة متسعة بين أسطر الكلمات في
المصحف الكبير بين يديها فسارعت بمسحها بطرف كمها القطني
الطويل من عليه تخشى أن تتشربها أنسجة الورق موبخة لنفسها
ولا تعلم كيف انساقت مع ذكرياتها تلك حتى انفصلت عن العالم
تماماً !
وباتت رؤية الأحرف أكثر صعوبة وعيناها تمتلئ بالدموع مجدداً
لازالت تحاول تجفيف الورقة برفق ودون أي ضرر مهما كان
بسيطاً تلعن نفسها وفشلها ولا تعلم كم من عمر وأعوام تحتاجها
لتشفى من مرض ذكرياتها معه وهي تعود بها من حيث بدأت في
كل مرة .
أغلقت المصحف ووضعته جانباً وحضنت رأسها بيديها تسند
مرفقيها بالوسادة تحتهما وحيث كانت تضع مصحفها وتخللت
أصابعها خصلات غرتها الطويلة الناعمة التي انسابت من بينها
ورفعتها عالياً مع ارتفاع رأسها تهمس متعوذة بالله من الشيطان
ولا تفهم لما يزداد توترها كلما اقترب وقت المحاكمة التي سعت
لها رغم كل المخاطر والمعوقات ! تشعر بضيق مريع تعزي
نفسها في كل حين بأنه سيختفي ما أن ينتهي الأمر بطلاقها .
لا تريد أن تتراجع مجدداً ولا أن تضعف ويضيع كل ما فعلته
وأقحمت غيرها فيه معها لكنها أيضاً لا تفهم سبب القلق الذي
ينتابها في نوبات قوية متفرقة ! ومؤكد سببه توترها الغير
خاضع لسيطرتها ولازالت تعزي نفسها في كل مرة بأنه أمر
طبيعي بسبب ما هم مقدمون عليه وهي خصوصاً فأمامها الكثير
مما ستواجهه ويحتاج كل ذرة صمود منها وأمام جميع من لهم
صلة مباشرة بها ، فتشجع نفسها في كل مرة بأن الأمر سيكون
سرياً للغاية سيقتصر على السيد عقبة وقائد وابن جوزاء الحالك
وعليها أن تطمئن أكثر لهذا لا أن تغضب منه فعدم حضوره
سيكون في صالحها كما اختياره لذاك المحامي المبتدئ والأدلة
القوية الموجودة لديها بالرغم من أنها تمنت للحظات أن يكون
موجوداً ويقدم بنفسه تبريراته لا محاميه ..
لكنها تعود وتؤكد لنفسها بأن هذا سيكون الأفضل كي لا تعود
غسق الحمقاء في وجوده والتي تفقد كل قوتها أمامه .
مسحت عيناها بقوة من أثر الدمعة التي لم تفارقهما ما أن ارتفع
صوت الطرق الخفيف للباب مخترقاً الصمت الموحش وأفكارها
المتزاحمة بضجيج مزعج ودست خصلات غرتها خلف أذنيها
وحمحمت قبل أن تقول
" تفضل "
فهي تعلم هوية الطارق والزائر الوحيد لها هنا والتي تراها
ترفض حتى أن تكون إحدى الخادمات من تطرق بابها بينما
زوجها لا يقترب من هنا أبداً ويرسلها هي لها إن اراد التحدث
معها وفي مكتبه .
