*
*
*
مررت أصابعها تحت قلنصوة قميصها تدفع غرتها المقصوصة
للخلف تجمع ما افلت منها خلف أذنيها وابتسمت باعتذار
ابتسامة واسعة ما أن رفعت رأسها ووقع نظرها على العينين
الزرقاء التي حدقت بها فور أن التفت لها الذي أصبح واقفاً
أمامها بعد استدارتها والذي يبدو أنها غرست مرفقها في ظهره
بالخطأ فها قد تم القبض عليها متلبسة فهي وقفت قربهم فقط
لتعطي انطباعاً بأنها جزء من فريقهم .. وإن كانت تعلم بهذا
لكانت اختارت اللون الأسود لتناسبهم تماما ، لكنها لم تخطط قطعاً
لأن تحتك بهم مباشرة ولا أن تتبادل أطراف الحديث معهم ...
شعرت بجسدها يتصبب عرقاً وعلمت بأن هذه الأمسية لن تمضي
بسلام خاصة أنه لطالما ارتبط اسمها بالمشكلات وكم كان يناديها
ذاك العجوز البدين في صغرها ب ( دانيا مشكلات ) حتى التصق
النصف الآخر فقط منه بها في طفولتها التعيسة تلك وبات يناديها
أغلب الأطفال في ذاك المنزل به .. وتذكر جيداً حين كان يقول
أحدهم ( إن نامت المشكلات سيكون حينها بإمكاننا إطفاء النور
ولن نعاقب صباحاً ) وكانت هي المعنية طبعاً فأولئك الفتية
الجاحدون لم يكن بإمكانهم الاعتراف بأنها كانت أشجع منهم دائماً
حتى أنها كانت سبب خلاصهم من ذاك العجوز الكريه ومنزله
المشابه له .
غرست أسنانها في باطن شفتها بقوة في عادة كانت ملتصقة بها
دائماً حين تجد نفسها في ورطة هكذا فالبقية يبدو أنهم انتبهوا لها
أيضاً وأصبحت ضمن الدائرة التي اتسعت لتشملها معهم فقالت
مبتسمة في أول جملة حمقاء قفزت لرأسها
" هاي ... أنتم فريق رائع حقاً ... يعجبني لباسكم "
وشعرت بأنها باتت ترتدي قبعة الأرنب بالأذنين حينها عندما
تشاركوا في ضحكة واحدة بينما قال أحدهم وهو يشملها بنظرة
تقييمية ساخرة
" وأنت كذلك ... وتبدين ضائعة هنا ؟ "
وعادو للضحك مجدداً فشعرت بالأبخرة تتصاعد من رأسها
وقالت بضيق
" هذا لأني أشبهكم بالطبع "
وما أن تبدلت تلك النظرات الممزوجة بالتسلية للحنق من إهانتها
تلك حتى قالت بسرعة وبابتسامة متسعة
" أقصد بأني أملك موهبة مميزة مثلكم "
وأضافت ما أن ارتفعت تلك الحواجب بدهشة وكأنهم متفقون على
كل حركة يؤدونها بالفعل حتى تسرب ذلك في دمائهم !
" ليس مثلكم تماماً أعني فأنتم فريق مؤكد يقوم بعرض ما
وموحد لكني أعمل لوحدي "
يا إلهي ما هذه الورطة الجديدة التي وضعت نفسها فيها وهي من
سبق وعاهدت ذاك العابس على أن لا تفعل هذه الأمور مجدداً
أمام الناس ولا من أجل إمتاعهم مجاناً لكنها في ورطة الآن ولا
يمكنها الخروج منها بغير تلك الخدع البصرية لإلهائهم عنها فأول
ما سيحدث الآن بأن يسألوا الواقف بينهم وابن هذه العائلة إن
كانت من أحد معارفهم أو أصدقائهم ولأن جوابه سيكون النفي
سيكون على زوجته والواقفة بجانبه الإجابة عن ذات السؤال
فيعلم كل واحد منهما حينها بأنها ليست من طرف الآخر كما يظن
وسيكون عليها تقديم نفسها وقتها وبصورة رسمية وهي لا تريد
أن يصدر ذلك عنها بل عنه بما أن أمرها كان مخفياً عن عائلته
حتى الآن .
تبدلت نظراتهم للفضول سريعاً فتنهدت باستسلام وسارت بينهم
حتى وقفت بقرب ساندرين ... وهمست لنفسها
( أرجوك أن تسامحني فالأمر يبقى مجرد خفة يد وخدعاً بصرية
وأنا حقاً مجبرة )
رفعت يديها وفردت أصابعها قائلة بابتسامة
" ما رأيكم ببعض المرح إذاً ؟ "
فبدأ أولئك الشبان بالتصفيق فوراً متحمسين وضاحكين وتباينت
عباراتهم بين مرحب ومشجع بينما نظرت هي للذي كان يكتفي
بالابتسام ناظراً لها .. صاحب البذلة الأنيفة الفاخرة والوسامة
الغريبة الممزوجة بالرقة والفكاهة في مزيج يناسب تماماً
شخصيته التي سمعت عنها .. ولن تستغرب أن يكون له مجموعة
أصدقاء كهؤلاء بل ويبدو بأنه الممول لموهبتهم تلك ، نقلت
نظرها سريعاً منه لزوجته .. للتي كان يلف ساعدها حول ساعده
ممسكا يدها بيده بقوة وكأنها ستُسرق منه أو ستهرب ...!
كان فستانها مبهراً وبلون الكريما من طبقتين من الشيفون الثقيل
المنشى متسع من الأسفل ويضيق تباعا حتى الخصر وقد تم
تطريز حوافه السفلى بأزهار باللون الأحمر الغامق وارتفعت في
منتصفه من الأمام بتناسق رائع وكأنها تتسلقه بنعومة وقد
تداخلت معها وريقات خضراء صغيرة وكان التطريز مشغولاً
بالعقيق الطبيعي المحاك باليد كما يبدو وقد ظهر أيضاً عند جانبي
الخصر صعوداً حتى حواف كتفيه ثم كطوق حول عنقها عند
منتصف ياقته التي ارتفع قماشها مع نحرها فكان محتشماً بطريقة
أنيقة بل رائعة تدل على فخامته وبأنه ليس أي قطعة تشترى من
أي مكان .. ولن تستغرب ذلك مع الثروة الضخمة التي تملكها
هذه العائلة .
وما أن ارتفعت نظراتها لوجهها حتى ابتسمت لتلك الملامح
الجميلة العابسة أو الغاضبة إن صح التعبير ومن الجيد بأنه ليس
الحزن ما كان يغطيها فذاك كان سيدل على ألم كبير بداخلها وهو
أسوأ تعبير قد تراه على وجه عروس فسيكون عبارة عن واجهة
لشيء ما يموت حيث النابض وسط أضلعها ... ولا تفهم طبعاً
سبب هذا المزاج المناقض تماماً لمزاج المتمسك بها بقوة وتملك
لكنها ستسعى جاهدة لتبديده قليلاً فستكون بهذا لم ترتكب خطئاً
تُحاسب نفسها عليه فيما بعد لأنها سبق ووعدته وها هي تنقض
عهدها مجبرة .
