*
*
*
فتحت جفناها بصعوبة وكانت تشعر بثقلهما حد الألم وصدغيها
يؤلمانها بشدة من كثرة ما بكت ولوقت طويل ودون توقف حتى
أنها نامت ولا تعلم كيف ولا متى سرقها النعاس من بكائها الطويل
ذاك وأرسلها لعالم السواد الكئيب فلم يستطع ولا عقلها الباطن
جلب كابوس ما لما حدث معها اليوم .. ولا حتى واحداً من
كوابيسها القديمة تلك التي تخبرها وفي كل ليلة بأنها فقدته
وللأبد ، وليت هذا كان كابوساً مشابهاً وأفاقت منه لكن لا المكان
ولا ما تشعر به الآن من ألم في داخلها يثبت ذلك .
أغمضت عينيها المجهدة لبرهة وسحبت لصدرها نفساً عميقاً قبل
أن تفتحهما مجدداً ونظرت لباب الشرفة المفتوح والذي كان
مغلقاً وقت دخولها هنا وللشمس التي ارتفعت لكبد السماء مما
يعني بأنها نامت لأكثر من ساعتين فرحلة مغادرتهما بريستول
لذاك المكان المجهول البعيد ومن ثم عودتهما استغرقت نصف
النهار تقريباً.
جلست ببطء تبعد خصلات شعرها عن وجهها للخلف وزحفت من
فوق السرير حتى شعرت ببرودة الأرضية الخشبية تلسع دفء
قدميها مما يعني بأنه شخص ما قد نزع حذائها أيضاً فتوجهت
نحو باب الغرفة المفتوح حافية القدمين لم تفكر ولا في البحث
عن ذاك الحذاء ووقفت تسند يدها بإطاره ونظرها على الجالس
على كرسي الصالون الموجود هناك ينظر ليديه اللتان يشبك
أصابعها ببعضها ، وامتلأت عيناها بالدموع ما أن رفع رأسه
ونظر ناحيتها وقرأت الكثير في نظرته تلك .. الحزن التفهم
والشفقة وحتى التشتت والضياع ، لكنه عاجز مثلها تعلم ذلك ولن
تجرؤ على إلقاء لومها عليه وهي التي لم تنبس بكلمة أمام ذاك
الرجل ، كما توقن بأن الجالس مقابلا لها هناك لن يفكر إلا كما
فكر مطر شاهين وسلامة ابنه ستكون أولى لديه من كل شيء
فكيف إن كان المقابل ليس سوى سعادتها هي والتي لم يهتم أحد
بفقدانها إياها ومنذ ولدت .
كانت ساكنة تماماً كنغمة حزينة تسللت من الباب لتصل له يفهمها
ويشعر بها دون أن يراها وفي صمت بينما لم تستطع منع تلك
النظرات التي رمته بها وحملت كل معاني اللوم وخيبة الأمل
بالرغم من يقينها لتجاهله إياها ، وذاك ما حدث بالفعل حين أبعد
نظره عنها ليديه مجدداً وقال بهدوء
" إن كنت متعبة نذهب للطبيب ماريه فوضعك لا يبدو بخير "
لم تستطع إلا أن تبتسم بألم أقرب من كونها ابتسامة سخرية تلك
التي ارتسمت على شفتيها ، طبيب !! يأخذها للطبيب ؟ أي طبيب
هذا الذي يمكنه مداواة روحها الممزقة وقلبها المتألم وسعادتها
التي سرقت منها ومزقت لأشلاء ؟ ارتجفت شفتاها ما أن رفع
نظره لها مجدداً وقد انقبضت أصابعه بقوة ما أن وقع نظره على
دمعتها المتدلية من رموشها وعيناها الغارقة في الدموع وخرج
صوتها كئيباً ميتاً
" لما لا أسافر وأختفي من هنا وبذلك يتحقق ما أراد.... "
قاطعها من قبل أن تكمل
" لا ماريه لن يجدي ذلك وهو من سبق وأقسم مراراً مهدداً بأنه
حال حدث ذلك فسيترك كل شيء وحتى المنظمة التي يعمل فيها
وتصبح مهمته الوحيدة هي البحث عنك "
انزلقت الدمعة اليتيمة على وجنتها وتبعتها شهقة صغيرة باكية
فوقع ما قال عليها لم يكن ليشعرها بالألم والتعاسة التي تشعر بها
الآن إن علمت به سابقاً فهم متأكدون تماماً بأنه سيفعل ذلك
وليس تهديداً فقط ما يقول ، وخرج صوتها بائساً متقطعاً بسبب
العبرة حبيسة أضلعها
" أخبروو... وه أني مت إ.... ذا "
" لا يمكن ماريه .. مستحيل "
قاطعها برفض تام يحرك رأسه مع كلماته مؤكداً لها بأن الخوض
في الأمر كعدمه فارتفعت قبضتها لصدرها وقالت ودمعة جديدة
تنزلق فوق نعومة وجنتها
" لكن لما ؟ لما لا نتّبع الحل الأقل ضرراً لي "
وقف حينها وقال بجدية
" لأنه سيكتشف الأمر وبكل سهولة ماريه ، ليس تيم بغبي
لتنطلي عليه تلك الحيلة وإن أريناه جثماناً مزيفاً لك ولن يجعله
شيء يفقد ذكائه المخيف لتحليل الأمر سوى تلك الطريقة "
شعرت بالغضب الداخلي لرفضه جميع حلولها تلك وخرج صوتها
منفعلاً بعض الشيء حين قالت
" سأخبره بأني سأتركه إذاً وبأني لم أعد أريد البقاء معه "
لكن جوابه أيضاً كان يبدو معداً سلفاً فقد قال ودون تفكير
" لن يوافق ... وأجزم بأنه حدث سابقاً ورفض "
لم تستطع النكران فهي بالفعل حاولت مراراً التحدث فقط معه في
الأمر فكان يسكتها في كل مرة ومن قبل أن تنهي حديثها وسيعاند
أكثر وإن أجبرها مرغمة ولن يهتم ولا بغضبها ورفضها فلا حل
سوى بجعله يبعدها بملء إرادته كما قال ذاك الرجل .
