كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
أغلقت النافدة وأسدلت الستائر المخملية عليها فالبرد هنا لا يمزح
مطلقاً ولن تشعر بملمس النسائم الدافئة على بشرتك إلا بحلول
فصل الصيف لا الربيع ، وابتسمت بحزن تتذكر تلك الأيام التي
عرفت فيها البرد بأبشع سلوكه الوحشي وهي طفلة وسط
مجموعة أطفال مثلها لا يملكون من أمرهم شيئاً ، حتى بكاء
الأصغر سنناً بينهم بسبب شدة البرد تشعر بأنها تسمعه الآن ،
ولاحت ابتسامة أخرى على شفتيها لا تشبه سابقتها مطلقاً حين
تذكرت فكرتها المجنونة وإشعالها النار في خشب المنزل ليشعروا
بالدفء وكانت النتيجة أن انتقلوا لمنزل أسوأ حالاً منه لكنها لم
تكن تعيسة حينها فقد قضوا تلك الليلة في جو دافئ وهم
يشاهدونه يحترق .
ضحكت على أفكارها الغريبة تلك حينها ورفعت هاتفها ونظرت
لشاشاته وابتسمت لأحرف رسالته الأخيرة
( أين أنت لم تدخلي يا عنقاء ؟ )
فهو كان يختار لها هذا اللقب منذ أعوام وكانت تستاء منه بينما
كان هو معجب به واختار إلصاقه بها وهذا ما جعلها تكرهه بداية
الأمر بينما كان يراه هو شيئاً مختلفاً حتى أقنعها به وبأنه وصف
مميز لها على أنها مخلوق أسطوري لكن مؤخراً تغير كل ذلك
حين لاحظت أنه لا يستعمله إلا وقت تضايقه منها فباتت تراه
أحيناً يقصد به يا حمقاء ! شعرت بالاستياء منه فجأة بسبب
أفكارها تلك وكانت سترميه مكانه السابق ومنعها وصول رسالة
جديدة منه ونظرت سريعا لأحرفها تزين شاشته المضاءة
( دخلت أخيراً إذاً )
واستشعرت فيها عتبه الواضح لعدم تواصلها معه وقررت أن
تراضيه بطريقتها لكنّ أصابعها توقفت واضطربت أفكارها كما
ضربات قلبها حين تابع
( لديا معلومات جديدة عنها قد تهمك وتوصلك لها )
فزفرت نفساً طويلاً ومنهكاً من صدرها لم تكن تدرك بأنها تحبسه
وأنهت المحادثة بينهما برمز ودون أن تكتب له شيئاً بل ورمت
الهاتف بعيداً عنها حيث سريرها الواسع وسيفهم بالتأكيد بأنها
لن تفعل شيئاً الآن فعليها التريث قليلاً لتنظم أوراقها من جديد ،
توجهت لباب الغرفة وفتحته وكعادتها التي لم تغيرها السنين حال
أغلب طباعها أخرجت رأسها منه تنظر للمكان الخالي تماماً بعد
أن سمعت أحد الأبواب هناك يُفتح ويبدو أنه لم يكن باب غرفته !
لم يتبادلا أطراف الحديث اليوم أبداً ومنذ مغادرته بالأمس وحتى
حين كانت ماريه هنا وغادر بها وبعد عودته تناول طعامه في
صمت ولم تحاول هي فعل ذلك بل وتركته يتناوله وحده وغادرت
لغرفتها وكان قد دخل غرفته حين كانت تغسل الأطباق وها هو
يغادرها قاصداً مكان آخر سيكون مكتبه بالتأكيد فهو الأقرب
لغرفتها وسمعت صوت بابه بوضوح .
أغلقت الباب بهدوء واقتربت خطواتها من ذات الباب وكل ما
أرادت هو الاعتذار منه عما قالت سابقاً ويبدو أزعجه فتلك ليست
طباعها لكن وضع تلك المرأة استفزها واستنفرها وغاص بها
بعمق في ماضيها الذي شعرت بنفسها تقذف في دوامته ودون
شعور ، لكنها أيضاً علمت الكثير سابقاً عن المدعوة غيسانة وما
كان عليها أن تلقي بلومها بأكمله عليهما بل وعليه هو تحديداً
فمطر لم يكن أمامها حينها .
