*
*
*
تنهدت بارتياح هامسة
" حمداً لله "
وقالت لمن في الطرف الآخر
" وأين هو الآن ؟ "
وصلها صوت زوجة شقيقها سريعاً
" لقد غادر ما أن استحم وتناول بعض الطعام "
غضنت جبينها قائلة باستغراب
" أين ذهب ؟! "
كانت تنتظر جوابها بترقب لكن محدثتها غيرت مجرى الحديث
قائلة بعرفان
" شكراً لك يا جليلة ... لولا طلبك من زوجك فعلها ما رأيناه
حتى يعثروا على شقيقه "
فتنهدت بأسى ليس فقط بسبب تهربها الواضح من الإجابة عن
سؤالها بل لظنونها المضحكة بأنها من كان السبب وراء إطلاق
سراحه وهي لم تتحدث معه في الأمر مطلقاً ، ولن تستغرب أن
تتوقع زوجة شقيقها بأنها من سعى لذلك فمن الغريب فعلاً أن
يطلق سراحه في غضون ساعات فقط !
تمتمت ببرود
" لم تجيبي عن سؤالي يا
عبير "
وكان صوت التنهد الواضح الذي سمعته حينها هو ما كانت
تتوقعه فقالت بإصرار
" هددك بعدم إخبار أحد أعلم ذلك فقولي ما لديك "
" غادر بحثاً عنه "
اتسعت عيناها بصدمة وشعرت بقلبها توقف عن العمل تماماً
بسبب الرصاصة التي صوبتها نحوها سريعاً هذه المرة
وهمست بصعوبة
" بحثاً عن ماذا ؟ "
وكما توقعت تماماً وأكده صوت التي قالت باستياء
" حاولت كثيراً أن أمنعه لكنه لم يقتنع وقال بأنه ذاهب لحوران
الآن وبأنه يعرف كيف سيجده ولن يسمح له بأن يؤذي نفسه "
اشتدت قبضة يدها الحرة حتى آلمتها وقالت بضيق
" ما هذا الجنون ؟ لم يجدوه رجال المخابرات ولا القوات
الخاصة يفعلها هو ؟ هل يريد أن يُسجن بالفعل ؟ "
وبدا صوت محدثتها شبه باكي حين قالت
" لم يصغي لي يا جليلة وتعرفين عناده وعلاقته بشقيقه التوأم "
وسرعان ما تابعت برجاء حزين
" هل يمكنك فعل شيء من أجل.... "
فقاطعتها من فورها وببرود وإن كان داخلها يشتعل غضباً
" لا يمكنني فعل أي شيء يا عبير وليتحمل هو مغبات جنونه ....
وداعاً الآن "
وأنهت المكالمة ورمت هاتفها على السرير بجانبها بحركة غاضبة
وحضنت نفسها واتكأت بجانب وجهها على ظهر السرير وهامت
نظراتها الحزينة حيث السماء المزينة بقطع كبيرة ومتفرقة من
السحب البيضاء الناصعة وشعرت بأنها تشبه عصفور مسجون
في قفص ينظر للحرية بعين الأمل الميت ، فأن تكون سجينة
لجدران غرفة واحدة لساعات أمر لم تعتاده ، كانت ستكون الآن
في إحدى الندوات المسائية للجمعية بعد أن انتهت محاضراتها
في الجامعة وبعد أن ساعدت والدتها في إعداد طعام الغذاء الذي
تناولتاه ووالدتها تستمع لحديثهما الذي يدور وكالعادة حول
بناتهم وعائلاتهم وأزواجهم ففي كل يوم ثمة طارئ جديد في
حياة إحداهن وإن بوقوع أحد أطفالها من فوق سور منزلهم
وكسره ليده ، وما أن ترجع للمنزل ستجد أمامها الكثير لتفعله
من أجل اليوم الذي يليه وليست هكذا جوفاء لا شيء لديها
سوى التفكير في الكارثة التي حلت بهم .