رفعت يدها مبتسمة لتسريحة شعرها التي كانت ببساطة عبارة
عن خصلات ملفوفة تغطي ظهرها وكتفيها وتاج تجزم أنه من
ماس قد استقر فوق غرتها المتدرجة جانباً ... أمسكت خصلة
طويلة من ذاك الشعر الأشقر المموج ورفعتها بيدها وكان من
حسن حظها أن جهزت معداتها الخفية سلفاً فهي كانت تتوقع أي
شيء هذه الليلة وكان عليها أن تستعد .
رفعت يدها الأخرى ومررت ظهر سبابتها تحت خصلة الشعر تلك
أمام نظراتهم الفضولية المترقبة ومن صاحبة ذاك الشعر
خاصة ... وما أن وصلت بإصبعها لنهايتها فرقعت بسبابتها
وإبهامها تحتها وكررت ذلك عند المنتصف وعند بدايتها ثم
أفلتتها من يدها وتركتها تعود مكانها .. وما أن استقرت بثقل
كثافتها حيث مثيلاتها حتى تصاعدات فراشات بيضاء صغيرة من
شعرها لترتفع معه التأوهات الرجولية المصدومة بينما نظرت
ساندرين للأعلى من فورها تحني رأسها قليلاً تنظر حيث تلك
المخلوقات الصغيرة التي بدأت تختفي بين تفاصيل الثريا الضخمة
المتدلية من السقف وارتسمت ابتسامة دهشة على شفتيها وها
هي حصدت النتائج المبدئية كما تأملت .
بدأ الشبان من حولها بالتصفيق الحماسي وقال أحدهم
" أرينا المزيد هيا ... يالك من رائعة "
فابتسمت وحركت كتفيها ثم رفعت سبابتها وقامت بعدهم بها
وتوقفت عند رقم معين وقالت برقة للذي ابتسم لها بحماس
" أنت ... أيمكنك الاقتراب هنا قليلاً "
فتحرك من فوره واختار الطريق الأطول ليكون بينها وبين
ساندرين وهذا ما خططت له وتوقعته منه .. نظرت ليديه وقالت
" أتملك خاتماً ؟ "
فرفع يده وكأنه يتأكد أولاً من وجوده وقال مبتسما
" أنا متزوج "
فقالت مبتسمة
" جيد ... اقبض يدك الآن وقم بمدها للأمام "
فعل ما طلبت تماماً فمررت ظهر كفها تحت يده ثم فوقه ثم
ضربتها براحة يدها بخفة وقالت
" افتحها الآن "
وما أن فعل ذلك حتى شهق بصدمة يُقلب يده الفارغة وقد
هس بذهول " لقد اختفى ! "
فأشارت للذي كان يقف بجانبه هناك وقالت
" أنت قف بجانبه هنا لو سمحت "
وفعل ذلك من فوره وبأن اختار الطريق الأقصر عكس رفيقه بأن
مر من خلفها فرفعت يديها وكأنها تثبت بأنهما بعيدتان عنهما
وقالت
" هلا فتشت جيوبك الآن "
فدس يده اليمنى من فوره في جيبه الأول وأخرجها فارغة وما أن
دس الأخرى في جيبه الآخر حتى انفرجت شفتاه بصدمة وهو
يخرج يده قبل أن يرفعها والخاتم فيها فتعالى التصفيق الحماسي
مجدداً ونظرت حولها بخوف فهم بدأوا بلفت الأنظار إليهم
وورطتها ستتفاقم الآن ، نظرت للذي قال مبتسماً
" كم أنت فتاة رائعة ...!! ما رأيك لو انضممت لنا ؟ "
نظرت له بصدمة من فورها ... هذا يبدو قائد الفريق إذاً وها هو
العقاب على نقضها لوعدها ذاك قد آن أوانه ، قالت تنقل
نظرها بينهم
" وفيما سنتشارك فمواهبنا تبدو مختلفة ! "
قال الذي يبدو أنه لا يسمح لغيره بالتحدث
" مؤكد لكن هذا سيضفي تغييراً مميزاً قد يكون سبباً في صعودنا
نحو الشهرة والنجاح "
بلعت ريقها وهي تحدق فيه بذهول فهذا الشاب فقد عقله
بالتأكيد !
ولن تتخيل أن تصبح مطاردة منهم بسبب أفكاره هذه ، فركت
وجنتها بطرف سبابتها وقالت في أول محاولة للخروج من
هذا المأزق
" لأجد من يتبنى موهبتي الفردية أولاً فأنا أفكر في النجومية
مثلكم تماماً "
ولم تكن تعلم بأنها لم تلتقط طعماً بل ألقته لغيرها حين تحدث
رواح هذه المرة موجهاً حديثه لها بينما عيناه ترمق بمكر الواقفة
بجانبه قائلاً
" يمكنني تحقيق ذلك لك وبسهولة لكن دعيني أتأكد أولاً إن كنت
شقراء أو ضاعت منك الفرصة "
وكما توقعت حديثه لم يكن يستهدفها هي بشكل مباشر فلم يخفى
عليه بالتأكيد لون حاجبيها ! وقد تحقق غرضه حين نظرت له
ساندرين بغضب فغمز لها من فوره ضاحكاً .
هكذا إذا هذا هو سبب الأجواء المضطربة بينهما فهو يبدو يتعمد
اغاضتها لسبب تجهله بينما تعطيه تلك الدمية الشقراء مراده
دائماً على ما يبدو ! نظرت له وقالت بابتسامة تشبه ابتسامته
" لا يبدو أنني سأوافق فأنت أيضا لست أشقر "
فخرجت ضحكة ساندرين المكتومة في انفجار منخفض لكن ذلك
لم يجعله يستاء أبداً وكما توقعت وقد حضنها بقوة رغم وقوفها
بجانبه يلف ذراعيه حول كتفيها وضحك قائلا
" يؤسفني أن أخبرك بأني تزوجت وانتهى وقت العبث وضاعت
منك الفرصة "
مما جعل تعليقات رفاقه تنطلق ضاحكين بينما تحاول التي لازال
يحضنها ضاحكاً الفكاك منه فابتسمت وابتعدت تسير للخلف فهذه
فرصتها وعليها الفرار لمكان آخر والبحث عن هدفها الأساسي
من الدخول هنا .