ما أن كانت أمام باب المكتب وجدته مفتوحاً في إشارة دلتها على
أنه لم يعتد على إغلاقه أو أنه لا يمانع دخول أحدهم وهو فيه مما
شجعها على المضي في تنفيذ ما عقدت العزم عليه فاستندت
بيديها وجسدها على إطاره ولم يتسلل رأسها منه هذه المرة بل
نصف وجهها ونصف جسدها أيضاً تنظر له بعين واحدة وكان
يلبس بنطلون رياضي مريح وقميص قطني متوسط السمك يرفع
أكمامه الطويلة لما يقارب مرفقيه يجلس على أريكة صالون
المكتب بينما يضع حاسوبه الشخصي على الطاولة الزجاجية
المنخفضة أمامه وقد انتبه سريعاً لوجودها وسرقت تركيزه عن
جهاز الحاسوب أمامه ما أن التقط نظره طيف جسدها النصف
موجود ، لقد بدى لها أصغر سنناً بملابسه الغير رسمية تلك
وشعره الناعم الذي لم يهتم كثيراً بتمشيطه مرتباً للخلف كالعادة
وذكرها ذلك بابنه وحربه التي تبدو مستميتة مع خصلات شعره
الناعم وكتمت ابتسامة حانية كانت سترتسم على شفتيها .
كانت تنظر لعينيه المحدقة بها نظرة اعتذار واضحة ترسل رسالة
صامتة تؤكد فيها مدى اهتمامها بغضبه منها لكنه خان جميع
توقعاتها حين ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو ينسحب
بنظره من عينيها لشاشة حاسوبه المحمول وقال وسبابته تضغط
أحد أزراره
" لن أتركك تنتصري عليا في هذا دائماً "
فابتسمت من فورها بسعادة فمعنى عبارته تلك بأنه سيحذو حذو
مشاعر التسامح لديها ويكون مثلها ، والأهم من كل ذلك أنه
ليس غاضباً منها ، لكن ذلك لا يكفي فهو لم يعلن عن مسامحته
المطلقة لها بعد بل ولم تنل هي العقاب الذي اختارته لنفسهاً وهو
الأهم ، اقتربت من الأريكة وجلست بجانبه بينما كانت تراقبها
نظراته وهي تخرج لوح شوكلاته من جيب قميصها الأنثوي
الطويل بعض الشيء كحال أكمامه التي غطت أغلب كفيها وقد
رسم تفاصيله على جسدها النحيل الصغير وله قلنصوة أخفت
بقصتها الدائرية المتسعة أغلب خصلات شعرها الذي كانت تجمعه
للخلف بمشبك مطاطي مزين بالفصوص بينما تمسك خصلات
غرتها الناعمة القليلة بذات المشبك الذي رآه في شعرها أول مرة
بل وفي كل مرة ولم يلاحظها تنزعه أبداً .
