*
*
*
خرجت من غرفتها بعد وقت طويل قضته في سريرها تنظر للجدار
المقابل لها يراجع عقلها كل ما مرت به في حياتها منذ عرفت من
تكون وما أجبرها عليه واقعها وحتى هذه اللحظة التي اعترفت
فيها مرغمة بأن حلمها الصغير الذي كبر معها لم يتعدى عتبات
وسادتها الصغيرة الزهرية اللون التي كانت تنام عليها طفلة
وتحلم بأن تكون في منزل يحضن عائلتها بدفء ، صحيح أنها لم
تجد ذاك الحلم طوال سنوات طفولتها ومع ذلك عاشت على أمل
تحققه وإن أصبحت شابة أو حتى عجوز لكنها آمنت الآن بأن
أحلام الطفولة السخيفة لا تصلح سوى لحكايات الليل ولأطياف
الأحلام الوردية ونحن نيام ثم تنتهي بمجرد أن ننام أو نستفيق
ولا نذكرها مجدداً لأننا نعلم بأنها لا تمت للواقع بأي صلة .
توقفت خطواتها ما أن التقت بالخادمة عند نهاية ممر
غرفتها وقالت
" أين والدي ؟ "
فهي سمعت صوت سيارته قبل قليل بينما لم تغادر بعد وهذا ما
أكدته الواقفة أمامها حين قالت باحترام
" في مكتبه
سيدتي "
سألتها من فورها
" وقاسم معه ؟ "
حركت رأسها نافية وقالت
" خرج هو والسيد كاسر للخارج "
فأومأت لها شاكرة بهمس وتحركت تلك مجتازة لها قبل أن توقفها
كلماتها البطيئة
" أين هي أمامة "
فوقفت واستدارت نحوها وقالت بلمحة حزن
" لقد تم نقلها للسفارة بطلب من السيد مطر ولا أعلم
ما قرر بشأنها "
تنهدت نفساً عميقاً وأصابعها تشتد على قطعة القماش الملفوفة
والتي تمسك بها وتابعت طريقها وتركتها خلفها ، وما أن كانت
في بهو المنزل سمعت صوت الموجودان في الخارج ويبدو
يتحدثان عن دراجة الكاسر النارية فأولت كل ذلك ظهرها وسارت
باتجاه ممر مكتب والدها ووصلت بابه المغلق ووقفت وطرقته
حتى سمعت الصوت الجاد ببحته المميزة يسمح لها بالدخول
فتنهدت بعمق تغمض عينيها ومشجعة نفسها أيضاً ، فليختر كل
واحد منهما ما أراد هي باتت مقتنعة بأن تكتفي بحبها لهما
وبوجودهما ضمن الأحياء وإن لم يكونا معاً .
فتحت الباب ببطء حتى ظهر لها الجالس خلف مكتبه يوقع أوراقاً
بتتابع ويضعها فوق بعضها جانباً ولم يرفع رأسه ولا نظره لها إلا
أن أغلقت الباب واقتربت خطواتها منه وتمنت لحظتها أنه لم
يفعل وبقي مشغولاً مع مسؤولياته التي تراها تحيل حتى بينه
وبين التفكير فيما يحدث معهم جميعاً وليس معه فقط ، وشعرت
بألم قاتل في قلبها وهي ترى والدها الذي عرفته سنوات غربتهم
كاملة في تلك البلاد البعيدة يعود مجدداً بعد أن بدأت تراه يتغير
تدريجياً منذ أن أصبحوا هنا .
ابتلعت ريقها الجاف ومرارتها معه وقالت بحزن تنظر لعينيه
المحدقتان بها بجمود
"جدي يسجن نفسه في غرفته وقد قرر العودة لبريطانيا مجدداً "
واختنق صوتها وهي تتابع برجاء حزين
" لا تتكره يبتعد عنا ويغادر أبي أرجوك "
" ولما قرر هذا ؟ "
شعرت بقلبها تقلص بسبب نبرته الجافة وتلعثمت قائلة
" لأن .... لأن والدتي كانت ... "
وعادت تشجع نفسها لتخرج بجملة مفيدة بعد أن رأت أن نظرته
لم تتغير بالرغم من ذكرها إياها وقالت بحزن عميق
" قبل أن تتعب وننقلها للمستشفى كانت منهارة وغاضبة
كثيراً منا و..... "
وعادت الكلمات لخيانتها وعجزت عن قولها ولم يساعدها أبداً
الذي لم تترك عيناه الجامدتان عيناها واندفعت الكلمات وكأنها
تفر منها
" هي قالت بأنه ليس والدها وبأني لست أبنتها ولا تعترف
بنا عائلة لها "
وارتجف جسدها ما أن أنهت كلماتها القاتلة لها بالدرجة الأولى
