*
*
*
ما أن وصل الباب الحديدي للمنزل حتى توقف الواقف في
الخارج عن الطرق والذي يبدوا بأنه سمع خطواته وهو
يقترب ، فتح الباب على اتساعه ووقف ينظر باستغراب
للواقف أمامه قبل أن يهمس
" أويس !! "
قال الواقف أمامه بضيق ينفض يديه من التراب الذي علق بهما
" أجل أويس وطرقت كما يفعل البشر لكنك لم تسمع فقررت
اتخاذ أسلوب أكثر همجية "
نظر للحجر الملقى تحت قدميه وابتسم وهو يرفع نظره له قائلا
بضحكة صغيرة
" جيداً فعلت لما كنت سأخرج لك مطلقاً "
أمسك خصره بيديه قائلا بحنق
" أجل فهذا ما يجعلك تهرب من عملك ... ما كان علي وضع
رجل متزوج كمشرف على العمال "
وتشاركا معاً في ضحكة رجولية عميقة قبل أن يقول الواقف
خارج الباب
" وبهذا أجبرتني على المجيء لك هنا يا أحمق "
وتابع يشير برأسه خلف كتف الواقف أمامه
" علينا التحدث في الداخل "
نظر يمان خلفه قبل أن ينظر له مجددا وقال وهو يبتعد جانباً
" بالطبع تفضل "
وما أن خطا ذاك خطوتين نحو الداخل وقف ونظر له يغلق
الباب وتمتم ببرود
" أين هي زوجتك ؟ "
دخل قبله قائلا
" لا تقلق لن تراها أمامك ... هيا ادخل "
وسار باتجاه الغرفة الوحيدة في المكان وهو يتبعه ينظر للمنزل
الذي بدت النظافة واضحة عليه رغم قدمه وصغر مساحته فتمتم
يدخل الغرفة خلفه والتي كانت مرتبة أكثر مما مر به خارجها
" يبدوا أنه كان عليك أن تتزوج منذ أقمت هنا "
التفت له الذي فهم سبب ما قال وقال مبتسما
" ما كان لأي امرأة أن ترضى بكل هذا وتجعله نظيفا هكذا
دون أن ترفضه أساساً "
وكما توقع تجاهل الواقف أمامه حديثه ذاك وقال يخرج هاتفه
من جيب سترته
" هذا صديقك أبان أزعجني اليوم وتعرف عناده جيدا .. يصر
على أن يتحدث معك قبل مغادرتي لحوران "
واتصل به وناوله الهاتف من قبل أن يعلق ينظر له باستغراب
في يده وما أن مده نحوه أكثر رفع يده وأخذه منه ويبدوا أن
من في الطرف الآخر فتح الخط منذ وقت فما أن وضعه على
أذنه حتى سمع صوته يناديه فقال من فوره وبقلق
" هل يمامة بخير ؟ "
وصله صوته سريعا وبضيق
" يعنيك أمرها حقا وإن كانت بخير أم لا وصديقك من قبلها ؟ "
تنهد بقوة ونظر للأرض وهو يقول
" أنت تعلم جيدا بأني فقدت هاتفي وقت احتراق المنزل ...
أخبرني ما بها يمامة ؟ "
وصله ذات الصوت المتضايق
" لا شيء بها سوى أنها تسأل عنك طوال الوقت وتدمع عيناها
كلما فعلت ذلك وأراهن بأنها تبكي وحدها دائما "
فأمسك عينيه بأصابعه لازال رأسه منحن جهة الأرض وظهرت
صورتها أمامهما فورا وتمتم بحزن
" هي بخير من دوني فما الذي تفعله بي ؟ "
" لم أكن أعلم بأنك أحمق ومغفل إلا الآن "
قال ذاك من فوره وبغضب فتمتم مجددا
" أنت تقول هذا يا أبان ! لو كان شخصا آخر غيرك لعذرته "
وصله صوته الغاضب مجدداً
" بل لأنك كذلك بالفعل ... شقيقتك تحتاجك وإن كانت معنا ..