حجبت دموعها الرقيقة كل ذاك الإبداع الإلهي عنها وكم تمنت
لحظتها أن كانت أي شيء آخر لا يوجد لديه قلب ينبض في
صدره .. لا يشعر لا يتنفس ولا يعلم عن أي شيء مما حوله ولا
يحمل أية هموم داخله ، مسحت عينيها مستغفرة الله بهمس خافت
وانتفضت واقفة خارج السرير ما أن سمعت صوت طرق على
الباب ، لم يكن باب غرفتها بل الباب المجاور له وهنا تكمن
الكارثة فهذا الشخص لن يكون زوجها بالتأكيد فإما أنها
عمته أو ابنتها .
دارت حول السرير ولم تستطع فعل أي شيء غيره بينما كان
صوت الطرق يزداد وموقفها السيء يزداد معه فلا يمكنها
الخروج من هنا ولا من هناك ، رفعت غرتها الناعمة للأعلى
بعصبية وتأففت نفساً عميقاً فيبدو أن ذاك الطارق مصمم على أن
يفتحوا الباب له ! وتنفست بارتياح حين توقفت كل تلك الطرقات
المتعاقبة واقتربت من باب غرفتها وفتحته ببطء تنظر من خلاله
وأوقفته مكانه ما أن وقع نظرها على التي كانت تنزل السلالم
ببطء ووصلها بوضوح صوت الطفلة التي لم يكن يظهر منها
سوى قمة رأسها الأسود ويبدو تمسك يد جدتها
" ألن نرى العروس الآن ؟ "
ولم تسمع جواب التي اختفت عنها أيضاً لأن صوتها كان منخفضاً
عكس الصغيرة التي تشبه أقرانها عفويتهم تبدأ في عدم اهتمامهم
بمن يستمع لما يقولون ، وعلمت حينها لما كانت تسمع كل ذاك
الطرق الذي لن تكون جدتها السبب فيه بالتأكيد .
فتحت باب الغرفة أكثر وكما توقعت كان ثمة صينية كبيرة مغطاة
بمفرش حريري جميل ومطرز بالخيوط الذهبية يخفي تحته عدة
أطباق كما يبدو وموضوعاً على الطاولة المحاذية لجدار السلالم
وتنهدت بأسى فهي لم تستطع أن تكون لبقة مع المرأة الأكبر سناً
والتي صعدت بنفسها لتحضر لها الطعام بينما وكما قالت ابنتها
تلك صباحاً هي تملك مطبخاً كالذي تملكانه وليست بحاجة لأن
يكونوا خدماً لديها .
شعرت بالغضب بمجرد تذكر كلماتها وصفقت الباب بقوة ونظرت
سريعاً جهة هاتفها الذي أعلن عن وصول رسالة فتوجهت نحوه
ورفعته ونظرت للأحرف بعينان متسعة وهي تفتحها ليس لفحواها
فقط والذي كان
( أنت أمام خيارين لا ثالث لهما يا جليلة إما أن تأكلي أو أن
تتناولي طعام العشاء معي ورغماً عنك )
ونقلت نظراتها الغاضبة من أحرف رسالته تلك لأعلى شاشة
الهاتف حيث رقم الهاتف الذي لم تخزنه فيه سابقاً والذي أصبح
الآن تحت اسم
( زوجك رغماً عنك )
فعادت ورمته مكانه السابق بعنف فهو يبدو فتشه قبل أن يجلبه
لها من غرفته وعلم بأنها لم تحتفظ ولا برقمه مخزناً لديها ، ولم
تعد تعرف أيهما زاد من غضبها ناحيته فهو لم يخجل ولا من أن
تعلم عمته بأنهما ينامان في غرفتين منفصلتين ! وكان عليها أن
تتوقع ذلك وهي تصعد لها بالطعام في غير أوقاته المعتادة !!
وكان عزاءها الوحيد أن تكون اعتقدت بأنها في الحمام أو نائمة
بالرغم من أن طرقات حفيدتها تلك كفيلة بإيقاظ الأموات .
