*
*
*
تقدمت خطواتها ببطء ناحية الظهر والأكتاف العريضة
للجسد الرجولي الطويل أمامها جبينها الصغير ينقبض
باستغراب يقترب معه حاجباها الرقيقان ولم تستطع سماع
شيء مما كان يُقال حتى وقفت خلفه بعدة خطوات وسمعت
فقط صوته العميق المنخفض وهو يجتاز الواقفة أمامه
لينزل السلالم
" شكراً لكما "
كانت كلمات مختصرة قالها للتي لم تنم ليلة كاملة قد هجر
النوم عينيها حين قررت أن تسبق والدتها في استيقاظها
لتعد الخبز بنفسها وصعدت به وجلست منتصف السلالم
تنتظر أن تسمع صوت باب غرفته وهي التي تعلم بمغادرته
باكراً بينما كانت أذنها الأخرى كما عيناها تراقبان الطابق
السفلي كي تسمع أو ترى والدتها إن استيقظت قبل خروج
عمير من غرفته ، ورفرف قلبها كفراشة سجينة تم فك
أسرها فجأة حين سمعت باب غرفته يُفتح أخيراً وهبت
واقفة وصعدت العتبات تكاد تقفزها كل اثنتين في واحدة
وتصنعت المفاجأة حين وجدته أمامها ..
بل حين وجدها أمامه فهو من ظهرت على وجهه تعابير
الصدمة الحقيقة حينها فارتسمت على شفتيها ابتسامة
واسعة لم تستطع مقاومتها وهي تراه أمامها وكأنها لم تره
من قبل .. بل وفي كل مرة تشعر بأنها المرة الأولى التي
تراه فيها بعد عودته للوطن مع زعيمه ..
فارقها شاباً وسيما حُبه لها جعله يفعل كل شيء من أجلها
حتى أنه ترجاها وقت رحيله كما لا يفعل أي رجل أن تنتظره
لأعوام قليلة فقط ويعود .
وها هو عاد بعد كل تلك الأعوام الطويلة رجلاً امتزجت فيه
الرجولة مع الوسامة وتبدل الشاب الوسيم دائم المرح
لرجل أكثر اتزاناً ورجولة طاغية وهيبة ومرتبة عالية سلب
لبها وجعل ندمها يشتعل بقلبها ودون رحمة لأنها خذلته
وكسرت قلبه ، ولم تنسى لحظة منذ عودته نظرة الانكسار
التي رأتها في عينيه قبل أربعة عشر عاماً مضت وهي
ترفض طلبه بكل قسوة وأنانية .
وما لم تكن تعلمه بأن الواقف أمامها لم ينسى مثلها تماماً
تلك اللحظة التي فصلت بين عمير الماضي والحاضر ..
بين ذاك الشاب الذي كان يتّبع اختيارات قلبه وهذا الرجل
الذي بات لا يتصرف إلا بما يقوله عقله أولاً ..
بين العاشق بتهور والمحب بعقلانية وتروي ، فهي لم تكن
تستطيع رؤية كل ذلك بسبب غرورها وأنانيتها التي لم
تتغير مع نضوجها من صبية لامرأة وأنه مثلها تماماً قارن
الماضي بالحاضر لكنه لم يجد أي تغيير كما وجدته هي
لازالت تعتقد بأن الاختيار لها وحدها وبأنها فقط من يقرر
مشاعره وقراراته ولم تترك لها نرجسيتها مجالاً لتعلم أنه
ليس ظاهره ووضعه المادي فقط ما تغيرا بل ومشاعره
نحوها أيضاً حتى تحول لشعور بغيض بالتملك أعماها عن
كل شيء فالمميز لها وحدها دائماً كما حدث حين رفضت
انتظاره قبل أعوام لتتزوج بمن هو أكثر مالاً منه ، وحين
خسر ذاك الزوج جزءاً كبيراً من ثروته لم تعد تراه كما
كان وأحالت حياته لجحيم بسبب رفضها للواقع الذي
صارت له لتجد فجأة حبها القديم أمامها كفارس أحلامها
الذي لم تجده يوماً وكل ما أخبرها به عقلها المريض
بالتملك وحب المال بأنه عاد فقط من أجلها .. ليؤكد لها ذلك
سعيه لطلاقها وقرار جلبهم للعيش معه ، ومع كل تلك
الأفكار الواهمة ورغم تزوجه من غيرها ورفضه الصريح
لها باتت ترى أن معركة استرداده من حقها وأمر مشروع
تماماً ، وأن تلك الغريبة هي الدخيلة بينهما ومن سلبتها
حقها وأحد ممتلكاتها .
ذبلت ابتسامتها ما أن أسدل جفنيه مبعداً نظره عنها للأسفل
وانخفض رأسه قليلاً لكنها وكالعادة لم تستسلم ولن تفعل
كما كانت قد قررت سلفاً فستكون زوجة له وتعود حبيبته
ومهما كلفها ذلك ، ارتسمت ابتسامة ذابلة على وجهها لا
تقارن البتة بسابقتها فلازالت تعزي قلبها بأنه يتجنبها لأنها
لم تكمل عدتها بعد كما قال سابقاً وانتقلت نظراتها بشغف
في ملامح وجهه التي لا يظهر لها منه سوى نصفه ، وحتى
الشعيرات البيضاء القليلة عند صدغيه لا تراها تزيده إلا
هيبة ورجولة فتنهدت نفساً عميقاً خرج من عمق شجونها
وكأنها تتعمد إيصاله له وتمنت أن ترجمته بكلمات وأن
لامست أصابعها المتلهفة وجهه وخصلات شعره الناعم
تمني نفسها بالكثير وبالوقت القليل لنيل كل ذلك ، وخرج
صوتها هادئاً وبكل ما استطاعت أن تضيف له من نعومة
طبيعية خالية من الدلال
" صباح الخير يا عمير "
وتابعت من فورها دون أن تنتظر تعليقه في ارتباك مخافة
أن يذكرها مجدداً بالحبل الذي التف حول عنقها حتى
بفراقها من ذاك الرجل وقالت تنظر للطبق الممتلئ بالخبز
تغطيه منشفة
مطبخ بيضاء ناصعة طبعت عليها صوراً
جميلة لخبز فرنسي
" لن تختار الخروج من دون تذوق خبز والدتي الشهي
بالتأكيد "
وختمت جملتها تلك بضحكة صغيرة قصيرة ومنخفضة
ورفعت نظرها له بلهفة تنتظر تعليقاً منه لعلها تجذبه لأي
حديث معها وهو من تجنب ذلك بقسوة منذ عودته
والتقائهما مجدداً لكن سرعان ما عادت تلك الابتسامة
لمهدها تعاني الاحتضار قبل أن تموت وتدفن مع سابقتها
حين لم يبدر منه أي رد فعل ولا ابتسامة ولا حتى أن نظر
ناحيتها بينما أشغل نظره بمفاتيحه التي أخرجها وأعادها
لجيبه سريعاً وقد أصدر صوت اصطدامها ببعضها رنيناً
متداخلاً عبث بصمت المكان المتسع حولهما قبل أن يجتازها
وهو يهمس بالعبارة اليتيمة الوحيدة يشكرهما فيها ودون
أن يجعل حتى عبارة الشكر مخصصة لها فابتلعت غصتها
مع ريقها نظراتها المتأسية تتبعه تعزي نفسها ككل مرة
بأنه عقاب منه هي تستحقه ومستعدة لتحمله حتى يرضى
عنها ويعود عمير الذي عرفته وأحبها بشغف .