اغتصبت ابتسامة أجبرت شفتيها عليها وإن لم تخفي حزن عينيها
المرهقة امتناناً للتي دخلت مبتسمة تمسك في يدها صينية تحوي
الكوب الكبير ذاته والممتلئ بالحليب الأبيض النقي بينما أغلقت
الباب بيدها الأخرى وتوجهت نحوها قائلة بابتسامة جميلة
تشبه قلبها
" لابد وأنه ينتظرني بشغف وبات يحبني "
وضحكت وهي تضع الصينية على الطاولة بقرب الاريكة التي
كانت تجلس عليها فقالت محرجة
" بل كلينا علينا الاعتذار منك "
ورفعت يديها تأخذ الكوب منها ما أن ناولتها إياه بنفسها ككل مرة
وقد لامست أصابعها كفاها قائلة بحان ظهر رائعاً في عينيها
الباسمة
" تشعرينني بأني ضيف ثقيل كلما سمعت هذا "
فاتسعت عيناها بصدمة وكانت ستبرر لولا سبقتها وهي تجلس
بجانبها بينما يستدير جسدها نحوها قائلة بابتسامة
" أعلم ما تريدين قوله وأفهمك بنيتي ... "
وتابعت بابتسامة متسعة ويدها تربت على فخذها
" هيا اشربيه بأكمله أريده أن يعلم أن جدته لم تنساه "
فالتمعت عيناها بحزن وامتنان وهمست ببحة
" ما أسعده بهذه الجدة "
ورفعته لشفتيها تشرب منه بينما قالت تلك باسمة
" أجل فلولاها كانت والدته ستقتله جوعاً "
أبعدت الكوب وقالت تبادلها الابتسامة وإن لم تصل لعمق
ابتسامتها تلك
" كيف يموت جوعاً وأنتِ لا تغادري إلا وصينية الطعام معك ؟ "
تنهدت حينها وقالت بعتب بينما تابعت هي الشرب على دفعات
صغيرة متتالية
" وتُسمين تلك اللقيمات التي أجبرك عليها طعاماً ! "
وتابعت حين لم تعلق سوى بأن أخفضت نظرها بحزن
" ألا ترين بهوت بشرتك والتعب الواضح في العينين
الجميلتين ؟ "
ووضعت يدها على كتفها وتابعت بحزن
" أنتِ تقسين على نفسك وعليه هكذا يا غسق "
أبعدت حينها الكوب الذي أصبح نصفه فقط مملوءاً بالحليب
وانزلته لحجرها تحضنه بكلتا يديها وقالت بحزن مماثل ونظرها
شارد للفراغ
" مرحلة وسنجتازها معاً ويتغير كل شيء حينها "
" متأكدة ؟ "
نظرت لها سريعاً بينما تابعت التي قالت بجدية تنظر لعينيها
" عليك أن تكوني واثقة يا غسق أو ستكون تلك المرحلة
مجرد موت بطيء لن ينتهي أبداً "
أنهت عبارتها تلك بعزم قوي بالرغم من أنها شعرت بتأنيب
الضمير للحظات وهي ترى الحزن والكثير من الوجع في عينيها
بسبب كلماتها لا إقراراً منها بحقيقتها لكنها عازمة على المتابعة
مهما كانت قاسية عليها فمسحت يدها على ظهرها بحنان قائلة
" تابعي شرب ما في الكوب لأحكي لك عن صديقة قديمة لي
كانت تتحدث معي قبل قليل "
وضعت الكوب في الصينية قائلة
" لا يمكنني شرب المزيد حقاً "
فقالت بضحكة تراقبها وهي تسحب منديلاً ورقياً وتمسح
شفتيها برفق
" لم أستطع ولا لمرة واحدة إقناعك بشرب كل ما فيه "
نظرت لها وقالت
" أنا لست من عشاق الحليب ويعد هذا إنجازاً حقيقياً "
وتابعت بابتسامة صغيرة وهي تضع المنديل في الصينية
" ثم لا تنسي بأنه ليس الوحيد يومياً "
واستوت في جلوسها مقابلة لها تنظر لعينيها تنتظر بأدب أن تقول
ما كانت تريد قوله وشعرت بألم غريب حين خرجت تنهيدتها
الحزينة مع شرود عينيها بحزن بعيداً عنها وكأنها تسترجع ذكرى
قديمة قاسية وقالت
" إنها صديقة قديمة لي كانت ابنة جار لنا حين كنت وأهلي نسكن
الهازان وكانت تكبرني بعامين أحبت شاباً وأحبها وكانت متعلقة