فكيف أن تقولها أمامه ؟
وملأت الدموع عيناها ما أن لمحت وميض الغضب الذي اشتعل
في العينان السوداء الواسعة وإن لم يظهر على ملامحه
وقالت برجاء
" أبي أرجوك لا أريد أن أخسره هو أيضاً "
وما أن علمت بأنه سيتحدث بعد كل ذاك الصمت وتعرف لما
قالت تسبقه
" لا تقل بأنه لديا زوج وحياة لا تحتاج غيره فأنا أحتاجكم جميعاً
وإن كنتم مستغنون عني "
وتدحرجت دمعة واحدة فوق وجنتها اليمنى ما أن أنهت عبارتها
الحزينة البائسة تلك وقال الذي تحدث أخيراً وبجمود يشبه
ملامحه كما نظراته
" حسناً ... وطلبات أخرى ممنوع يا تيما "
حركت رأسها نفياً ورفعت ظهر كفها لوجنتها تمسح الدمعة
المنزلقة عليها تفهم ما يقصد تماماً وما يتوقع أن تطلب منه
أيضاً وهو أكثر ما يؤلمها ، ورغم ذلك قالت وبأسى
" أؤمن بأن لوالدتي أسباباً نجهلها كما بت متيقنة من أنها لم
تعد جزءاً من حياتنا لكن جدي سيكون وحيداً هناك ولن يشعر
بالسعادة وإن كان حراً طليقاً كما يقول ويريد "
وما أن أنهت عبارتها تلك تقدمت من مكتبه ووضعت لفافة
القماش على الطاولة أمامه وقد انفتحت من فورها كاشفة عن
خصل الشعر السوداء الناعم المجموعة فيها وقالت بهمس
مخنوق تنظر لملامحه وعيناه اللتان جمدتا عليه دون حراك
ولا أي تعبير يرتسم فيهما
" هذا آخر ما تركته قبل رحيلها "
وأولته ظهرها ودموعها محتجزة في عينيها وغادرت جهة الباب
راكضة وبالكاد استطاعت من خلف دموعها أن ترى الخادمة
التي وجدتها أمامه وما ان فتحته وخرجت بينما وقفت تلك عند
الباب قائلة
" سيدي ثمة امرأة هنا تريد رؤيتك "
*
*
*
اشتدت قبضتاها بجانب جسدها بتوتر حاولت تبديده بالنظر
للمكان حولها ولتفاصيل المنزل العريق الذي لم يخفي التجديد
ولا اللمسات الحديثة عراقته وجماله ، ولم يزد ذلك حالها إلا
سوءاً وهي ترى قوة ذاك الرجل في منزله قبل أن تراه مما جعل
مهمتها تزداد صعوبة وهي من تعرفه جيداً من المرة الوحيدة
التي رأته فيها .. لكنها عازمة على ما تريد فعله ولن تقف
مكتوفة اليدين تراقب نهاية عائلتها كاملة بسبب تهور شقيقها
قبل نهايته هو وبيدها شيء تفعله قد ينقذ على الأقل حياته
ولن نقول مستقبله .
إبتعد نظرها عن خشب السلالم المشغول بما يعرف الأربيسك
العربي الأصيل ليكون تحفة منفردة لوحده ونظرت للتي خرجت
من حيث غادرت الخادمة قبل قليل والتي وقفت مكانها تنظر لها
بعينان دامعة قبل أن تركض نحوها واستقبلتها هي تحضنها بقوة
تمسك نفسها بصعوبة عن البكاء وإن لم تبكي هي فاحتضانها
القوي لها يتحدث ويبكي وينوح نيابة عنها ، رفعت يد مرتجفة
لرأسها ومسحت على شعرها هامسة بحزن
" لقد عرفت والدتك جيداً يا تيما وكبرنا سوياً .. هي تفعل
أي شيء من أجل عائلتها ولن تفكر في أذيتهم "
وراقبتها بحزن وهي تبتعد عنها وتتحرك مسرعة ناحية ممر ما
يفتح على ذات البهو الواسع بخطوات شبه راكضة وفي صمت
يشبه دموعها التي كانت تكتفي بمسحها وحيدة حتى اختفت عنها
تشعر بقلبها يتمزق معها .. وها هي عائلة أخرى تتحطم بسبب ما
حدث ولم تكن هي الوحيدة .
أبعدت نظرها عن هناك ونظرت ناحية الذي جعل ضربات قلبها
تشتد بانفعال قوي ما أن ظهر أمامها وإن كان بعيداً عنها بعض
الشيء .. صاحب البنطلون الأسود والقميص الناصع البياض مع
ربطة عنق فقط بينما يمسك بسترته من ياقتها في يده ولم يكلف
نفسه ولا عناء أن يلبسها وهو يجهل هوية زائره بالتأكيد !