واختفى جسده الطويل عنها بسبب خطواته الواسعة وهو
ينزل السلالم مسرعاً واكتشفت حينها بأنها ليست وحدها
في المكان الذي تركها فيه ونظرت سريعاً ناحية التي باتت
تقف على مسافة قريبة منها والتي النظر لها فقط هكذا
والبيجامة المصنوعة من الحرير تحتضن جسدها المستدير
وشعرها البني الطويل الكثيف الناعم يغطي كامل ظهرها
والملامح التي جمعت بين صنوان والحالك لانتمائها لقبيلة
غزير تجعل نيران الغيرة تتقد في داخلها مُحرقة كل شيء
فهذه لا يمكن لرجل بكامل قواه العقلية مقاومتها وهي
زوجة له فكيف إن كان قارب الأربعين عاماً دون زواج !
لكن ما جعل البهجة تتسلل كالماء البارد تطفئ لهيب النار
في قلبها هو ما لمحته خلفها وكان الباب المفتوح للغرفة
المجاورة للتي خرج منها ذاك قبل قليل وأغلقه خلفه مما
يعني أنه لازال كل واحد منهما ينام في مكان ، فها هو
قاومها ولم يقترب منها كما هو جلي أمامها مما يعني أنه
ثمة سبب آخر لزواجه بها ، وكم تمنى قلبها المتقافز بين
أضلعها حينها أن تكون هي ذاك السبب وبأنه عتاب من نوع
آخر فقط يوجهه لها ، وإن كان غير ذلك فلا بأس المهم
ليس رغبة بها أو حباً لها .
أفكارها تلك جعلت الابتسامة تشع من وجهها وكأنها لم تكن
غائبة عنه تماماً قبل ثوانٍ معدودة والتي سرعان ما
اختلطت بسخرية أقرب للشماتة وهي تنظر لعينيها المحدقة
بها بتجهم خالطه الكثير من الاستغراب لازالت أثار قلة
النوم والبكاء الطويل يوم أمس تجهدهما وتحركت شفتاها
قائلة وهي تحضن طبق الخبز تحت ذراعها
" طلب عمير أن أتركه لك بعد أن أخذ واحداً معه
وهو يغادر"
وأتبعت كلماتها تلك بابتسامة ملتوية تخفي ضحكة وكأنها
توصل لها رسالة مفادها بأنها تسخر منها ولم تستطع تكهن
إن كانت استمعت لحديثها معه كاملاً أم وصلت متأخرة ؟
لكنها توقعت الأخيرة والحقيقية فعلاً وأنها لم تسمع سوى
آخر كلمات له فأضافت ما أضافته من مخيلتها لتكمل
رسالتها لها وقالت حين لم تعلق الواقفة أمامها بشيء كما
لم تتبدل نظراتها تلك
"إن كنتِ لا تفضلين خبز المنزل آخذه معي كي
لا يفسد هنا "
وكما توقعت فقد همست الواقفة أمامها وإن ببرود قاتل
" شكراً لك "
فاستدارت من فورها مبتسمة ابتسامة اختفت فور نزولها
وهي تهمس بكراهية وصوت لم يسمعه غيرها
" ما كنت لأتركه لك ولا أحرقت أصابعي من أجل
ريفية مثلك "
وتابعت نزولها ونظرات من تركتها في الأعلى تتبعها وهي
تدندن لحناً ما تلعب يدها الحرة بخصلات شعرها التي لا
يغطيها حجابها المنزلق للخلف طوال الوقت فشدت على
أسنانها بقوة وغضب منها ومن عجرفتها والكره الذي لا
تفهم تفسيراً له ناحيتها ! بل والأسوأ من كل ذلك تعدّيها
على خصوصيات غيرها فالطابق مكشوف بالكامل تقريباً
للسلالم الذي يتوسطه فتصعد وتنزل في أي وقت تريد ولا
تُعير لحرمة المكان بالاً وبأنه ثمة رجل وزوجته هنا وكأنها
تتعمد هذا متعذرة بخبزها مجدداً !!
اتسعت عيناها بذهول حين لاحت تلك الفكرة في رأسها ..
فهل تفعل كل هذا لتصعد لابن خالها !
هي باتت مطلقة من فترة قريبة فهل تسعى خلفه !
حركت رأسها بقوة ولم تفهم هي نفسها تكذيباً لأفكارها
أم نفياً لها ؟
وتأففت مستغفره الله وهي تستدير لتعود من حيث جاءت
فلن تتهم وترمي محصنة وإن بأفكارها فقط ودون دليل
لتُحاسب على ذلك .
وقفت مكانها تنظر بغضب موبخة نفسها لباب الغرفة الذي
تركته مفتوحاً بعد خروجها ولا تعلم انتبهت له تلك المرأة
أم لا والمؤكد فعلت .
توجهت نحوه بخطوات غاضبة وضربت بابه بقوة وهي
تشده نحوها لتغلقه وتوجهت نحو باب غرفته فعليها أن
تكون هناك وقت تغيبه الطويل تحسباً لأي زيارة أخرى
مستقبلاً لساكني الطابق السفلي والذي يبدو أنه سيتكرر
دائماً .
أغلقت الباب بهدوء بينما نظراتها تتجول في المكان الذي
وكأن من خرج منه منذ قليل لم يكن موجوداً فيه !
فكل شيء مرتب مكانه حتى ملابسه التي نزعها
لا وجود لها !
اتكأت بظهرها على الباب خلفها تدس يديها للخلف بينه
وبين جسدها واتكأت برأسها عليه ترفعه للأعلى ولمعت
عيناها ببريق حزين تتأسف على كل تلك الأيام والسنوات
التي حلمت فيها وكأي فتاة بأن تكون عروساً وأن تُزف
للرجل الذي تحب وأحبته كل عمرها فكم كانت مغفلة وطفلة
في ثوب امرأة ودفعت غالياً ثمن كل تلك الأحلام التي جعلتها
تتهور درجة أن ترتبط برجل آخر وتسرقه من سعادته
وحبيبته لتحقيقها وماذا كانت النتيجة ؟
أضاعت عمرها وعمر حبيبة رماح معها وحطمت قلبها
وقلبيهما معها .