*
*
*
ابتسمت برضا وإن كان قد عاد بها للداخل مجبراً ... بل ويبدو أن
الأمر لم يكن يحتاج لأن يرجعا هناك فهدفهما كان يخرج حينها
من ذات المكان بينما كان نجيب يسير خلفها قائلاً بضيق لم يبدو
على ملامحها الباردة أنها تكترث به
" لا بل عليا بالطبع الخروج معك لن تتركيني خلفك وحيداً
كالأبله "
وتوقف لتوقفها أمامهما مباشرة ليصبح واقفاً بجانبها مواجهاً
لهما أيضاً فابتسمت ماريه من فورها قائلة
" كنا سنرجع من أجلك ... كيف أنت يا زيزفون ؟ "
فابتسمت لها من فورها وإن كانت ابتسامة صغيرة رقيقة لكنها لم
تصل لعمق ورقة التي أهدتها لها وقالت
" بخير ... شكرا لك "
ونقلت نظرها بينهما قبل أن يستقر مجدداً على تلك الأحداق
الذهبية اللامعة وقالت بابتسامة جانبية
" يبدو أن أمورك تسير بشكل جيد ولن يحتاج الأمر أن أطرح
عليك ذات السؤال "
فخرجت منها ضحكة صغيرة بينما التفت ذراعاها حول خصر
الواقف بجانبها واتكأت برأسها على كتفه وقالت
" أجل إنها جيدة كثيراً "
وشعرت بنشوة غامرة وسعادة كبيرة ليس لملاحظة زيزفون فقط
والوحيدة التي يبدو أنها استطاعت أن ترى ما تحت تلك الخدوش
الصغيرة في بشرتها النقية وهي السعادة التي تشع من عينيها
وابتسامتها بل ومن اليد التي أمسكت بذراعها والذراع التي التفت
حول كتفيها وكأنه يؤكد لها في صمت ما قالته عنهما .. وحدث
بعدها ما لم تكن لتتوقعه أبداً وهو الصوت الذي خرج من تلك
الأضلع تشعر به وكأنه سرى في جسدها حين قال
" متأكدة من أن أمورك جيدة هنا يا زيزفون ؟ "
فرفعت رأسها عن كتفه وصوبت نظراتها المصدومة لوجهه
وعينيه وقد نقل هو نظراته الباردة من زيزفون للواقف بجانبها
لا يهتم إن كان سيفهم بأنه المعني بحديثه بل ويبدو أنه تعمد أن
يعلم وقالت زيزفون حينها وبهدوء حذر محدقة في عينيه
" أجل لا تقلق بهذا الشأن وشكراً لك "
فعاد بنظره لها وقال بجدية
" لا تترددي في طلب المساعدة إن احتاج الأمر إذاً فثمة من لن
يزعجني أبداً إرسالهم خلف الشمس وفي لحظات "
فاتسعت تلك الأحداق العسلية بصدمة أكبر وهي تتنقل بين ثلاثتهم
فلم تكن تعلم بأن تيم يعرفها ويبدو جيداً أيضاً ..! بل وما فجأها
أكثر التهديد الذي وجهه للواقف بجانبها ولازالت تجهل هويته
ومؤكد زوجها الذي تحدثت عنه ساندرين باشمئزاز وكره
سابقاً ...؟
لقد كان تهديداً واضحاً والرسالة قد وصلت بالتأكيد فقد اتسعت
الابتسامة الساخرة المستفزة التي كان يرسمها نجيب على شفتيه
وقال ببرود وكأنه لا يهتم لما قيل وسمع
" زيزفون قادرة على حماية نفسها ... سيكون هذا جوابها
فلا تتعب نفسك "
فكان تعليق تيم الصمت على حديثه كما زيزفون أيضاً بينما بقيت
نظرات مارية المشتتة تلتقط ردود أفعال ملامحهم المتشابهة
لحد ما .. البرود الا مبالاة العزيمة والعناد وكأنهما الاثنين شخص
واحد ..! حتى استقرت نهاية الأمر على ملامح نجيب وشعرت
برجفة خفيفة مما جعل أصابعها تلتف حول قماش السترة السوداء
الفاخرة التي يرتديها الذي لازالت تحضن ذراعاها خصره فهي لم
تشعر بالارتياح اتجاهه أبداً فلا تراه يشبه وقاص ولا حتى رواح !
فمثلما لكل واحد منهم ثلاثتهم ملامح مختلفة ووسامة منفردة
فطباعهم تبدو كذلك أيضا وخصوصا هذا الواقف أمامها الآن
فبروده وابتسامته الساخرة التي لم تفارق شفتيه وقناع اللامبالاة
الذي يضعه على وجهه يجعل الناظر إليه يدرك فوراً من أي نوع
يكون هو .
" رقم هاتفي لدى رواح ووقاص لا تترددي إن احتجت شيئاً يا
زيزفون "
كان تيم من كسر ذاك الصمت المشحون مجدداً ونبرته لم تزدد
سوى حزماً وعمقاً وإصرار مما يؤكد بأن تنفيذه لما قال أمر لن
يصعب عليه ولن يحرك فيه ساكناً بينما قابل نجيب ذلك بابتسامة
ساخرة جديدة أما رد زيزفون فكان أن أومأت برأسها في حركة
خفيفة هامسة
" تأكد من أنني سأفعل إن احتاج الأمر "
وراقبته نظراتها وهما يغادران وينزلان عتبات الشرفة الحجرية
المقوسة لازالت ذراعه تحضن كتفي السائرة بجانبه رغم أن
ذراعاها لم تعودا تحضنان خصره ... كانت لتستعين به بالفعل
إن كانت ظروفها التي يجهلها مختلفة فهي لا تملك ولا هاتفاً
تستخدمه وباتت ممنوعة من الخروج أيضاً ... بل وعليها أن تنفذ
ما تخطط له وحدها فانتقامها يخصها هي كما أنه يكفيها
متضررين بسبب حمايتها ونجيب لا تخشاه بل تخشى الشخص
المبهم الواقف خلفه ويحركه فهو لم يكشف عن نواياه كاملة حتى
الآن ولازال ثمة أهداف تجهلها بينما يسعى هو لتحقيقها من
خلالها !.
" لنرجع للداخل "
كانت تلك العبارة لنجيب فسحبت يدها منه ما أن شدها منها
متراجعاً بها خطوة للوراء وقالت بجمود تنظر لعينيه
" لم أخرج لأرجع وأنت لست مُجبراً على مرافقتي "
اتسعت ابتسامته الساخرة المستفزة تلك وقال يشير برأسه
نحو الداخل
" هيا لا تكوني حمقاء وتجعلي من نفسك سخرية لهما وأنت
تفري هكذا كالدجاجة "
شدت قبضتيها بجانب جسدها وقالت بضيق
" ماذا تعني ؟ "
قال بذات ابتسامته الساخرة
" تعلمين جيداً ما أعنيه فقد رأيتك تقفين معهما قبل قليل فلا
تعلني انهزامك بسهولة أمام ذاك المهرج البشع "
قالت محتجة
" أنا لا يعنيني رأي أي كان بي ولا تلك الفاشلة وزوجها لكنت
بقيت بالداخل ولم أخرج "
رفع حاجبيه وقال
" إذا... "
قاطعته بحدة
" لما لا تتوقف ؟ أنا أشعر بالإختناق وأحتاج لهواء نقي أتنفسه
فعد للداخل أو ابقى صامتاً "
وكان تعليقه ضحكة صغيرة ساخرة من سببها الذي قدمته قبل
انفعالها فقالت بضيق
" ليس هو ولا غيره السبب فتوقف عن التسلي بي فلا يمكنني
البقاء في الداخل أكثر من ذلك وإن كنت في قمة الانشراح "
غضن جبينه وقال باستغراب
" تقصدين أن الأمر نفسي أم أني لم أفهم جيدا ؟! "
تأففت بحنق وقالت
" هو كذلك بالفعل فهل يكفيك هذا لترحمني من سماع عباراتك
المهذبة ؟ "
وكانت تفهم معنى نظرته تلك جيداً فهو لم يكن يتوقع أن تفصح
عن أمر كهذا يظهر ضعفها فشخصيتها ليست كذلك مطلقاً لكنها
سأمت من إلحاحه وعباراته التافهة التي يضن أنه يؤذيها بها ..
