كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
فتحت باب السيارة ما أن توقف حيث طلبت منه أو حين طلبت
ذلك فتلك أول كلمة تنطق بها منذ أن غادرا ذاك المكان المجهول
عنها حتى الآن ووصلا لشوارع لندن المزدحمة ولم تكن وجهته
مدينة بريستول التي غادرا منها ، تركت باب السيارة مفتوحاً
وراءها كالضائعة المشتتة وسارت مبتعدة عنه تحضن نفسها
وجسدها وألمها مع سترتها الصوفية الخفيفة لم تنظر له وراءها
ولم تهتم إن غادر أم تبعها أم لازال واقفاً مكانه فبالكاد كانت ترى
الرصيف أمامها وحركة أقدام الناس العشوائية عليه بسبب
الدموع التي غمرت مقلتيها الذهبية الواسعة حتى أنها أربكت
حركة بعضهم باصطدامها الجزئي بهم ولم تهتم ... ولما ستهتم ؟
بل وكيف ستفعل ذلك وما يحركها لم تكن إرادتها الذاتية حينها
فهي قطعاً لا ترى أحداً منهم .. لا ترى سوى مأساتها القادمة ..
السواد والضبابية ودموع تجزم أنها لن تتوقف لأعوام عديدة ،
ترى مستقبلها كحاضرها اللحظة وكماضيها الكئيب المظلم ذاك ،
وارتفعت يدها لشفتيها تكتم بها عبراتها لازالت تسير في خط
مستقيم ودون هدى في آن معاً كل ما تراه أمامها هو صورة ذاك
الرجل ينظر لعينيها بقوة لم تعرفها يوماً في غيره ولا في الذي
وصفه بأنه ابنه بالرغم من كل ما تحمله شخصية ذاك الابن من
قوة وانفراد واستقلالية ، حتى أنها فقدت النطق أمامه تماماً
وكأنها ليست تلك التي كانت قبل ذلك بقليل تواجه والد زوجها
كلمة بكلمة والند بالند ، تستمع فقط لمخطط قتل أحلامها وذبح
روحها اليتيمة وحرمانها من السعادة حتى الموت .
وعند ذلك لم تفقد رؤية ما أمامها فقط بل والقدرة على السير أكثر
فانهارت جاثية على ركبتيها للأرض وانحنت تحضن نفسها بقوة
وتبكي بمرارة وألم لا يعنيها المكان ولا السائرين فيه ونظراتهم
لها فلا أحد كان ينظر لها أساساً هناك في بلاد وإن سارت فيه
المرأة عارية في الشارع أمامهم لن يهتموا ليهتموا ببكائها أو
نحيبها الموجع .. ماتت ضمائرهم مع قلوبهم كموتها تلك اللحظة
رغم وجودها ضمن الأحياء ، لكن لا ثمة من كان يهتم ومن
شعرت بثقل يده على كتفها حينها ومن بالتأكيد لم يغادر ويتركها
وهو يعلم جيداً ما سيفعله بها كل ما قيل هناك وعلمته من ذاك
الرجل حيث كان واقفاً بجانبها كالتمثال أيضاً ولن يعترض بالطبع
ولن يمانع لكنه أيضاً لم يبدي رأيه ولا تعاطفاً معها فهما متفقان
سلفاً على قتلها ووأد أحلامها الوليدة .
انصاعت له من فورها منهارة القوى ما أن حضن كتفيها بذراعه
وأوقفها بمساعدة يده الأخرى التي التفت أصابعها حول ذراعها
وسارت معه باتجاه سيارته التي ركنها قريباً منها عند حافة
الطريق وقد تحول كل ذاك النحيب المؤلم لبكاء صامت وعبرات
متقطعة حتى أصبحت تجلس بجانبه مجدداً وانطلق للمكان الذي لا
تعلم شعر بأنها تحتاجه الآن تحديداً أم أرادها فقط أن تودعه قبل
الأوان فهي بالفعل ستفقده وإن كانت فيه ووسط جدرانه .