لكنها لا ولن تتمنى أو تتخيل لو أن ذاك الرجل زوجها
الآن .. ليس فقط وفاءً لرجل هي زوجته لن تخونه ولا
بأفكارها ومهما كان سبب ونتيجة زواجها به بل لأنه كان
سيخذلها ويبيعها من أجل أخرى كما ظهر على حقيقته
وتحول بسبب مال رماح الذي سرقه لزير نساء مدمن
خمور ولكانت حياتها معه ستتبدل لجحيم .
مسحت عيناها والدمعة التي لم تفارقهما تستغفر الله هامسة
وتحركت من مكانها ووجهتها السرير الذي جلست عليه
ببطء وكأنها تخشى أن تترك أثراً عليه يجده من بعدها أو
أن تَعلق رائحتها بقماش لحافه الأحمر الغامق الفاخر
والذي تشبع برائحة عطره القوي ولن تؤثر به بقايا
عطرها مهما كان فاخراً .
اتكأت بظهرها على ظهر السرير الخشبي واستدار رأسها
كما نظرها ناحية النافذة الكبيرة التي كانت تحتل نصف
الجدار عرضاً وهامت نظراتها الحزينة في السماء الزرقاء
الصافية وتنهدت نفساً عميقاً فلا شيء تفعله هنا سوى
التحديق بها ليمر يومها بطيئاً كئيبا وبائساً يشبهها .
*
*
*
نظر لباب الغرفة للحظات واقفاً مكانه وحيث تركته
الممرضة التي أخبرته عن مكان المدعوة فجر لا يعلم خوفاً
من انجلاء الحقيقة أكثر أمامه أم هرباً منها !
وهذا ما لا يفهمه رغم إصراره على مقابلتها واقتناعه
التام بما ينوي فعله ولن يترك نفسه كريشة تحملها الريح
وتقذفها حيث تشاء وفي كل حين يصارعه عقله بأفكار
تتجدد كل لحظة وتتقاذفه كمركب وحيد في عرض البحر
بدون شراع ولا وجهة .. فإن كان بعيداً عنها وتذكر كل ما
حدث وسمعه بنفسه تأكد من كل شكوكه الجلية أمامه
كوضوح الشمس وما أن يرجع لمنزله ويراها أمامه حتى
تعود الأفكار لصراعها القاتل في رأسه ويتذكر كل ما رآه
وعلمه عنها منذ أصبحت زوجته وتعيش معه فبات يكره
البقاء خارج المنزل وهروبه المتعمد منه كما العودة له
مجدداً لذلك عليه أن يفهم كل شيء من الموجودة في تلك
الغرفة هناك يفصله عنها بضع خطوات فقط ليرتاح عقله
كما قلبه .
وبالرغم من أن حديثها كان واضحاً وسمعه بنفسه لكن
عليه أن يفهم ويعلم ويقتل الشك باليقين ولن يسمح بأن
تكذب عليه مجدداً ويريد الحقيقة فقط وسيجبرها على قولها
ولن يسمح لغبائه وطيب خلقه أن يجعلاه فرسية لها
مجدداً .
تحركت خطواته أخيراً حيث المكان الذي لم تفارقه نظراته
المليئة بالإصرار وإن كان لازال يقاوم ذاك الشعور الغريب
الذي يقول له تراجع وغادر وكن تائهاً بين أفكارك
المتناقضة أفضل خياراً من أن تصل للحقيقة البشعة التي
أنت هنا على أمل تكذيبها واختفائها ، شعور رغم ضعفه
أمام عزيمته إلا أنه موجود ولازال لا يفهم تفسيره !
توقف بعد الخطوات القلية التي تحركها ببطء ما أن رن
هاتفه في جيب بنطلونه وأخرجه منه ونظر للمتصل وفتح
الخط ووضعه على اذنه ونظره على ذاك الباب البعيد عنه
بعض الشيء وقال وهو يتنحى جانباً حيث جدار الممر
بسبب الذي مر بجانبه مسرعاً يتحدث في هاتفه وقال
" مرحباً يا أويس "
وصله صوته سريعاً
" مرحباً يمان أين أنت الآن ؟ "
دخل شخصان آخران وكثُر الحديث في الممر ولم يعد
يستطيع سماعه جيداً فغادر المستشفى القروي الصغير
لخارجه ووقف بجانب الباب الخارجي وقال
" في أباجير هل غادرت أنت ؟ "
وصله صوته سريعاً
" لا .. وكنت أريد التحدث معك في أمر مهم قبل مغادرتي "
قال بتوجس
" هل ثمة مشكلة ما ! "
" لا .. لا تقلق كنت أريد فقط التحدث معك بشأن المنزل "
شردت نظراته للفراغ بصدمة وتذكر ما حدث مؤخراً
وإيجاده لمايرين في إحدى مزارع غيلوان وكل ما قاله حين
وجدها لازالت في منزله وفكر سريعاً في شقيقيه وأين
سيذهب بهما إن فكر في أن يخيّره بينها وبين البقاء في
منزله أو يطلب منه المغادرة دون تفسير وقال بتوجس
" لا تقل بأنك تريد أن نغادر منزلك "
وانتظر بقلب وجل كلمات الذي قال من فوره
" لا بالطبع .. فأنت مستأجر عندي وأفضل من شخص غيرك لا أعرفه "
شعر بكم هائل من الارتياح يغمره حتى خرج في تنهيدة
طويلة وكأن الهواء كان مسجوناً في رئتيه لأعوام وقال
" لكني أدفع ما يعادل نصف الإيجار في العادة "
" أنا من طلب هذا وليس أنت ولا تظن أني لا أعلم انك
تتأخر ساعة في المزرعة يومياً ليست من ضمن ساعات
عملك تعمل فيها وحيداً لتسدد ثمن باقي إيجار المنزل دون
أن أعلم أنا "
همس بذهول
" من أخبرك بهذا ! "
وصله صوته مباشرة
" لا يهم من أخبرني المهم أني علمت "
هام بنظرة للبناء الذي بدأ يرتفع تدريجياً هناك وهو
المستشفى الجديد والحديث الذي يتم بناؤه وقال
بهدوء حزين
" لا يمكنني أن أعيش في منزلك بنصف ثمن الإيجار وغيري كان سيعطيك أكثر "
وصله صوته المتضايق سريعاً
" لكني كنت ولازلت راضٍ يا رجل ، ثم أنت لم تخبرني بعملك لساعات إضافية لسداد باقي المبلغ ! "
نزل نظره للأرض وهمس بجمود
" كنت أنا أعلم وهذا يكفيني "
تمتم ذاك ببرود
" ما أغرب تفكيرك يا رجل ! "
تنهد نفساً عميقاً وقال
" أنا هكذا ولا يمكن أن أكون مرتاحاً فهل أجلب لنفسي أسباب تعبها ؟ "
" لن أجبرك على مالا تريد لكن لتعلم فقط أني لست راضٍ ولك دين عندي "
حرك رأسه برفض وكأنه يكتفي بإسماع الجواب لنفسه فقط
وقال يغير مجرى الحديث
" ما الذي كنت تريده بشأن المنزل ؟ "
" لا يمكننا التحدث في الهاتف "
قال ونظره ينتقل لباب المشفى بجانبه يفكر فيما هو هنا
من أجله
" هل يمكنك انتظاري لبعض الوقت ؟ "
" حسناً ولا تتأخر كثيراً عليا الوصول لحوران قبل الواحدة ظهراً "
همس بحسناً وهو ينظر باستغراب للذين دخلا مسرعان
يتحدثان معاً بانفعال وكأنهما يحدثان شخص ثالث وليس
بعضهما فلا يبدو أن الحركة هنا طبيعية !