حركت رأسها بيأس وعبراتها تخرج متتالية كالدموع التي باتت
تسقي وجنتيها بغزارة وقالت ببكاء
" ولما هذه الطريقة القاسية ؟ لما تتفقون على قتلي لماذا ؟ "
ونزلت بجسدها على إطار الباب تنزلق يدها على خشبه المصقول
ببطء مع جسدها وعبراتها كانت تخرج موجعة قاتلة حتى أصبحت
جالسة على الأرض رأسها منحني وقد غطى شعرها الحريري
ملامحها التي كانت تخفيها وعبراتها في يديها المرتجفة فتحرك
نحوها في خطوات واسعة ونزل أمامها جاثياً على ركبتيه
ولامست يده وأصابعه شعرها البني الناعم وأغمض عينيه بألم ما
أن خرج له صوتها الباكي بنشيج مؤلم
" أحبه عمي ولا يمكنني ولا المضي من دونه ، لما ترفضون
فهم هذا ؟ "
فمسحت أصابعه على ذاك الحرير البني بلون العسل النقي وقال
بحزن وصوت منكسر
" جميعنا نحبه ماريه ولأننا نحبه نرفض أن نخسره وأنت أولنا
وسينتهي كل هذا يوماً ما أراه قريباً جداً "
رفعت رأسها ونظرت له بعينين تغلب الألم على الحزن والدموع
فيهما وقالت ببكاء موجع
" لن يغفر لي .. لن يفعلها وإن علم الحقيقة مستقبلاً أعرفه كما
تعرفه أنت أيضاً .. سيكرهني دائماً "
لامست يده وجنتها وقال بهدوء يمسح الدموع عنها برفق أبوي
" إن كان يحبك سيكون بإمكانه مسامحتك ماريه ، وإن لم يفعل
لن يكون كذلك وحينها سيكون لا يستحق مشاعرك اتجاهه "
حركت رأسها برفض ولا شيء يعبر عن صمتها ذاك سوى
عبراتها الباكية فأمسك رأسها وشدها لحضنه الذي نامت فيه من
فورها ودفنت دموعها وبكائها في صدره فهذا ما تحتاجه الآن
وما يمكنها الحصول عليه منه .
*
*
*
تغضن جبينها وفتحت عينيها بصعوبة وسرعان ما عادت
وأغلقتهما تخفيهما بظهر كفها عن النور القوي الذي قابلهما من
النافذة المفتوحة وسرعان ما استوت في جلوسها فقد غلبها
النعاس وهي جالسة مكانها حتى فاتها وقت الفجر ، وقفت خارج
السرير ونظرت لفستانها الذي لازالت ترتديه حتى الآن وتأففت
قبل أن تتوجه للخزانة وسحبت بابها بقوة عيناها على ثيابها
المعلقة فيها فحقائبها سبقتها إلى هنا قبل يوم من مجيئها ، فتشت
بحركة سريعة بينهم وأخرجت بيجامة حريرية ناعمة ببنطلون
وأكمام طويلة بلون الكريما مع نقوش بيضاء صغيرة من ذات
القماش وتوجهت للحمام الموجود في الغرفة والذي لم يكن يقل
عنها جمالا وقد دمج اللونين الأحمر والأسود حتى في أدق
تفاصيله ، أغلقت الباب ونزعت ثيابها واستحمت سريعاً ، لبست
بيجامتها وما أن خرجت للغرفة بحثت فوراً عن لباس الصلاة
وصلّت ما فاتها ثم جلست مسندة ظهرها على السرير خلفها
وحضنت ركبتيها فبالرغم من جمال هذه الغرفة إلا أن مساحتها
ضيقة خاصة مع منزل لن يكون إلا كبيراً ومالكه له كل ذاك
المركز والمكانة في البلاد !! لا تفهم ما يعكسه كل هذا في
شخصية ذاك الرجل فقد طغى اللون الأحمر على تفاصيلها أيضاً
وإن كان اللون الأبيض قد برز كثيرا في ستائرها والملاءات
وبعض التحف وواجهتين من الجدران وكان لذات اللون النصيب
الأوفر في الحمام الذي كان أيضاً بمساحة تشبه للغرفة الملحق
لها وإن كان مجهزاً بفخامة ولا ينقصه شيء مما تتمتع به
الحمامات الأكثر اتساعاً ! دارت مقلتاها البنيتان في المكان ببطء
وهدوء يشبهها وشعرت فجأة بالإختناق فأنزلت رأسها وغرست
أصابعها في غرتها الرطبة التي تساقطت عليها تباعاً ففكرة
تواجدها في مكان يجمعها برجل وحدهما كفيلة بجعلها تفقد
أنفاسها بل وحياتها وهي من قررت سلفاً أن لا تفعلها أبداً ، بل
كان قلبها وكانت روحها المحطمة من قررا ذلك عنها مما خلّف
لديها شعوراً سيئاً بالنفور منهم جميعهم وباتت تراهم نسخاً
متشابهة .
