كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
الفصل الرابع والعشرون
المدخل :
بقلم / deegoo
على لسان غسق..
كسفينة بلا ربان تتقاذفها الرياح في وسط البحار.. هكذا وجدت نفسي أقف أمام عواصف الأيام ..
لا شراع يخفف سرعة تصادم الأوجاع في قلبي
ولا يد تدير عجلة حياتي لتوصلني لشاطئ الأمان..
بقيت أنظر لمن حولي علّ منهم من يحضُنّي..
منْ يلملم شتات روحي الممزقة من حبٍ غادر..
منْ يمد لي يد العون لأنتشل نفسي من براثن الألم..
لكني لم أجد احدًا يسندني فشراع سفينتي قد مات..
وروحي تاهت بين الأحزان.. لا أرض تحتويها فترتاح ولا سماء تزيح عن قلبها الأتراح.. فما حيلة القلب ان كان في رحاب حبك طاح.. ماظن يومًا ان يلقى الجزاء آلام وجراح..
عثت به فسادًا حتى تعالت دقاته بالنياح..
فأي حبً ترجو بعد ذلك وأي سماح؟!
فلم يعد بالقلب مقدرة على الفرح ولم تعد الروح تهفو لشيء فقد غدت كحمامًة مكسورة الجناح 🕊️💔
****************
بقلم /ام الغيث... ❤
من غسق إلى مطر...
******************
تجيء كجيش من الاحتلال.... وطيفك يغزو سفوح الجبال
تبث سراياك في داخلي... وتنصب خيمتك في الرمال
فويحك ما كل هذا الحضور.... ليطغى ويأخذ كل المجال
وجندك يكثر في داخلي... يؤسس دولته في نضال
ويقمع كل الحشود التي... تنادي على ملكه بالزوال
يسن قوانينه للبقاء.... يدوِّي بها في الملا بارتجال
على عرش قلبي أراه استواى.... ويركب موكبه في اختيال
لئن قلت أسعى إلى نفيه... وتحرير قلبي فهذا محال
سلامٌ على الاحتلال الذي... يسقي رعاياه كأس الدلال
سلامٌ عليه برغم اسمه.... له في حناياي كل الجمال
************
ارتفعت نظراتها تتبع ضربات قلبها المجنونة للجسد الذي أصبح
يملأ الباب أمامها ما أن انفتح بقوة وارتجف جسدها بشكل طفيف
ولا إرادي واستطاعت أن تتعرف على صاحبه من قبل أن تصل
نظراتها لملامحه فقلة هم في نظرها من يمتلكون هذه السمات
وليس الأجساد فقط ، بل هم قلة بالفعل من صقل مطر شاهين
شخصياتهم ليصبحوا نسخاً مكررة عنه ، وشعرت بالجفاف في
حلقها ليس بسبب وقوفها وجها لوجه أمامه منذ آخر مرة رأته
فيها في مبنى الجمعية في العمران وبصفة أكثر رسمية الآن
ولا للهيئة التي كانت عليها حينها متزينة متبرجة ولأول مرة
أمام رجل غير أشقائها .. لرجل ارتبط اسمها بإسمه في حقيقة
كم شعرت حينها بأنها زيفتها لأسابيع بطريقة طفولية حمقاء
لتخدع بها نفسها فقط ، بل ما جعل الدماء تتجمد في أوردتها
تدريجياً كان النظرة التي رأتها في عينيه ولم تعرفها في المرات
المحدودة جدا التي رأته فيها ...!
لا بل هي كانت تشبه نظراته القليلة تلك التي رأتها مصادفة في
التلفاز والتقطتها القنوات التلفزيونية له فهي تجنبت ذلك أيضا،
كان جذاباً بشكل مُمرض وهو في اللباس الرسمي وتلك الهيئة
وطريقة الوقوف وكأنه لم يقارب الأربعين عاماً لكنها كانت أبعد
من أن تدقق في كل ذلك وتجنبته في المرات السابقة التي كانت
فيها أفضل حالاً فكيف بوضعها اليوم ؟
لا بل ما أوصلها لتلك الحالة بالفعل كان أمر مختلف تماماً عبرت
عنه كلماتها التي خرجت من بين أنفاسها المتعاقبة وسط شفتيها
المطلية بالأحمر الزاهي ما أن انفرجتا وبصوت هامس لا تعلم من
أين خرج تحديداً بل وكيف وصل له
" أين هو قائد ؟ "
كانت تلك الومضة التي أصابت عقلها وأعصاب دماغها المتشنجة
ما أن رأت هذا الرجل يقف وحيداً عند الباب وبدون شقيقها ، فأن
يتأخر الوقت دون أن يتصل بها ولا أن يأتي ويصبح هذا الرجل
هنا من دونه معناه أمر واحد فقط وهو السوء الذي قد يكون لحق
بأحدهم ، هذا إن لم يكن هو نفسه .
" هذا ما جئت لأسألك أنا عنه "
وارتجف جسدها مجدداً وبشكل أكثر وضوحاً ما أن خرجت منه
تلك الكلمات تشبه النظرة التي لازالت ترسلها عينيه ناحيتها ،
ورغم عمقها الرجولي وانخفاضها كانت جامدة خشنة وكأنه يجبر
نفسه على نطقها وعلمت حينها بأن نبرته تلك تحمل الجواب من
قبل أن تسأل ، وشعرت بدوار خفيف واستطاعت أن تتوازن جيداً
ما أن لامست أصابعها طاولة السرير القابعة خلفها تماماً وكانت
نظراتها لازالت معلقة في عينيه .. عينيه فقط وكأنها تستجديها
الرحمة ، وذاك ما يحدث كلما نقل لنا أحدهم فاجعة ما يجرعنا
إياها بروية فنتوسله في صمت أن يخذل جميع توقعاتنا السيئة
حينها ، لكنه لم يرحمها ولا بالتحدث بالحقيقة مما جعل شفتاها
تغتصب الكلمات مجدداً وبهمس أخفت هذه المرة لابد أنه فمه من
حركة شفتيها ولم يسمعه
" ماذا حدث له ؟ "
وتبعت نظراتها الشاخصة حركة حدقتاه السوداء الواضحة ما أن
أبعدها عنها بطريقة لم تزد حالها إلا سوءاً وكأنه غاضب من
الحقيقة قبل قولها ! بل وفهمت بأن ما سيكون قد حدث وتجهله لا
يحزن هذا الرجل ولم يصدمه بل يغضبه !! ولم تكذب ظنونها أبداً
بل ولم يتأخر دليل ذلك عنها فقد قال بذات نبرته الجامدة القوية ما
أن عادت حدقتاه الغاضبة للنظر لعينيها المملوءتان بالتوجس
والذعر
" على الأرجح أنه غادر البلاد فلم نجده حتى الآن.... "
ولم يتركها تستوعب تلك الرصاصة المصوبة للقلب ليتبعها
بأخرى أقسى وأفجع منها وبكلمات خرجت من بين أسنانه
المطلقة بغضب مكتوم
" وابنة خالتك معه "
فلم تسمع حينها سوى صوت شهقتها التي خرجت مرتفعة انتفض
معها صدرها بقوة بل ولم ترى شيئا بعدها سوى طيف ذاك الجسد
الطويل الذي وصل لها في خطوات سريعة مانعاً ليس فقط جسدها
من السقوط أرضاً بل ورأسها من الارتطام بحافة الطاولة قربها
والموت بلا شك .
*
*
*
شعرت ببعض الارتياح حين لم تعد تسمع صوت الخطوات الثقيلة
الراكضة خلفها رغم الذعر الذي لازال يسكن قلبها كما أوصالها
، وكان ذاك الخيال الأسود المرتفع الذي تراء لها وسط الظلام
طوق نجاتها الوحيد فركضت ناحيته بسرعه بدأت تهدأ تباعاً
وكأنها بطارية بدأت تفقد جهدها تدريجياً حتى توقفت تماماً عن
العمل ، وبدأت تلتقط أنفاسها ما أن وصلت إليه واحتضنت ذراعها
إحدى أعمدته الحديدية ، وبالرغم من أن أملها خاب ولم يكن ذاك
البناء سوى بئر قديمة مهجورة وجافة تردد صوت الريح
وصفيره داخلها إلا أنها كانت بمثابة المأمن بالنسبة لها.