تريدك وتسأل عنك دون توقف بل وليست سعيدة بسبب ذلك
إن كنت ترى بأنها في غنى عنك "
أولى الواقف أمامه ظهره وسند يده الحرة بالجدار أمامه وقال
بأسى نظره على أصابعه التي قبضها بقوة
" خذلتها بي ... لم يعد يمكنني ولا النظر في عينيها يا أبان "
قال ذاك سريعاً
" هي تعرفك جيداً ومتأكدة من أنك لم تفعل ذلك متعمداً وثمة
ما منعك عن الوصول لها .. أنت لم تتعمد فعل ذلك يا يمان "
شعر بغضبه من نفسه يشتعل أكثر فضرب الجدار بقبضته قائلا
بحرقة
" ماذا إن لم تصل لها أنت ؟ ماذا إن احترقت مع المنزل وماتت
أو عاشت مشوهة ؟ كل ذلك كان سيحدث بسببي إن لم تذهب أنت
وتخرجها "
قال من في الطرف الآخر ومن فوره
" والله أرسلني لها كما أرسلك للفتى الذي قلت بأنك أنقدته ..
فإن وصلنا أنا وأنت لها ما الذي كان سيحدث لذاك الشاب ؟
توقف عن إلقاء اللوم على نفسك يا يمان فشقيقتك لا تنظر للأمر
كما تنظر له أنت .. فانظر أنت لنفسك كم قدمت من تضحيات من
أجلها ؟ بل وحتى مستقبلك وطموحك "
لاذ بالصمت ولم يعلق ينظر للأرض تحته بوجوم كئيب فهو
يشتاق لها أكثر مما تشتاق هي له لكنه لازال المذنب في نظر
نفسه ولم يستطيع مسامحتها أبدا ولا يجد لنفسه أي عذر بل
ويخجل من الوقوف أمامها والنظر لعينيها .
" يمان تسمعني ؟ "
مسح بأطراف أصابعه الدمعة التي بللت رموشه متمردة عليه
وهمس بخفوت
" بلى أسمعك "
" ستأتي الآن مع أويس لرؤيتها "
وما أن كان سيتحدث سبقه ذاك الصوت الآمر بل والصارم
" يمان لا مجال للرفض تسمعني ؟ أو قسما جلبتها لك بنفسي
وليفعل بي أبناء غيلوان ما يريدون "
تنهد نفساً عميقاً طويلا وقال بهدوء واجم
" لا يمكنني ترك زوجتي وحدها هنا ليومين "
" زوجتك !! "
قال من فوره
" أجل فقد تزوجت من وقت قريب من فتاة من هنا من الجنوب
وهي يتيمة لا أحد لها غيري ولا أستطيع تركها في المنزل
لوحدها وأنت تعلم كم تستغرق المسافة من هنا للحميراء "
وصله صوته سريعا
" اجلبها معك يا رجل تراها شقيقتك وتتعرف عليها .. هذه
ليست مشكلة "
" لكن أ... "
قاطعه بضيق
" لا تتحجج يا يمان وأعرف دماغك وأفكاره جيدا لكنت حجزت
لكما في رحلة على الطائرة من مطار جينوة لهنا لكنك سترفض
بالطبع كعادتك "
تمتم ببرود
" سأرفض بالتأكيد "
قال ذاك بحنق
" كنت أعلم ذلك يا أحمق لكن ثمة أمل أن تغيرك تلك المرأة
فلا أبرع منهن في فعل ذلك "
استدار حتى أصبح مقابلا للواقف خلفه وقال بذات بروده
" لن يغيرني شيء وهي مثلي وأسوأ مني "
وصله صوته الحانق فوراً
" وهذا ما توقعته فالطيور على أشباهها تقع بالطبع "
وتابع دون أن ينتظر تعليقه
" عليك إذا جلبها معك والقدوم هنا ولا تقلق بشأن الشركة
الزراعية فأويس سيتولى الأمر ولا عذر لك الآن "
تنهد باستسلام متمتما
" سأرى ما يمكن فعله "
" بل ستأتي أو نفذت قسمي يايمان وأنت تعرفني جيدا وقسما
أن أفعلها "
وتابع مغلقا المجال أمامه لأي نقاش أو اعتراض
" أعطي الهاتف لأويس "
فزم شفتيه متنهدا بضيق ومد الهاتف للواقف أمامه والذي
ما أن أخذه منه غادر الغرفة بل والمنزل بأكمله يتحدث مع من
في الطرف الآخر ويبدوا عن زيارته لشركة العاج وقد قررا
وما عليه سوى التنفيذ .