وقد وقف ينظر لها بصمت وملامح صلبة قاسية جعلت أطرافها
ترتعش تحت قماش عباءتها الواسعة .. لم يصرخ لم يطردها ولم
يأمر حرسه وخدم منزله برميها خارج أسوار منزله كونها شقيقة
قائد نصران كما كانت تخشى وقد نسف جميع سيناريوهات عقلها
الوهمية تلك بالرغم من أن نظرته كانت كفيلة بالقتل ودون
رحمة ، ولا تعلم لما شعرت فجأة بأن هذا الجبل الشامخ القوي
يخفي خلفه قلب تضرر وبقوة يرفض ولا التفكير في إظهار
ذلك ؟ وبالرغم من تفهمها لما مرت به ابنة خالتها ومعاناتها
التي أخفتها عن الجميع لأعوام تتجرع أوجاعها وحيدة إلا أنها
تعلم أيضاً بأن كسر الرجال قاسي وقاسي جداً أيضاً .. وحين
يقف الرجل في وجهه ليكون أقوى منه يكون الأمر أكثر قسوة .
ازدردت ريقها بصعوبة وتحدثت حين علمت بأن هذا ما ينتظره
وكأنه يتوقع أن تقول ما لديها وتغادر مختفية من أمامه
" أنت أخبرتني يوم التقينا في جمعية الغسق بأنك مدين لي
وبأنه ثمة دين قديم في عنقك وأعرفك رجل كلمته تسبق كرامته
وبأن عدله أكبر من عظمة رجولته "
وسحبت نفساً عميقاً لصدرها وتابعت حين لم يعلق بشيء تُرضخ
نفسها مجدداً من أجل شقيقها
" وأنا أرجوك سيدي أن لا تنتقم مما فعله شقيقي وأقسم لك بمن
خلقه وخلقني بأنه نسي أمر غسق منذ علم بأنها لا تكن له أي
مشاعر ولا يتصرف الآن إلا كمحامٍ لجأت له قريبته وصديقة
طفولته "
وغمرت الدموع عيناها وهي تتابع ببحة تحاول التحدث مع القلب
الذي لم ينطق صاحبه بشيء حتى الآن
" وأتمنى أن ترأف بقلب والدته كي لا نخسرها بعده على الفور "
وأغمضت عيناها تسجن تلك الدمعة وتحبس معها نفساً سحبته
لصدرها بقوة ما أن تحرك من مكانه حتى تخطاها مجتازاً لها دون
أن يتحدث بشيء وكأنه يقول لها وبلباقة قاسية
( سمعت ما لديك وانتهى )
وذاك ما اعتقدته حتى شعرت بسكين قاسي يطعن ظهرها حين قال
بجمود من ورائها وهو يغادر
" لست أنا من يبيع مبادئه من أجل امرأة .. ولا بسببها "
هكذا فقط وهذا فقط ما قاله وغادر وكان كافياً ومغنياً عن قول
الكثير فمسحت بقوة دمعة كانت ستقفز من عينيها وكم كرهت
حينها قائد وابنة خالته معه بل ونفسها أيضاً ولم تعد تعلم مع
من تتعاطف ومن هو المذنب ومن هو الضحية ؟!
وما أن تأكدت من مغادرته وهو وما أكده لها صوت السيارة
في الخارج خرجت أيضاً نظرها على خطواتها متجهة على الفور
ناحية السيارة البيضاء التي جلبتها إلى هنا لم تنظر ولا للذي
تبعها من فوره وقد جلست في كرسيها من قبل أن يفتح بابه تنظر
لنافذتها بل للإنعكاس الباهت لصورتها في زجاجها اللامع
ولملامحها البائسة الكئيبة ترفض أن يرى كل ذلك أي أحد وحتى
الذي جلس خلف المقود وقد قام بتشغيل السيارة لتنطلق بهما
من فورها .
صحيح أن ذاك الرجل لم يرفض طلبها وإن كان تعليقه الوحيد
مبهماً ويحمل جميع الاحتمالات ولم يطردها أو يصرخ بها غاضباً
ليذكرها وبصمت بما أقدم عليه شقيقها وإن كان بطلب من ابنة
خالتها بنفسها إلا أنها كانت ترفض أن يرى الجالس بجانبها الألم
المرتسم على وجهها أو أن يسألها عن نتائج لقائها القصير ذاك
برئيسه وصديقه ، وذاك ما لم يفعله هو أيضاً وسيارته تعبر
شوارع العاصمة وحتى وصل منزلهما لم ينطق بأي حرف ولم
يسألها وكم كانت ممتنة لكل ذلك وأوله ثقته بها ليتركها تقابله
وحيدة وإن كان في بهو منزله ، بل ولم يجب ولا على هاتفه
الذي لم يتوقف تقريباً عن الرنين حتى توقفت سيارته أمام الباب
الخارجي للمنزل ففتحت بابها ونزلت دون أن تنتظر أن يدخل
بالسيارة ليوصلها للداخل واكتفت بعبور البوابة التي فتحت أمام
سيارته واغلقت خلفها على الفور فتحررت حينها الدموع التي
سجنتها طويلا تسقي وجنتيها في صمت مما جعلها تقطع طريقها
نحو المنزل وتقف قرب إحدى الأشجار تتكئ بكتفها على جذعها
تخفي عبراتها وشهقاتها الصامتة بظهر يدها ولم تعد تعلم من
تبكي تحديداً ؟ ويبدو لم يتعدى الأمر بكائها على نفسها ! .