كتمت شهقاتها الباكية بيدها المرتجفة تطبقها على شفتيها بقوة
وعيناها الغارقة في الدموع تنظر للظلام حولها بحركة بطيئة
وتمنت لحظتها أن ماتت وما غادرت منزل أويس بل ومنزلها من
أساسه فهي لا تعلم حتى إلى أين أخذتها خطواتها الراكضة تلك ؟
كل ما تعلمه بأنها ركضت طويلاً وبكت كثيراً وتعثرت ضعف ذلك
وسقطت عدة مرات حتى أن ركبتاها وكفوف أيديها كانت تؤلمها
بشدة ولا يمكنها مغادرة هذا المكان قبل بزوغ ضوء الفجر على
هذه الحالة لتستدل طريقها حينها أو لتفهم تحديداً أين أصبحت
وكيف يمكنها العودة من حيث جاءت.
نزل جسدها ببطء على حديد العمود البارد حتى جلست تسند
ظهرها على حجارة البئر الدائري الكبير والمغطاة بطبقة سميكة
من الطين الذي لم يجردها تعاقب السنين منه رغم كل تلك
الثقوب الغائرة التي حفرتها فيه وحضنت ركبتيها لصدرها بقوة
وخبأت وجهها بل وعيناها ودموعها فيهم تحاول بشق الأنفس
كتم شهقاتها كي لا ترتفع في صمت الليل الموحش تنعي حظها
والتعاسة التي لم تفارقها يوماً ، فهي لم تجني شيئاً من مجازفتها
الغبية المجنونة تلك .. لم تجده لم تعلم شيئاً عنه ولم تبقى في
منزلهما تنتظره ، فما الذي سيحدث إن عاد للمنزل الآن ولم
يجدها فيه ؟
رفعت رأسها وشخصت عيناها في الفراغ المظلم بذعر ليس
بسبب الحقيقة التي أخذتها أفكارها لها بل ... انتقلت نظراتها لا
شعورياً للجانب تباعاً تلاه رأسها الذي استدار مع حركة حدقتيها
الخضراء الدامعة بسبب الصوت الذي سمعته وتناهى لها من
بعيد ... صرخة رجل !! حقيقة هذا ما سمعته أم تتوهم؟!
" آآآاااااآآآآآه... "
انتفضت واقفة بلا وعي منها تنظر للبئر أمامها بذعر وجسدها
بأكمله يرتجف فها قد تكرر الصوت مجدداً وكان بصورة أوضح
هذه المرة بسبب توقفها عن البكاء المكتوم ، هي ليست تتوهم إذاً
والصوت لرجل فعلاً ويخرج عبر هذا البئر ولا يبدو أنه من
داخله !!
" رعااااااااااااااع "
صرخت قافزة في مكانها بل وركضت هاربة من ماذا لا تعلم !
ما تعلمه أن ذاك الصوت يخرج من مكان ما ليس فوق سطح
الأرض !!
بل مالا تعلمه بأنها فرت من ذعرها لمخاوفها ومن قدرها لقدرها
ما أن اصطدمت بجسد بشري دفعها للخلف بقوة قبل أن تلتف
الأصابع الرجولية الطويلة حول معصمها ليس لتنقذها من السقوط
فقط بل ولتحكم قبضتها عليها كي لا يفقدها مجدداً ، فلم يكن ذاك
سوى مطاردها الذي فرت منه هاربة منذ قليل .
*
*
*
دفع الباب الحديدي بيده بقوة فانفتح مصدراً صوتاً مرتفعاً
لاصطدامه بالجدار الملاصق له ودخل ضارباً إياه خلفه ، وبعد
خطوتين وقف واستند بالجدار الذي يمثل إحدى جدران الحمام
الصغير الموجود هناك نظره على الأرض تحته يشد قبضتيه
بجانب جسده بقوة والنار التي شبت بداخله منذ ساعات يشعر
بأنها لم تخمد بعد ويئس من أن تنجح الساعات المتعاقبة في فعل
ذلك وهذا ما جعله يرجع قبل متى لم يكن يمكنه التحديد بل وفكر
عدة مرات في ركوب سيارته والمغادرة من هذا المكان وللأبد
وترك كل شيء هنا وأولهم مواجهتها ... خدعتاه وتلاعبتا به
وبكل سهولة جرتاه للفخ ليس لشدة ذكائهما بل لأنه أحمق ، تباً ..
تلك الفكرة وحدها كانت كفيلة بجعله يقتل نفسه الليلة ، لقد سلمها
كل شيء .. اسمه منزله حياته والأسوأ ثقته ومشاعره ليكتشف
في النهايه...؟
رفع رأسه عالياً مسنداً إياه للجدار خلفه ينظر للسماء السوداء
وكم كان يشعر بالضآلة والاستنقاص... لم تتحرك مشاعره يوماً
اتجاه امرأة بل ولم يحتك بإحداهن أبداً لأنه يكره العلاقات العابرة
ولم يرى نفسه يوماً يصلح لمشروع زواج وهو الذي لا يملك
شيئاً ولا حريته للخروج من منزل والده والاستقرار ، بل ولا
قرشاً أيضا يكوّن به عائلة مهما كان حجمها ولولا أن أجبرته
تلك الظروف على الزواج منها ما كان ليقدم على تلك الخطوة
أبداً حتى يرى في نفسه ووضعه وظروفه ما تستحقه الفتاة التي
ستقبل به زوجاً وستصبح زوجته ، وبالرغم من كل ذلك تنازل
عن قناعاته ومعتقداته فقط من أجل فتاة لا يعرفها ولم يفكر سوى
في مستقبلها الذي تأذى بسببه وماذا كانت النتيجة...؟
ضرب رأسه بالجدار خلفه مغمضاً عينيه بقوة وكم شعر بالخزي
والعار أمام نفسه التي كانت توبخه حينها ويعجز عن الدفاع عنه
أمامها ... كم كان مغفلاً وأحمق ومعتوه وبخطة فاشلة طفولية
استطاعتا الاثنتين اللعب به ونجحتا ليس للحبكة الماهرة للعبتهما
تلك بل لغبائه هو ، وإن كان شخصاً آخر غيره يجزم بأنه ما كانت
لتنطلي عليه تلك اللعبة السخيفة لكنه كان الفريسة المناسبة
تماماً ووقع في الفخ لأنه لم يكن الأسد فالأسد لا تأكله الذئاب .
ابتعد عن الجدار ومسح وجهه بكفيه مستغفرا الله بهمس أجش
ودس يديه في جيبيه ونظر جانباً حيث يظهر له جزء من باب
الغرفة المغلق وعادت الأفكار للتزاحم في رأسه ... الأفكار التي
كان في شجار عنيف معها طوال الساعات التي هام فيها يمشي
في الحقول المظلمة وحيداً فليس بإمكانه ممارسة أي نوع من
العنف اتجاهها ولا لتقر بالحقيقة فتلك ليست طباعه مهما فعلت
وكان حجم فعلتها تلك ومهما شعر بالغدر والمهانة بسببها ، ولا
يمكنه أيضاً ترك المكان وهي فيه وعدم العودة مجدداً لسببين
الأول أنها زوجته قانونياً والثاني هو أعمامها الذين لن ينجو
منهم بسهولة إن فكرو في تحميله المسؤلية فالحل الأنسب أن
يرجع شقيقها ويرجعها له ولن يفعل ذلك غير مطر شاهين فإما
أن يجلبه لها أو يأخذها له لأنه لا يريد أذيتها بالرغم من كل ما
فعلته فقد يكون الأمر حدث رغماً عنها ولم تشارك فيه .
حرك رأسه بقوة متأففاً يرفض أن يجد لها الحجج والأعذار فحتى
إن كانت تعرضت لذاك النوع من الاعتداءات مرغمة فما من شيء
يبرر لهما استغفاله وخداعه ، قسما أنه في عدة مرات أشاد
بدهائهما فلولا أنه سمع ذاك الحديث بينهما مصادفة لكانت انطلت
عليه حيلتهما فهو المغفل وهما كانتا أذكى منه .. فتاتان ريفيتان
محدودتا التعليم والثقافة تلعبان بعقله وبكل سهولة لأن مستوى
ذكائهما المحدود أفضل منه بالتأكيد !.