كتفت ذراعيها لصدرها وأشاحت بوجهها بعيداً عن صوت الرنين
الذي خرج ملحاً من هاتفها فسيكون هو بالتأكيد ولن تجيب ، لكن
لما يرسل رسالة إن كان سيتصل ؟
اقتربت منه ورفعته ونظرت لشاشته فهو لن يراها من خلاله
على أية حال ، وكما توقعت لم يكن هو بل غدير فقد تبادلتا أرقام
الهواتف بالأمس وتذكرت حينها فقط بأنها لم تتصل بها فهل
تجهل ما حدث مع قائد ؟!
فتحت الخط ووضعت الهاتف على أذنها لتقطع الشك باليقين
ووصلها الصوت الرقيق القلق سريعاً
" جليلة مؤكد تعلمين بما حدث ؟ "
فانفرجت شفتاها وتصلبتا في عجز عن إصدار أي تعبير وقالت
من في الطرف الآخر برجاء آسي
" جليلة تحدثي لا يكون جوابك الصمت "
قالت متلعثمة
" ما ... من أخبرك ؟ "
" القضية الآن ليست في من أخبرني بل في الكارثة التي ستحل
على رأسي "
انهارت جالسة على السرير خلفها وقالت بخوف مما تخفيه
المصيبة التي قد تكون حلت بهم أيضاً
" أي نوع من الكوارث تعنين وما علاقتك أنت ؟! "
فانطلق الصوت الأنثوي في الطرف الآخر من فوره وكأنه زر
تشغيل ينتظر من يلمسه
" لقد تم استدعاء جميع العاملين معه في مكتبه في أرياح
وصيباء وفزقين والحميراء وحتى مكتب بينبان وتم استجوابهم
بشأن اختفائه فقط والدور سيكون عليا قريباً يا جليلة "
" ماذا ؟! "
اتسعت عيناها بصدمة وهي تهمس بتلك الكلمة اليتيمة وقالت
محدثتها من فورها
" هل نسيت بأنني نائبته ومديرة مكتبه هنا ؟
سيجن والدي ويقتلني شقيقي إن حدث ذلك وأنت تعلمين
حساسية الأمر في مجتمعنا "
شعرت بالاختناق من مجرد التفكير في الأمر وظهر ذلك جلياً
في صوتها وكلماتها المشتتة
" لكن أنا ... أنت.... "
وأخرستها تماماً حين قالت ما يبدو أنها تعده سلفاً
" جليلة الحل الوحيد لديك "
فحدقت في الفراغ بصدمة هامسة
" أي حل هذا الذي لدي ؟ "
قالت تلك من فورها
" زوجك "
أمسكت جبينها بأصابعها تنزل رأسها وتأففت نفساً طويلاً ، فلما
يعتقد كل هؤلاء بأنها امتلكت عصاً سحرية بزواجها هذا وسيكون
بإمكانها تلبية ما يتمنون بها ؟
رفعت رأسها وغرتها التي تدلت على وجهها وتركت أصابعها
فيها وقالت
" وما الذي سأفعله بربك يا غدير ؟
أطلب منه أن يستوجبني أنا بدلاً عنك "
" ليس وقت مزاح هذا يا جليلة "
كان صوتها متضايقاً وحالها هي لم يكن أفضل منها وقد قالت
بذات النبرة وهي تخرج أصابعها بعنف من غرتها
" آخر ما قد أفكر فيه الآن هو المزاح "
وسرعان ما عادت وقالت ومن قبل أن تتحدث تلك وكأنها
استفاقت للتو لتلاحظ ذلك
" لكن غدير أخبريني من هذا الذي أخبرك بأنه ثمة أمر آخر
غير اختفائه !