*
*
*
خرجت من باب المطبخ تحمل الطبق المسطح متوسط الحجم
والمغطى بمنشفة
مطبخ جديدة ونظرت حولها وهي تسير ببطء
وخطوات خافتة باتجاه السلالم تلتفت في كل اتجاه خشية أن تظهر
لها والدتها أو أحد ابنيها من أي مكان ويفشل مخططها .. بل
وستقع في مأزق سيء إن كانت والدتها من أمسك بها .
اتسعت خطواتها ما أن كانت في بهو المنزل حتى وصلت مقصدها
وهو السلالم الذي سيخفيها عن ممر غرفهم الموجودة خلفه
وصعدت حينها عتباته بخطوات مسرعة حتى كانت في الأعلى
وزفرت نفساً طويلاً ونظرت من أعلى السلالم نحو الأسفل تتأكد
من خلو المكان ، فبعد أن غاب عن المنزل لساعات طويلة قد
تلت شجارهما ذاك في الحديقة صباحاً عاد ليغادر مجدداً ولكنه
أخذها معه هذه المرة ؟!
قد لا تفهم شيئاً مما يجري بصعودها إلى هنا لكنها لن تستبعد
أن تجد ما يجيبها وإن على سؤال واحد من الألغاز التي تدور
حول زواجه الغريب بها ! .
وضعت الطبق من يدها حيث أقرب طاولة وصلتها ونظرها على
باب غرفة نومهما ونظرت خلفها قبل أن تتحرك نحوها مسرعة
وفتحت الباب ببطء ونظرت للغرفة المرتبة وكأن لا أحد يعيش
فيها ! تعلم بأن عمير شخص مرتب للغاية واعتاد أن يعيش
وحيداً ويهتم بجميع أموره ولم يتغير هذا ولا بعد أن أصبح بكل
هذا المركز ويمتلك ما يمتلكه من مال لكن أن تكون غرفتهما
هكذا وهما غادرا فور وصوله تقريباً فليس بالأمر المنطقي !!
نظرت للمكان خلفها وللسلالم الغارق في الصمت التام ودخلت
تاركة الباب مفتوحاً ونظرت حولها قبل أن تقرر التوجه للخزانة
وسحبت بابها المغطى بمرآة كبيرة ووقفت تنظر باستغراب لثيابه
وحدها والمعلقة هناك !
وعادت وأغلقتها سريعاً وغادرت الغرفة تغلق بابها ونظرها يسقط
تلقائياً على الجهة اليمنى حيث السلالم والمكان الوحيد الذي قد
يوصل أي شخص إلى هنا .
فتحت عدة أبواب في المكان الغارق في الصمت والظلام الجزئي
فكانت واحدة لغرفة مكتب وأخرى مخصصة للتلفاز وواحدة فارغة
تماماً وأحد الأبواب كان لحمام خارجي ، وآخر باب قررت فتحه
وهو الأقرب للغرفة من الجانب الآخر جعلها تقف متسمرة مكانها
وقد اختلطت في ملامحها الدهشة والصدمة والسعادة الغامرة
ذات الوقت وهي تجد ما كانت تبحث عنه .. بيجامة نسائية مرمية
على السرير الموجود في الغرفة وفرشاة شعر ومشبك كريستالي
مرميان بجانبها مما يعني بأنه يستخدم تلك الغرفة بينما تستخدم
هي هذه ولا وجود لعروس عمير سوى في ورقة عقد
زواجهما ! .
انتفض جسدها بقوة وأغلقت الباب بحركة لا إرادية حين سمعت
باب المنزل يغلق في الأسفل فهم عادة لا يغلقونه نهاراً والشمس
لم تغب بشكل كامل بعد وقد لا يكون هذا الشخص والدتها ولا أحد
أبنائها !!
تحركت باتجاه السلالم من فورها ونزلت منه وتوقفت مكانها ما
أن ظهرت لها التي بدأت صعود عتباته للتو وقد وقفت أيضاً تنظر
لها باستغراب بينما كان وضعها هي مشابهاً وهي تحدق في
عينيها التي ظهر أثر البكاء عليها واضحاً وكادت ملامحها أن
تشع سروراً شامت في وجهها لولا أدركت نفسها ، وبالرغم من
ذلك شقت ابتسامة عريضة شفتيها وهي تشير بيدها للأعلى قائلة
" صنعنا الخبز للعشاء بأنفسنا لأن والدتي لا تأكل الخبز الجاهز
وحملت لكما جزءاً منه لكني لم أجد أحداً فتركته على الطاولة
قرب الجدار "
ولاذت بالصمت ما أن أنهت عبارتها الجاهزة سلفاً من أجل
المواقف الطارئة كهذا الآن تنظر للتي صعدت باقي العتبات ترفع
عباءتها الطويلة بيدها واجتازتها دون أن تنظر ناحيتها ولا أن
تتحدث أو حتى لتشكرها وقد استدار رأسها معها حتى اختفت في
الأعلى وحينها فقط تحركت متمتمه بحقد
" يالك من مغرورة وضيعة "
وما أن وصلت للأسفل دارت حول السلالم متجهة لممر غرفهم
تدندن لحناً قديماً بسعادة ولم يكن أي لحن ذاك بل أغنيتها
المفضلة في الماضي والتي كان يحب سماعها بصوتها دائماً
فقط لأنها تحبها .