استغفرت الله بهمس وهي ترفع رأسها وتبعد خصلات غرتها
المبللة للأعلى تسحب أنفاسها لصدرها بقوة ووقفت ورفعت
هاتفها الذي وجدته على طاولة السرير منذ أن وجدت نفسها هنا
وغادرت الغرفة مغلقة بابها خلفها فلم يعد بإمكانها التنفس بشكل
طبيعي وهي هناك لازالت تحاصرها رائحة العطر الرجالي الذي
يصعب على نوعه باهظ الثمن أن يتلاشى مع ذرات الهواء
بسهولة وبات يحاصرها به حد الاختناق وعليها الابتعاد لبعض
الوقت على الأقل .
تحركت خطواتها خلال الطابق الواسع بأثاثه الفاخر وكأن عيناها
ترسم تفاصيلا مصغرة لكل شيء هناك ووقع نظرها على السلالم
المؤديه للأسفل ، كانت تتوقع أنها في مكان غير الطابق الأرضي
من هذا المنزل من منظر السماء الزرقاء تزينها السحب البيضاء
المتفرقة والتي كانت تطل وحدها على نافذة الغرفة التي كانت
فيها منذ لحظات ، أخذتها خطواتها في ذاك الاتجاه فوراً فيبدو أن
مرادها لازال بعيداً عن هنا .
لامست أصابعها برودة
نحاس حاجز السلالم وخطواتها تنزل
عتباته المغطاة بسجاد سميك فاخر بينما نظراتها كانت تتنقل في
المكان الذي كان ينكشف لها تباعاً مع نزولها وما تراه يكاد يكون
نسخة عن الذي تركته في الأعلى ! الاختلاف فقط في الألوان
وبعض التفاصيل الصغيرة كالتحف والمناظر المعلقة على
الجدران ، وتوقفت نهاية عتباته تنظر للمكان حولها بشيء من
الاستغراب فهل ثمة من يبني منزلا بطابقين متشابهان هكذا
ليصبح مملاً لمن يتجول فيه أو يسكنه ؟! وسرعان ما أدركت
السبب وما أن اجتذبتها أصوات لبعض القطع الحديدية الخاصة
بالمطبخ الذي يبدو قريباً من هنا وفهمت فوراً بأنه تعمد فعل هذا
من أجل عمته التي تعيش معه هنا وابنتها المطلقة وطفليها فهو
يبدو يرفض أن يجرح مشاعر عمته الوحيدة وإن بتمييز طابقه
في المنزل عن الذي تعيش هي فيه !
نزلت آخر عتبتين ونظرت باتجاه المكان الذي أصبحت الأصوات
الخارجة منه أكثر وضوحاً لها ووصلها فوراً صوت المرأة الأكبر
سناً حين قالت
" لو أننا اتصلنا بعمير يخبر زوجته تنزل لتتناول الفطور معنا أو
نأخذه لها في الأعلى "
فابتسمت بحنان من فورها ولأول مرة منذ أن وجدت نفسها هنا
فتلك المرأة المسنة ومن المرة الوحيدة التي رأتها فيها سابقاً
علمت بأنها من ذاك النوع الذي يذكرها بجدتها المتوفاة ، كانت
من الطيبة والرقة أن تعجز عن كره أحد وإن آذاها فترى طيبتها
وحنانها في عينيها ما أن تراهما .