تعوذ من الشيطان بتنهيدة عنيفة وتحرك من مكانه فإن استسلم
لأفكاره تلك أكثر من ذلك سيترك لها حرية التحكم في ردود أفعاله
وما أن يراها أمامه خصوصاً والآن تحديداً ، لكن مخاوفه تلك لم
تحدث جميعها فما أن دفع باب الغرفة وقف مكانه ينظر باستغراب
للصمت التام ! وما أن أضاء زر الإنارة تنقلت نظراته المصدومة
في الفراغ حوله ونظر لا شعورياً ورائه ولباب الحمام المفتوح ثم
المطبخ المظلم تماماً فهي ليست هنا !! وتخللت أصابعه خصلات
شعره الناعم تدور حدقتاه الشاخصتان في الفراغ بتفكير فكيف لم
يفكر في هذا وبأنها لم تخرج له مسرعة كعادتها كلما تأخر وإن
لوقت قصير فكيف بساعات هكذا وفي الليل ! بل وكيف لم يلحظ
أن باب المنزل كان موصداً من الخارج فقط حين دخل مما يعني
أنها ليست هنا لتغلقه من الداخل كما يطلب منها دائماً !
فهل هذا فصل جديد ضمن خطتهما واتفقتا عليه وقت وجود
تلك الممرضة هنا ؟ .
تحرك من مكانه عند تلك الفكرة وبخطوات مسرعة نحو الباب
الذي دخل منه لتتوقف خطواته فجأة مرتداً للوراء ما أن اندفع
الباب للداخل بقوة ونظر بصدمة للخيالان اللذان دخلا منه قبل أن
يصبحا في مساحة النور الخفيف ووقع نظره فوراً على الشعر
الغجري الأشقر الطويل الذي يعرف صاحبته جيداً وإن لم يرى
ملامحها التي حجبها عنه بطوله وكثافته المتموجة وانتقل نظره
المصدوم فوراً للذي كان يمسكها من ذراعها بقوة والذي دفعها
بعنف ناحيته مما جعلها تسقط أرضاً تحت قدميه بتأوه باكي
وزادها ابتسامة أويس الساخرة بل والتي حملت الكثير من
المعاني التي كانت السخرية أبعد عنها حين قال ناظراً لعينيه
" علمنا أخيراً هوية المتسلل الذي يدخل أراضي ويخرج منها
كل ليلة "
*
*
*
اشتدت أصابعها على الأوراق فيها دون شعور منها تنظر للواقف
عند الباب وقاومت رغبتها ألا شعورية لدسهم خلف ظهرها فبذلك
ستكشف له بأنها أوراق مهمة بالنسبة لها وهي لم تتأكد بعد من
سبب دخوله العاصف هكذا والمخالف لعاداته القديمة !
مما يؤكد أنه ثمة شيء ما ورائه .
" ماذا تفعل ؟ هل جننت ! "
كان هذا ما نطقت به شبه هامسة تنظر لعينيه بجمود مشابه
لكلماتها تلك فهو يعلم أكثر منها بل ويفترض بأنه يهتم أيضاً
بأنهما باتا مصدر شائعات هنا حتى أصبحت تحركاتهما مراقبة
وبصورة مقززة ومن الجميع ، وكل ذلك كان بسببه وإن رفض
الاعتراف به أو معرفته ، بل يبدو أنها كانت مخطئة نوعاً ما فقد
قال وببرود ما أن دس يديه في جيبي سترته السوداء المفتوحة
" لأنه على الجميع أن لا يعلموا بما سيقال الآن فحتى الأبواب
باتت تتحدث عنا هنا "
فأبعدت نظرها عنه وابتسامة ساخرة بل وهازئة تزين شفتيها
فقال فوراً وبنبرة جادة
" ولست هنا للتحدث عن السبب الحقيقي لكل ذلك وأعلم رأيك
مسبقاً "
نظرت مجدداً لعينيه المحدقة بها بتصميم ولم تعلق على ما قال
فهي تدرك جيداً بأنه سيكون أمراً مهما ذاك الذي يتحدث عنه ، بل
وما جعله يتبادل الحديث معها وهو الذي كان يبدي نفوراً وغضباً
واضحين منها منذ ذاك النقاش أو الشجار العنيف الذي دار
بينهما هنا والذي أهانته فيه وجرحت كبريائه متعمده فحتى حديثه
الوحيد معها في الحفل لم يكن ودياً البتة وإن كان قد أكد فيه
مصمماً على أنه لن يتركها وقضية ماضيها تلك ومهما حدث
وهذا ما تخشاه الآن فهذا المحامي العنيد لن يتركها وشأنها ما لم
يعلم خبايا ذاك الماضي وتلك الجريمة تحديداً ، إلا إن كان ثمة أمر
آخر وراءه وليس هناك شيء قد يجعله يتصرف هكذا غيره ؟
إلا إن كان قد اكتشف ورقة زواجهما القديمة تلك وهذه مشكلة
جديدة لم تحسب لها حساباً .. لكن كيف له أن يعلم ؟ مستحيل ...
إلا إن أخبره مطر شاهين بذلك وذاك ما تستبعده تماماً وإن
كان يعرفه شخصياً .
لازالت تذكر ذاك اليوم الذي أبلغها فيه بعقد الزواج الذي لم يكن
الطرفان المعنيان به موجودان حين تم عقده ، كانت في الثالثة
عشرة من عمرها حينها ... أو الرابعة عشرة لم تعد تذكر
تحديداً كل ما تذكره أنها تصرفت حيال الخبر بعدائية لم تعرفها
ولا هي في نفسها منذ صرح طبيبها بأنها تخطت الحالة النفسية
والعصبية الشديدتان اللتان دمراها كطفلة وكإنسانة نهائياً ،
وتسببت لتلك البشرة البيضاء لمحدثها يومها بخدوش كانت تراها
واضحة وهو يمسك يديها ويتحدث معها عن قرب ما أن سيطر
بقوته التي تفوقها بأضعاف على انفعالها العنيف ذاك والرافض
تماماً لما فعله ، كانت أصغر من أن تدرك معنى كلمة زواج لكنها
تعلم تماماً بأنه رباط رسمي برجل من عائلة لا تحمل لها سوى
الحقد والكراهية ألا متناهية وإن كان حينها لم يتجاوز الواحدة
والعشرون عاماً ، بل ولم يولد بعد حين رمى جده بجدتها وغادر
وهي تحمل والدها جنيناً في أحشائها ، وكان طفلاً في العاشرة
حين ولدت هي وعاشت وحيدة مع جدتها محرومة من والدتها
وشقيقها التوأم أيضاً ، وفتى في الرابعة عشرة حين فقدت جدتها
مقتولة أمامها .. لكنه ابن لهذه العائلة عاش وكبر هنا بينما كانت
مأساتها تكبر هناك معها حتى فقدت كل شيء
( والدها جدتها والدتها وشقيقها الذي وجدته أخيراً وحتى براءتها
وطفولتها )
كانت غاضبة ورافضة وبشكل عدواني لكن موقفها ذاك لم يجعل
ذلك الرجل يتصرف معها بالمثل ولا برميها في غرفة معزولة
حتى تهدأ أو أن يجلب طبيبها النفسي أو مروضها بالمعنى
الأصح ومن كان وحده يكبح جماح تلك المهرة الثائرة بشراسة
دون أن تصبح عدائية ومؤذية من جديد .
ولازالت تذكر كلماته تلك حين قال بجدية ينظر لعينيها المحتقنتان
بغضب ولازال يمسك برسغيها بقوة يرفعهما بينهما
" أنت لست مجبرة على هذا الزواج يا زيزفون ويمكنك إبطاله
مستقبلاً فلست الأولى ولا الوحيدة التي زوجتها بذات الطريقة
وتركت لها حرية الخيار فيما بعد "
وحين سكنت تستمع له بصمت تابع مباشرة
" بل وحتى زوجتي قسماً إن كنت رأيت منها رفضاً حين صارت
في منزلي لكنت طلقتها على الفور فلست أنا من يحدد مصيركن
ولا يفرضه عليكن يا زيزفون صدقيني لكني أردت أن أكون
مطمئناً من أجل المستقبل الذي قد لا أكون موجوداً فيه "
كانت ما تزال تنظر له بصمت وإن لم تتغير نظراتها العدائية
الغاضبة تلك لكنها لم تتحدث وذاك ما يعرفه كليهما ففي تلك
المرحلة من حياتها كان الكلام أقل شيء يمكنها فعله وهي الشبه
ساكنة تماماً والمتوقفة عن فعل كل شيء فتابع دون أن ينتظر
ذلك منها
" حين تصبحين امرأة ناضجة ورائعة كما أجزم يا زيزفون
ستقررين من نفسك وستنالين حريتك المطلقة في ذلك أقسم لك
حياً كنت أو ميتاً فمصير هذا الزواج أنت من لك حرية تحديده
حسب أهم بنود عقده "
وانتهى الأمر بما يريده هو وهذا ما يحدث دائماً لكنها كانت وفي
كل مرة زارها فيها على امتداد الأعوام بعدها تطالبه بفسخ ذاك
العقد بينما كان هو يصر وفي كل مرة بأن تعرف ذاك الزوج أولاً
وتلتقي به وذاك ما كان يثير غضبها كلما تحدثا في الأمر حتى
توقفت نهائياً عن ذكره تنتظر تحقيق شرطه ليحقق طلبها خاصة
وأن ذاك الشرط كان مرتبطاً برغبتها في دخول منزل هذه العائلة
وحياتها .. العائلة التي كانت ولازالت تتنفس حقداً وكراهية لها
وهو ما كان يرفضه ذاك الرجل وبعناد ويرى أنه ليس وقته
المناسب وقضيتها لم تنتهي بعد وإن تم الصمت عنها بسبب
حالتها المرضية تلك ، ولذلك فأول أمر ستفعله فور مغادرتها
النهائية لهذا المكان هو تمزيق عقد الزواج ذاك وإنهائه .