وهي نفسها لم تكن تتوقع أن تعترف بهذا لأحدهم وبأنها لم تشفى
من أعراض الرهاب الاجتماعي تماماً ولازالت تشعر بالضيق
والاختناق في الأماكن المغلقة المزدحمة ولا يمكنها البقاء فيها
لوقت طويل ، أمسك بذراعها ونزل عتبات الشرفة يسحبها معه
حتى كانا قرب الطاولة الحجرية والكراسي الملتفة حولها تتدلى
فوقها أوراق الشجرة الكبيرة القريبة منها وقال بجدية لا تسمعها
في صوته الساخر البارد إلا نادراً
" يمكنك التنفس بشكل أفضل هنا بينما تخبريني ما دار بينك وبين
خالك وقت مغادرتي جعله يغادر الحفل فجأة ! "
شتت نظرها بعيداً عنه قبل أن تنظر له مجدداً وقالت بنبرة اشبه
بنبرته تلك
" لما عليا أن أكون أنا سبب مغادرته ! ولما لا تسأله بنفسك إن
كان الأمر يعنيك لهذا الحد ؟ "
نظر لها بضيق وقال بحدة
" لا تجيبي عن سؤالي بسؤال يا زيزفون وأريد الآن معرفة
ما دار بينكما ولا تنسي الاتفاق "
أشارت لنفسها قبل أن ترمي بيدها جانباً وهي تقول
" لما أنا من عليها الالتزام ببنود اتفاقك السخيف ذاك بينما
أنت لا ؟ ولم اجب لأن الجواب لديه وليس لدي فهو من غادر
ليس أنا "
عقد حاجبيه وهو يصرخ بانفعال لم تعرفه فيه إلا نادراً أيضاً
" لما اتصل بي إذاً قبل قليل يؤكد بأنه عليا أن لا أكشف هويته
لعائلتي وقال بأن كل ذلك من أجل حمايتك ؟ "
قالت بحدة تتهرب مجدداً من الإجابة فالأمر قطعاً لا يعنيه وهي
من عليها اكتشافه
" لما لم توجه هذا السؤال له هو حين طلب منك هذا ؟ لما أنا
من عليها أن تجيب عما لا يعنيها ولا يخصها ؟ "
أدلى حينها بدلوه وقال باقي ما لديه يصرخ بذات انفعاله
الغريب ذاك
" لأنه لم يكن هذا موقفه سابقاً ! بل وسألني عن وقاص وطبيعة
علاقتك به وكل ذلك تحت حجة حمايتك كما يقول !! "
هكذا إذاً هو يعلم بأن نجيب اكتشف كل شيء ويعلم عن إسحاق
بل ووصلت مخاوفه بأن كشفها أمام هذا المعتوه وبغباء ؟ إذاً
فالأمر أكبر وأخطر مما قد تتصور ...!
نظرت له بتفكير وكل تلك النقاط المبهمة تدور في رأسها قبل أن
تقول بهدوء حذر
" وأنا وجه لي ذات السؤال وكان جوابي بأن لا شيء بيننا وأنه
لا يعلم عما تعلم أنت عنه ولا عن الماضي شيئاً ... وفقط هذا
كل شيء "
وتبدلت ملامحها للجدية وهي تتابع بحدة
" ثم لم يكن اتفاقنا بأن تخبره عما علمت من تلك الأوراق "
حرك رأسه برفض شارد وإن كان ينظر لعينيها وقال بهدوء
مريب
" لم أخبره بل هو من كان متوتراً وقت اتصاله وتحدث عن
حمايتك من القانون وحين سألته بأني لا أعلم عما يتحدث قال
بأنه من الطبيعي أن نكون جميعنا نعلم عن القضية ولم يتطرق
لموضوع شقيقك وبدأ يتملص من الإجابة وكأنه استفاق لنفسه "
نقلت نظراتها بين عينيه بصمت وودت لو تصدقه لكنها لم تعد
تثق بأي كلمة تسمعها ومن أي كان وهذا ما يجعلها تحارب
وحيدة عدواً مجهولاً يبدو أنه كان أقرب لها مما تتوقع !
استمرت في الصمت كما التحديق في عينيه وكأنها تَعبر من
خلالها لدماغه وأفكاره بينما قال هو حين طال ذاك الصمت
المريب والذي لا يفهمه كالعادة
" يبدو بأنه يخشى أن يسعى وقاص خلف الحقيقة ويتأذى
إسحاق هذا ما فهمته ؟! "
وكان تعليقها الصمت بينما لازالت تحدق في عينيه تفكر في
حقيقة أن يكون استنتاجه ذاك صحيحاً لكن لما سيخاف خالها على
إسحاق أو حتى عليها لهذا الحد ! كانت علاقته بهم في الماضي
جيدة لا تنكر ذلك لكنها ليست من القوة بأن يحميهما بشراسة
هكذا أم أنه يريد حماية سر آخر من الانكشاف ! لكن ما هو ومن
يخص تحديداً ! تأفف الواقف أمامها بضجر وقال يمسكها من
مرفقها
" آخر من قد أتوقع يمكنه كشف الحقائق هو ذاك المحامي
الفاشل .... هيا نرجع للداخل فأضنك اكتفيت من استنشاق
الهواء النقي "
أجل فاشل معه حق فهو السبب في وضع كل تلك الحقائق بين
يدي هذا الصعلوك بسبب غبائه ، سحبت يدها منه بقوة
وقالت بضيق
" قلت بأنني لن أدخل هناك مجدداً وقرارك لنفسك يخصك "
ليزخف الغضب لملامحه مجدداً وقد عاد لإمساك مرفقها بل وبقوة
متعمدة آلمتها وقال من بين أسنانه
" لما لا تتوقفي عن التمرد والعناد وكأنك تملكين مثلاً ما يجعلك
بهذه الثقة والقوة ؟ ولا يكن في مخيلتك بأن تهديدات ذاك الطفل
الكنعاني تخيفني "
حاولت سحب يدها منه لكنه غرس أصابعه فيها بقوة أكبر وهو
يشد على أسنانه مكشراً أكثر حتى كانت تشعر بعظام مرفقها
ستتحطم بينما قاومت وباستماته أن لا يظهر ذلك على ملامحها
وقالت بجمود تنظر لعينيه
" أعلم أمراً واحداً فقط بأنه يقول ويفعل وأنت تعلم ذلك وموقن
منه .. وأنا لست بحاجة لأحد يحميني منك ولا من غيرك ولن
أرجع للداخل بل ولن أبقى هنا أيضاً وسأعود لغرفتي "
حينها فقط استطاعت سحب ذراعها منه بقوة تشعر بأنها ضاعفت
ألمها ذاك وغادرت من فورها ليس باتجاه الشرفة التي خرجت
منها بل في اتجاه آخر أبعد من ذلك يقودها لباب آخر للمنزل .