وقف بسيارته أسفل المبنى السكني ففتحت باب السيارة من
فورها ونزلت منها وبخطوات مسرعة رغم تعثرها دخلت الباب
الزجاجي المفتوح وصعدت العتبات راكضة وفتحت الباب الذي
لازال يترك نسخة عن مفتاحه لديها ، وما أن انكشفت لها
جدرانها وتفاصيلها التي عشقتها في فترة قصيرة وغمرتها رائحة
عطره القوي العالق بكل زاوية فيها وبخطوات راكضة وصلت
باب غرفته فتحته وتابعت ركضها جهة سريره الذي ارتمت عليه
من فورها تدفن دموعها وعبراتها في ملاءته الناعمة تشدها
بقبضتيها بقوة فستحرم من كل هذا ... من هذا كله وبملء إرادتها
وستخسره للأبد هي موقنة من ذلك ولن تكون النهاية كما يدّعون
ويخططون لها بل ستخسره وهو موجود أمامها ثم ستفقده للأبد
لأنها نهاية كل رجل شجاع عاش بشجاعته وتضحياته في الظل
أليس كذلك ؟ أليست هذه المعادلة الصحيحة مع أمثاله دائماً ؟
بكت دون رادع ولا قيود ... بكت بحرقة وألم ولا شيء آخر بيدها
تفعله فذكرى كلمات ذاك الرجل وعباراته الحازمة والآمرة تنسف
أي محاولة لعقلها لإيجاد الحلول المغايرة والأقل ضرراً عليها قبل
الجميع ، لكن لا حل كما قال .. لا حلول بديلة على الإطلاق .
اشتد بكائها حتى باتت أنفاسها تخونها وتكاد تفقدها للأبد وكلماته
القوية تلك تضرب قلبها كالسياط
" تيم إبني ولن أسمح لشيء ولا لأحد بأذيته أو أن يكون سبباً
فيها ولا أنت ماريه هارون "
هكذا استقبلها ودون رحمة ولا مقدمات ! بل ونسبه لنفسه بكل
تملك وكأن ليس والده الحقيقي ذاك الذي يقف معها مقابلاً له !
بل وأضاف وبنبرة أشد قوة من سابقتها كفيلة بتحويل الجبل
الشامخ لرمال
" لم تكن تلك المرة الأولى التي يطالبني فيها بإحضارك إلى هنا
وكان جوابي الرفض التام في كل مرة لكنه وما أن علم بتعرضك
للأذى الجسدي من عمك ذاك رأيت في عينيه عناداً لا سابق له
لأوامري وعلمت بأنه سيتهور إن أنا رفضت مجدداً ، وخشية
عليه فقط وافقت حينها وظننت بأن الأمر سينتهي بإقامتك في
منزل عم والدته هنا فهو يدرك جيداً أن اقترابك من عالمه فيه
خطر كبير عليه وعليك أيضاً ، وبدأ تيم الذي أعرفه يتغير شيئاً
فشيئاً يرفض الأوامر وإن كانت من أجل سلامته وموافقته السابقة
لجلبك وتركك بعيداً عنه تلاشت بعد أيام قليلة وبضغط منك .. هذا
ما أنا متأكد منه ثم وبجنون قرر أن ينقلك لمنزله وبدأنا نفقد تيم
ذاك بالفعل ..
عناد تجاهل للأوامر وتعنت لما يدرك جيداً بأنه خاطئ وليس في
صالحه ولا صالحك ، بات يرفض الأوامر والمهام بحجة وبدونها
فقط ليرضيك بالرغم من أنه عاندني وأخبرك عن مهمته التي
تربطه بابنة الجنرال غامسون "
وتلا حديثه ذاك صمتٌ مخيف واشتدت أصابعها في قبضة واحدة
حتى ألمتها يداها ولم تستطع التحدث ولا مناقشته أو حتى الإنكار
فقد سرد ما حدث بالفعل وكأنه كان معهما طيلة الفترة الماضية
ومنذ أصبحت هنا !
فهو بالفعل عمل بأوامر واتفاقهما الذي كانت تجهله وتركها في
منزل عم والدته ووالدها ثم بدأت بالضغط عليه كما قال ، كانت
تعترض وتحتج على واقعهما ذاك وحين شرح لها ظروفه وبأنه
يصعب تواجدها في عالمه وبأنه يحتاج لبعض الوقت فقط لآنت
واستجابت لتظهر حقيقة ابنة ذاك الجنرال .. الأمر الذي ها قد
ظهر بأنه عاند فيه رئيسه أيضاً من أجلها والأمر الذي فجّر كل
شيء .. قلب ماريه ومشاعر ماريه وغضبها الأسود عليه أيضاً
وبات سماعه والاقتناع بما يقول أمر لا يزيدها سوى هجوماً
عنيفاً عليه ورضخ لضغوطها نهاية الأمر ...