*
*
*
ترك سيارته خارج أسوار المنزل ودخل سيراً على قدميه ، كانت
الساعة قد تجاوزت منتصف الليل ولا شيء في ذاك المنزل الكبير
أو حديقته والذي كان مليئاً بالمعزين نهاراً سوى السكون
والصمت التام الذي أحاطه من كل جانب حتى أصبح في الداخل
ووقف ينظر للشخص الوحيد الموجود هناك والذي ما كان عليه
أن يتوقع أن ينام قبل وصوله ونظر لطيف المرأة التي وقفت فور
ظهوره ونظر لملامحها ما أن ظهرت له بوضوح أكبر في الأنوار
الصفراء الباهتة للمكان الواسع والمصممة للإستخدام الليلي هنا
وقد قالت ما أن وقفت أمامه تنظر لعينيه وملامحه المجهدة
" تأخرت كثيراً يا وقاص ! "
وكان صوته لا يقل إجهاداً عن ملامحه حين قال ببحة
تعب واضحة
" كان ثمة الكثير عليا فعله قبل أن أكون هنا كي لا أجد أنه
لا مفر من تسليمها للشرطة .... كيف هي الآن ؟ "
قال آخر كلماته بهمس حمل الكثير من المعاني التي لم يكن التعب
وحده المسيطر عليها مما جعل الواقفة أمامه تتنهد بحزن ولا تعلم
على حال أي منهما تحديداً ستحزن وقالت
" كان اليوم حافلاً بالمعزين ولم أستطع التردد على غرفتها كثيراً
لكنها لم تفارقها ولا سريرها أيضاً كما لم تأكل ، وقد مررت
بغرفتها قبل قليل وكانت نائمة "
فأبعد نظره عنها ناحية ممر غرفتها المظلم بينما قالت التي لازالت
نظراتها معلقة بوجهه
" كان عليك أن تكون هنا منذ وقت على الأقل لترى والدك فهو
ابنه إن استثنينا بالطبع كل المعزين الذين سألوا عنك "
وتابعت ما أن نظر لها مجدداً
" زر جناح أسماء أولاً فهو هناك ومؤكد لم ينم حتى الآن "
قال يشتت نظره بعيداً عنها
" متعب خالتي ولا يمكنني رؤية أحد ولا التحدث معه ولا أريد
أن يعلم غيرك وأيا كان بوصولي "
حدقت فيه باستغراب وقالت
" وأين ستذهب !! "
تركها وتحرك مبتعداً ناحية السلالم الذي لم يكن يقصده قائلا
" سأكون في الغرفة المجاورة لغرفتها ، لا يمكننا تركها وحيدة
الليلة تحديداً "
فراقبته متنهدة بأسى وقلة حيلة تستغرب القلب الذي لا يجعله
يراها كقاتلة لشقيقه وقد تؤذيه أيضاً !
هل هي بريئة فعلاً كما قال ؟
من قتله إذاً ولما في غرفتها وتمسك هي المسدس وتلتزم
الصمت ولم تدافع ولا عن نفسها ؟!
تركت كل تلك الأفكار خلفها فلا طائل من التفكير فيها وغادرت
جهة السلالم متمتمه بأسى
" رحم الله قلبك بني قبل قلبها "
بينما من تركته بعاطفة أمومة هناك تابع طريقه حتى وصل باب
غرفتها المغلق ووقف أمامه متردداً قبل أن تمتد يده لمقبضه
وأداره ببطء يدفعه برفق أكبر وكأنها نسمة هواء خفيف تحركه
ورقّت ملامحه بحزن وهو ينظر للنائمة تجمع كفيها تحت وجنتها
بينما تنام في سكينة .. فقط احمرار وجنتيها وتعاقب أنفاسها من
بين شفتيها المنفرجتان قليلاً ما يؤكد أي نوم سيء لازالت
تتشبث به .
أخذته خطواته نحوها ودون أن تستأذنه حتى وصل عندها ورفع
اللحاف يغطي جسدها جيداً وتحسس بظهر أصابعه جبينها ولم
تكن حرارتها مرتفعة كما يبدوا واعتقد ، أحكم أولاً إغلاق النافذة
التي كانت شبه مفتوحة ويبدو لم ينتبه لها أحد تتسرب منها
النسائم الربيعية الباردة وغادر الغرفة دون أن يطفئ أنوارها
وترك بابها مفتوحاً أيضاً ودخل الغرفة الأقرب لها وإن كانت
تفصلها عنها مسافة تكاد تساوى اتساع الغرفتين المتجاورتين
كاملاً وفتح بابها ودخل .