*
*
*
رفع نظره معه وهو يقف وقال
" أويس أنا لم أخبرك بكل هذا لأعكر مزاجك ولا لأراك
وأنت متضايق "
وعلق نظره مع الذي دس يديه في جيبي بنطلون بذلته وقد أشاح
بوجهه جانباً ومتمتماً ببرود لا يشبه ما يشتعل داخله
" أعلم لما أخبرتني ... لأغادر الجامعة من نفسي قبل أن يتم
طردي منها بطريقة لبقة إن كنت محظوظاً بالطبع "
وقف حينها ذاك أيضاً وقال بجدية
" أنت محامٍ ناجح يا أويس ويمكنك اثبات ذلك في أي مكان
بعيداً عن منبع الشائعات هنا .. وهذا بالفعل ما أريده لك "
فرص في مكان آخر ! كاد يضحك أمامه وبهستيرية في وضع
ووقت آخر ما يفكر فيه هو الضحك ، لكن ما فعله حينها أن مد
يده لكتفه وربت عليها قائلاً بابتسامة ساخرة
" أعلم وأفهم ما تريده يا صديقي ولا تقلق بشأني فالقوي
لا يكسره شيء "
وغادر بعدها ذاك المكتب يسير في أروقة مكاتب موظفي الجامعة
رأسه مرفوع وذهنه شارد ذات الوقت فما سمعه منه كان يتوقعه
ومجلس إدارة الجامعة كانوا ليصلوا لذاك القرار لكنه توقع أن
يتركوا له المجال ليدافع عن نفسه وعن والده على الأقل فلا
الوظيفة والراتب يعنيانه أكثر من ذلك لكنه اكتشف بأنهم مجموعة
أطفال نهاية الأمر .
" أستاذ أويس "
وقف مكانه والتفت لصاحبة الشعر البني الغامق والذي كانت
تربطه خلف رأسها والنظارات الكبيرة التي تحيط بعينيها الواسعة
بينما ابتسم له فمها الواسع ابتسامة قرأ فيها التردد كما الحزن
الخفي وهي تقول
" صحيح أنك ستترك الجامعة ولن تُدرسنا مجدداً ؟ "
أبعد نظره عنها يزفر الهواء من رئتيه بقوة ... رائع وها هو
الخبر وصل للطلبة أيضاً وليس طاقم التدريس فقط وهو آخر من
يعلم ، نظر لها مجدداً وابتسم بسخرية رافعاً طرف حاجبه وقال
" هذا ما سمعته أيضاً وهو حقيقي بالفعل "
انحنت كتفاها حينها كما ارتسم الاحباط على ملامحها واشتدت
يداها على المذكرات التي كانت تحضنها وقالت بأسى
" لا بالله عليك أستاذ فمن هذا الذي سيشرح لنا مادة القانون
التجاري بطريقتك أنت ؟ نحن لم ندرسها سابقاً وأصبحت الآن من
ضمن المواد الأساسية بعد قرارات الزعيم مطر الجديدة وما كنا
نتخيل أن كل ذاك العدد من الطلبة قد ينجح فيها قبل أن تدرسنا
أنت إياها "
اتسعت ابتسامته الساخرة تلك أكثر تصف حجم سخريته من كل
ذاك الوضع وقال
" للأسف البعض لم يُقدر لي ذلك مثلكم يا
عبير "
تقوست شفتاها بحزن فابتسم لها برقة هذه المرة وقال يجتازها
" سيكون ثمة من هو أفضل مني بالتأكيد "
وغادر الباب الداخلي مجتازاً الطلبة المنتشرين في حديقة الجامعة
التي كافأته بالفعل على مجهوداته ومع طلبة السنة الأخيرة تحديداً
وهو يقفز بهم خطوة واسعة للأمام مع كتاب القوانين الضخم الذي
اضيف لمواد الاقتصاد والتجارة مؤخراً وبعد تغيير القوانين
الوضعية وكلياً بقوانين الشريعة الإسلامية فتناسوا جميعهم ما
فعل وبالإجماع ...! وإن لم تكن تلك الطالبة من المتفوقات ما
كانت لتأسف على مغادرته ولا لتسأله عن صحة ما قيل أساساً .
وصل سيارته وفتح بابها وأمسك بإطار نافذته الحديدي وهو
يلتفت برأسه للخلف ينظر لمبنى الجامعة الضخم يلمع زجاجه
المعتم تحت أشعة شمس الصباح الباكر واشتدت أصابعه على
الحديد البارد هامساً من بين أسنانه
" لو أجدك فقط .... لو أنك تقع في قبضتي لأنتقم منك لوالدي
قبل نفسي "
أبعد بعدها نظره عن هناك مستغفرا الله بهمس وأحرف مشدودة
ونظر لساعته في معصم يده الأخرى فعليه الذهاب لرؤيتها الآن
فوحدها من تنسيه همومه تلك مجتمعة ما أن فقط يراها .
*
*
*
ضاقت عيناه يراقب شاشة الحاسوب المحمول أمامه وما يُعرض
فيها بسبب انعكاس نور بداية النهار من النوافذ الطويلة لمكتبه
الذي يحتل الطابق الرابع والأخير من مبنى القصر الرآسي تراقب
عيناه الجالس في أحد غرف ذاك القصر الضخم في التسجيل
المعروض أمامه والخادمة التي ملأ ظهرها الشاشة بقميصها
الرقيق المصنوع من الكتان قبل أن يبتعد تدريجيا لتصل لطاولة
المكتب الذي جلس حولها شخصان ووضعت صينية الشاي عليها
وانحنت باحترام قبل أن تغادر .