وتأكدت شكوكه حين خرجا مجدداً ومعهما شخص ثالث
ونظراته تزداد استغراباً بسبب وقوفهما أمامه وقد
قال أحدهما
" هل السيارة المتوقفة هنا لك ؟ "
واشار حيث سيارته المركونة على مقربة من المكان فنقل
يمان نظره بينهم بصمت لبرهة يرى في ملامحهم جميعاً
توتراً لم يفهمه وقال بتردد
" نعم إنها لي "
قال الواقف على يمينه وبكلمات سريعة
" ثمة من علينا نقله لإحليل بسرعة "
نظر له بصمت لبرهة وكأنه يستوعب ما قال قبل أن ينظر
حوله يبحث عن سيارة الإسعاف الوحيدة في تلك البلدة
وقال باستغراب
" وأين هو ! "
قال الذي شده من ذراعه وسحبه معه
" لازال مرمياً مكانه فبسرعة رجاءً "
سار معهم وإن كان لا يفهم شيئاً ! يعلم أن أهل هذه القرية
أغلبهم لا يملكون سيارات جديدة يمكنها اجتياز تلك الطريق
الوعرة للوصول لإحليل وهي المدينة الأقرب التي تحوي
مستشفى حقيقي وذاك ما جعل سيارة الإسعاف الوحيدة
والمخصصة لهذه القرية تصل للحالة المزرية التي وصلت
لها بسبب نقل بعض الحالات إلى هناك ، لكن لما لم يتم
نقله إلا هنا بسيارة أخرى أولاً !
وقف أمام باب سيارته ولم يفتحه فعليه أن يفهم أولاً ولن
يسمح لطيبة قلبه أن تجعله فريسة لأحد مجدداً لتُوقعه في
مشكلات يكون هو السبب فيها ، لكنه لم يستطع أيضاً قول
أي شيء وهو ينظر لهم وينتظرهم وكل واحد يقول للآخر
اذهب أنت حتى استسلم أحدهم حين قال له الآخر
" أنت المسؤول عن مستشفى القريبة هنا ووجودك سيكون سليماً وهو الأفضل "
فعلم حينها بأن الأمر حقيقي لكن ّ الغموض لازال يلتف حول
أمرهم فقال باستغراب ينقل نظره بينهم
" ولما لم يتم نقله إلى هنا وفحصه أولا ً ؟ "
وتابعهم بنظره وهم ينقلون نظراتهم بين بعضهم حتى
امتدت يد المسؤول عن المستشفى لباب السيارة
وفتحه قائلاً
" سنتحدث عن كل هذا فلنسرع الآن قبل أن يموت .. هذا إن كان لازال حياً "
لكنه لم يفتح بابه ولم ينصع له بل قال بإصرار
" لن أتحرك من هنا ولن تتحرك السيارة أيضاً حتى أفهم "
وتابع بضيق حين لم يعلق أحد منهم
" لما تتركون مصاباً يموت ولا ينقله أحد إلى هنا ؟ "
" لأنه نوح غيلوان "
نطق أحدهم اخيراً ورحمه ورحمهم فنظر له بدهشة وهمس
" غيلوان !! "
قال مدير المشفى باستياء يشير بيده بعيداً
" أجل وثمة من ضربه بحجر على رأسه وفر هارباً "
حدق فيه بصدمة وصمت لبرهة وقبل أن ينطق باستغراب
" وما يمنع نقله إلى هنا ؟! "
قال أحد الواقفين جانباً
" لقد أسعفناه ولا فائدة من نقله سوى لإحليل "
نقل نظره بينهم لازال لم يستوعب أعذارهم تلك وقال مجدداً
وبضيق ونفاذ صبر
" لا أفهم لما يتم إسعافه إلى هناك وليس إلى هنا أولاً ! "
تأفف الواقف أمام باب السيارة المفتوح وقال بنفاذ
صبر واستياء
" إنه قريب من هنا بسرعة لنأخذه فالإصابة بليغة وكثرة
نقله وفحصه قد تؤذيه ولن ننجو من أشقاءه قبل قبيلته
حينها "
لم يكن مقتنعاً بأغلب ما قيل وسمع ولا أن يُسعف أحداً من
تلك العائلة بجرائمهم التي يفعلونها لكنه لا يستطيع أيضاً
ترك شخص يموت وهو يستطيع إنقاذه وأيّا كان .
فتح باب سيارته وجلس في كرسيه فركب الآخر من فوره
وأغلق بابه وتحركت سيارته بسرعة وهو يصف له أين
يتجه وكان المكان بالفعل قريباً من هناك وهو يشير
له أمامهم
" ها هو هناك "
فنظر باستغراب وسيارته تخف سرعتها تدريجياً للجسد
الملقى أرضاً بدأ يظهر له بوضوح شيئاً فشيئاً ملقى فوق
الأرض الرطبة وحيداً لا أحد حوله سوى سيارته المتوقفة
على مبعدة منه ونزل من السيارة ما أن أوقفها يتبع الذي
نزل مسرعاً وقد اتجه نحوه وجثا أمامه على ركبتيه
يتفحص نبض أوردة نحره بينما وقف هو فوقه ينظر
للمرمي أرضاً الدماء تحت رأسه تحولت لبقعة كبيرة
تشربها التراب وقميص ما ملفوف حول رأسه بقوة ويبدو
لإيقاف النزيف ، وكان هو بالفعل نوح غيلوان لازال يذكر
ملامحه وإن لم يكن رآه إلا لمرات محدودة جداً .