غضن جبينه وهو يحدق في لوح الشوكولا في يدها فهذا النوع لم
يراه في ثلاجة المطبخ ولا الخزانة ولم يحضره بنفسه مما يعني
أنها تحتفظ به لديها وتخص نفسها فقط به ! بينما كانت الجالسة
قربه تقرأ نظراته تلك بشكل مختلف تماماً وقالت بعبوس
" حسناً هذه الأشياء ليست حكراً للأطفال فقط وما أن تتذوقه
ستكتشف حقيقة ذلك ... لقد كلفني الكثير من المال ومشكلتي
أني أحبه "
ففهم حينها لما قدمته له وكما توقع تماماً هو نوعها المفضل
ولا تخص به سوى نفسها ، عاد بنظره لحاسوبه متمتماً بهدوء
" شكراً لك الأمر فعلاً لا يستحق .. ثم أنا لم أعد غاضباً "
فارتسم البؤس على ملامحها وعيناها التي كانت تنظر لعيناه
المحدقتان في الأسطر التي تملأ الشاشة أمامه بينما التفت أصابعه
الطويلة على ذقنه يثبت مرفقه على فخذه وكأنه ينصب بكامل
تركيزه على ما يقرأ وتمتمت أيضاً ولكن بنبرة طفولية
" لن أستطيع النوم وضميري يؤنبني هكذا "
وراقبته نظراتها العابسة ولازال يتعمد الانشغال بحاسوبه بينما
همس بنبرة لاذعة بسبب محاولاتها
" هي أنانية إذاً ؟ "
وكان جوابها سريعاً وصريحاً وبابتسامة واسعة
" شيء كهذا "
ونجحت في رسم ابتسامة جديدة على شفتيه ونظر لها قبل أن
تنتقل عيناه للوح في يدها التي لازالت تمدها له ، كان قد قرر
رفضه بطريقة لبقة لتحتفظ به لنفسها بما أنها تحبه بل ولم تكن
تغريه فكرة تناوله لكن أن تختاره كعقاب لنفسها منه كما قالت فقد
كانت الفكرة الأكثر إغراء بالنسبة له ولابأس في أن ينتقم لنفسه
منها كما تريد .
فاستوى في جلوسه وأخذه منها وهمس يشكرها ووضعه بجانب
حاسوبه على الطاولة وظن أن الأمر انتهى إلى هذا الحد لكنها
وما أن لاحظت بأنه سيعود لعمله السابق قالت بكلمات سريعة
وكأنها تخشى أن تتراجع أو أن تفقده بطرق أبشع
" عليك أن تفتحه الآن وتأكله لأتأكد من أنك قبلته "
فنظر لها باستغراب وابتسمت له من فورها بعفوية تلك الابتسامة
التي لا يتقنها غيرها هكذا فتنهد باستسلام ورفعه من الطاولة
وبدأ يزيل الغلاف الورقي عنه فحركت يديها بعشوائية أمامه
وقالت مندفعة
" لا ليس هكذا "
فتوقف عما يفعل ينظر لها بذهول فاقتربت منه أكثر حتى كانت
شبه ملتصقة به وبدأت تشرح له ونظرها على اللوح في يديه
وأصبعها يتتبع الخط الوهمي على غلافه عن كيفية فتحه بالطريقة
الصحيحة وأبعدت يديها وقالت مبتسمة تنظر لعينيه المحدقتين
فيها باستغراب
" وبرقة رجاءً "
فتنهد في صمت يجاريها في عقابها الغريب لنفسها وما أن أمسك
طرف الغلاف من جديد أوقفته قائلة بسرعة
" لا لا ستفسد شكل المغلف هكذا "
فزم شفتيه ينظر له بضيق بين يديه قبل أن ينظر لعينيها المبتسمة
له ببراءة فالعقاب انقلب ضده على ما يبدو !
وبعد صراع طويل مع الغلاف الورقي ليزيله بطريقة لا تجرح
مشاعره كما تريد أخرج اللوح الكبير منه وكانت رائحته الواضحة
كما بريق لمعانه يوضحان نوعه الفاخر ، وبدأت مرحلة أكله له
وشعر ببعض الإحراج من فعل ذلك في وجودها وهي تكاد تكون
ملتصقة به هكذا ، فأكل هذه الأطعمة يحتاج نوعاً خاصاً من التلذذ
وأنت تأكلها أو سيكون مصيره مزرياً كما حدث مع الغلاف ، كما
أنه في الحقيقة لا يحب الحلويات كثيراً .
رمقها بطرف عينيه فكانت تنظر للوح في يده نظرة ترقب لم
يفهمها لكنه يعلم بأنها لن تتركه حتى تتأكد من أنه أكلها كاعتذار
وعربون صداقة جديد كما تسمه لكن نظراتها تلك لم تزد مهمته
سوى صعوبة ، ولأنه لا مفر أمامه قرر أكله نهاية الأمر ، وما ان
قربه من فمه حتى توقف مكانه مجدداً يده معلقة في الهواء أمام
وجهه ونظر سريعاً ناحية صاحبة الشهقة الأنثوية الرقيقة
والعفوية التي صدرت منها عند شعورها بأنها ستفارق حلواها
المحببة ، وذاك ما رآه واضحاً في عينيها وكأنها تفارق حبيبها !