به كثيراً ، لم تكن علاقة طويلة تلك التي ربطتهما قبل أن يصبحا
زوجين بل عظمت وتوطدت بعد زواجهما لكن العائق في حياتهما
كانت عائلته خاصة وأنهما يعيشان في غرفة معهم في ذات
المنزل لظروف البلاد ذاك الحين وصعوبة توفير لقمة العيش
فكيف بمنزل مستقل "
تنهدت بعمق وحزن مجدداً وتابعت
" لم نكن على تواصل دائم بعد أن تزوجت لعيشها بعيداً عني بعد زواجها منه وكانت زياراتها لعائلتها نادرة جداً قبل طلاقها منه "
تنقلت نظراتها الحزينة في ملامحها وشعرت بغصة في حلقها وهي تهمس
" تطلقا ! "
اومأت لها إيجاباً وتابعت بذات النبرة الحزينة كما الشرود الحزين
" كانت تحبه كثيراً وجعلها بالفعل تتعلق به بسبب تعامله معها
وهذا ما كان يجعلها تستحمل كل ما كانت تعانيه من قسوة من
والدته وشقيقته على أمل أن يتمكنا يوماً من الاستقلال في منزل
يخصهما لتكمل حياتها معه دون أن تخسره ، وبعد أن حملت
وأجهضت لأكثر من مرة والسبب واحد وهو أعمال المنزل الشاقة
التي كانت تقوم بها لوحدها مع تحذيرات الطبيبة لها بأن حملها
لا يمكن أن ينجح إلا بالراحة والأعمال الخفيفة جداً لمشاكل في
رحمها حينها أصبحت تفكر وبجدية في أنه عليهما الخروج من
هناك فلا جسدها ولا نفسيتها ولا أجنتها يمكنهم استحمال كل ذلك
ولم تعد عبارات زوجها الممتنة ولا حبه لها أو مشاعرها نحوه
تساعدها على الصمود أكثر "
لاذت بالصمت للحظة قبل أن تنظر ليديها وتابعت
" حتى كانت المرة التي اتصل فيها بها شقيقها ووجدها تبكي
وكانت تلي إجهاضها الأخير وكانت عائدة من عيادة الطبيبة للتو
متعبة نفسياً قبل التعب الجسدي وتشاجرت مع والدة زوجها فور
وصولها ولأول مرة تتحدث منذ أعوام عاشتها معهم خادمة
مطيعة تسمع دون أن تعلق ولا بكلمة فلم تراعي تلك المرأة أنها
أجهضت للتو ومتعبة ولا تحتاج توبيخاً لأعمال كان الأولى
بابنتها أن تفعلها ، وما أن سألها شقيقها عن حالها حتى انهارت
باكية وهي التي لم تشتكي لعائلتها يوماً خاصة وأنهم يحبون
زوجها كإبن لهم لحسن تعامله معهم وحين ألح عليها شقيقها
لتحكي له عمّا يضايقها تحدثت لأنه كان غاضباً ويظن أن زوجها
السبب وهو الذي لم يجرحها بكلمة يوماً ، ولم تكن تتخيل أن
تنهي تلك المكالمة معه وهي تبتسم بسعادة بعد كل ذاك البكاء فقد
أخبرها بأن صديق له مسافر هو وعائلته ومنزله قريب من منزل
عائلة زوجها هناك وبأنه ألح عليه كثيراً كي يتزوج ويعيش فيه
ليحفظه له خاصة مع ظروف البلاد وأنه تعرض للسرقة مرتين
ولأن شقيقها بحكم عمله يزور المنطقة التي تعيش فيها هناك من
حين لآخر لكنه لم يستطع لأنه وحيد أبويه ، كانت ليلتها تنتظر
بلهفة عودة زوجها لتخبره بأنه يمكنهما العيش في ذاك المنزل
وأن حلمها بالاستقلال وإنجاب أبناء لتكون لهما عائلة وحياة
سعيدة قد تحقق أخيراً لكنها لم تتوقع قط التبدل الذي رأته في
ملامحه فور إخباره وكان وجود والدته وشقيقته وحيدتان بعد
وفاة والده حجته الأولى والتي لم يجدي معها محاولاتها لإقناعه
بأنه سيكون قريباً منهما فالمنزل لا يبعد كثيراً عن منزلهم
يفصلهم شارع واحد فقط ، وكانت المرة الأولى التي يرفض لها
فيها طلباً وهو الذي لا تسمع منه كلمة لا في أمر وبدأت علاقتهما
تتخذ منحى آخر منذ ذاك اليوم وحين علمت بأن حلمها لا يمكن