انتقل نظره للذي نظر له فوقه وقال
" هيا ساعدني بنقله للسيارة "
وعاد وانحنى نحوه يمسكه من ذراعه ويحاول رفعه منها
فاستدار حوله بخطوات واسعة وأمسك بذراعه الآخر ورفعا
جسده معاً فسقط رأسه بين كتفيه وقاما بجره نحو السيارة
قدماه وساقاه على الأرض بينما ارتفع نصف جسده العلوي
معهما وبصعوبة استطاعا وضعه على كرسي السيارة
بسبب ضخامة جسده وهما اثنان فقط وأغلق ذاك الباب كي
يثبته به ونظر حينها ناحية يمان وقال يتنفس بصعوبة
بسبب المجهود الذي بذله
" عليك أخذه بأقصى سرعة ممكنة "
حدق فيه باستغراب وقال
" ألن تأتي معنا ! "
وراقبته نظراته المستفهمة وهو ينظر حوله حيث لم تكون
المرة الأولى التي تمسح فيها نظراته المكان حولهما وقال
ما أن عاد بنظره له
" السيارة لن تسع لثلاثتنا .. وهي هكذا أقل وزناً "
قال ببرود وهو يشير لها برأسه
" أنت تراها بنفسك يمكنها حمل أكثر من هذا بكثير وعجلاتها جديدة فلما ترفض الذهاب معه ! "
" معه ! "
همس ذاك باستغراب يحدق به فقال يمان بجدية
" أجل معه فأنا لست غبياً لهذا الحد كي لا أفهم ما يجري هنا فلا أحد بجانبه ولا أحد قام بنقله لأنهم يخافون أن تلتصق التهمة بهم وأنت مثلهم تماماً لذلك وجدتم هذا الغريب عن بلدتكم فرصة مواتية "
انفعل ذاك فجأة وصرخ
" بل ما قلته صحيحاً ولا جدوى من نقله للمشفى "
مد له مفتاح سيارته قائلاً
" خذه إذاً ثم أعد لي المفتاح "
وتيقن حينها من شكوكه رغم يقينه أساساً بسبب ارتباكه
الواضح وهو يقول برفض
" لا أنا لا آخذ سيارة ليست لي وقد يحدث لها أي مكروه
في الطريق "
قال بإصرار ولازال يمد له يده والمفتاح فيها
" وأنا متنازل عن حقي إن أصابها أي ضرر "
فظهرت نواياه الحقيقية حينها وتراجع للوراء خطوتين
ورفع يديه قائلاً
" الرجل في سيارتك وتأخره قد يكون فيه هلاكه فإن كنت لا
تريد نقله فارمه منها للأرض وغادر "
وأنهى كلماته تلك وغادر من هناك بخطوات مسرعة لم
يلتفت ولا لندائه الغاضب صارخاً بعنف
" لا أصدق أنكم جبناء هكذا تخيفكم عائلة أو حتى قبيلة؟ "
وتابع بصراخ أكبر ما أن تابع ذاك طريقه دون اهتمام
لما يقول
" لما تبحثون عمن ينقذه إذاً بما أنكم أجبن من
مواجهتهم بحقيقة من فعل هذا أم تخشون عقاباً جماعياً
أيضاً ؟ "
لكن الذي بدأ يبتعد عنه لم يجب ولم يتوقف يسير بسرعة
نافضاً يديه فهمس من بين أسنانه ونظره لازال يراقبه
" يالكم من مثيري للشفقة "
وتحرك باتجاه سيارته ووقف جهة النافذة التي يتكئ عليها
من الداخل الرأس الملفوف بالقميص الأبيض الملطخ
بالدماء وهو يتذكر كلمات ذاك الرجل بأن يتركه هنا أيضاً
ويغادر ، لكنه لا يستطيع وهو يراه أمامه لا حول له ولا
قوة .. لا قبيلة ولا مال وجاه نفعاه وهو هكذا تهرب الناس
حتى من مساعدته خوفاً من التورط في دمه إن هو مات ولم
يفتح عينيه ليقول اسم الفاعل ، لكن الحقيقة القاسية أنه لا
يمكنه فعلها مهما كان ما فعله هذا الشخص وسمع عنه لا
تسمح له إنسانيته مهما كانت العواقب ولن يرتاح ضميره
لتركه يموت وهو بإمكانه مساعدته ، ولن يستغرب أن
يورطوه بالفعل حينها ويشهدون متفقين بأنه من فعلها وفر
هارباً فلن يستطيع محو آثار عجلات سيارته في الأرض
الرطبة ولكل هذه المسافة ومهما فعل وحاول .
همس مستغفراً الله وتحرك حول السيارة وركبها ونظر أولاً
للجسد الذي لا يعلم صاحبه شيئاً من حوله وكم كره أن
يكون هكذا تخشى الناس حتى مساعدته يخافون عقاب
أخوته وشرهم الذي يسبق القانون لتتحول حياة الفاعل
لجحيم يمتد معه ما بقي له من حياة وعائلته معه أيضاً
فالقوة مع الظلم لا تخلف إلا ضعفاً حين تكون في أمس
الحاجة لدعم البسطاء لك فيتخلون عنك إما كرهاً لك أو
خوفاً منك .. فإن كان عامل من عمالهم لم يتجرأ أن ينقله
أحد للمستشفى وتركوه ليموت ببطء خوفاً من غضبهم
لتعديهم على أراضيهم وعُمّالهم فكيف بفرد منهم قد تصبح
متهماً بقتله ؟ .
أدار مفتاح سيارته وعلا صوت محركها القوي في هدوء
المكان الذي لم يعد أحد ولا يعبر من خلاله وهم يعلمون
وجوده فيه وهمس وهو يدير المقود ليغادر في الاتجاه
الذي جاء منه
" حتى وإن قُتلت متهماً بدمه فسأكون أكثر ارتياحاً من أن لا أنام بسبب تأنيب الضمير "
*
*
*
رتبت خصلات شعرها الشقراء خلف كتفيها والتي سرحتها
بلفافات متموجة استعداداً لأمر لم تكن تتوقع أن تكون فيه
تثبتها بعيداً عن وجهها بمشبك كريستالي أنيق وتجعدت
ملامحها تنظر لعينيها ولمقلتيها الزرقاء حيث انعكاسها في
المرآة أمامها .