كانت الغرفة التي تم استقبال ماريه فيها سابقاً والتي لم تغادرها
سوى صباح الأمس لازال يستنشق رائحة عطرها النسائي
الخفيف المميز فيها وترك بابها مفتوحاً أيضاً وهو يتوجه نحو
السرير الواسع ونزع سترته ورماها على طرفه وأتبعها بربطة
العنق وفك زرين من ياقة قميصه أتبعها بأزرار أكمامه وثناها لما
يقارب مرفقيه قبل أن يرتمي بثقل جسده جالساً بتعب على السرير
ورفع قدميه يثني إحدى ركبتيه ناصباً ساقه بينما يفرد ساق
الأخرى على استقامتها يريح ساعده على ركبته وقد ارتفعت يده
الأخرى لعينيه يضغط عليها بقوة يتكئ برأسه على ظهر السرير
خلفه بينما يرتاح ظهره على الوسائد الناعمة المكدسة ورائه ،
واشتدت أصابعه على العينان المجهدة بقوة يشعر بكل ما حدث
اليوم يمر أمامه كشريط مصور وبالحركة البطيئة أيضاً وصوت
ضابط الجنائية يتردد في رأسه وكأنه يسمعه الآن
( التقرير المبدئي للطبيب الشرعي يؤكد تعرضه لكدمة قوية في
المعدة والتواء خفيف في معصم اليد اليمنى مما يدل على تعرضه
لإعتداء جسدي قبل وفاته بدقائق قليلة وقد يثبت ذلك ما قلت أنت
بأن المسدس كان في يده بداية الأمر ، وإن لم تكن المتهمة ممن
يتمتعون بلياقة بدنية عالية لا يمكنها فعل ذلك مطلقاً )
( وكنت لأتهمك بالجنون في تحليلك للأمر لولا وجود أثر الدماء
على طلاء الحافة الإسمنتية للنافذة من الخارج مما يعني أنه ثمة
شخص خرج منها بما أن المغدور لم يبرح مكانه ومات خلال
ثواني معدودة لن تكفيه ليتحرك ناحيتها ويرجع ، كما ولا أثر
للدماء لا في جسد ولا ثياب المتهمة .. وبما أن شهادة الحرس
واضحة وواحدة بأن شقيقك لم يدخل المنزل من بوابته بينما غادر
منها ووجود النافذة في الغرفة مفتوحة بينما بابها مغلق معناه
دخوله منها فلما سيفعل ذلك وما الذي يضطره له وهو أحد
ساكنيه ويدخل ويخرج حيث ومتى شاء ؟!
لكن المعضلة تبقى في شهادة الجاني نفسه ولا يمكنك بكل هذه
الأدلة أن ترفع التهمة عنها بسهولة إن كانت هي تصر على
العكس )
وكان ذاك نتاج يوم كامل لم يجلس ويرتاح فيه دقيقة واحدة ، وما
كان ليستطيع فعل كل ذلك لولا مركزه كنائب للمدعي العام حيث
المحكمة التي سعى وفوراً لضم القضية لها كي لا يتم تحويلها من
مركز شرطة بريستول لمحكمته قبل نقلها للجهة المختصة
وينتهي دوره حينها ومهما حاول فهو كان على استعداد لفعل أي
شيء ولا تنام ليلة واحدة في الزنزانة وإن اختطفها وأخفاها عن
الجميع وأنكر معرفته بمكانها حتى تنتهي القضية ويثبت براءتها
التي يراها رأي العين وواثق منها ثقته في استحالة أن
تكون قاتلة .
لكن من يكون هو المجرم الحقيقي ولما تتستر عليه بعناد هكذا ؟!
إن كان شقيقها في غيبوبة لم يفق منها بعد فمن هذا أيضاً الذي
هي على استعداد لدخول السجن من أجله !!
يكاد رأسه ينفجر ولا يستطيع فهم أو معرفة السبب وما حدث ؟
بقي شهادة ساكني المنزل ليثبت كل واحد منهم أين كان وقت
الجريمة ليتسع نطاق البحث بعدها لخارجه .
قفز واقفاً خارج السرير بل وركض خارج الغرفة على الفور ما
أن وصله صوت الصراخ الأنثوي الذي توقعه وكان ينتظره في أي
لحظة ، وخلال ثواني معدودة كان يدخل الغرفة متمسكا بإطار
بابها بيده بينما جسده داخلها قبل أن يواصل ركضه ناحية التي
كانت تجلس فوق السرير وبينما عيناها مغمضتان بقوة وكأنها
تمنعها من رؤية شيء ما يستحيل عليها الهرب منه
كان صراخها الباكي يرتفع بهستيريه أصابعها تقبض بقوة على
قماش اللحاف الذي لازال يغطي نصف جسدها .