انعكاس صورة جسد ما حجب النور عن تلك الشاشة لوقوفه خلفه
تماماً جعله ينحرف بنظره قليلاً ووصله صوته الحذر
" هذا تسجيل جديد ... أثمة شيء ما مهم فيه ؟ "
تمتم مطر مشير بسبابته نحو الجالسان صوت حديثهم غير مفهوم
لإخفاضه للصوت
" أجل ... انظر للجالس هنا يا قاسم ... لم أكن أتوقع أبداً أن
يكون ثمة صلة تربطه بذاك الجنرال ! هذا يجعلنا نعيد قلب
الأوراق من جديد "
نظر للتسجيل بتفحص هامساً " عمل رائع هذا الذي يقوم به
تيم ... ما كنا لنستطيع الوصول لمنزله هكذا وإن نشرنا
جواسيسنا في لندن بأكملها "
رفع يده وأغلق الحاسوب وهمس بخفوت
" لكني بث أخشى عليه بالفعل يا قاسم "
فنقل نظراته في ملامحه التي لا يظهر له منها سوى النصف
يستغرب أن يسمع هذا ومن مطر تحديدا وجميعهم يعرفون ذاك
الشاب وشجاعته ومهارته ونجاته من الموت مراراً ليعود
لمسببها مجدداً دون أن يخشاه ولا هو نفسه ....!! كما يعلمون
جيداً الصلة القوية والعميقة التي تجمعهما ومكانته الخاصة لدى
مطر من بينهم جميعاً لكنه لم يتلفظ يوماً بهذا ولم يكن يراه سوى
بطل والبطل لا يخشى شيئا ولا يُخشى عليه كما كان يقول !.
قال بريبة ينظر لقفاه لاستدارته نحو طاولة مكتبه
" ما الذي يحدث نجهله يا مطر ؟! "
استدار بجسده مقابلاً له وقال بجمود
" لم يحدث شيء "
وتابع وقد شرد بنظره لقرص الشمس الذي بدأ يرتفع في السماء
لامعاً كزجاج النافذة التي تفصلهم عنه
" لكن قد يحدث قريباً وقريباً جداً ونخسره ولن نجد وقتاً
حينها ولا لنندم فيه "
قال الواقف أمامه بتوجس
" مطر ما الذي يجري ...؟! أرجعه للبلاد إن كان في بقائه
هناك خطراً بسببهم "
نظر لعينيه حينها وقال بضيق
" ليس بسببهم بل بسبب نفسه وإرجاعه هنا ليس حلاً وأنت
تعلم جيداً تبعات ذلك وهو رميه للموت بأيدينا "
حدق فيه باستغراب لبرهة قبل أن يقول
" ماذا تعني بأنه بسبب نفسه ؟! "
تأفف وقال
" عناده على ما يعلم جيداً بأنه ليس في صالحه أعني "
حرك رأسه ساحباً الهواء لفمه دليل الفهم وقال
" آه زوجته تقصد ...؟ ألا زالت معه ؟ "
ضرب بقبضته على طرف طاولة المكتب وقال بضيق
" أجل وذاك العنيد لازال يرفض إبعادها ولن يتوقف عن جنونه
ذاك حتى نخسرهما كلاهما أو يخسر أحدهما الآخر "
نظر لنصف وجهه المقابل له وقال بتوجس مما سيقول
" وما نفع أي محاولة معه إن كان مصراً وأنت تعرفه أعند من
الصخر وقد أقسم مراراً بأنه إن تم إبعادها في غفلة عنه أن
يوقف جميع مهامه هناك لتصبح مهمته الوحيدة البحث عنها حتى
يجدها ... أي لا حل مطلقاً وأنت أكثر من يعرفه بيننا جميعاً مهما
كنا مقربين منه هناك "
مرر أصابعه في شعر قفا عنقه وقال ينظر للأسفل
" يجب أن يكون ثمة حل لن نقف نتفرج هكذا ثم كل ما نتفوه
به مستقبلاً بأنه كان قدره وسيواجهه على أي حال "
تفحصت عيناه ملامحه وقال بهدوء حذر
" أراه يؤدي مهامه وبأفضل شكل إن في تلك المنظمة البريطانية
أو فيما يخص عملنا فمما الخوف ؟ "
قال مطر بضيق وقد رفع نظره به مجدداً
" بل على العكس تماماً فهو السبب في تأخرنا عن بلوغ هدفنا
هناك حتى الآن لأنه يتهرب متحججاً وبشكل واضح فحتى حفلاتهم
التي ستكشف لنا الكثير بات يعتذر عنها بحجج سخيفة سواءً إن
كانت التي يقدمها لهم أم لنا وكل ذلك من أجل تلك الفتاة ومنذ
أصبحت تعيش معه بل ويفتعل الشجارات مع ابنة ذاك الرجل
لأمور تافهة لا تعنينا ولا تعنيه فقط ليتركها بعيداً عنه قدر الامكان
إرضاءً لزوجته تلك ، والأسوأ من كل ذلك أنه إن تم اكتشاف
هويتها الحقيقية فسينتهي من الوجود شخص اسمه تيم كنعان
وفي لمح البصر وابنة الجنرال تلك لابد وأن تفكر في فعلها يوماً
فالنساء يصبن بالجنون ما أن تقترب أي امرأة وبأي صفة كانت
من الرجل الذي تحبه وإن حدث ووضعت تلك الفتاة في دماغها
فلن يهنئ لها بال حتى تزيحها من طريقها ومن حياته وبأي
طريقة كانت ولك أن تتخيل أي طرق تلك التي تتبعها النساء ..