تكره هذه اللحظات التي تعلن فيها هزيمتها واستسلامها
أمام والدتها وما أكثر ما بات يحدث هذا مؤخراً للأسف
وأصبحت شيئاً فشيئاً تنقاد وهذا أكثر ما تكرهه في غيرها
فكيف بنفسها ؟
سرق نظرها الصوت المنبعث من هاتفها المرمي فوق
ملاءة السرير المشدودة فوقه بنعومة تشبه تفاصيلها
وتوجهت نحوه ورفعته تنظر للإسم على شاشته قبل أن
تتنهد بعبوس ووضعته على أذنها هامسة بقلة حيلة
" لا أمل يا كاتي عليكم الذهاب من دوني "
وصلها الصوت الانجليزي العذب الحزين سريعاً
" لا يمكن هذا ساندي الرحلة من دونك ستكون
سيئة للغاية "
تمتمت بعبوس
" هذه ليست المرة الأولى "
قالت تلك من فورها وببرود
" ليس والأستاذ سبينستر موجود بالطبع "
أمسكت خصرها النحيل بيدها الحرة قائلة بضيق
" ما معنى هذا !"
وصلها الصوت الباسم سريعاً
" تعلمين كما الجميع بأنه لا شيء يجعله يغضب ويكمل
باقي الرحلة جالساً في الحافلة سواك "
تأففت قائلة بضيق
" عليكم أن تجدو إذاً مصدر ازعاج آخر يخلصكم من
عجرفته فوالدتي أعلنت رفضها الذي لا نقاش فيه وقد
قمتُ بإبلاغ المنظمة واعتذرت أمامها ولا تراجع "
" ماذا عن والدك "
تقوس كتفاها قبل شفتيها هامسة بإحباط
" والدي رافض أيضاً "
وصلها صوتها بنبرة باردة
" لكننا سنرجع قبل منتصف الليل "
لوحت بيدها قائلة بضيق من تلميحها الواضح
" أنا أعلم بهذا .. وليس لأنه لديا والد يقلق بشأن ابنته
الوحيدة يكون متزمتاً "
قالت التي علمت بأنها تمادت قليلاً
" لم أقصد أن أزعجك ساندي ما بك ! "
لوت شفتيها وتمتمت بلهجة تهديد
" ظننت فقط "
وصلها صوتها المحبط
" لا أمل إذاً "
تمتمت بعبوس
" أجل "
قالت التي اقتنعت بالأمر الواقع كما يبدو
" الجميع يريدك معنا لكن لا بأس هي لن تكون
الأخيرة بالتأكيد "
اتكأت بظهرها على الخزانة خلفها وقالت مبتسمة
" بالتأكيد وقبّلي لي سباركي كثيراً "
خرج لها صوتها المتقزز سريعاً
" تتصورين بالفعل أني سأقبّل كلباً مشرداً من أجلك ؟ "
امسكت وسطها بيدها قائلة
" نعم .. ولما لا تفعلينها؟ لما تكونين في منظمة إغاثة إذاً "
قالت تلك سريعاً وقبل ان تغلق الخط
" في رحلتنا القادمة لأكسفورد قبّلية بنفسك حتى تبتلعيه ...
وداعاً "
نظرت للهاتف في يدها وتمتمت من بين أسنانها
" صعلوكة "
ورمته مكانه السابق وانحنت لساقيها تعدل صندلها ذو
الكعبين العاليين قبل أن تقف تبعد خصلات شعرها المموجة
للخلف مكانها السابق ونظرت لنفسها للمرة الأخيرة
في المرآة .
كان فستانها بلون الشمندر بأكمام طويلة وصلت لنهاية
رسغيها وياقة مربعة الشكل ويضيق حول خصرها النحيل
بينما يتسع في الأسفل وصولا لكعبيها وهي وصايا والدتها
المتكررة اليوم وبتهديد حازم
( فستان طويل محتشم ساندي مفهوم )
لوت شفتيها بسبب تذكرها لها وكأنها الآن .. ومنذ متى
كانت ترتدي غير ذلك !
لكن هذه المرة حتى البنطلونات ممنوعة بسبب الزائر الذي
سيتناول العشاء معهم اليوم وتراه سبق موعده بكثير
فبالكاد حل الظلام منذ قليل ! .
أهدت نفسها وصورتها الجميلة قبلة مبتسمة قبل أن تغادر
غرفتها فعليها أن تُقنع نفسها بهذا ولا تفكر في رحلة
المنظمة كي لا تقضي يومها عابسة ، وهذا جل ما تكرهه
أن تحزن وتغتم من أجل أي أمر كان وبما أن رحلة أدغال
كايلي تأجلت ولم تخسرها فالباقي يمكن تعويضه .
سارت خلال الرواق الفاصل بين غرفتها وردهة المنزل تعد
بأصابعها وتكرر تنبيهات والدتها وكأنها تذكر نفسها بها
تقلد صوتها وتحرك مقلتاها حركة بندول بطيء
( لا تمسكي شعرك ساندي مفهوم )
( لا ترتدي بنطالاً أو فستاناً قصيراً )
( لا تضحكي بصوت مرتفع )
( لا تمضغي الطعام وفمك مفتوح )
( لا تتفوهي بالحماقات كعادتك )
وقفت مكانها وكررت آخر عبارة تضرب سبابتها بالأخرى
( حماقات حماقات ممنوع ساندي مفهوم ؟ )
ولوت شفتيها وفردت يدها هامسة بضيق من بين أسناها
( هل كل الدرر التي أقولها حماقات ! لما يعشق الجميع
الكذب الذي يسمونه مجاملات ! )
رمت خصلات شعرها المموج خلف كتفيها وحركتهما
بلامبالاة مبتسمة وتمتمت تتابع طريقها
" الأميرة ساندي لا يخرج من شفتيها إلا الدرر "
هي تعلم جيداً سبب تعليمات والدتها الصارمة وهو السيد
غاستوني ميديشي ضيفهم اليوم والموجود على العشاء
والذي يزورهم لأول مرة بعد انتقاله لإنجلترا فقد جلبه
عمل ابنه الجديد في نورثود بعد وفاة والدته وانتقاله
من المكسيك للعيش مع والده قبل عامين .
ما تعلمه عنه بأنه كان ضابطاً مهماً في البحرية الملكية
البريطانية وخاض حروباً عدة في الماضي ، وليس هذا
السبب فقط بل لأنه عاش وتربى في عائلة ارستقراطية في
تلك الحقبة فوالدته كانت من النبلاء تزوجها والده والذي
كان من الطبقة البرجوازية التي استولت على التجارة حتى
أصبحت والطبقة الأرستقراطية سواء وإن انتهت تلك الحقبة
أو تقلصت كثيراً لتنحصر بالعائلة الملكية فقط إلا أن والدتها
يبدو لها وجهة نظر مختلفة وتعلم أن ذاك العجوز لن ينسى
ما تربى وشب عليه بسهولة .
ضحكت بصمت تحمد الله أن والدتها لا ترى في ابنه عريساً
مناسباً لها لكانت ستصدأ فكاها من الصمت لأنها لا تملك
من الكلمات اللبقة إلا القليل .