*
*
*
أمسك بمقبض باب الغرفة الشبه مفتوح وفتحه على اتساعه
لازال يمسك المقبض في يده ونظر غاضناً جبينه وبحاجبين
معقودين للنائمة على السرير بالكاد يظهر من ملامحها القليل
بسبب شعرها وغرتها المتناثرة على وجهها فدخل واقترب منها
وما أن أصبح فوقها مد يده ناحيتها واستل الدمية القماشية من
بين ذراعيها ورماها خلفه دون اهتمام لمكان سقوطها لحظة
أن قفزت تلك النائمة بفزع تنظر له فوقها فأمسك خصره بيديه
متمتما بضيق
" قلت لا أراها في السرير فأجدها في حضنك ! "
رفعت غرتها بأصابعها ويدها الأخرى على صدرها وسحبت
نفسا قويا هامسة
" أفزعتني يا أحمق "
وسرعان ما عادت لنومتها السابقة ولكن مولية ظهرها له
هذه المرة وسحبت اللحاف لأعلى كتفيها منكمشة تحته فانحنى
نحوها وأمسكها من خصرها وبكل سهولة وبالرغم من
اضطجاعها على جانبها رفعها وأجلسها متمتما ببرود
" الجامعة سيدة ماريا أم سترسلي دميتك الحمقاء تلك
بدلا عنك "
أبعدت شعرها عن وجهها متأففة ودارت ناحيته ونظرت
له فوقها قائلة بضيق
" أخبرتك بالأمس أن محاضرة اليوم تغير موعدها وهي
بعد ساعتين ... ما بك مزعج هكذا ؟ "
أولاها ظهره وسار جهة الباب قائلا بذات بروده
" بالكاد يكفيك الوقت يا كسولة "
فعبست ملامحها تنظر له بضيق قبل أن تقفز من السرير
وركضت نحوه مسرعة وأمسكت بذراعه موقفة له قبل أن
يخرج قائلة
" انتظر إلى أين ستذهب ؟ "
التفت لها وقال بحنق
" لن تغضبي بالتأكيد إن قلت بأنك حمقاء كسؤالك الأخرق "
زمت شفتيها تنظر له بضيق فقال مشيرا لها برأسه
" وقولي أيضاً بأنك لا تري الملابس التي أرتديها ؟ "
قالت بحنق
" بلا أراها لكن ماذا بشأن الحفل "
عقد حاجبيه قائلا بضيق
" هل سنذهب له من الآن ماريا ؟ "
قالت من فورها
" لا بالطبع لكنك كلما سافرت من أجل عملك لا تبلغني إلا
منتصف النهار "
تركها وقال مغادرا الغرفة
" كوني مطمئنة لن أسافر وسأكون هنا ولن أفوت عليك
ذاك الحفل الرائع "
قالت تتبعه
" لا تتأخر إذا فأنا أعلم جيداً كم تكون المسافة حتى
بريستول .. عليك أن تكون هنا قبل المغيب "
وقف والتفت لها يمسك خصره النحيل المشدود بحزام
بذلة المنظمة السوداء وقال بضيق
" أي أوامر أخرى
سيدتي ؟ "
ابتسمت ابتسامة واسعة وقالت تنظر لعينيه
" لا هذا كل شيء "
وما أن رفع حاجبه ينظر لعينيها تراجعت للخلف وابتسمت
له ملوحة بيدها قائلة
" ها أنا أنفذ الاتفاق "
فابتسم وأولاها ظهره مغلقا الباب خلفه وهو يخرج
فضحكت وتوجهت نحو غرفتها قائلة بضحكة
" كم أعشق هذا الأحمق "
وما أن دخلت الغرفة جلست على حافة السرير وأمسكت
بهاتفها تصارع نفسها لفعلها لكنها تعلم جيداً ما ستكون النتيجة
وعليها أن لا تفكر في ذلك ولا مجرد التفكير ، نظرت للهاتف في
يديها لبعض الوقت قبل أن تبحث عن رقم كنانة فكيف لم تفكر
في هذا سابقا ! وضعت الهاتف على أذنها تستمع لرنينه
في الطرف الآخر حتى أجابها الصوت الأنثوي الباسم
" مرحبا ماريه "
قالت مبتسمة
" مرحبا كنانة ... أنت في المطار بالتأكيد فمتى يكون
وقت خروجك من هناك ؟ "
وصلها صوتها بعد برهة