خصوصاً في مركز تلك وصلاحيات والدها "
تنفس بقوة وعمق وقال
" ما أعلمه عنها أنها امرأة مريضة بحب التملك أي أنها في أشد
حالاتها يأساً قد تفكر حتى في أذيته فإما أن يكون لها أو ليس
لأحد كلاعب كرة القدم الذي كانت على علاقة معه وما أن أظهرت
الصحف صوراً له مع فتاة أخرى حتى تعرض لحادث مجهول
التفاصيل بالطبع وفقد مقدرته على ممارسة الرياضة
مدى الحياة "
قال آخر عبارته تلك ونظراته تراقب الذي أمسك خصره بيديه
وقال بجدية
" لست أخشى من تملكها المرضي ذاك بل من أن تكشف هوية
زوجته الحقيقية فإن كان تيم تقمص شخصية ذاك الفتى اليوناني
بدون أي ثغرة يدخل منها الشك فماري دفينست عكس ذلك
وبمعلومات بسيطة من إيطاليا يمكن كشف الخدعة وبسهولة
خصوصاً بعد التطورات الأخيرة في عائلتها هناك "
شحبت ملامح الواقف أمامه بوضوح وقال
" وحينها من ماريه هارون سيتوصلون لحقيقة تيم شاهر كنعان
ودون عناء "
أومئ مطر برأسه بنعم وقال بجدية أكبر
" ولأجل هذا يجب أن يكون ثمة حل ما للأمر غير إقناع ذاك
العنيد ولا إبعادها عنه مرغماً "
رفع يديه وقال
" كيف إن لم يكن بهاتين الطريقتين ؟ "
تنهد بعمق ولم يعلق بل وأوقف الحديث في ذاك الأمر نهائياً
والتفت لطاولة المكتب الواسعة وفتح الحاسوب مجدداً فاقترب منه
الواقف خلفه حتى أصبح يقف بجانبه يديه في جيبي بنطلون بذلته
ينظر بانتباه لما كان يشرحه له على الخارطة أمامهما وعن
خططهم المستقبلية فيما يخص البلاد لا شيء يقطع حديثه
المسترسل ذاك حتى قال قاسم
" لقد فعلت الصواب فتلك القبائل بدأت تلين على ما يبدو بينما لم
تترك في الحدود ثغرا مفتوحة للمتطرفين .. وقضية متمردي
صنوان ستنتهي قريباً كما بات يرى جميع المراقبين بل
والمقربون منهم "
ضغط زرا ما في لوحة المفاتيح قائلا
" سيكون عليهم أن يخضعوا نهاية الأمر وما أن يكتشفوا بأن
أولئك الشرذمة المتمردين لن يجلبوا لهم ولأنفسهم سوى الخزي
والعار وسيكتب التاريخ ذلك ليلحقهم حتى حفيد الحفيد
سيتخلصون منهم ودون تراجع "
قال ونظره لازال على تلك الشاشة والمربع الذي ظهر فيها "
أجل .. فلو أننا فقط نتخلص من استسلام تلك المدن لهم فسنكون
قطعنا شوطا كبيراً للأمام حينها "
أغلق حاسوبه مجدداً قائلا
" بل ستنتهي حينها جميع مشاكل البلاد ولن تجد تلك الأجندات
الخارجية مكاناً لما .... "
وقطع حديثه صوت رنين هاتفه فأخرجه من جيب سترته ونظر
للاسم على شاشته قبل أن يضعه على أذنه قائلاً
" مرحبا يا تيما "
فنظر له الواقف بجانبه من فوره وبما أن الهاتف كان جهته فقد
كان مسموعاً له وبوضوح ذاك الصوت الأنثوي الذي خرج منه
" صباح الخير أبي ... خفت أن تكون نائماً وأكون أزعجتك لكني
أعلم بأنك تغادر المنزل وقت الفجر "
مرر أصابع يده الأخرى في شعره وهو يقول بهدوء
" أجل يا تيما فما جعلك تتصلين هذا الوقت ؟ "
قالت مباشرة
" اليوم هو حفل افتتاح برج القمة أبي "
قال وقد انحرفت حدقتاه السوداء جانباً وحيث الذي كان يستمع
لها بانتباه بينما عيناه محدقتان به
" أجل أعلم بذلك فهل تتصلين لتذكيري بهذا ؟ "
خرج ذاك الصوت الأنثوي الرقيق مجدداً
" لا بل لأنه ثمة حفل وعروض رياضية يدعمها المشروع من
أجل ذوي الاحتياجات الخاصة سيقام في نادي الفروسية هنا
بالعاصمة وأريد مرافقة الكاسر له إن لم يكن ثمة مانع لديك "
أدار حينها رأسه جهة الواقف قربه ونظر له بينما أشاح ذاك
بوجهه من فوره متأففاً بصمت فابتسم وقال
" وما كان رأي والدتك ؟ "
قالت مباشرة
" لم أسألها بعد أردت أن آخذ رأيك أولاً فإن رفضت فلا داعي
لأن أتحدث معها عن الأمر "
قال من فوره
" حسناً إن وافقت هي فيمكنك الذهاب "
وابتسم ما أن قالت من في الطرف الآخر وبحماس
" شكرا أبي ... أحبك كثيرا .... وداعاً الآن "
وما أن اعاد هاتفه لجيبه نظر للذي كان ينظر جهة النافذة مكتفاً
ذراعيه لصدره عاقداً حاجبيه بعبوس وقال ببرود
" لن تكون طفلاً بالطبع وتغضب من هذا "
فقال ببرود مماثل ولازال نظره هناك
" سيعجبك ما حدث بالتأكيد فأنت والدها ولن ترضى بأن تكون
من سيتعرض للتهميش "
شده حينها من ذراعه وأداره ناحيته قائلاً بحزم
" قاسم هي زوجتك لا نقاش لأحد في هذا لكنها الآن لازالت تعيش
معي ومع والدتها فلن أتصور أن تفعلها مثلاً وتأخذ رأيك أنت
ونحن لا علاقة لنا لأنها بالطبع استشارت زوجها الذي يعيش كل
واحد منهما في مكان "
فك ذراعيه وقال بضيق
" ومن جعل الوضع يبدو كذلك غيركم ؟ "
عقد حاجبيه وأشار بسبابته لوجهه قائلا بضيق مماثل
" أنت لن تنسى بالتأكيد ما اتفقنا عليه عندما خطبتها مني "
فتنفس بضيق وقال
" لا لم أنسى ولا أرى لهذا علاقة بذاك "
قال سريعاً وبجمود
" الموقف لا يستدعي منك كل هذا الغضب إذاً فهل أفهم ما يجري
تحديداً ؟ "
أشاح بوجهه عنه وهمس ببرود
" لا شيء "
فحدق فيه مطر بصمت جعله يبادله ذات النظرة لحظة أن علا
رنين هاتفه هو في جيبه هذه المرة فأهداه مطر ابتسامة جانبية
قابلها بعبوس وأخرجه ونظر لاسمها على شاشته قبل أن يرفع
نظره للذي قال مبتسماً بسخرية
" لن تفكر بالطبع في تركها تتصل دون أن تجيب مدعياً
الغضب كي لا تتلقى عقاباً أسوأ من سابقه "
زم شفتيه بغضب من سخريته وتملقه قبل أن يتمتم بحنق
مبتعداً عنه
" كنت أعلم بأن هذا سيكون مصيري منذ وقعت بين يديك
أنت وابنتك "
وأولاه وابتسامته الساخرة تلك ظهره ووضع الهاتف على أذنه
ما أن فتح الخط قائلاً بجمود
" أجل يا تيما "
فقالت من في الطرف الآخر ودون مقدمات ولا حتى بإلقاء
التحية عليه
" قاسم أريد الذهاب برفقة الكاسر وزوجة خالي رعد للحفل
والعروض الرياضية بعد حفل الإفتتاح وسألت والداي ووافقا "
تنهد بضيق وقال ببرود
" وإن لم أوافق هل سيغير رأيي شيئاً ؟ "
وصله صوتها الرقيق سريعاً
" بالطبع لما كنت اتصلت بك "
وبالرغم من أنها فكرت في أخذ رأيه ولم تهمله بما أن والديها
وافقا بل واخبرته بأنها فعلت ذلك قبل اتصالها به ولم تخفيه عنه
إلا أن غضبه السابق تغلب على كل ذلك وقد تمتم ببرود
" إذاً لست موافق "
وأغمض عينيه وتنفس بعمق حين وصله صوتها محبطاً كئيباً
" لابأس لا مشكلة .... وداعاً "
ودس الهاتف في جيبه واستدار ناحية الذي كان ينظر له بضيق
وقال من قبل أن يعلق
" أنت قلت بأنك لن تتدخل مالم تشتكي هي لك فلا تنسى
هذا أيضاً "
ومنعه باب المكتب الذي انفتح فجأة من قول أي شيء أو التعليق
لدخول عمير وبشر الذي نظر لكليهما قائلا
" هل نغادر ؟ "
فتحرك مطر حينها وقال ووجهته الباب المفتوح
" أمامكم ساعتان فقط ولن أكون بعدها معكم "
تبعوه ثلاثتهم ليحيط بهم من كانوا في الخارج سائرين معهم
وقال بشر مبتسماً يرمقه بمكر
" تركنا لك يومان تسبح فيهما في بينبان أم أنك اعتدت
على إلقاء الأوامر من بعيد ؟ "
ضحك عمير بينما تجاهله مطر تماماً وكعادته ودخلوا المصعد
جميعهم وأخرج حينها قاسم هاتفه من جيبه وكتب رسالة سريعة
( يمكنك الذهاب )
وأرسلها لها .. فسحقاً لقلبه الأحمق فهو لم يستطع تخيلها
مستاءة وتبكي الآن وحيدة .