هكذا هي الحقيقة رواها كما حدثت كاملة أنكرتها أم اعترفت بها
ولا يبدو أنه كان ينتظر هذا الاعتراف ولا أن تتحدث ولم يكن
صمته القصير ذاك إلا بسبب ما سيضيفه ، وارتجف جسدها لا
شعورياً ما أن ضرب بقبضته الطاولة تحته بقوة وملأت الدموع
عينيها فور أن خرجت كلماته القوية بحدة هذه المرة
" تيم إبني ... لا أحد ولا الواقف بجانبك الآن يستطيع مجادلتي
في ذلك وهو أهم لديا من كل شيء حتى الوطن ، ومن أجل
سلامته كنت لأرجعه للبلاد الآن وأبعده عن الخطر لولا تلك
المنظمة والرقاقة التي يزرعونها بداخله فاختفائه الآن سيكون
تهوراً وحماقة ستكون ثمنها حياته وسيموت أمامنا ولن يستطيع
أحد فعل شيء له "
وعند هنا سحبت الهواء في شهقة واحدة مصدومة وكأنها ترى
ذلك أمام عينيها الآن وتتخيل فضاعته ولم تستطع أيضاً النطق
بشيء بل ولم يترك لها الواقف هناك المجال وهو يجلس على
كرسي مكتبه الجلدي الأسود مرتفع الظهر كأسد يجلس فوق
صخرة عالية لا تزيده سوى شموخاً ورفعة بينما تحولت لهجته
لما يشبه الفولاذ الصلب حين انخفضت بما أظهر بحتها المميزة
بطريقة زادت صوته قوة وعمق وهو يقول
" غاستوني ميديشي .. إنه العم الوحيد لوالد ماري دفيسنت التي
تتقمصين شخصيتها الآن وهو أصبح هنا في انجلترا بل وقريباً
جداً من لندن "
توقفت أنفاسها في حلقها حينها وشعرت بخوف لم تفهمه !
هي لا تعرف تلك الفتاة التي وهبتها اسمها ووجودها في هذا
العالم ولا تعلم شيئاً عن عائلتها الإيطالية هناك لكن ما تعلمه جيداً
بأن هذا الرجل لن يقول شيئاً فقط لتبادل الأحاديث ولا للدعابات
وليس هنا وفي هذا الوقت ، ولم يتنازل للقائها لأجل ذلك تاركاً
وراءه بلاد كاملة هو يعد رئيسها الحالي ، وما توقعته ما كان
له إلا أن يكون حقيقياً فقد تابع بنبرة مرتفعة أكثر وكأنه يخاطب
جيشاً يقف معها وبأكثر جدية هذه المرة
" غاستوني ميديشي القائد السابق في البحرية البريطانية
والمتقاعد حالياً له إبن ضابط في البحرية أيضاً ولأنه انضم الآن
لمقر نورثود انتقل للعيش ووالده هنا بينما قد قضا ذاك العجوز
أغلب حياته في المكسيك لم يزر إيطاليا وعائلته الصغيرة هناك
منذ أعوام طويلة آخرها حضوره لجنازة الإبن الوحيد لشقيقه
الوحيد أيضاً والذي يكون والد ماري دفنست ولم يلتقيها حينها
لأنها كانت في زيارة لليونان وتلقت خبر وفاة والدها هناك
وانهارت تماماً بسبب ذاك الخبر ولم تستطع العودة مبكراً لإيطاليا
بينما تكفلت عمتها وابنيها بإتمام مراسم الدفن بينما عاش ابنه
في اسكتلندا منذ صغره مع والدته التي توفيت قبل عامين بسبب
مرض عضال حتى أنهما بالكاد يستخدمان اللغة الإيطالية لقلة
زيارتهما لتلك البلاد وبالرغم من كل ذلك وجودهما الآن هنا يشكل
أكبر عائق أمامك وخصوصاً عمل ابنه ذاك مع الجنرال وبالأخص
تواجدك مع تيم وفي منزله "
حاولت تحريك شفتيها المتحجرة ، أرادت أن تقول وما علاقة كل
ذلك بوجودهما معاً ؟ لكن ثقل فكيها المتخدران منعها ، بل ولم
يكن الأمر يحتاج أن تسأل فقد كان وكأنما يقرأ أفكارها تلك بل
ويبدو أنه درس سلفاً ما ستقول وبما سيجيب فقال بقوة محدقاً
في عينيها
" ما لا تعلمينه أن سبب انتحار ماري هو تيم ... "
فاتسعت عيناها بصدمة لم تتذكر أنها عاشت مثيلاً لها سوى حين
علمت بعلاقته بتلك الإنجليزية الحمراء ومنه تحديداً ، بينما تابع