لكن تلك الابتسامة سرعان ما عادت لتندثر بذاك التجهم الكئيب ما
أن خرج الصوت الآخر الغاضب والأصغر سناً
" وهل ترينا خدماً لديها نأخذ لها الطعام لغرفتها ؟
لديها
مطبخ أكبر من هذا في الأعلى ولا ينقصه شيء فلتأكل منه
أو لتبقى جائعة ليست طفلة لنراقب نحن أو عمير طعامها "
فانقبضت أصابعها على سياج السلالم الذي لازلت تمسك بنهايته
مع انقباض الموجود وسط أضلعها بنفور وخرج صوت والدتها
مرتفعاً بغضب أيضاً هذه المرة
" بثينة كم مرة سأشرح لك وكأنك طفلة بل وكأني ببغاء أمامك
بأن هذا منزل عمير وبالتالي هو منزلها لأنها زوجته ونحن
ضيوفها بكرم من زوجها فقط ، وليس عيباً أن نأخذ لها بعض
الخبز بما أنه لا يوجد غيره هنا لأننا من يريد إعداده ولا أن نطلب
منها مشاركتنا الطعام الذي هو من مال زوجها "
تنفست بعمق مغمضة عينيها ودون شعور منها بسبب آخر ما
قالت وفتحتهما على اتساعهما ما أن وصلها صوت ابنتها الصارخ
" أمي بالله عليك توقفي عن تكرار هذه الأسطوانة المشروخة
التي لا تشعرنا سوى بالاستنقاص فعمير ابن شقيقك وابن خالي ،
نحن أقرب له من تلك المرأة التي بكلمة واحدة تصبح غريبة عنه
وترجع لمنزل والدها .. للمكان الذي خرجت منه ويناسبها"
فاشتد فكاها على أسنانها بقوة آلمتها ولم تشعر بالمهانة
والاستنقاص كما شعرت به حينها وندمت أن نزلت بل وأن خرجت
من غرفتها فلم تزدد سوى اختناقاً فوق اختناقها ، ويبدوا أنه كان
لايزال في جعبة تلك المرأة الكثير لولا أسكتتها والدتها قائلة بحدة
" أستغفر الله ... أستغفر الله من شيطان لسانك ، عودي لما كنت
تفعلينه واصمتي "
ويبدو أنها استجابت لها فلم يعد يخرج من باب ذاك المطبخ سوى
صوت تحريك الأطباق القوي الغاضب ولا تفهم لما تكرهها تلك
المرأة وهي لا تعرفها ولم تراها سوى لمرة واحدة أبدت فيها
وعلى الفور كرهاً ونفوراً واضحين اتجاهها !!
بل ووالدتها معها وكأنها ليست امرأة في سن والدتها !
تنهدت بضيق نفساً عميقاً وغادرت من هناك باتجاه باب المنزل
المفتوح وخرجت منه وأغمضت عينيها ما أن قابلتها نسائم
الخريف القادمة من جهة الشرق وإن كانت مشبعة برطوبة البحر
رغم ابتعاده عن هنا ، لكنها تحتاج لهذا الهواء النقي ومهما
كانت صفاته خاصة مع رائحة الأزهار المشبع بها فشعرت وكأنها
في مدينة العمران التي تركتها خلفها مع عائلتها وجامعتها وكل
ما حملته سنوات عيشهم فيها من ذكريات ، وما أن فتحت عينيها
حتى طابقت الصورة مخيلتها تماماً وما أنعش صدرها من كل تلك
النسائم بنكهة الزهور فكانت حديقة فاقت بروعتها المنزل الفخم
الراقي بكل تفاصيله المميزة والعصرية ويبدوا أنه تم اختياره
بعناية ودُفعت من أجله أموالاً كثيرة فمنزل بحديقة واسعة وجميلة
هكذا هنا في قلب العاصمة أمر من النوادر لأنه يتم استغلال كل
شبر فيها لتعميره وحتى الفلات المصطفة في أرقى شوارعها
يقتصر ما حولها على فناء ضيق يُستغل لزراعة بعض الأشجار
المزهرة التي تتدلى أغصانها من فوق أسوارها أما هنا فجدار
سور المنزل تخفيه الأشجار دائمة الخضرة عنها ! وحملها الحنين
هذه المرة لمنزلهم القديم في صنوان .. المنازل الواسعة
والأسوار العالية والحدائق الفسيحة فحتى العمران ورغم جمالها
وخضرتها تحولت لمدينة ضيقة ومزدحمة مع مرور الأعوام
وتحولت أغلب المزارع فيها لبنايات ومشاريع استثمارية وتم
إزالة الأسوار الواسعة حول أغلب المنازل وتحولت لشوارع
وأزقة ومحلات تجارية فواكبت الحضارة بعصرية لكنها أيضاً
فقدت جزءاً كبيراً من جمالها الطبيعي وإن كانت حتى الآن تعد
أجمل مدن البلاد .
ولاحت على شفتيها ابتسامة صغيرة جديدة أسرت الحزن في
ملامحها بروعتها ونظرت يميناً ما أن نزلت عتبات الباب الحجرية
حيث صوت ضحكات الطفلة الصغيرة التي ركضت بين جذعي
شجرتين كبيرتين وظهر بعدها جسد شقيقها الأكبر منها سناً
وسلك ذاك الطريق راكضاً خلفها ، وتعرفت سريعاً على الطفلة
الجميلة بجدائلها السوداء الناعمة لأنها رأتها سابقاً عكس شقيقها
الذي سمعت عنه فقط بالرغم من أنه وصل معهم لمنزل والدها في
زيارتهم الوحيدة تلك ، وسرعان ما اختفت تلك الابتسامة ما أن
تذكرت كلمات والدتهما وعادت التساؤلات حول السبب الحقيقي
لكرهها الكبير والا مبرر لها ؟!