اشتدت أصابعها على أطراف الأوراق فيها أكثر ما أن تقدم
خطوة للأمام نحوها نظراته القوية العنيدة لم تترك عيناها
المحدقتان في عينيه بتصميم زينتها لمحة الحقد الدائمة والتي
غذتها أفكارها تلك أكثر فما تخشاه فعلياً حينها ليس اكتشافه
لزواجهما ودخولها في قضية أخرى في المحاكم هي في غنى تام
عنها لأنها متزوجة قانونياً من شقيقه بل ما كانت ترفضه وتخشاه
فتحه لملف ماضيها مجدداً وخالها خصوصاً فهي باتت تعرف
عناد هذا الرجل جيداً ولن يهنئ له بال ما لم يكتشف كل خبايا تلك
الجريمة ، بل ولن يرتاح حتى يزيد من تعقيد الأمور أكثر بحشر
أنفه المستمر في أشياء لم يكلفه أحد بالتدخل فيها وهي أولهم .
قالت ما أن وقف على بعد خطوتين فقط منها وابتسامة ساخرة
تزين شفتيها
" لن يعجب زوجتك هذا "
" لست أهتم بما يعجبها أو لا يعجبها وفيما يخصني تحديداً "
قال كلماته تلك مباشرة وبقوة ظهرت في عينيه قبل نبرته
الرجولية العميقة فما كان منها إلا أن فرجت شفتيها بشهقة
صامتة تمثيلية تعبر عن صدمتها المزيفة والواضحة لكليهما
وكأنها تقول له ( حقاً تعني ذلك ) تبع ذلك ضحكة ساخرة
مكتومة خرجت بدفعة هواء واحدة من حنجرتها مما جعل حاجباه
الأسودان يقتربان في نظرة تشكيك وكأنه لم يفهم ما تقصد وما
فهمته هي حينها ويعاكس تماماً علاقتهما المنسجمة التي رأتها
منذ عودة تلك الزوجة الغاضبة فقالت بنزق
" حقاً لا تهتم؟! "
قال مباشرة و الاستغراب بدأ يسيطر على نظراته
" زيزفون ما الذي تلمحين له تحديداً فلست أفهم ؟ "
بينما كانت هي تزم شفتيها بضيق مع كل كلمة من كلماته تلك
مما جعل صوتها يخرج متضايقاً حين قالت
" ستكون أوضع من جميع توقعاتي إن كنت تفكر في اللعب
بكلتينا يا وقاص "
فرمقها بنظرة أخرى تشبه سابقتها وهمس بخفوت
" أتلاعب بكلتيكما ؟ "
فتأففت وبحركة لا مبالية من يدها وغيرت مجرى الحديث
مجدداً قائلة
" أتعلم ؟ لن نزعج رأس كلينا بالتحدث عنها ولك أن تفعل
ما يحلو لك فإن كان يعنيها الأمر فأنا لا "
لكن الواقف أمامها كان له رأي آخر فقد قال بإصرار حازم
" زيزفون هل أفهم ما هذا الذي تتحدثين عنه وما الذي دار
بينك وبين جمانة ؟ "
شعرت بشعلة الغضب المبهمة عنها تجتاحها مجدداً ولم تحاول
إخراجها كالعادة لكنها أيضاً لم تترك ضحيتها دون عقاب فأبعدت
نظرها عنه وقالت في حركة ساخرة
" آه وقاص ما هذه الطريقة المميزة في نطق اسمها ؟
من الطبيعي أن تجن بك إن كنت تستخدم اسمها هكذا أمامها "
رمقها بنظرة مصدومة هذه المرة فنظرت للجانب الآخر متأففة
من حماقتها ، ألم تجد طريقة غيرها لصرف نظره وانتباهه عن
يدها التي أدارتها خلف جسدها والأوراق فيها لتضعها على
الطاولة ورائها ؟ وما بها تستاء هكذا منه ومن تلك التافهة معه !
قالت ما أن انتهت وكتفت ذراعيها لصدرها بينما خرجت كلماتها
باردة كالصقيع
" لما لا تتركنا من هذا الآن وأخبرني ماذا تريد أو اخرج من
هنا كي لا تجتمع عائلتك عند الباب بأكملهم يريدون توثيق هذا
وإضافته لما فات "
تنهد حينها يحرك رأسه بيأس منها ودس يده في جيب سترته
وأخرج منها ورقة كانت تراقبها نظراتها التي ارتفعت معها وظنت
أن تخمينها بالنسبة لعقد زواجهما ذاك صحيحاً حتى رفعها أمام
وجهها مفتوحة وظهرت الرسوم التي كادت المياه أن تخفيها
ولازالت خطوط قلم الرصاص واضحة بعد جفافها وهي لإحدى
أوراق رسوماتها التي رمتها في نافورة المياه سابقاً ورماها هو
في سلة المهملات بعدها وأمام ناظرها فما الذي جعله يخرجها
مجدداً ؟! هل علم حقيقتها ؟
لكن الخادمات بالتأكيد لن يتركنها حتى الآن مكانها فهل عاد
وأخرجها ذات الليلة ؟!
نقلت نظرها منها لعينيه المحدقتان بعينيها وكأنه يقرأ أفكارها
من خلالها وما توقعته حدث فسرعان ما قال بنبرة تحقيق يتقنها
أمثاله جيداً
" من هذا يا زيزفون ؟ "
وكان جوابها الصمت بادئ الأمر حتى قالت حين رأت إصراره
على انتظار الجواب في عناد صامت
" أظنك تعلم الجواب فالملامح تتحدث عن نفسها "
قال من فوره
" أجل هذا الشاب يشبه جدي ضرار كثيراً فمن يكون ؟ "
حافظت ملامحها على برودها فلن تكشف له الحقيقة ما دام
يجهلها فالوقائع تغيرت عن السابق ، قالت بلهجة لاذعة
" ظننتك أذكى بكثير من هذا السؤال الأحمق ؟ "
خرج هدوءه عن السيطرة حينها وحرك الورقة أمامها
قائلا بضيق
" لا لست أحمقاً وسؤالي منطقي تماماً فلن يكون هذا والدك
لأنك لم تريه سابقاً ... "
وتبدلت لهجته للسخرية بالرغم من أن ملامحه كانت أبعد ما يكون
عن أي مظهر للتسلية وهو يتابع
" إلا إن كان ما يزال على قيد الحياة ، وإن كان كذلك فلن يكون
بهذا السن بالطبع "
كان ما يقوله صحيح ومنطقي تماماً لكنها ترفض ولا التفكير في
الاعتراف به فخرجت الكلمات منها مندفعة بقوة
" لن تمنحكم الحياة فرصة ترميم أخطائكم ناحيته كما لن أنسى
لكم أبداً أنه مات وآخر ما رأته والدته دموعه وكلماته الغاضبة
من واقعه الذي كنتم أنتم السبب فيه "
وسحبت أنفاسها المضطربة بقوة ولازالت تنظر لعينيه بعينين
ملؤها حقد وكراهية بينما كان يقابل هو نظراتها تلك بنظرة
جامدة كالصخر وقال مجدداً وكأنه لم يسمعها
" من يكون هذا يا زيزفون ؟ "
" لا علاقة لك .. واخرج من هنا "
صرخت في وجهه بغضب أفلتته من معاقله بداخلها نهاية الأمر
وسبابتها تشير للباب خلف كتفه لكن لا شيئاً في وقوفه ذاك
ولا هيئته تغير بل رفع الورقة في وجهها أكثر وقال بإصرار
" من هذا ؟ ... من يكون ؟ "
" أخرج من هنا "
" تكلمي يا زيزفون من هو ؟ "
كان هو من صرخ بغضب حينها فصرخت مجدداً
" قلت أخرج من هنا ولا علاقة لك "
وأصبحا يتبادلان الصراخ والأوامر وكل واحد منهما يصر على
مطلبه ...