هو بعد صمت لحظة وكأنه يجرعها الفاجعة دفعات بالرغم من
أنها تشك أن يكون له ذرة إحساس بمشاعرها
" الرجل الذي أحبته وبشكل مرضي ولم تجد لديه أي تجاوب
لمشاعرها تلك بل ورفضها علانية وأمام الجميع مما جعلها تفقد
الرغبة في مواصلة الحياة كما يبدو ، ووجود قريبها الشاب ذاك
قريباً من عائلة الجنرال وخصوصاً ابنته سيحمل الكثير من
الأجوبة عن أسئلتهم المبهمة عنها وبالرجوع لأي فرد من عائلة
عمتها في إيطاليا سيكشف سر ماري وماريه ومن ثم تيم شاهر
كنعان وهو يعلم ذلك كله الآن ولازال يعاند ويغامر بكما معاً من
أجل أفكاره ومعتقداته التي لن تؤدي سوى لهلاكه "
كان صوته يرتفع نهاية حديثه ذاك بغضب أوضح تماماً مشاعره
اتجاه كل ما فعل وقرر ابنه مؤخراً كما يصفه فتعاقبت أنفاسها
وتكدست الدموع في عينيها ولم تستطع استيعاب كل ذلك بسهولة
ولم يساعدها أو يرحمها الذي تابع ينظر لعينيها بقوة تشبه
كلماته
" لن تستغربي بالتأكيد أن كان هو سبب موت تلك الفتاة كما
اتهمته عائلتها هناك ثم حين وصلهم بأنها لازالت على قيد الحياة
وأنها لعبة فقط منها لتكون هنا معه وهذا كان الدور الذي تقمصته
أنت الآن قاطعتها تلك العائلة غضباً مما فعلت وكل ذلك كان من
أجلك أنت ماريه فقد ترك اليونان بسبب هذه الحادثة "
انفرجت شفتاها وعلقت أنفاسها في حلقها بينما شخصت عيناها
فيه بصدمة وتابع هو بجدية يشير بسبابته لطاولة المكتب تحته
" صدقي ذلك فأنت فقط السبب في كل ما فعل ، حتى أنه حين
كبرت ابنتي قليلا وبات الخطر يحدق بي وبجدها هنا كان تيم أول
من عرضت عليه أن يكون زوجها ويحميها من المجهول الذي لا
نعلمه إن حدث لي أي مكروه لكنه رفض أتعلمين لما ؟ "
لم يكن سؤاله يحتاج جواباً ولم يكن على ما يبدو ينتظره منها
فقد تابع من فوره وبحزم شديد وقد أشار لها هي هذه المرة
" وقالها بالحرف الواحد .. أنا زوج لامرأة واحدة فقط ومنذ
كانت طفلة ولن أكون السبب في ألمها ولا من أجل ابنتك "
وضرب بقبضته المشدودة على الطاولة أمامه وكأنه غاضب فعلاً
من رفضه لذاك العرض المغري لأي شخص مكانه !
وغامت صورته أمام عينيها المشبعة بالدموع والألم وانسابت أول
دمعة تنزلق على وجنتها ببطء كشريط حياتها القصير الذي قضته
معه وهو يمر أمام عينيها حينها ، وشعرت بسبابته تخترق قلبها
بألم مهلك ما أن رفعها مجدداً في وجهها من مكانه من هناك
وقال بحزم يشير بها لها
" ذاك كل ما فعله تيم من أجلك وما أجهله سيكون أكثر بالتأكيد
وها قد حان دورك لتكافئيه بالمثل ماريه هارون وتحميه منك
لأنك ستكونين سبباً في هلاكه القريب جداً "
كان ذلك أقسى ما قال وجعل دموعها تنساب الواحدة تلو الأخرى
في صمت ، بل وكل حرف قاله منذ البداية كان قاتلاً مميتاً
وأحرق قلبها ومشاعرها ولم يعد بإمكانها التركيز في كل ما قيل
بعدها وما أمرها به لتفعله لكنها فهمت أمراً واحداً بأنهم قرروا
وبكل قسوة قتلهما معاً بل قتلها هي ودون رحمة فذاك المقاتل
العنيد يعلمون جيداً بأنه أقوى بكثير مما سيواجهه ومن الضربة
الموجعة التي ستوجه لكرامته وكبريائه وليس مشاعره فليست
تجزم بأنه يملك ناحيتها شيئاً منها فهو أقوى حتى من فرضيات
تأذي مشاعره الرجولية أما هي فقد أعلنوا موتها من الآن ولن
تجلبه لنفسها بصور أخرى يخشونها .
*
*
*
|