وما أن وصل عندها ودون أدنى تردد ولا تفكير كان جالساً
بجانبها يشدها لحضنه ذراعيه القويتان تحيطانها بقوة رغم
تمنعها ومحولاتها ضربه والابتعاد عنه وكأنها لم تتعرف عليه بعد
والذي بدأ يخف تدريجياً أمام إصراره القوي والمغلف بالرقة في
آن معاً وبدأ يدسها في حضنه أكثر تتخلل أصابع يده خصلات
الشعر الحريري الذي يغطي رأسها المدفون حيث أضلعه
يهمس بتأني
" انتهى ... هو كابوس وانتهى يا زيزفون أنا معك لا تخافي "
وكان ذاك ما جعل حتى أنفاسها المتلاحقة بقوة وكأنها كانت
تركض لأميال طويلة بدأت تهدأ وتنتظم ببطء ، لم يكن يعلم إن
كانت مستيقظة إن كانت واعية لما حولها أم لا تزال نائمة ؟
كل ما يعلمه بأنها تقتله بكل عبرة صامتة تكتمها في أضلعها
تخرج بين الحين والآخر في شهقات مكتومة فهو لم يعرفها
ضعيفة هكذا سوى في تلك المرة التي هاجمتها فيها ذكريات
ماضيها وهي نائمة ومؤكد ما حدث البارحة أعاد لها ذكرى ما
حدث في الماضي وهي ترى شخصاً يُقتل أمامها مجدداً ، وإن
استثنى بالطبع المرة التي بكت فيها ونادت شقيقها وهي تشعر به
يتعرض للأذى وهم يجهلون ، ويرى كلا الأمرين واحد وهو لحظة
الضعف الأندر لشخصيتها القوية الصامدة ونقطة الضعف الوحيدة
فيها وهي شقيقها وماضيها معه .
ما أن شعر بجسدها ارتخى تماماً بين ذراعيه نظر لها يبعدها
برفق ورأسها يسقط للأسفل ببطء فعلم بأنها عادت للنوم مجدداً
أو استكانت في نومها الذي يبدو لم تغادره بعد فأسند رأسها
بذراعه ووضعه على الوسادة ببطء ثم سحبها من تحتها برفق
وغطاها جيداً باللحاف الناعم المكون من طبقتين من القطن
الثقيل ووقف لبرهة ينظر لملامحها التي يبدو أنها استرخت أكثر
من السابق من انتظام أنفاسها ولم يستطع البقاء أكثر من ذلك
ولو كان الأمر بيده لما غادر الغرفة حتى تستيقظ لكنه عاجز حتى
عن تقديم ما يحرمها الجميع منه وهو الشعور بالأمان في أكثر
أوقات احتياجها له ، كما لا يريد موقفاً مشابهاً للذي شهدته
جمانة سابقاً ما أن تطلع شمس الصباح وإن كان يختلف عنه إلا
أن فهمهم له سيكون واحداً وبعيداً عن كل ذلك لذلك لا يمكنه
قضاء الليل في غرفتها هنا وحتى مربيتها لم يعد لها وجود فلا
حل أمامه سوى العودة للغرفة التي جاء منها .
غادر الغرفة تاركاً بابها مفتوحاً هذه المرة أيضاً ودخل غرفته
السابقة وتوجه نحو الستائر في الطرف الآخر وأبعدها بحركة
واحدة قوية وفتح النافذة قليلاً لا يعلم ليقلل شعوره بالإختناق أم
ليمحو رائحتها من ثيابه ؟ بل ومن كل خلية في جسده بهواء أكثر
قوة وبرودة .
جلس على حافة السرير من تلك الجهة يولي الباب في الجانب
الآخر ظهره واتكأ بمرفقيه على ركبتيه يشبك أصابعه ببعضها
ونظره عليها وهي تشتد مع اشتداد أفكاره التي كانت تدور في
ذات المسار فإقناع من تعيش هنا في وسطهم ببراءتها يراه أكثر
صعوبة من إقناع القضاء ففي المحاكم يأخذون الأدلة البسيطة
بعين الإعتبار لكن البشر لا يعترفون بذلك وإن صدر الحكم
ببراءتها ففي بعض الأحيان تموت حتى المشاعر الإنسانية ،
ولهذا تَهرّب من رؤيتهم جميعاً فأول ما سيهاجم به هو دفاعه
الشرس عن قاتلة كما يعتقدون وتركها هنا بينهم خاصة وأن أكثر
من نصف ساكني المنزل هنا لم يستسيغوا وجودها هنا منذ
البداية فكيف الآن ؟!
عاد لجلوسه السابق واتكأ برأسه للخلف وأغمض عينيه
المجهدتان حد الألم الذي يشعر به يضرب في صدغيه يغوص في
أفكار عديدة وإن كانت تصب في ذات النقطة حتى انتظمت أنفاسه
وغلبه نعاس خفيف لم يكد يغرق به في نوم حقيقي حتى عاد
وفتحهما مجدداً واستوى في جلوسه ينظر حيث باب الغرفة الذي
تحرك فجأة وارتفع نظره للجسد الأنثوي الواقف أمامه حتى
وصل به للعينان المحدقتان به بصمت لازالت آثار النوم عليهما
تطالب بالمزيد قبل أن تسدل جفنيها تخفي الزرقة الجميلة
المشوشة فيهما عنه وتحركت خطواتها نحو الداخل حتى وصلت
السرير يراقبها باستغراب وريبة تبدلت للدهشة سريعاً وهي تندس
تحت اللحاف بجانبه وانكمش جسدها تحته في وضعية الجنين
تولي ظهرها له لا يظهر منها سوى رأسها وشعرها الذي أخفى
ما يظهر من ملامحها التي تدفن أغلبها في الوسادة تحتها !