لكنها وسريعاً أيضاً رمت تلك الأفكار من رأسها ونظرت في
الاتجاه المعاكس بل وسارت ناحيته تاركة خلفها تلك الضحكات
الصغيرة وأصوات الركض العشوائي بل وما تجهله وهو المكان
الذي يفترشونه هناك ويتناولون طعام الإفطار فيه كل صباح
وسارت لمسافة غير بعيدة عن هناك واستوقفها الكرسي الحجري
قرب أزهار نبات القطيفة وجلست عليه تنظر للباب النحاسي
المدعم بالزجاج المعتم يمينها وهو الباب الذي يفصل المنزل
وحديقته عن الشارع حيث أصوات السيارات وبعض المارة الذين
خرجوا في الصباح الباكر من أجل أعمالهم فنقلت نظرها منه
لهاتفها تنظر له بين يديها بحزن بينما تتلاعب النسائم الرطبة
بغرتها القصيرة الكثيفة وشعرها الطويل الذي سرعان ما جففته
لينساب ناعماً رائعاً على ظهرها وذراعيها وتنهدت بعمق وهي
تقلب الأرقام الموجودة فيه وعاد ذاك الصراع الداخلي يجتاحها
وفكرة أن تتصل بزوجته باتت تغريها أكثر فقد تعلم شيئاً عنهما
فوسام أيضاً كان هاتفه مقفلاً منذ ليلة البارحة ولن تستغرب هذا
فمؤكد تم استدعائه لاستجوابه هذا إن لم يعتقلوه كالمجرمين ،
وبدأت ضربات قلبها تئن بين أضلعها بألم ولا يمكنها ولا تصديق
أن يفعل قائد ذلك ولا غسق أيضاً ؟! وإن فرضنا أن مشاعره
القديمة نحوها قد تجعله يفكر ويقرر بتهور لكن هي !
هي تحب زوجها ذاك وبجنون ولم تستطع لا السنين ولا ما فعله
بها أن تجعلها تنساه أو تكرهه فلما ستفعل ذلك وتتهور وتفكر
بطيش هكذا !
اشتدت أصابع يديها على الهاتف فيهما وغمرت الدموع الحارة
عينيها وهي تفكر في عقبات ذلك إن كان حقيقياً وما سيفعله ذاك
المحارب المتملك بشقيقها فهو بالتأكيد لن يؤذي زوجته والمرأة
التي يحب وتحمل ابنه في أحشائها مهما حدث وسيدفع قائد ثمناً
غالياً جداً ليس لها أن تتصوره ولا أن تفكر فيه .
مسحت عيناها والدموع التي لم تنزل منهما بعد وحزمت أمرها
وطلبت رقم زوجة شقيقها وسام فلعلها تطمئنها وإن كاذبة ، وكما
توقعت فقد فتحت من في الطرف الآخر الخط سريعاً ووصلها
صوتها مباشرة
" مرحباً جليلة كيف أنت الآن ؟ "
وساد الصمت من جانبها ولم يخفى عليها النبرة المتوترة في
صوت محدثتها وتوترت أنفاسها فما توقعته حقيقي .
" جليلة تسمعينني ؟! "
رطبت شفتيها بطرف لسانها وهمست بصعوبة
" أجل أسمعك يا
عبير كيف حالكم جميعاً ؟ "
وعاد الصمت والتوتر ليسودا الأجواء المضطربة قبل أن يصلها
صوتها مجدداً
" نحن بخير جميعنا كيف تسير أمورك أنت مع عالمك الجديد
ومع الزواج ؟ "
كانت تحاول جعل عبارتها الأخيرة مرحة لكن ذلك لم يخدع التي
حركت قدمها على الأرض بتوتر وخوف فهي لم تسألها ولا عن
سبب اتصالها في هذا الوقت المبكر وهي عروس كما قالت !
إذاً شكوكها صحيحة ويبدو وسام طلب منها أن لا تخبر أحداً.
مررت أصابعها في غرتها ترفعها للأعلى بحركة متوترة وقالت
" أين هو وسام لا يجيب على هاتفه ... هل هو قربك ؟ "
" لا ... أ... أعني هو خرج بعد الصلاة مباشرة ويبدو لديه
مشوار مهم "
غضنت جبينها الصغير الذي تغطي الغرة المقصوصة والمقسومة
نصفين أغلبه وقالت
" عبير لا تحاولي تضليلي فهل زاركم أحد ما وذهب معه أم كان
اتصالاً هاتفياً البارحة ما جعله يخرج من المنزل ؟ "
" من أخبرك ؟ "
كان اعترافاً سريعاً منها وأسرع مما توقعت !