تحقيقه مهما طال الوقت ، واعترفت لي بنفسها أنها باتت
عصبية معه بشكل خاص وبدلاً من صبرها وكتمانها عن أفعال
عائلته كما كانت تفعل سابقاً بات هو متنفسها بينما لم يكن يقابل
هو كل ذلك سوى بالصبر وكل ما يفعله بعد أن تنتهي ثورة
غضبها والذي كان يشتعل لأتفه سبب وكأنها تبحث له عن الزلة
الصغيرة فور وصوله منهكاً من عمله أن يمسك رأسها ويقبله ولا
يقول سوى كلمة واحدة ( أحبك ) قبل أن يتركها وينام دون حتى
عشاء لأنها لم تحضره له فلا يخرج للمطبخ لتناول أي شيء ،
لكنها لم تعد ترى ذلك إلا استغلالاً منه لعاطفتها نحوه ومحاولة
تحريكها بها كيف يشاء بأفعاله تلك وباتت تقيس كل فعل له بتلك
النظرة حتى علمت والدته بما كانت تخطط له وازدادت معاملتها
لها سوءاً فقررت القرار الذي أصرت بأنه لا تراجع لها عنه
وغادرت منزل زوجها وعادت لمنزل أهلها واشترطت عليه أن
يوافق على الانتقال لذاك المنزل أو أن يفترقا وبشكل نهائي
وساندتها عائلتها في قرارها ذاك بعد علمهم بكل ما كانت تخفيه
عنهم طوال تلك الفترة ورغم مجيئه لمنزل عائلتها عدة مرات
لتعود معه إلا أنها كانت مصرة على رأيها ورفضت حتى طلبه
المتكرر لأن يتحدث معها ووضعته في خيار حقيقي بينها وبين
عائلته واختارهم هم نهاية الأمر "
وابتسمت بمرارة وهي تتابع دون أن تنظر للتي امتلأت عيناها
بالدموع تأثراً بكل ذلك
" كانت ورقة طلاقها صدمة كبيرة بالنسبة لها وعندما أعطاها
إياها شقيقها أغمي عليها ودخلت المستشفى فهي توقعت بأن حبه
لها أكبر من أن يتخذ قراراً كذاك وبأنه لن يتخلى عنها وهي التي
تحملت كل ما رأته من ظلم من عائلته وصبرت من أجله ، لقد
توقعت جميع السيناريوهات إلا ذاك وعانت كثيراً فترة الثلاثة
أشهر التالية وبتهور وافقت على الخاطب الذي تقدم لها فور
انتهاء عدتها وكأنها تنتقم منه بذلك لكنها كانت تنتقم من
نفسها فقط "
تنهدت بأسى ومسحت وجهها بكفاها والدموع التي لم تفارق
عينيها ونظرت لها وقالت بحزن
" حتى اليوم واللحظة يا غسق لازالت نادمة وكلما اتصلت بي
بكت وهي تتحسر على قرارها ذاك "
وتابعت بأسى حزين وهي تشير لنفسها
" في عمري هذا وهي تكبرني بعامين لم تستطع نسيانه مهما
حاولت وتبكي حتى مقاومتها لنفسها كي لا تخون زوجها الحالي
ولا بقلبها بينها وبين نفسها وعاشت التعاسة باقي سنوات حياتها
ومن دونه "
وعادت بنظرها للفراغ متابعة بحزن عميق
" قالت لي مرة قبل أعوام : لقد عشت تعيسة في جميع الأحوال
فليتني عشتها معه ولا تضاعفت من دونه "
وابتسمت بمرارة هي أقرب لضحكة متألمة وقالت
" ولغرابة القدر أن شقيقته تلك تزوجت بعد طلاقها منه بعام
رغم كبر سنها ووالدته مرضت مرضاً لم يستطع جسدها تحمله
أكثر من عامين وتوفيت "
شهقت حينها غسق وهمست بحسرة وألم
" ليتها انتظرت قليلاً "
نظرت لعينيها الدامعة وقالت بجمود وإن لم يفارق الحزن عيناها
" بل ليتها استطاعت أن تكون سعيدة بعيداً عنه فزوجها الآخر
بالرغم من أنه لم يكن قاسياً معها فقد كان جافاً للغاية جعل
حسرتها على تلك الأيام تزداد أكثر "
وسحبت نفساً عميقاً قبل أن تتابع بحزن وقد عادت للنظر لعينيها
" تصوري أن زوجها السابق لم يتزوج حتى اليوم ؟ يعيش وحيداً
في منزل عائلته القديم ذاته رغم مقدرته على شراء غيره وأفضل