وما أن كانوا في الأسفل ركب مطر في سيارة قاسم وغادروا
جميعهم تاركين شوارع العاصمة المزدحمة خلفهم ليصبحوا فيما
يماثلها تقريبا عند ضواحيها وساد الصمت رحلتهم تلك ..
وبينما كان صمتاً هادئاً لأحدهم كان مدججاً بالقلق وتأنيب الضمير
للجالس خلف المقود ومن لم تزده تلك الطرقات المتفرعة سوى
توتراً واستسلم نهاية الأمر لمشاعره ويده تخرج هاتفه من جيبه
وعاد لإمساك المقود وهو فيه فهو يعلم جيداً بأنها لن تذهب ولا
بعد رسالته تلك وستكون في المنزل وحدها الآن تسجن نفسها في
غرفتها بعدما قاله لها ... نظر لشاشة هاتفه ولأنه لا يمكنه إبعاد
إحدى يديه بينما يحتاجهما للمقود ويد السرعة في هذه الطرقات
كان لا خيار أمامه سوى فتح مكبر الصوت ، كان سيتصل بالكاسر
لكنه وجد رعد خياراً أفضل وقد أجاب من فوره قائلا بابتسامة
" مرحبا بالصهر الآخر للعائلة ... ما سر هذه المكالمة على غير
العادة وفي الصباح الباكر ! "
رمق الجالس بجانبه بطرف عينيه وقال ببرود
" لا أريد أن أقول اسأل صهركم الأول وابنته كي لا أقضي باقي
عمري في السجن فيبدو أن هذا ما سيكون عليه مصيري "
ضحك من في الطرف الآخر وقال
" كن طيباً إذاً فأنا لا أستبعد ذلك ... بما يمكنني أن أخدمك ؟ "
قال من فوره ونظره على الطريق
" هل أنت في المنزل الآن ؟ "
خرج صوت رعد سريعاً
" أجل وسأغادر فوراً فعليا أن أكون في مبنى البرلمان قبل أن
أنتقل لحفل افتتاح البرج كي لا تغضب مني والدة زوجتك وينتهي
بي الأمر رفيقاً لك في الزنزانة "
ظهرت ابتسامة خفيفة على ملامحه المتجهمة وقال
" أريدك أن تتحدث مع تيما إذاً مؤكد هي في غرفتها الآن "
قال من فوره
" في غرفتها !! لا أظن ذلك صحيحاً "
قال باستغراب
" هل غادرت ؟ "
خرج صوت رعد من هاتفه ضاحكاً
" بل كانت أول من قفز لسيارة والدتها "
تنهد حينها وقال ببرود
" لا داعي لذلك إذا "
قال ذاك سريعاً
" أثمة أمر مهم ؟ لما لا تتصل بها ؟ "
قال يبعد يده عن المقود والهاتف فيها
" لم يعد من داع لذلك .... وداعا الآن وشكرا لك "
وما أن دس هاتفه في جيبه نظر للذي كان ينظر له بطرف عينيه
مبتسماً بسخرية يتكئ بمرفقه على إطار النافذة المغلقة ويضم
قبضته تحت شفتيه متكئ بذقنه عليها فقال بضيق ما أن عاد
بنظره للطريق
" لا تسخر من وضعي ولا تنسى بأنه لديك نسخة مطابقة عنها "
دس حينها شفتيه كما ابتسامته في قبضته التي يتكئ بذقنه عليها
وهو يقول مبتسماً
" لم أتركها تجمح عني يوماً "
شخر ذاك بسخرية وقال يحرك رأسه إيجاباً
" أجل واضح تماماً فأنت غادرت حضنها قبل أن تغادر منزلك
صباحاً "
فضحك مطر رافعاً رأسه للأعلى قليلاً وقال يتكئ به على مسند
الكرسي خلفه
" عليك أحياناً ترك مسافة للمرأة تُشعرها فيها بأهمية غضبها
منك ... لا تنسى ذلك أبداً مستقبلاً "
رمقه سريعاً قبل أن ينظر للطريق مجدداً وأشار بيده قائلا بسخرية
" مستقبلا !! يبدو أنك تعطي ابنتك أصغر من حجمها ومصدق
فعلاً أنها ابنة الرابعة عشرة "
ابتسم وقال يعود لجلسته السابقه
" لا .. وأعلم أن دماء عائلة الشاهين لن تخونها بالتأكيد "
تنهد بضيق محركاً رأسه ولاذ بالصمت وكانت سياراتهم حينها قد
أصبحت خارج ضواحي العاصمة فقال مطر
" ألن تذهب لحفل الافتتاح ؟ أظن أنه ثمة دعوة وجهت إليك "
نظر له قبل أن ينظر للطريق وقال بضيق " لا بالطبع ... ومن
أجل باقي أنواع المساحات التي كنت تتحدث عنها "
ابتسم وقال
" هل أفهم ما يحدث معكما ؟ "
رفع أصابعه عن المقود دون أن يبعد راحتا كفيه وقال بضيق
يمسكه مجدداً
" لأنه عليا أن لا أكون في مكان يجمعني بزوجتك حتى وقت لم
تحدده ابنتك بالطبع ويبدو حتى تأتي بنفسها وتقول لي خذ ابنتي
لمنزلك وعالمك فأنت الزوج الأنسب لها في الوجود "
قال مطر بعد ضحكة صغيرة
" يمكنك التراجع وإنقاذ نفسك فنحن لم نفعل شيئاً بعد "
نظر له نظرة قوية تهدد بالقتل وبلا تراجع وقال
" ذاك حين أفقد عقلي "
فضحك ونظر جهة نافذته ولم يعلق .
*
*
*