بل ومن نبرة صوتها الشبه باكية وهي تقول ذلك علمت أن
الموقف كان شديداً عليها فقالت بقلق
" هل ألقوا القبض عليه ؟ "
وكما توقعت فقد وصلها الصوت الباكي مقراً بسرعة
" أجل إنهم رجال المباحث أو يبدو المخابرات لا أعلم فهم لم
يكونوا يرتدون زياً للشرطة ولا القوات الخاصة وبصعوبة سمحوا
له بتغيير ثيابه والحديث معي وهو أوصاني أن لا أخبر أحداً
لكني قلقة جداً عليه يا جليلة ولا أعلم ما يمكنني فعله فقد حذرني
حتى من إخبار والدي وأشقائي ولم يرجع حتى الآن ولا يجيب
على اتصالاتي أيضاً "
قضمت شفتها بأسنانها بقوة وازدادت حركة قدمها توتراً وعادت
الدموع لتغمر عيناها الواسعة وقالت ببحة
" لا تقلقي يا عبير هو بخير سيتم استجوابه فقط ويلقون عليه
بعض الأسئلة ثم سيطلقون سراحه فهم كما قلتِ ليسوا رجال
شرطة "
وبدأ صوت البكاء واضحاً في نبرة التي قالت سريعاً
" لكن رجال المخابرات مخيفين أكثر من الشرطة وحتى من
الجنائية فسجناؤهم لا يرون النور أبداً وتهمهم تقتصر على
الخيانة الوطنية وأنت تعلمين جيداً ما تمر به البلاد الآن وهو
من صنوان و..... "
" لا ... الأمر لن يكون كذلك لا تخافي يا عبير "
قاطعتها مطمئنة لأنها تعرف الحقيقة وراء أخذه من هناك وذاك ما
يبدو أن محدثتها التقطته من حديثها فقد قالت سريعاً
" جليلة هل تعلمين أمراً أجهله ؟ "
توترت ولم تعرف ما تقول لكنها بحاجة فعلية لمن تشاركه وإن
جزءاً من همومها تلك والتي تكاد تقتلها فقالت دون تفكير كي لا
تتراجع
" قائد مختفٍ منذ ليلة البارحة وأخذوا وسام للتحقيق معه فقط
وسيطلقون سراحه سريعاً بالتأكيد "
تلك الحقيقة جعلت الصمت يسود ممن في الطرف الآخر وبدا
صوتها مصدوما حين قالت أخيراً
" لكن ...! لكنه تحدث معه البارحة و...!! وكيف يختفي وما
علاقة وسام يستجوبونه وهو شقيقه ولن يؤذيه ؟! "
فقالت دون أن تعترف بالحقيقة كاملة فغرضها كان طمأنتها على
زوجها فقط
" لا أعلم يا عبير ...هذا كل ما أعرفه وحالي ليس بأفضل منك "
لكنها يبدو لم تقنع بالقليل المهم لها فقد قالت من فورها وبقلق "
هل فعل قائد شيئاً والشرطة تبحث عنه ؟ "
اتكأت بجبينها على راحة يدها التي سندت مرفقها بفخذها تنظر
للأرض المعشبة تحتها وقالت تحاول طمأنتها ونفسها معها
" قائد رجل قانون يا عبير ولن يخالفه وسيكون ثمة لبس ما في
الأمر وستتضح الأمور سريعاً "
وتنهدت بارتياح حين قالت زوجة شقيقها بهدوء حزين
" أتمنى ذلك فقلبي يحترق ولم أستطع ولا إخراج ما فيه لأحد كي
لا يغضب شقيقك مني إن علم أني ... "
ولكنها سرعان ما بترت عبارتها تلك وعادت لأسلوب التحقيق
وبوتيرة أشد هذه المرة وقد قالت باستغراب
" لكن كيف علمتِ أنت إن كان لا يجيب على إتصا... "
وعادت وقاطعت نفسها وقالت سريعاً للتي اتسعت عيناها
بدهشة منها
" هل زوجك من أخبرك ؟ هل يعلم عن... "
مما جعلها تغمض عينيها ودفنتها في كفها وحدث ما توقعت حين
قالت التي لم تنهي عبارتها مجدداً
" يا إلهي أجل كيف نسيت ؟ هو مؤكد يعلم بكل شيء وهو من
سيكون أرسل أولئك الرجال لأخذه من هنا "
كانت تشبهها مشتتة وضائعة لا تعرف فيما تفكر وما تفعل ولن
تلومها ولا نفسها أيضاً فكيف إن علمت ما تعلمه هي والسبب
الحقيقي وراء أخذ زوجها واختفاء شقيقه ؟
لو أخبروها بأنه قتل رجلاً متعمداً لكان أهون عليها بكل تبعاته
وإن سجن فيه مدى الحياة فكيف إن علمت الناس والصحافة
والعالم أجمع بما حدث وانتشر الخبر بسرعة البرق ؟
ارتجف جسدها ولم تستطع ولا تخيل ذلك ورفعت رأسها وهمست
بخوف تخفي شفتيها خلف أطراف أناملها
" يا إلهي ستكون كارثة حينها "
ووصلها الصوت القلق للتي يبدو أنساها خوفها بأنها لازالت
تسمعها
" جليلة ما هي الكارثة وماذا تقولين فلست أسمعك بوضوح ؟
لا تخيفيني يا جليلة وارحمي قلبي رحمك الله "
فأيقظها ذاك الصوت الشبه باكي لنفسها وما أن كانت ستتحدث
سبقتها التي قالت برجاء حزين
" تحدثي مع زوجك وأخبريه يتركه يتحدث معي على الأقل
لأطمئن ، أرجوك يا جليلة هو مؤكد يعلم أين يكون الآن وما
يحدث معه "
فاتسعت عيناها بصدمة من مجرد التفكير في طلبها ذاك
وقالت بضيق
" عبير ما بك تضخمين الأمور بسرعة هكذا ؟
أخبرتك أنه سيخضع لتحقيق عادي ولم يرتكب جريمة ما "
لكن تلك استطردت وكأنها لم تسمعها
" أرجوك يا جليلة فلنطمئن على أحدهما على الأقل فلن أستطيع
الصبر أكثر من ذلك وأكاد أجن "
تنهدت بضيق فزوجة شقيقها تلك لن تتغير أبداً فهي
ما أن يصاب أحد أبنائها بجرح أو يقع تهوّل الأمر
بصراخها وخوفها الا مبرر حتى يضن من يراها أنه مات
فكيف إن كان ذاك الخطر يحدق بزوجها ؟
سحبت نفسها عميقاً لصدرها وقالت بجدية
" لا تتهوري يا عبير ولا تخبري أحداً فإن علمت والدتي
فلن أستغرب أن تنقل للمستشفى ، وسأتحدث مع عمير وأطلب
منه أن يتركه يكلمك لكن لا تتهوري فيما قد يضرنا جميعاً "
وصلها صوتها المستغرب بما لم تتوقعه مطلقاً
" وفيما سيضر الجميع ؟ أنا لا أفهمك يا جليلة ! "
فتأففت من نفسها وغبائها وضربت الأرض بطرف حذائها
المنزلي الأنيق فالنساء يبدو يتحولن لأكثر المحققين حنكة وذكاء
ما أن يتعلق الأمر بالرجل الذي يحببن !