تمسكت ملامحها بالابتسامة الواسعة حيث كانت حينها قد
أصبحت في بهو المنزل وحيث الصالون الواسع الذي
يتوسطه ووقع نظرها فوراً على الجالس فوق الكرسي
الفردي بلباسه الرسمي والقبعة السوداء يمد ذراعه للأمام
حيث كانت تستند راحة يده على الرأس الفضي لعصاه
السوداء اللامعة بملامح جادة هادئة ذات الوقت لا تستطيع
شرحها ولا تفسيرها ولا حتى فهمها تشبه تلك التي ترتسم
على وجوه أسلافه في الصور الخالدة لهم .. وشارباه
معقوفان عند نهايتهما المدببة رغم قصرهما تُكمل الصورة
بشكل نهائي .. هو فعلاً رجل من قائمة النبلاء قفز من
إحدى اللوحات وجلس لديهم هنا ! حتى طريقة جلوسه
استقامة ظهره وشموخ رأسه بل وملامحه بالرغم من أنه
تجاوز السبعين عاما على ما يبدو تحاكي جذوره العريقة
والثراء الذي عاش فيه كما الثروة التي ورثها منهم
وانغرست في طباعه للأبد ولولا خوفها من والدتها كانت
ستستقبله استقبالاً مميزاً .
ضحكت في سرها واقتربت منه ما أن انتبه الجميع لوجودها
ووقفت قريباً منه مبتسمة ورفعت طرفي فستانها بينما ثنت
ساقها ونزلت بجسدها قليلاً قائلة بضحكة صغيرة
" تشرفت بمعرفتك سيدي "
وكان رد فعل المقابل لها ابتسامة لطيفة وهو يشير برأسه
وكما توقعت تماماً لم يمد يده لمصافحتها كما لم يقف أيضاً
وكما هم أسلافه الذين ولد بينهم وتربى معهم ولا تستغرب
الآن أن اختار فيلا في ريف لندن للعيش فيها بدلاً من
المدينة ذاتها فيبدو أنه يكره أن ينسلخ عن عالمه القديم .
انتبهت حينها فقط للذي كان يجلس على الأريكة قريباً من
والده ومن كانت تعتقد بأنه لن يكون معه اليوم خاصة أن
والداها استبعدا قدومه لانشغاله الدائم حيث اختار أن يكون
كوالده ضابطاً في البحرية أو كما تجزم أن والده من
سيكون اختار له هذا ونظرت له مبتسمة وهو يقف ويمد
يده لها عكس والده وما أن صافحته حتى رفع يدها لشفتيه
وقبلها وقال مبتسما
" سررت برؤيتك سينيورا "
فضحكت وحضنت يديها قائلة
" يبدو أن الدماء الإيطالية لم تجف منك بشكل نهائي "
وبينما كان رد فعل الواقف أمامها ضحكة عالية مع ارتفاع
رأسه وذقنه البارز تيبست ضحكتها هي حين وصلها صوت
حمحمة ما من خلفها وتدرك مصدرها بالتأكيد وهي والدتها
فما قالته سيُعد إهانة للرجل الارستقراطي إن هو أراد
فهمها كذلك فرمقته بطرف عينيها وكان لحسن حظها
منشغل في الحديث مع والدها والجالس على يمينه فاتخذت
من الكرسي المجاور لابنه في الطرف الآخر للأريكة التي
يجلس عليها مكانا لها ونظرت ناحيته ما أن قال مبتسما
" المعذرة منك فلم نستطع أن نكون في حفل
الزفاف لانشغالي "
تشنجت ابتسامتها تتخيل أن يكون والده هناك وأي انطباع
سيحمله عنها حينها تحت قبعته قبل أن يغادر وقالت بأدب
" لا داعي للإعتذار فجميعنا نعلم أنه ثمة سبب مهم
منع حضوركم "
كان للابن ملامح تشبه والده بل تحاكي جذوره الإيطالية
البشرة المائلة قليلاً للحنطية والشعر الأسود اللامع كما
الأنف المستقيم .. الوجنتان الصلبتان تغطيهما شعيرات
لحية مشذبة بعناية وعينان سوداء وحاجبان كثان بطريقة
رجولية أنيقة كما له جسد أطول من شقيقها كين .
نظرت حيث شد انتباه الجميع الحديث بين والدها ووالده أو
إن صح التعبير هو حديث أحادي الجانب حيث كان والدها
يستمع فقط تقريباً سوى من كلمات بسيطة متفرقة وضيفه
يحكي له عن مغامراته في الحروب أيام البحرية ولم تستطع
تمالك نفسها وهي ترى ملامحه ومحاولته للانسجام وفهم
ما يتحدث عنه وها هو أخيراً فيلسوف ما يجعل والدها
يصمت عاجزاً .. وأمسكت ضحكتها بيدها تثبت مرفقها
بطرف الكرسي لكن الشخص الأقرب لها انتبه سريعاً ونظر
ناحيتها وخشيت أن يكون فهم أنها تضحك من حديث والده
بالرغم من أن ابتسامته لم تثبت شكوها ورغم ذلك قالت
تشرح الموقف وبصوت منخفض لم يسمعه سواه بينما
نظرها على والدها تشعر بتصلب فكيه الذي تخيلت
نفسها فيه
" والدي الآن يتمنى لو قضى ليلة البارحة يقرأ جميع
الكتب التي تتحدث عن الحروب التي خاضتها البحرية
الملكية ومنذ القرن الرابع عشر "
ولم تستطع منع نفسها من مشاركته الضحك وقد نظر البقية
نحوهما فقال مبتسماً ومغيراً مجرى الحديث ومنقذاً
لمضيفهم بالدرجة الأولى فهو يعرف والده جيداً
" ما هي أخبار ماري ؟ "
وتابع ينقل نظره بين الحارثة وزوجته
" لم نراها حتى الآن ولم تتصل وحين سألت تيم عنها في
منزل الاميرال قال بأنها منشغلة مع دراستها "
تبادل كلاهما نظرات صامتة وما أن وقع نظر ايميليا على
ابنتها والتي كما توقعت كانت ستتحدث حينها قالت تسبقها
ونظراتها تنبهها لأن تهتم لما تقول
" جيدة وتزورنا من فترة لأخرى وهي منشغلة بالفعل
مع الدراسة "
تحدث غاستوني حينها قائلاً ببرود
" لما لم تفكر في زيارتنا ونحن عائلتها ؟
انتظرت أن تتصرف بلباقة بعض الشيء "
ابتسمت ايميليا وهي تنظر له وقالت
" مؤكد هي تخطط لذلك إنها فتاة رائعة وحسنة التعامل لن