الأول عازم ومند دخوله هنا على معرفة الحقيقة وإن بقيا
سجينان لتلك الغرفة وللأبد والآخر يدافع وبشراسة عن سره
فهي على استعداد لأن تخسر حياتها بأكملها ولا يصيب شقيقها
أي أذى أكثر مما لحق به ، والتي تعي جيداً أي أسلوب استفزازي
يحاول الواقف أمامها استخدامه معها لتعترف بما يريد معرفته
ولن يتغلب عليها بتلك الحيلة الفاشلة التي يتبعها المحققون أمثاله
وهو يصرخ مكرراً ذات العبارة الآمرة وهي من عاشت لأشهر
مع أحد الأطباء النفسيين في غرفة واحدة واختبرت جميع
أساليبهم حتى الوحشية منها .
توقف عن الصراخ حين أدرك بأنها لن تستجيب له بتلك الطريقة
وقال وسبابته تشير للورقة التي لازال يرفعها أمام وجهها وعيناه
لازالت تحدق في جوهرتيها الزرقاوان الغاضبتان
" من هذا الذي يحمل جينات وصفات جدتك الخماصية وملامح
جدي ؟ إنكارك لن يزيد شكوكي سوى تأكيداً يا زيزفون "
وعند هنا لاذت بالصمت تحدق في عينيه ولم تتحدث فها قد تبين
لها جزء مما تجهله والواقف أمامها لن يفوته ذلك بالتأكيد وبأن
ذكائها سيخبرها حينها بأنه يتحدث بناءً عن معلومات حقيقية
وليست فرضيات لكان انتبه لهذه الصورة سابقاً وأخضعها لتحقيق
مشابه ، فهو بالفعل حاول فك رموزها سابقاً لكنه وكمخلوق
بشري ومهما كانت قدراته وذكائه ما كان ليصل للحقيقة فثمة
شيء ما تغير الآن بالتأكيد ؟ نقلت نظراتها من خطوط قلم
الرصاص التي أبهتتها المياه الجافة لعينيه وأنفاسها اللاهثة
بسبب صراخها الأخير لم تنتظم بعد وخرج همسها خافتاً رقيقاً
يشبه شفتاها المرتجفتان حينها يحمل كل معاني التوجس والريبة
" من أخبرك ؟ "
وقد اقتنعت أخيراً بأنه لا فائدة من الإنكار وتيقنت بامتلاكه دليلاً
ما ، وذاك ما حدث فعلاً حين أبعد الورقة من أمامها منزلا يده
للأسفل بينما خرجت كلماته عميقة بائسة رغم جديتها وكأنه
يخرجها من عمق تلك المأساة وأصابعه تقبض على الورقة فيها
بقوة
" علمت بطريقة ما أنه ثمة ولادة قيصرية متعسرة في الماضي
وتؤمان ثم إعلان وفاة أحدهما وتدهور حال الآخر بالرغم من أنه
حين غادرت به والدته خفية عن الجميع وحتى الطاقم الطبي كان
بحالة جيدة تماماً "
وكان ذاك ما جعل أنفاسها تضطرب أكثر وتيقنت حينها بأن
مخاوفها حقيقية وأن هذا الرجل لن يترك عناده ويبتعد عن
ماضيها حتى يكتشف جميع خباياه ثم يفسد الأمر بأكمله بالطبع
لأن ذلك ما يفعله المحامون دائماً وما كاد أن يفعله أحدهم حين
وكلت القضية له في الماضي وكادت تفقد شقيقها وللأبد مرمياً
خلف قضبان السجن فاستنجدت بمطر شاهين حينها وبكت كثيراً
في مشهد لم يراه ولا هو لها سابقاً لكي يتركوا قضيتها تلك في
الظلام وأن لا تُفتح مجدداً في المحاكم مهما كانت كفاءة ذاك
المحامي وحنكته فلن يفعل شيئاً سوى كشف الحقيقة المخفية أمام
القضاء وهو أن شقيقها من قتل ذاك الرجل ، بل وسيتهم بإحراق
والدتهما أيضاً وينتهي عمره ومستقبله في السجن .. المستقبل
الذي تريده أن يكون مختلفاً عن ماضيهما التعيس وأن يصبح
رجلاً لا مكان لكل ذاك الألم القديم في قلبه وذاكرته لا أن يفنى
عمره خلف الزنزانات وصفحات الجرائد والصحف ويحمل طوال
حياته لقب السفاح الصغير الذي أصبح رجلاً في منتصف العمر
وهو يغادر السجن .
" لن أسمح لك بأذيته يا وقاص "
همست بها من بين أنفاسها المضطربة بالرغم من أن نظراتها
لعينيه قالت ما عنته كلماتها من تهديد وإصرار بينما تبدلت
نظراته هو لما يشبه الصدمة وهو يهمس بالمثل
" لازال على قيد الحياة إذاً ؟ هو شقيقك ذاك الذي كنت ترينه
وحدك فى تلك الحالة يا زيزفون ؟ "
كان وكأنه لازال يتوقع العكس تماماً بينما استمرت هي في
تهديديه هامسة بوعيد
" ابتعد عنه يا وقاص "
فتبدلت ملامحه كما نبرة صوته هذه المرة للتحقيق مجدداً وأمسك
بذراعيها بقوة وقال محدقاً في مقلتيها الزرقاء الواسعة والمدججة
بالغضب والألم معاً
" ما علاقته بتلك الجرائم التي نسبت إليك ؟ "
فحاولت نفض يديه عنها صارخة
" لا شيء وتوقف عن استجوابي أكثر "
لكن أصابعه اشتدت على لحم ذراعيها أكثر قائلاً بإصرار ينظر
لعينيها التي باتت قريبة منه
"لن أتوقف وعليك إخباري بالحقيقة قبل أن أعلمها بطرق أخرى"
نظرت له بصمت للحظة وكأنها تترجم شيئاً ما وقالت بصوت
منخفض نوعاً ما
" ماذا تقصد ؟ "
فخرجت الكلمات من بين أسنانه المطبقة قوية وجامدة
" تعلمين جيداً ما أقصده "
ونجحت حينها في الإفلات من قبضته وأبعدته بالتالي عنها
قائلة بضيق
" لا لست أعلم ولن يفيد إخبارك في شيء سوى أذيته أكثر "
لكنه واجه تصرفها العنيف ذاك بالجمود التام وهو يهمس
باستغراب
" أكثر ...! "
فامتلأت العينان الجميلتان القويتان بالمرارة والألم في إحدى
نوادرها القليلة تلك التي سمحت فيها شجاعتها وصلابتها
لأوجاعها المتراكمة داخلها بأن تطفو للسطح وسرعان ما اختلط
ذاك الضعف القوي وكالعادة بالحقد والكراهية ليكون مزيجاً لا
يليق سوى بزرقة عينيها .. بألمها .. بتعاسة ماضيها وسواده ،
واندفعت الكلمات من شفتيها الرقيقة تشبهها تماماً وفي كل شيء
" أجل فما الذي سأخبرك عنه يا ابن ضرار السلطان ؟ "
وعلم حينها ابن ضرار السلطان أن القادم سيء .. سيء للغاية
موجع ومفجع أيضاً ، وتعالت ضربات قلبه الرجولية الثابتة طوال
الوقت كأقرانه مع ارتفاع أنفاسها يدرك جيداً ما ينتظره ، وذاك ما
حدث فعلاً حين تابعت ودون رحمة بقلبه وبكلمات أخرجت كل ذرة
بغض وكراهية لازالت تحملها لهم ودون استثناء
" ما الذي تريد معرفته عن الطفل الرضيع الذي سرق عمداً واخذ
للمجهول ولم يكن ذاك المجهول سوى منزل أكبر رجال مجرمي
غيلوان في الجنوب ؟ وكانت شقيقته ستلقى ذات المصير لولا
أدركتها والدتها واكتشفت لعبتهم لتتخلى عن تلك الابنة رغماً
عنها وتستحمل نظرات الاتهام والخزي من الجميع وهي تتركها
لجدتها "
واشتدت كلماتها مع اشتداد نبرتها وهي ترمي بسبابتها جانباً
متابعة بألم غاضب
" أم بأنه عاش وكبر وتربى خادماً لتلك العائلة وكأنه لا ينتمي
لساكني هذا القصر ومالكي شركات الطيران بمختلف أنواعها ؟
أم بأنه حين عاد لحضن والدته ولشقيقته تمنى أن مات ودفن
في أراضي أولئك الوحوش المجرمين وما عرف تلك العائلة
التي حلم طويلاً بأن يجدها ويتخلص من لقب اللقيط "
وامتلأت عيناها بدموع القهر في نادرة جديدة وتابعت قتل
ضحيتها ودون رحمة
" أم أنه رأى وبعينيه ما جعله يكون قاتلاً في سن العاشرة لتقوى
يداه الصغيرتان على حمل حربة الصيد وغرسها في قلب رجل؟ "
كان صدرها يرتفع ويهبط بانفعال بينما تحكمت في كلماتها لتتحول
للجمود واحتفظت عيناها الغاضبة ببريق الدموع ولازالت تحدق
في عينيه المشدوهتين وتابعت بكلمات خرجت صارخة من صميم