قالت بذات النبرة الجادة تنهي كل ذاك الحوار العقيم
" لا يهم أن تفهمي المهم أن تنفذي والأهم أن تطمئني
على زوجك ... وداعاً الآن يا عبير وسنتحدث لاحقاً "
وأنهت المكالمة معها وأنزلت يديها لحجرها وجمدت مكانها تنظر
لهاتفها بين يديها مترددة في اتخاذ تلك الخطوة والاتصال به ،
لكنه سبيلها الوحيد وهو وحده من يستطيع أن يطمئنهم عليه
بل ويوصلهم به، رفعت أصبعها أمام شاشته المسطحة ووقفت
مترددة لا بل متخوفة من أن تكون فقدت رقمه من هاتفها فهي لم
تحفظه سابقاً ومر وقت طويل على المرة الوحيدة التي اتصل
فيها بها ورسالته تلك تخلصت منها من وقت خوفاً من شقيقها
وثاب فلها أن تتخيل موقفه المجنون إن وجدها وهي مرسلة
منه من قبل أن يخطبها.
رفعت نظرها منه مجفلة بسبب صوت الصرير القوي للباب
الحديدي قربها حين انفتح أتوماتيكياً ووقع نظرها فوراً على
مقدمة السيارة البيضاء اللامعة التي دخلت منه ووقفت دون
شعور منها ما أن ظهر لها الذي كانت ستبحث عن رقمه قبل قليل
وكأنه خرج من أفكارها !
الجالس خلف المقود يمسكه بإحدى يده بينما يتبث بالأخرى
الهاتف على أذنه وقد نظر ناحيتها ولازال يتحدث في هاتفه بينما
سيارته تجتاز الباب المفتوح وقد أغلق ذاتياً خلفه وتوقعت
أنه سيكمل طريقه فوق الرصيف الحجري المتسع المجهز لعبور
سيارته تلك حتى باب المنزل لكنه خان توقعاتها ما أن أوقف
السيارة بل وأطفأ محركها وفتح الباب ونزل منها يدس هاتفه في
جيبه وسار نحوها تاركاً بابها مفتوحاً ورائه تنظر له بترقب
وريبة شديدين مما قد يحمله لها من أخبار أنساها كل شيء حتى
وضعهما ومن يكون بينما كانت نظراته لها مختلفة تماماً .. نظرة
رجل لعروسه التي حرمته ظروفه السيئة حتى من النظر لها وإن
هكذا ببيجامة تستر كامل جسدها الممتلئ قليلاً باعتدال مغري ..
لامرأته الرائعة التي سلبت لبه منذ رآها وزاده عقلها واحتشامها
تعلقاً بها ، من يعلم وموقن بأن المسافة التي تفصله عنها أبعد
من كل هذا بكثير ولا مشكلة لديه في أن يصبر وينتظر ويتروى.
ما أن وقف أمامها وكما توقع همست من فورها ونظرها
المتوجس معلق بعينيه
" هل وجدتموهما ؟ "
وتوقفت أنفاسها فور أن حرك رأسه نفياً وقد هرب بنظره من
عينيها وهو يتمتم بهدوء وملامح متجهمة
" لقد تفوقا على مخابرات دولة كاملة وكأن الأرض انشقت
وابتلعتهما "
ارتفعت يدها لصدرها ودون شعور منها وهمست بصعوبة
" غادرا البلاد فعلاً ؟ "
رفع نظره لها وحرك رأسه نفياً مجدداً وقال بجمود
" ثمة رحلة بإسميهما لكنهما لم يسافرا بل ولم يغادرا ولا
العاصمة حوران وجميعه كان مخطط له ليشاع الخبر بأنهما
غادرا البلاد معاً "
أمسكت فمها مصدومة تنظر له من بين الدموع التي ملأت عينيها
وقالت بصعوبة
" ليشاع الخبر ؟! "
أدار مقلتيه قليلاً لتبتعد عنها وكأنه يلجمها عن فقد السيطرة وقال
بلمحة ضيق طفيفة
" بلى وثمة من سعى لذلك بالفعل لولا أن تصرفت ابنتها بحكمة
وفي الوقت المناسب لكنا الآن في فضيحة لن تنساها الناس
لأعوام "
كانت تنظر لملامحه الغاضبة في صمت متقن وعيناه التي تتجنب
النظر لها لسبب تظنه يتعلق بكونها شقيقة مسبب كل ذلك وشعرت
بالإختناق وبأن كل شيء حولها يكتم أنفاسها والواقف أمامها
أولهم حركت رأسها بعدم استيعاب وقالت بشفاه مرتجفة
" مستحيل ...!