وتصلبت ملامحه ما أن خرج صوتها الهامس بخفوت
" لا أريد البقاء وحدي هناك "
فأغمض عينيه ببطء ووبخ نفسه سريعاً فكيف لم يفكر في هذا
وبأن لمكان الجريمة أكبر تأثير على نفسية حتى الأصحاء فكيف
بمن مرت بمآسي مشابهة في الماضي ؟
وما أن عاد وفتحهما توقفت نظراته عندها بل وتشابكت أفكاره
العاجزة عن فهمها ..!!
وكان عليه وخلال ثواني فقط أن يقرر قراراً حاسماً يترك السرير
أم الغرفة بأكملها لها ؟
لكنه خشي ذات الوقت أن تعتبره هروباً أو تهرباً منها مما
أعجزه عن اتخاذ ذاك القرار أو حتى التفكير فيه وساقاه تتخدران
يشعر بهما أثقل من أي شيء قد يفكر في حمله أو تحريكه !
وذاك ما جعله يتجمد مكانه كالصخرة الصماء كل ذاك الوقت حتى
بدأت أنفاسها بالإنتظام محررة إياه من القيود الوهمية التي كبلت
كل شيء فيه عن الحركة بل وإصدار الأوامر أو تلقيها ووقف
حينها مبتعداً عن السرير ببطء ونظره عليها لا يعلم
ما يلعن تحديداً ؟
نفسه لأنه السبب في عجزه عن احتوائها واحتضانها أم غيره
ليقف موقف العاجز عن فعل أي شيء من أجلها خارج أسوار
مبنى النيابة العامة هناك ؟
راقبت نظراته الحزينة المتفهمة جسدها وخصلات شعرها الطويل
المتناثرة خلفها فبالرغم من كل ما تعانية في نومها المليء
بالكوابيس لازالت كما يبدو تتمسك به وتعود له سريعاً وكأنها
تتخذه ملاذاً من واقعها وبالرغم من كل بشاعته !
فهل ستحظى ببعض السكينة فيه بمجرد ابتعادها عن
تلك الغرفة ؟
كان سؤالاً جوابه أقرب مما يتخيل وقد بدأ صوت أنينها المتقطع
يخرج متعاقباً منها فجلس مجدداً يثني ساقه تحته وقبل أن تمتد
يده لها ليوقظها جلست فجأة بشهقة قوية مصدومة خرجت
مرتفعة مرتعبة زلزلت أعماقه قبل أضلعها المرتجفة بأنفاس
متلاحقة ، ودون شعور منه وجد نفسه يجلس فوق السرير بقربها
ويده تبعد شعرها عن طرف وجهها هامساً ونظره على عيناها
الشاخصتان في الفراغ
" زيزفون أنت بخير إنه مجرد حلم "
فكان رد فعلها الوحيد أن مسحت بيديها على شعرها للخف وكأنها
تبعده عن وجهها تتنفس بعمق وقوة قبل أن تعود للإستلقاء
مكانها ووضعها السابق تولي ظهرها له ودفنت ملامحها هذه
المرة في ساعدها وذراعها تثنيهما تحت رأسها ليدمره وبشكل
نهائي صوت أنينها الباكي والذي خرج مكتوماً موجعاً وكأنه
يخرج من قلب مأساتها ومنذ بدأت فانهار جسده على ظهر
السرير يتكئ عليه بكتفه وجانب رأسه ينظر بإنكسار حزين
لجسدها المرتجف الباكي وهو يعلن تمرده على صمودها وانهياره
التام أمام قسوة ما تمر به ، وفي لحظة كانت أعظم من أن
يسميها ضعفاً امتدت يده ببطء ناحيتها حتى لامست أصابعه وكفه
نعومة شعرها واستقرت فوق رأسها وتنفس بعمق نفساً طويلاً
قبل أن يخرج صوته ببحة عميقة وهو يتلو الآيات القرآنية
بصوت عميق رخيم زادته نبرة الحزن فيه عمقاً ، وهذا جل
وأعظم ما يمكنه فعله من أجلها وهو يدرك ما يواجهه قلب الأنثى
الضعيف الليلة ومهما كان قوياً ، بل وكان موقناً من أنه سبيله
الوحيد ومنجاها الأكيد أيضاً وأنين عبراتها الموجعة قد بدأ يخفت
تدريجياً حتى لم يعد يملأ المكان الواسع البارد سوى صوته
الجهوري العميق لازال يتلو الآية تلو الأخرى ويده على رأسها
ونظراته الحزينة لا تفارقها .
*
*
*