ألمها الدفين
" وماذا أيضاً يا ابن ضرار ؟ وما لا تعلمه أيضاً وبأنه في تلك
الليلة التي كنت أترجاكم فيها باكية هنا "
وأشارت للسرير القابع في آخر الغرفة الواسعة وهي تتابع
بكراهية وألم
" هنا حيث استجديتكم مترجية أن تدركوه وأن تنقذوه من الخطر
كان مطارداً منهم لأنه قرر العودة لهم مجدداً والبحث عن عدوه
الحقيقي وحقيقته لينتهي به الأمر أسفل الجرف هو وسيارته وهو
في غيبوبة لم يفق منها حتى الآن وقد لا يحدث ذلك مطلقاً "
كانت عيناه تحدقان فيها بصدمة من كم الحقائق الموجعة قبل
كونها مفجعة وأمسك بذراعيها مجدداً وقال بكلمات سريعة
" وأين هو الآن ؟ "
فعاد الحقد ليسيطر على تلك الأحداق الجميلة وهمست تنظر لعينيه
ونظراته الضائعة بين الصدمة والتصديق
" أخبرتك بأنه يقاوم الموت وبقلب ميت ... يموت يا وقاص
وكل ذلك بسببكم ولن أغفر لكم ما حييت "
فتركها حينها واستدار بجسده ليصبح جانب وجهه مقابلاً لها
وغرس أصابعه في شعره وكأنه يمسكه رأسه عن الانفجار بينما
غابت نظراته في الفراغ بوجوم مؤلم وتذكر كلماتها السابقة له
( وهذه قد تلعب فيها العلاقات الشخصية دورا مشابها ... فهي إذاً
ليست من اختصاصاتك ) وفهم الآن ما كانت تعني بذلك وليته
لم يعلم .
وعادت كلماتها لقتله ودون رحمة بينما خرجت ساخرة من بين
شفتيها
" لا يؤلمك ضميرك لأجله يا ابن جدك المبجل فمن يقتل شقيقه
ويتركه خلفه ويغادر أكثر واقعية ممن يجلس يبكي فوق جثمانه "
وما أن أدار رأسه قليلا ونظر لعينيها بينما كانت تمسك أصابعه
قفا عنقه القوي وبالرغم من نظرة الضياع والألم في تلك العينان
إلا أنها لم ترحمه لا من نظراتها الحاقدة التي خرجت من عمق
مأساتها ولا من كلماتها السامة قائلة بكراهية
" لن يشعر أحد منكم بحجم المعاناة التي لحقت بعائلتنا بسببكم
جيلاً بعد جيل لأنكم لم تعرفوها قط "
لكنه وكالعادة تجاهل كل ذلك بقلب رجل متفهم قبل كونه محباً
واستدار نحوها مجدداً وقال بجدية
" أين هو الآن ؟ "
وأتاه جوابها سريعاً وبكلمات قوية
" لا أعلم ... كل ما أعلمه أنه لازال متمسكاً بالحياة التي رفضته
مراراً ولهذا السبب فقط لازلت أنا أتمسك بها "
كانت كلماتها قاسية عليه في المقام الأول قاتلة ومؤلمة فخرجت
الكلمات منه بصعوبة حين همس
" هو إذاً من اخترت الاعتراف بكل تلك الجرائم لأجله "
وجعلت كلماته تلك عيناها تومض بلهب أزرق قوي وهمست
مهددة
" أجل ... ولازلت أحذرك يا وقاص بأن أي أذى قد يمسه بسببك
ثمنه سيكون غالياً جداً "
لكن وكالعادة كانت كلماتها الحاقدة وتهديداتها تطير أدراج الرياح
لدى القلب العنيد المحب فقد قال بنظرة تفكير عميقة
" ما معنى أنه عاد لتلك العائلة للبحث عن عدوه الحقيقي ؟
ألم يقتل ذاك العدو في تلك الليلة ؟! "
وكان جواب المقابلة له الصمت التام فقال بإصرار يمسك
بذراعيها مجدداً
" تحدثي يا زيزقون "
فنفضتهما عنها بحركة غاضبة وقالت
" لا شيء ... لا يوجد عدو له هناك ، هو كان فقط يعتقد بأنه
لوجوده لديهم بعد اختفائه من المستشفى رضيعاً علاقة بسبب
اختطافه وأنهم لم يجدوه مرمياً في طرق مزارعهم كما قيل فثمة
مسافة شاسعة بين شرق البلاد وجنوبها الغربي وأنه ثمة من
كان وراء أفعال زوج والدتي تلك ، وطبيبه اقترح تركه يفعل
ذلك كي لا يزداد وضعه سوءاً "
" طبيبه !! "
همس بها بصدمة لا استغراب فكان جوابها المبدئي ابتسامة
ساخرة لم تحمل في طياتها أي معنى للمرح بل ألماً مدفوناً بجميع
معانيها وقالت أخيراً
" أجل ... فما لم تعلمه بعد بأن تلك الليلة بل والأيام القليلة التي
عاشها معنا هناك تركت ندوباً في روحه لم تشفى حتى الساعة
وفقد النطق نهائياً منذ تلك الليلة "
ولم توقفها نظرة الألم التي تغلبت على صدمته وتابعت قتله
ودون رحمة
" كما يؤسفني أن أخبرك بأنه كان يحرق نفسه ليلاً لأنه لم
يتخلص بعد من ذنب ما لم يكن قادراً على ردعه ويحدث
أمام عينيه "
فغرس أصابعه في شعره ونظراته الضائعة لازالت تحدق في
عينيها وهمس بأسى
" زيزفون.... "
" أصمت "
أسكتته صارخة بأمر وتابعت على الفور وبحقد دفين
" لا أريد سماع أي كلمة منك فلن يطفئ أي شيء ستقوله أو
تفعله النار المشتعلة كالجحيم في داخلي لأعوام طويلة وكل
تلك المآسي التي عانيناها بسبب جدك وبسببكم جميعاً من بعده "
حرك رأسه بضياع متمتماً
" هو لا يعلم عنه ؟! "
اشتدت قبضتاها بجانب جسدها وقالت بضيق
" كان كل شيء موجوداً في تلك الأوراق وأكثر من ذلك أيضاً
لكنك وبكل غباء تركتها وأهملتها لتصبح في يد شقيقك نجيب
ليحولها لورقة ضدي "
اتسعت عيناه بصدمة وقال
" ضدك ! "
قالت مباشرة وبذات ضيقها
" أجل وماذا كنت تتوقع منه ؟
أم كنت تتصور بأني أخرج معه وبرفقته راضية ؟
أنا على استعداد لفعل كل شيء ليحول دون تسليم عنق شقيقي
لحبل المشنقة فالقتل أصبحت عقوبته القتل في محاكم البلاد
هناك إن نسيت "
شد قبضتيه بقوة آلمته وقال بحزم
" وأنا لن أسمح له بجعلك نسخة عنه وإن قتلته "
ابتسمت بسخرية قبل أن تتمتم
" لن تستطيع فعلها فالقانون الذي تمثله سيحميه هو لا أنت حينها
وكما حدث مع زوج والدتي قبل أعوام .. إنه قانون الغاب عليك
أن تؤمن بذلك "
استدار موليا ظهره لها وتحرك من هناك ووجهته حمام
الغرفة قائلاً
"بل العدالة هي من تنتصر نهاية الأمر وسأثبت لك ذلك .. قسماً "
وفتح الباب بعنف وانحنى ورفع المفتاح المرمي فوق أرضيته
الرخامية السوداء اللامعة وغادره ووجهته باب الغرفة الذي
غرسه فيه لتوقفه اليد التي اشتدت أصابعها الرقيقة على مرفق
يده الأخرى موقفة إياه وما أن التفت ناحيتها ونظر لعينيها حتى
قالت بعدائية واضحة
" لن أسمح لك ولأي كان بأذيته يا وقاص وإن كان تحت
مسمى الحماية "
وأشتدت قبضة أصابعها البيضاء على ذراعه من تحت قماش
سترته السوداء الفاخرة مع اشتداد أحرف كلماتها المتوعدة
بتهديد
" إن فكرت فقط فيما قد يؤذيه وإن من أجل تبرأتي أمام القضاء
فسأقتلك يا وقاص ... قسما سأفعلها ولن يرف لي جفن "
فلاذ بالصمت نظره لم يترك عينيها المحدقة فيه بتصميم يؤكد
صدقها التام فيما تقول وستفعل وكان جوابه أن استدار ويده تدير
المفتاح ليفتح الباب الذي أدار مقبضه بيده تلك بينما يده الأخرى
كانت تبتعد عن قبضة أصابعها تباعاً ، وما أن أصبحت في راحة
يده حتى قبض عليها بأصابعه الطويلة القوية بقوة وكأنه يثبت
لها ما قاله في صمت بالصمت دون أن يتحدث ولا أن ينظر
لعينيها المعلقة بما يظهر لها من ملاحه في مشهد جمد تماماً
سوى من نظراتهما التي انتقلت للباب الذي فتحه للتو بل وللذي
ظهر واقفاً أمامه ولم يكن جده ولا نجيب بل ولم يكن فرداً من
تلك العائلة بأكلملها بل ... جمانة .