لا يمكنني تصديق أن يفعلها قائد !
لابد وأنه ثمة خطأ ما في... "
وقاطعت نفسها وقالت فجأة
" ماذا عن شقيقها جبران ؟ قد تكون... "
فقاطعها هو هذه المرة وقد نظر لعينيها مباشرة
" لا فدرعنا هناك أنكروا حدوث ذلك ولم تعبر سيارته ولا أي
نقطة تفتيش للشرطة خارج العاصمة "
فشعرت بغضبها يتعاظم بسبب كل شيء مرت وتمر به وتغلب
توترها والضغط النفسي الذي تشعر به على سلوكها وقالت
بانفعال غاضب
" لما تصر بأنهما معاً ؟ ما دليلكم على ذلك ؟ "
ولأن الواقف أمامها لم يكن أفضل حالاً منها وهو يواجه كارثتان
لم يجد لأي منهما حلاً بينما تحاول هي نكرانها وتكذيبه خرج
صوته أيضاً مرتفعاً ومنفعلاً حين قال
" لأنه خرج بها من المستشفى بعدما تم نقلها له من منزل
زوجها وهي في انهيار تام ونزيف حاد أيضاً لسبب لازلنا جميعنا
نجهله فلما تغادر معه من هناك وتجبر الأطباء على ذاك ثم
يختفيان كلياً ؟
ولما يسعى شخص مجهول لإحداث بلبلة بذاك الأمر ؟
هذا إن لم يكن هو وراء ذلك أيضاً "
ولم يكن ذلك سوى بمثابة إضافة النار الحطب واشتعلت مقلتاها
البنيتان ونفضت يدها قائلة بحدة
" لا قائد ليس كذلك ، شقيقي وأعرفه جيداً ولن يقنعني أحد
بأنه قد يفعلها "
فاستنفرته طريقة حديثها وأنسته توبيخه الطويل لنفسه حين
تعامل مع إبلاغها الأمر بقسوة وخرج صوته غاضباً حين قال
ويده والهاتف فيها تشير جانباً
" من إذا يا جليلة ؟ من هذا الذي من مصلحته أن يفعل ما فيه
موته إن عاد مطر قبل أن نجدهما ؟
من هذا الذي سيجبره على مصيبة وفضيحة كهذه ؟! "
قالت بغضب محتج
"لا أسمح لك بقول ذلك عنه ،أنت لا تعرفه لتحكم عليه بالفحش "
جعلته عبارتها تلك يتجمد من الصدمة للحظات قبل أن يقول منكراً
" جليلة لا تنسبي لي شيئاً لم أقله "
فقالت على الفور وبضيق تشير بسبابتها له
" بلى قلت وعنيت "
ولاذت بالصمت تنظر لعينيه التي انحرفت لشيء ما ورائها
وأنفاسه الغاضبة لازالت تعبث بعضلات صدره العريض ولم يضف
شيئاً فتنحت جانباً تنظر لما كان ينظر ولم يكن سوى عمته وابنتها
بل والطفلان أيضاً ويبدو أن أصوات شجارهما المرتفع اجتذبتهم ،
بينما تركزت عيناها على الابتسامة الساخرة التي رمتها بها
الواقفة بجانب والدتها تمسك يدها الوشاح الذي لم تكلف نفسها
بسحبه للأمام ليغطي كامل شعرها الأسود الناعم ، واشتدت
قبضتاها بقوة وغضب وغادرت من فورها بخطوات مسرعة
عائدة من حيث جاءت ونظرات الجميع تتبعها وأولهم من تركته
خلفها يراقبها بحاجبين معقودين بشدة ، وكانت عمته أول من
كسر ذاك الصمت المشحون قائلة وقد نقلت نظرها له
" ما بكما يا عمير ؟ لما تتشاجران !! "
فتحرك من مكانه متمتماً
" لا شيء عمتي "
واختفى حيث غادرت زوجته منذ قليل بينما تنهدت عمته تنظر
للمكان الذي اختفى منه متمتمة
" حالهما لا يسر أبداً وثمة خطب ما بينهما ؟! "
فابتسمت ابنتها بسخرية قائلة ونظرها عاليا حيث الطابق الذي
يسكنانه بل ونافذة غرفتهما تحديداً
" ألم يخبرك سابقاً أن تتحمليها وغرورها ؟
ليستحملها هو الآن إذاً إن أمكنه ذلك "
فرمقتها بنظرة غاضبة وقالت تضربها من مرفقها
" تحركي هيا ، وكأنك لم تسمعي ما قالا وبأنه ثمة شخص آخر
يتحدثان عنه "
ففركت مرفقها بضيق وقالت مغادرة
" سيكون أحد أشقائها أو أقاربها بالتأكيد ولينظر لنفسه من
ناسب ولم يسمع النصح أبداً "
وابتعدت عائدة للمكان الذي كانوا يجلسون فيه بينما حركت
والدتها رأسها بيأس منها وتحركت أيضاً قائلة لحفيدها
" أحضر شقيقتك واتبعنا "
*
*
*