ولما يتم استبعادك حتى الآن ؟ "
قالت تلك من فورها " لا أعلم لا أعلم ... ما أعلمه بأنه عليك
إنقاذي ووظيفتي التي أحب وسأخسرها للأبد فلن يسمحوا لي
بدخول مكتبه مجدداً "
انحنى كتفاها وتمتمت بعبوس
" لا أجزم بأنه يمكنني مساعدتك "
قالت تلك من فورها
" ولماذا يا جليلة ؟
هو طلب صغير من زوجك ولن يرفضه وأنت زوجته
ولازلت عروس "
فتنهدت بأسى وصمت ، لما لا يعون حجم المأساة التي تعيشها
الآن ؟ فأي عروس نحس هذه التي حلت عليه وعلى نفسها ؟
استغفرت الله بهمس وقالت متهربة وأصابعها تشتد
على الهاتف فيها
" هو ليس هنا ولا يمكنني الاتصال به فسيكون مشغولاً
ولن يجيب "
وأغمضت عينيها متنهدة بضيق ما أن وصلها صوتها الملح
" أنت فقط حاولي ولن يتجاهل اتصالك وليأتي أي شخص
وإن هو لمكتبي ويسألوني عما أرادوا "
" غدير !! "
كانت صدمتها بعبارتها تلك أقوى من أن تمنع نفسها من تحذيرها
بتلك الطريقة وإن كانت تعذر خوفها وحالة الاضطراب التي تمر
بها فزيادة عن مصيبتها منفصلة ستكون قلقة بالتأكيد بشأن قائد
وما حدث وسيحدث معه ... لا بل سيكون قلبها متأذياً بسبب ما
فعل وهي يبدو تعلم جيداً عن مشاعره ناحية ابنة خالتهم تلك وقد
اجتمعت المصائب عليها الآن ولن تصمد المرأة القوية بداخلها
أمام كل هذا ومهما كانت ، أم أنها تعلم سبب اختفائهما وما حدث
وما تريده غسق منه لهذا كان تفكيرها منصباً على سلامتها هي
لا سلامته ؟!
يا إلهي كم سيتحمل قلب هذه المرأة من صدمات تواجه كل هذا
وحيدة وبقلب جريح ؟ لكنها عاجزة أيضاً عن مساعدتها ولا شيء
بيدها تفعله لها ، وصلها صوتها المتفهم والمستجدي ذات الوقت
" أعلم بأنه طلب سخيف بالنسبة له ولك أيضاً لكنك الوحيدة
القادرة على إنقاذ مستقبلي ووظيفتي فلك أن تتخيلي حجم الكارثة
وأنا أخرج مع رجال الأمن وأدخل مبناهم أمام العيان في
العاصمة هنا "
نظرت لأصابعها التي كانت تشدها بقوة في قبضة واحدة تريحها
في حجرها وقالت بما يشبه الهدوء قليلاً
" لن يكون في صالحك أن تخضعي للتحقيق وهم غافلون عنك
حتى الآن على ما يبدو ، فلما تفتحي تلك الأبواب على نفسك ؟ "
قالت ذلك تذكرها بما تعلمه هي ويجهله الجميع ولعلها أيضاً تعذل
عن فكرة إقحامها في الأمر لكن أملها ذاك مات ما أن قالت التي
نسيت بأنها درست المحاماة وامتهنتها
" لن أفترض ذلك .. ولست أعلم أكثر مما يعلمون هم ولن
يخرجوا مني بشيء ويمكنهم التأكد من ذلك بسهولة "
فتنهدت بأسى ولاذت بالصمت بينما قالت من في الطرف الآخر
بلمحة أمل
" هل ستتحدثي معه يا جليلة ليأتي ؟ "
" لا "
قالتها مباشرة ودون تفكير وكأنها تركت قلبها يتحدث نيابة عنها
فإن كانت تمر بظروف سيئة فوضعها هي ليس بأفضل منها ،
وتوقعت جميع ردود الأفعال منها، إلا ما قالته حينها وببرود
" سحقاً لغيرة النساء "
فاتسعت عيناها بصدمة وقالت محذرة
" غدييير .... "
وأتاها ردها سريعاً وبضيق أيضاً
" وما الذي يمنعك إذاً من طلب ذلك منه ؟
وهل ثمة امرأة لديها زوج مثله لا تغار عليه أم أنك
لستِ منهن ؟ "
اشتدت أصابعها على الهاتف فيها بقوة وقالت بضيق
" إذاً أجل أغار عليه منك ولن أسمح له بدخول مكتبك ولن
أطلب ذلك منه "
وعادت ورمت الهاتف مكانه السابق ما أن فصلت الخط عليها .
*
*
*