" عند منتصف النهار تقريبا "
عبست ملامحها الرقيقة وأنزلت كتفيها متمتمة بإحباط
" لا فائدة من هذا إذا "
" ما بك ماريه ؟ قد أخرج اليوم مبكرا فهل أخدمك بأي شيء "
ابتسمت من فورها قائلة
" رائع ... ستخدمينني أجل لكن ليس أنا بل شخص آخر "
وصلها صوتها سريعا متمتمة ببرود
" إن كان زوجك ذاك فاعذلي عن الفكرة وجنبيني
الاحتكاك به رجاءً "
تنهدت بأسى قائلة
" لا ليس هو أعني بل ساندرين "
" ما بها ساندي ! "
قالت بهدوء
" يفترض أنك تعلمين ما بها بما أنه اليوم حفل خطوبتهما
فقومي بزيارتها في منزلهم فستكون الآن مستاءة وحزينة بل
وفي شجار مع جميع أفراد عائلتها "
قالت تلك من فورها
" أجل معك حق كيف فاتني التفكير في هذا ؟ سأمر بمنزلهم
قبل الذهاب لمنزلي "
وتابعت من فورها
" هل أخدمك في أمر آخر ماريه "
قالت مبتسمة تدس يدها الأخرى في خصلات شعرها الناعم
" لا شكرا لك هذا فقط "
وما أن أنهت الاتصال معها رمت الهاتف جانبا ووقفت وتوجهت
جهة الدمية المرمية على الأرض والتي داسها ذاك الغاضب على
الدوام بحذائه الأسود الثقيل وهو يخرج وتراهن على أنه يتعمد
فعلها ، رفعتها ونظرت لملامحها الشقراء الباسمة قائلة
بضحكة صغيرة
" عليك أن تعتادي عليه فهو هكذا دائما ... لكنه رائع
أليس كذلك ؟ "
ضحكت وقفزت بها على السرير ونامت تحضنها بقوة وغطت
جسدها باللحاف فأمامها بعض الوقت لتنام قليلاً قبل موعد
المحاضرة .
*
*
*
دست هاتفها في جيب سترتها وكتفت ذراعيها لصدرها وتأففت
نفسا طويلا تضرب بطرف حذائها على الأرض بنفاذ صبر ولا
تفهم ما به تأخر كل هذا الوقت فلن تستطيع مغادرة المطار ما لم
يسمح لها بذلك وهو طلب أن تنتظره حتى يرجع لمكتبه وها هي
تراه اختفى ولن يعود ، لم تكن تريد البقاء حتى وقت نزول طائرة
ذاك الوسيم المغرور لكن يبدوا أنها ستحظى بشرف وإن سماع
صوتها تهبط وإن كان ذاك الصوت لا يسمع هنا لكنها تشعر به
طنيناً مرتفعاً في قلبها قبل أذنيها ، وهذا حالها تحترق بصمت كما
تسير في مكانها بينما سيادة الطيار غيهم أيوب الشعاب أصبح
الآن برتبة طيار محترف بعد إنقاذه للطائرة وكل تلك الأرواح في
رحلته الماضية والأولى بينما من يجلس بجانبه الآن كمساعد له
قد قاد الطائرة في رحلات تدريبية أكثر منه ولازال لم ينل شرف
أن يكون طياراً بعد ! وكأن تلك الجينات الموجودة داخلهم تهبهم
قدرات مختلفة عن البقية قد أورثتها لهم والدتهم تلك ليكونوا
امتدادا لأبطال عائلة الشاهين المعروفين منذ جدهم الأول وحتى
آخر فرد فيهم وهو ذاك الأسطورة الذي يقود بلاداً كاملة منقذا
إياها من الضياع بعدما أنقذها ومنذ أعوام من حرب أهلية كانت
تأكلها كما تأكل النيران الهشيم .
نظرت جهة الباب الذي انفتح بسرعة وشهقت بصمت شهقة لم
تستطع كتمانها ولا التحكم فيها حين ظهر لها الذي دار حوله
ببطء بعدما فتحه ووقف ينظر لها بابتسامة ساخرة ... صاحب
البذلة الزرقاء المميزة والتي لازالت قبعتها فوق رأسه ..
بل والتي يزيدها هذا الجسد تحديدا روعة وتميزاً فكيف
إن اشتركت معها تلك الملامح الحادة الوسامة والمميزة !