ودون شعور منه مده لها فأخذته على الفور وأمسكته بكلتا يديها
مقتربتان لصدرها وكأنها لا تصدق أنه عاد لها أخيراً وابتسمت
بارتياح مما جعل مزاجه ينقلب للحنق وشعر بأنه وقع في مكيدة
وتحول لجاني متوحش فجأة !
وبالرغم من كل ذلك كان صوته بارداً حين قال
" ألم تعطني إياه بنفسك ورغم رفضي له ؟ "
فقالت من فورها وبامتعاض
" كان بإمكانك الإصرار على الرفض "
اتسعت عيناه وقال بضيق
" ومن التي أصرت وألحت عليا لآخذه؟ "
وفاجأته بأن قالت سريعاً ودون لحظة تفكير
" لا تصدق كل ما يقال ... "
وتابعت بتحدي صدمه وهي تقذفه في عمق عينيه كاشفة عن
نواياه الخفية
" ثم أنت لا تستطيع أن تنكر بأنك كنت تخطط لاستغلاله
والتضحية به رغم عدم حبك له فقط من أجل تعذيبي "
ووقفت من فورها لكن بعد أن رمقته بنظرة مؤنبه شعر بها تلسع
ضميره فارتفعت يده وأمسك برسغها في حركة لا إرادية وأوقفها
مكانها وما أن نظرت له ترك يدها بطريقة عفوية أيضاً وفرد يديه
وتمتم بابتسامة جانبية مستسلماً
" آسف إذاً "
وعلم بأنه لا مفر له من الاعتذار وهذا ما كانت تخطط له بالتأكيد
وها قد انقلبت الأدوار ولا شيء أمامه سوى الاستسلام ، وكما
توقع كانت ابتسامتها العفوية والجميلة أول رد يصدر عنها ..
وكما توقع أيضاً بل وما بات يعلمه عن شخصيتها فلن يكفيها
الاعتذار اللفظي فقط فقد خبأت لوح شكولاتتها المفضلة خلف
ظهرها مع يديها وقالت مبتسمة
" موافقة لكن لديّ طلب صغير جداً وكتعويض بالطبع عليك أن
توافق عليه "
فأشار لها برأسه دون أن يتحدث لتتابع فضحكت بسعادة وهي
تخرج من ذات الجيب علبة بسكويت مالح صغيرة ووضعتها قرب
حاسوبه على الطاولة وتحركت نحو باب الغرفة من فورها قائلة
بسعادة
" شكراً لك .. كنت أعلم بأنك لن ترفض أمراً مهماً كهذا "
وغادرت على نظراته المصدومة متمنية له ليلة سعيدة دون أن
تذكر له طلبها الذي اعتبرت موافقته على قولها إياه موافقة
عليه ! بل ودون أن تنظر ناحيته حتى وهي تخرج !!
تنهد نفساً عميقاً طويلاً شعر به خرج من أعماقه قبل أن يحرك
رأسه مبتسماً بقلة حيلة على بؤسه ونظر لعلبة البسكويت على
الطاولة .. حتى أنها يبدو تعلم بأنه لا يفضل أكل الحلويات ودون
استثناء!! .
" سحقاً لأفكارك يا مطر "
وذاك ما لم يكن يستطع منع نفسه من الهمس به ما أن عاد لعمله
على الشاشة المليئة بالجداول المرصوفة بالأرقام ولجلوسه
السابق يثبت ذقنه بأصابعه قبل أن يغلق حاسوبه بحركة واحدة
من يده ووقف ورفع العلبة التي تركتها له وغادر المكان متوجهاً
لغرفته فقدْ فقدَ الرغبة في كل هذا وما يريده الآن هو النوم .
*
*
*
|