تغفل عن هذا إلا لسبب قوي بالتأكيد "
لكنه تجاهل كل ما قالت كما يبدو وهو يتابع وبضيق
هذه المرة
" ثم لا أفهم كيف يستلم ابن خالتها الوصاية ؟ أنا لم
يعجبني ذاك الشاب منذ التقيته قبل عامين لا يحترم أحداً
وجدته اليونانية تلك أفسدت تربيته ومنذ صغره "
تبادل الثلاثة نظرات صامتة بينما قال ابنه هذه المرة
ناظراً له
" نحن لم نكن هناك أبي وماري والدها من اختار ذلك "
كان الحديث بالتبادل بين الأب وابنه بينما لاذ البقية بالصمت
وإن كان اختيارياً للبعض وإجبارياً للبعض الآخر أو للتي
كانت عيناها تنطق نيابة عنها ولا يوقفها سوى تهديد
والدتها ونظراتها المصوبة ناحيتها خصوصاً وأن تيم في
الموضوع ومن يفترض أنه وحسب الأدوار التي يلعبها
الجميع هو ابن خالتها .. الشقيقات الثلاث والتي تزوجت كل
واحدة منهن برجل من بلاد مختلفة فبينما تزوجت والدتها
رجل انجليزي وأنجبت شقيقها كين تزوجت والدة ماري
بإيطالي ووالدة تيموثي بيوناني وتوفي الفتى الصغير خلال
رحلته مع والديه وغرق السفينة التي كانت تبحر بهم ناحية
بحر المكسيك وتوفيت ماري قبل أقل من عام في ظروف
غامضة توصلت الشرطة مع الأدلة الموجودة أنها انتحرت
وألقت بنفسها من أعلى الجرف الصخري للبحر وأخذت
ماريه مكانها حينما تم جلبها إلى هنا بينما تيم كان اليوناني
الأصل الانجليزي الجنسية .. وبهذا عليها الاعتراف به
كجزء من عائلتها العربية في الخفاء والانجليزية في العلن
واحترامه أمام الجميع وفي جميع حالاتها كعربية
وكأنجليزية وهي التي يستفزها وجوده أو التحدث عنه
أمامها بسبب عجرفته وتعاليه كما ترى وتَعامله السيء
المجحف مع والدها الذي حاول ولسنوات عدة أن يقنعه به
كقريب له وأن يجد حلاً للفجوة الواسعة بينه وبين والده
لكنه كان يتعامل معه بلامبالاة وقلة تهذيب في كل مرة
حتى نمت وتعاظمت مشاعر الكره ناحيته ورغماً عنها .
نظرت للذي قال مجدداً وبذات ضيقه فيبدو لم ينتهي بعد
" كان يمكنه إعلامنا فأنا لم أوافق أبداً أن تتربى ابنتنا
لدى تلك العائلة "
لاذ فاليريو بالصمت محرجاً من كلام والده والذي يبدو فهم
فوراً السبب من تغير وجه ابنه وخفضه لنظراته فنظر
باتجاه مضيفته وقال بنبرة اعتذار
" لم أقصد إهانة شقيقتك ولا عائلتها لكنك تعلمين جيداً
ما حدث وأنتِ خارجه بالتأكيد "
فكان ردها أن أسدلت جفنيها تنظر للأسفل وقالت بأدب
خالطه الكثير من الحزن
" ليرحمهما الله "
وكان تذكيراً جيداً ليتوقف عن التحدث عن الأموات بسوء
مهما كانت أخطاؤهم فهم غادرونا ورحلوا ولن يرجعوا
مجدداً ، لكن ثمة من لم تكن تخضع لذاك القانون ولم
تستطع الصمت أكثر من ذلك وحين تحول الحديث عن تلك
المشكلة القديمة وقالت تنظر لوالدتها وكأنها تتحداها أن
تجد عذراً آخر
" ماري كانت المخطئة فلما تتحمل العائلة
بأكملها النتائج "
قالت ما قالته بحجة قوية أمامها فهي على قيد الحياة
حسب اعتقاد الجميع والحديث عنها مسموح بينما من
تتحدث عنها هي ميتة بالفعل ولن تنسى كما تعلم أن والدتها
تذكر أيضاً أن تلك المدللة الفاسدة كانت السبب في الكثير
من المشكلات والقطيعة بين طرفي عائلتها ووالدها وعائلته
وسبب كل الحقيقة التي كان يقولها ضيفهم الآن ، ونظرت
ببرود لوالدتها وهي تقف وتتوجه نحوها وهمست لها
بضيق ما أن وصلت لها
" أمي لن تضربيني أماهم "
لكنها قالت بصوت مسموع وهي تمسك يدها وتسحبها منها
" بعد إذنكم علينا تفقد الطعام .. المنزل منزلكما "
وغادرت تسحبها معها حتى وصلتا المطبخ وأغلقت بابه
فعلمت حينها أي نوع من التوبيخ هذا الذي ستناله وهي
تغلقه خلفهما فسبقتها قائلة بضيق
" لا يمكنك إنكار أن ما قلته حقيقة أمي وبأن جدتي وعمتها
من كانتا تناصرانها فيما تفعل "
قالت المقابلة لها بضيق أشد
" لكن التي تتحدثين عنها الآن ماريه وليست ماري يا
ساندرين فلن نوقعها في مشاكل كانت غيرها السبب فيها
لتتحمل هي نتائجها "
كتفت ذراعيها لصدرها وأشاحت بوجهها جانباً بضيق
وتابعت الواقفة أمامها بحدة
" أم تريدي أن يصلو لحقيقتها وبالتالي ستنتهي هي وتيم
معها من الوجود بل وأنا ووالدك كمتستران عن جاسوس
وزوجته ؟ بل ومئات الشبان وشقيقك كين وزوجك وشقيقه
من ضمنهم سيُعدمون جميعهم أمام عينيك "
نظرت لها وقالت بأسى لمع في عينيها كما صوتها
" لا أريد هذا بالطبع ولا يمكنني فعلها بهم لكنك ... "
قاطعتها بحدة تضع سبابتها على شفتيها بتهديد
" أصمتي ساندي وموضوع ماري وكل ما حدث في الماضي أنسيه تماماً مفهوم ؟ "
لوت شفتيها ولم تعلق فقالت التي لم ينتهي ما لديها بعد
" وهي ميتة ساندي وديننا يقول اذكروا محاسن موتاكم "
تحرك لسانها مجدداً ولم تطق صبراً وقالت بضيق
" لكنها ليست مسلمة ولست مجبرة على ذكر محاسنها "
وغادرت وتركت الواقفة خلفها تحرك رأسها بيأس منها
وهمست بضيق وهي تحمل باقي الأطباق
" أعان الله ذاك الشاب المسكين عليك "
*
*
*