والتي قابلت كل ذلك بعينين متسعتين من الصدمة انتقلت بين
عيني الواقف أمامها ويده التي تركها خلفه تمسك بقوة أصابع
الواقفة هناك قبل أن يترك كل منهما يد الآخر بينما كانت وكما
يبدو لا تعلم بوجوده هنا ولم تتوقعه فكيف والباب مغلق عليهما
بالمفتاح !
نظرة كانت كفيلة بوصف ما يحدث داخلها حينها ودون أن
تتحدث وكأن روحها فارقت جسدها للتو وخلفته شاحباً بلون
الجدار الأملس خلفها ، وما أن انتقلت بها للواقفة خلف زوجها
اتسعتا بغضب أمام التي لا تراها سوى العدو الحقيقي لها في
الحياة وقد جسدت سعادتها بأكملها في شخص هذا الرجل الواقف
بينهما الآن والذي باتت أكبر خطر يهدد علاقتها به كما ترى
واشتعلت النيران في داخلها أكثر ما أن ابتسمت لها تلك الشفاه
الأنثوية الجميلة والتي اصطبغت بلون زهري طبيعي لا علاقة
لمستحضرات التجميل به بسبب شدة بياض البشرة الناعمة
المحيطة به ... لا بل هي لم تبتسم لها بل كانت ابتسامة انتصار
شامتة تلك التي قذفتها بها كالرصاصة القاتلة وهي تقف أمامها
مهزومة مجدداً ومرة تلو الأخرى وذاك ما كان واضحاً وفهمته
على الفور .
بينما ما كان يدور في عقل منافستها الأولى هناك كان مختلفاً
تماماً .. كان مزيجاً من التناقضات تتضارب داخلها حتى أنها باتت
تعجز أحياناً عن فهمها وأولها تلك الابتسامة التي أهدتها إياها !
وكانت رد فعل لا إرادي وجدت نفسها مستمتعة به حد الثمل وهذا
ما باتت تستغربه وهي من كانت منذ أشهر قليلة وفي ذات هذا
المكان والمنزل لا تعير هذه المخلوقة بالاً ولا زوجها معها لكنها
من دفعها لذلك ، أليس هذا هو التفسير المنطقي ؟ بلى هو كذلك
ولن تبحث عن أي سبب آخر غيره وطالما ستفتح تلك الساذجة
النار في وجهها فهي لها بالمرصاد ولن تحاسبها على رجل هو
زوجها قبلها قد سلمتها إياه دون أن تأبه ولا أن تكترث حين
أخبرها مطر شاهين وقبل موعد زواجهما بيومين فقط بأنها إن
كانت تعترض فسيتدخل لإيقاف ذاك الزواج على الفور وبأي
طريقة كانت لكنها لم تهتم فهي أساساً لم توافق على ذاك الزواج
من وقت حدوثه ولم تفكر في محاربة أي امرأة كانت ستقترب من
ذاك الزوج المجهول حينها ، لكن الآن بات الأمر مختلفاً تماماً
فستُعلم هذه الحشرة الوضيعة درساً لن تنساه ما عاشت مادامت
تستفزها وتستنقصها بالطريقة البشعة التي باتت تستخدمها
وستريها حجمها الحقيقي قبل أن تكتشف بأنها زوجته قبلها
والأحق منها به ورغماً عن أنفها الجديد البشع هذا .
وازدادت ابتسامتها اتساعاً ما أن انتقلت تلك النظرات السابحة في
الدموع والصدمة معاً للواقف بينهما مجدداً لكنها رفعت رأسها
بكبرياء ذات الوقت وقالت بكلمات جاهدت باستماته لتكون أيضاً
أقوى من داخلها المهزوز المحطم
" لن تفكر في توجيه السؤال الذي يدور في ذهنك الآن لي
لأنك مطالب بالمثل يا وقاص "
وسحبت نفساً قوياً لصدرها ما أن أنهت عبارتها تلك وكأنها
تسجن عبرة ما وسط أضلعها بينما كان جواب الواقف مقابلاً لها
الصمت ولا شيء غير الصمت ، كانت ستتوقع ذلك منه لكنها
تمنت فقط أن تجد تبريراً مقنعاً لديه يخالف الواقع القاسي ،
وأتاها الجواب بالفعل لكن ليس منه بل من آخر شخص كان
يتوقع كلاهما أن يتحدث حينها وهو التي كتفت ذراعيها من خلفه
لصدرها وقالت بسخرية تنقل نظرها بينهما
" لا بالطبع لن يجيب بينما أنت من عليه التبرير وشرح سبب
تواجدك هنا "
فتنهد حينها وقاص مغمضاً عينيه فها هي الحرب بدأت وحين
تكون الواقفة خلفه الآن طرفاً فيها يعلم جيداً ما الذي ستصل إليه
، وما أن فتح عينيه حتى وقع نظره مجدداً على الواقفة أمامه
تنظر له ولعينيه تحديداً نظرة انكسار وتحطم أتقنتها عبر السنين
لتستعطفه بها ، لكنها كانت حقيقية حينها فالأمر كان يفوق
مقدرتها الهشة على الصمود ، ونجحت نهاية الأمر في أن تنتقل
بهما لمرحلة الجمود ووجهت كلماتها له مجدداً بينما كانت تصيب
بسهامها القاتلة شخص آخر
" لما لا تتحدث يا وقاص ؟ فلن أستغرب ما يحدث هنا من امرأة
مثلها تركض خلف شقيق زوجها المتزوج أما أنت ....!! "
واختفت الكلمات مع حشرجة صوتها وبحته المفاجأة من كتم ما
لم يعد يمكنها التحكم فيه أكثر نظراتها الآسية لم تترك عينيه بينما
وصله بوضوح صوت التي همست من خلفه بسخرية
" يا للآداء السيء "
مما جعله يستدير للخلف من فوره مقابلاً لها وقال بحدة
عاقداً حاحبيه
" زيزفووون !! "
فأدارت حدقتيها بضجر وكأن آخر ما تهتم به هنا هو رأيه فيما
تقول وتفعل ، بينما كان التعليق من التي أصبحت تقف خلفه الآن
والتي صرخت بانفعال مفاجئ
" اتركها تثبت لك أكثر من تكون فيبدو أنك لم تعرف هذا النوع
من ال****** بعد "
" جمانة اصمتييييي .... "
وكان صراخه الغاضب من نصيبها هي هذه المرة ما أن استدار
ناحيتها مجدداً وبحركة سريعة رافعاً سبابته في وجهها ولم تترك
له المجال لقول أي شيء آخر ولا توبيخها على كلمتها تلك أو
الدفاع عن التي لازالت تنظر لها بسخرية واستنقاص بل
واستصغار وكأنها حشرة أمامها وذاك ما كان يزيد من نارها
اشتعالاً وتابعت بذات صراخها الغاضب المنفعل
" وليس لأي أحد أن يستغرب هذا من أمثالها تربت على يد
فلاحة جاهلة لتكون مثلها عاهر.... "
" جمااااااااااانة "
ألجمتها صرخته المدوية الغاضبة تماماً بينما انتقل بجسده ونظره
للتي كان يتوقع جيداً رد فعلها حين تصبح جدتها محط هجوم
والذي يبدو جمانة تتعمده لعلمها بحساسية الأمر بالنسبة لها