منه ألف مرة وأغلب الناس قد تركت تلك البيوت القديمة منذ
زمن أو رممتها ! حتى أنه لم يغير أو يجدد فيه شيئاً لا أعلم
يعاقب نفسه أم يرفض الابتعاد عن ذكرياتهما فيه ؟! "
وحركت رأسها متحسرة وهي تتابع
" كان قراراً متسرعاً من كليهما فرفضت هي التنازل ورفض هو
جرح كرامته ودفعا ثمن ذلك تعاسة أبدية سبهها كان ورقة تم
إمضاؤها في المحكمة مجاناً بينما كان ثمنها فيما بعد غالياً جداً "
ولامست يدها ذراعها بحنان وقالت تنظر لرموشها المنسدلة
في حزن
" أنا لا أريد بما قلت يا غسق أن أشبهك بها ، صحيح قصتكما
مختلفة لكني أخشى أن تنتهي لنهايتها لأنها اتخذت قراراً تجاهلت
فيه عواطفها كما فعل هو تماماً وكان الثمن قاسياً جداً .. أقسى
من جرح الكرامة ومن التنازلات "
وأبعدت يدها عنها ما أن أنزلت رأسها ونظرت ليديها التي كانت
تشدها ببعضهما بقوة وكأنها تفرغ مشاعرها فيهما حتى احمرت
مفاصل الأصابع شديدة البياض والنعومة فامتدت يدها نحوهما
وأمسكتهما وقالت بهدوء حزين تنظر لما يظهر لها من وجهها
" ليس كل رجل يمكن نسيانه يا غسق فكيف إن كان ذاك الرجل
مطر شاهين ؟ شعب بلاد كاملة وأغلبهم لم يروه سوى على
شاشات التلفاز لا يستطيعون انتزاع حبه من قلوبهم فكيف بامرأة
هي زوجة له عرفت حضنه وقربه ؟ "
رفعت رأسها حينها ونظرت لها وقالت بعبرة مكتومة وأسى حزين
عيناها تمتلئ بالدموع مجدداً
" أنا أحتاج أن أكون قوية في هذا لا أن أتراجع عنه أرجوك
يا خالة "
حركت رأسها وتنهدت في حيرة وقالت ويدها ترتفع لجانب وجهها
حتى لامست خصلات غرتها الناعمة
" وأنا أريدك قوية في قرارك كما في اتخاذه أيضاً وأن تكون قوتك
في التفكير في عواقبه متساوية أيضاً "
وأبعدت يدها عنها ما أن أشارت لنفسها وقالت والبكاء يخنق
صوتها لأول مرة
" وكرامتي ؟ هل ترضى امرأة بكل ما فعله بي وإن كان مطر
شاهين ؟ "
وضربت بسبابتها على صدرها وهي تتابع بحرقة
" أترضى امرأة بأن يستغل الرجل مشاعرها اتجاهه لتغفر أخطاءه
في كل مرة دون أن يهتم لجراحها المتراكمة منه ؟ "
وسالت أول دمعة من عينيها وقالت بعبرة
" ليته أنصفني لمرة واحدة فقط لأجدها لكبريائي المكسور حجة
وأقدمها لكرامتي المذبوحة عذراً "
وغطت شفتيها بظهر كفها وأصابعها ما أن ارتجفتا وبكائها يزداد
تدريجياً وقالت التي امتلأت عيناها بالدموع ومسحت
على ذراعها
" إن لم تكوني واثقة من تجاوز مشاعرك لكل هذا فلن تداوي
كرامتك التي ضحيت من أجلها جراح ابتعادك عنه ووجوده
بعيداً عنك يا غسق "
سالت الدموع مجدداً من عينيها وصرخت بحرقة تضرب بقبضتها
ناحية قلبها
" أعلم بأني أضعف من أن أنتصر على حبه في داخلي لكني
سأنتزعه من مكانه وأقتله إن هو أثناني عن فعل ما أنا
عازمة عليه "
واشارت لنفسها وهي تتابع ببكاء
" كان اعتبرني كأي فرد من شعبه الذي لم يظلمه يوماً .. كان
اعتبرني غريبة عنه وأنصفني لمرة واحدة في الخمسة عشر
عاماً التي مضت يقتل فيها غسق في كل ثانية "
وسحبت الهواء لصدرها في عبرة متقطعة قبل أن تعود
وتقول ببكاء
" لم أشعر يوماً بأنني أنتمي لأحد عشت غريبة كل حياتي مع
عائلة اكتشفت بأنها ليست عائلتي ثم مع عائلة عشت غريبة
بينهم لأكتشف بعد أعوام طويلة أنهم هم عائلتي الحقيقية !