فكيف أن يكون بهذه الطريقة ؟ وكان يجهز نفسه لإحتمالات كثيرة
سيئة أولها منعها من الهجوم عليها كما فعلت سابقاً مع شقيقتها
ووالدة نجيب قبلها ، وكان بالفعل ما رآه هو الشرر الأزرق
المتطاير من عينيها بينما كان نظرها مصوباً على فريستها هناك
، وأول رد فعل له كان أن مد ذراعه بينها وبين الباب ممسكاً
إطاره بأصابعه بينما كان يستدير بنصف وجهه للواقفة خارجه
وصرخ بها آمراً
" جمانة غادري من هنا فوراً "
لكن وكما يبدوا لم يكن في نيتها الانصياع ورأي الواقفة في
الداخل كان المثل حيث صرخت تشير بسبابتها لها بينما خطواتها
تقترب منه عند الباب
" ولما تغادر اتركها تعرف ال****** أولاً وما يفعلن "
وما أن وصلت عنده وكما خبرها ويعرفها وتوقع رد فعلها كان
سلوكه دفاعياً أيضاً ويده تنتقل من الباب لخصرها ليمنعها من
التفكير في الخروج لها فلن يرتاح لها بال ما لم تطرحها أرضاً
حينها وهذا ما هو أكيد منه ، ومتأكد من أن الواقفة هناك تريده
وكانت تسعى له لتستخدمه ضدها أمام والدها وجدهما ، لكنها
اتبعت أسلوباً مغايراً هذه المرة لم يتوقعه كلاهما وليس لهما أن
يرسما له ولا أبعاداً خيالية في عقليهما وهي تقف مكانها
وخصرها النحيل لازال سجينا لذراعه بينما وجهت كلماتها الحانقة
القوية للتي كانت تنظر لها بتحدٍ تحثها على ما كانت تريده
وتتوقعه
"هو نوع جديد من ال****** إذا ؟ معك حق فهذا هو ما يفعلنه "
وما أن أنهت عبارتها تلك استدار جسدها بنصف دورة فقط
وارتفعت بجسدها على رؤوس أصابعها ويدها تلتف حول عنق
الذي ألجمته الصدمة تماماً عن منعها من تقبيله ... كانت قبلة ...
قبلة حقيقية لا تزييف ولا خيال فيها ألجمته وكأنه تمثال صخري
لم يوقظه من سباته ذاك ولا الشهقة الأنثوية المرتفعة والقريبة
منهما حتى ابتعد عنه ذاك الجسد الأنثوي بملء إرادته وهوت يده
عن خصرها ينظر لها بعينين متسعتين من الصدمة وقلب يصفق
كنافذة قديمة مفتوحة في مهب الريح بينما علقت أنفاسه حيث لا
يعلم ! في حالة لم تشبه بتاتاً وضع التي كانت تنظر له بعناد ترفع
إحدى حاجبيها البنيان الرقيقان في حركة أنثوية فتاكة وكأنها
تتحداه بالرد عليها وبأي طريقة كانت وإن بضربها ، بينما كان رد
فعله الوحيد أن أدار نظره ووجهه للتي لم تجتز أيضاً تلك الصدمة
بعد تحدق في ملامحه بنظرة تشبه نظرته تلك ، الاختلاف الوحيد
أنه وبسرعة البرق غزى تلك الأحداق الأنثوية المفتوحتان بصدمة
سحابة كثيفة من الدموع حجبت الرؤية عنها مما جعلها تركض
مغادرة المكان في صمت فانتقل نظره حينها منها للتي لازالت
تقف أمامه بينما نظرها على الباب المفتوح وقد نقلته سريعاً له ما
أن قال بصوت مزج الضيق والغضب وعدم التصديق أيضاً
" زيزفون ما هذا الذي يحدث ؟! "
ورفع يده لا شعورياً لشفتيه وسرعان ما نقلها بحركة عنيفة
لشعره مروراً بفكه المتصلب وشد خصلات شعره المرتب بين
أصابعه وهو يصرخ فيها بانفعال
" ما هذا الجنون ...!! سحقاً لك من امرأة يا زيزفون "
وكان ذاك ما أشعل الجبل الجليدي الواقف أمامه وجعلها تبادله
الهجوم بوتيرة مماثلة صارخة
" مجنونة ... فما الذي ستتوقعه من امرأة مجنونة مثلي ؟ "
وتابعت بحدة تشير بسبابتها نحو الباب
" ولا تخف كثيراً على مشاعرها فبكلمة واحدة منك ستتغير
الأمور كالعادة "
لكنه لم يسمع شيئاً مما قالت وكان لازال يتخبط بين صدمته
وتشتت مشاعره فعاد للصراخ مجدداً يلوح بيده بانفعال
" زيزفون ما هذا الذي تتفوهين به ؟ ماذا .. ما .. "
وخانته الكلمات وعاد يحاول صياغتها مجدداً بانفعال أكبر
" ما هذا الذي فعلته وأنت ... وأنا .... "
وحين عجز عن صياغة أي جملة تامة صرخ نافضاً سترته
المفتوحة
" سحقاً لجنونك .. ما هذا الذي فعلته ؟ "
وكالمتوقع تماماً وما أن تثور حفيظته من أجل تلك الزوجة كما
تظن فالمواجهة ستكون بذات العنف والقوة فصرخت فيه من
فورها تنفض سبابتها بعشوائية
" فعلت ما يحلو لي وسأفعلها متى وحيث أريد ورغماً عن
الجميع وأنت أولهم "
وقالت آخر كلماتها تلك تشير لوجهه فما كان منه إلا أن حرك
رأسه بعنف قبل أن يغادر من هناك نافضاً طرفا سترته من جديد
فقد أعجزته هذه المرأة عن التعبير ولا حتى التفكير في أي
عبارات أو ترتيبها بسبب ما فعلت لا مراعاه لمشاعر زوجته تلك
أو غضباً من أجلها كما تظن ، بينما ما فعلته هي كان مماثلاً وهي
تصفق الباب خلفه بقوة واستدارت من فورها وتحركت جهة
الأوراق التي وضعتها على الطاولة هنا متمتمه بحنق
" هذا ليس سوى درساً صغيراً لها ولم ترى شيئاً بعد من حفيدة
الفلاحة ال***** "
ورفعت الأوراق بعنف تقلبها بين يديها بحركة عشوائية غاضبة
تفكر في الطريقة التي ستخرج بها من هنا وحدها دون أن يشعر
بها أحد ، بينما لسانها كان لازال يرمي بحممه الغاضبة كحركتها
العنيفة تلك
" إذهب لها الآن ... أجل فهذا كل ما يعنيك أن لا تغضب منك ،
تلك المهرج الأحمق قسماً أن تندم "
وكان ذاك أيضاً أسلوباً جديداً عنها تخمد به نيران غضبها الذي
قلما كانت أيضاً تخرجه للعلن ، بينما من تركها هناك كان خط
سيره مختلف تماماً عن اعتقاداتها واتهاماتها فلم يصعد السلام
خلفها كما فكرت كلاهما بل دار حوله حتى كان عند باب مكتب
جده الذي طرقه ودخل من فوره ووقف ينظر له بينما رفع
الواقف هناك عند درج طاولة مكتبه المفتوح نظره عن الأوراق
في يده ناحيته فأغلق الباب وقال بجدية
" جدي علينا أن نتحدث الآن وعن أمر مهم جداً "
*
*
*
|