بينما كان هو يعلم كل ذلك ويخفيه عني "
وبدأت تعد على أصابعها بينما نظراتها الدامعة على عيني
الجالسة أمامها متابعة بوجع
" والد يموت ووالد ميت يعود للحياة وطفلة أنجبها من رحمي
قطعة مني تؤخذ مني وأول وآخر ما سمعته هو صرختها
وقت ولادتها "
وتقاطعت عبراتها وهي تحكي عن أكثر ما يؤلمها ويبكيها بوجع
تشير بيدها لنفسها
" ثم تعود شابة تحاول لملمة عائلة تشتت بسببه وتبحث عن
حضن أم تشعر بالضياع فيه لأنها لم تستطع أن تهبها ما حرمت
منه معها مهما حاولت "
كانت الجالسة مقابلة لها تمسح دمعاتها المتسربة كل حين تنظر
لها بحزن وقد عادت للعد بأصابعها مجدداً وبحركة غاضبة ونبرة
باكية بألم
" خيانة تلو الخيانة و امرأة تتحول بسبب ذلك وباعتراف منه
لمقالات في الصحف وسخرية في أعين الناس وأحاديث تسلية
لشعب دولة بأكمله "
وحركت رأسها بقوة ونبرتها تتبدل للجمود فجأة وإن لم تتوقف
عيناها عن سكب دمعتها بالتتابع قائلة ببحة
" أنا لا أشبه صديقتك تلك لأن زوجها احترمها وأحبها وإن لم
يكن عادلاً بينها وبين أهله لكنه لم يجرح كرامتها يوماً وبكافة
الطرق وعلى الملأ كي لا يجد له قلبها سبباً تكرهه به مستقبلاً
وتواجهه به "
وخانتها عبرتها الموجعة لتلحق بدموعها بينما يدها تضرب
على قلبها "
سحقاً لهذا سحقاً إن أجبرني على الغفران مجدداً .. لا أريده فليمت
وأموت معه أشرف لي وله "
ودخلت في نوبة بكاء موجع تحضن وجهها بيديها فحضنتها فوراً
وضمتها لصدرها تمسح بيدها على شعرها تشعر بقلبها ينفطر مع
كل شهقة وعبرة تخرج من بين أضلعها فيبدو أن قصة صديقتها
تلك لم تجدي في شيء غير زيادة أوجاعها لذلك قررت أن لا
تخبرها بأقسى جزء منها وما جعلها ترويها لها الآن وهو سبب
اتصال تلك الصديقة بها اليوم وهي تخبرها باكية بأنها علمت قبل
ساعات بموته وحيداً في منزله ذاك وقد وجده أحد الجيران ميتاً
في غرفته وفوق سريره والناس تتناقل هناك ما وجدوه حينها
وهي الغرفة القديمة التي كان ينام فيها عمرها أعوام طويلة وهي
ذاتها غرفتهما في الماضي ، وكان هذا ما جعلها تتشجع وتتحدث
معها في الأمر ولأول مرة منذ أصبحت هنا ويبدو عليها أن لا
تفكر في فعلها مجدداً .
لكنها ليست نادمة أيضاً فها هي دفعتها للتحدث على الأقل بدلاً من
الكتمان في داخلها فمنذ أصبحت هنا لم تراها بكت ولم تتكلم أبداً
وتعلم جيداً بأنه مثلما ترفض معدتها الطعام تأبى عيناها النوم
والراحة بالتأكيد .
همست تسمي الله بحزن وهي تمسح على شعرها وقبلت رأسها
تدفن شفتيها في نعومة الشعر الحريري المجموع في الخلف
تتذكر كلماتها الباكية وهمست بوجع
" كسر الله قلب كل امرأة تحاول كسر أخرى "
*
*
*
|