" ممن تختبئين هنا ؟ "
كان الواقف عند الباب لازال ينظر لها بتركيز بل وبتسلية
من كسر ذاك الصمت الذي أعقب شهقتها المكتومة بجملته
الساخرة تلك والتي جعلتها وبكل سهولة تشتعل قائلة
" أنا لا أختبئ وهذا مكان عملي .. فما تفعله أنت في
مكتب المرحل الجوي لأنه ليس مكانك ؟ "
وسحبت نفسا قويا وكتمته داخل صدرها حين دخل ذاك الجسد
أكثر بإغلاقه للباب وشعرت بجسدها يرتعد بل ويتقلص وكأنه
يغلق باب غرفة نومهما وليس مكتب مساعدة مديرها في مطار
كبير ومعروف كهذا ! بل وما زاد الأمر سوءا اقترابه منها يدس
يده في جيب بنطلونه متمتما بسخرية
" يمكنني التواجد حيث أريد هنا وأنت تعلمين ذلك جيدا .. أما لما
فقد جئت أبحث عن الفأر المختبئ عن الأنظار بالطبع "
فتراجعت خطوة للخلف لا شعوريا قائلة بضيق
" لست فأراً ولا شيء يضطرني للاختباء "
وكتمت شهقتها بصعوبة حين التصق جسدها بالخزانة الحديدية
خلفها وأصبحت محاصرة من الذي وقف أمامها مباشرة ونظر
لعينيها وتسللت الابتسامة الساخرة لتلك الأحداق البنية تباعا
وقد همس
" ولا بطلبك من رئيسك مغادرة المطار فور وصولك ؟ "
لم تستطع إخفاء الصدمة في عيناها المحدقتان به فلم تكن تتوقع
أن يعلم ! لكن كيف ومن أخبره ! أيكون سأل عنها ؟ زمت
شفتيها بقوة قبل أن تشد قبضتيها قائلة بضيق
" ذلك لأن ... لأنه لدي ما أفعله فقريبي وصديقتي اليوم يكو....
أو لما اخبرك بما لا يخصك "
وأغمضت عينيها وسحبت نفسا عميقا حين وضع يده على
حديد رف الخزانة بجانب رأسها ومال ناحيتها قائلا بجدية
" كنانة لما هذا العداء أنا لا أفهم ؟ "
فقالت دون أن تفتح عينيها ولا أن تنظر له ولا يعنيها ما
سيفهم ويحلل من ذاك
" لي توجه هذا السؤال ! "
وازداد شدها على جفنيها تشعر بأنفاسها توقفت تماما حين
شعرت بدفء أنفاسه على بشرتها وهو يهمس بحدة
" لك بالطبع لأنك السبب فيه "
وما أن فتحت عينيها ونظرت بحنق واستهجان لعينيه القريبتان
منها سبقها من قبل أن تفكر في الاحتجاج مشيرا لوجهها
بسبابته
" أجل أنت فمن التي غضبت وفعلت كل ما فعلته حين لم أحضر
الحفل لسبب لي العذر فيه "
بلغت ريقها وإن بصعوبة وقالت بسخرية
" آه معك حق فجرعات الكحول الزائدة عذر رائع "
قالت ذلك رغم تحذير رواح لها والشخص الوحيد الذي أخبرته
بكل ما حدث لأنه أساسا كان يعلم منذ تخلفه عن الحفل في منزلهم
وهو من نصحها بل وحذرها من اتخاذ ذلك كورقة ضده كي لا
تقع فريسة ظنونها الخاطئة به مجددا وتجد نفسها المذنبة وهو
البريء فيتحكم في خيوط اللعبة كما يريد مجدداً .. خاصة أنه
استعان بمحام يعرفه هناك وقال بأنه صديق لشقيقه المدعو
أبان كما له ولوقاص وسأله عنه فمدح فيه مجلدات طويلة
وأنكر أن يكون من ذاك النوع أبداً ، لكن استفزازه لها وثقته
الكبيرة في نفسه جعلتها تتهور وتقول كل ذلك بل وهي على
استعداد لقول المزيد إن استمر يشعرها بالنقص أمامه هكذا .
وما توقعته حدث فعلا حين قال وقد أبعد يده واستقام في وقوفه
بل وكتف ذراعيه لصدره العريض
" جيد .. هل ستبلغين السلطات عني هذه المرة ؟ "
وهذا ما قاله رواح حدث ويبدوا بالفعل لديه مبرر قوي
يبرئه لكنها لن تستسلم ايضاً ، قالت ببرود
" لا بالطبع فخالك سيقوم بواجبه معك مجددا "
قالتها تذكره بإغلاقه سابقا لملف القضية المتعلقة بعطل الطائرة
كي لا يدان باتخاذه كمساعد طيار وهو لم يكمل ساعاته التدريبية
بعد ..فإن كان هو يعرف جيدا من أين يحاربها فهي مثله وأبرع
منه ، وظنت بأن تلك الحرب لن تنتهي معه بسهولة لكنه خان
توقعاتها حين تنهد بضيق وفك ذراعيه داسا ليديه في جيبي
بنطلونه قائلا ببرود ومحدقا في عينيها
" كنانة لازلت أكرر على هذا العداء الا منطقي أن ينتهي "
حركت حدقتيها بعيدا عنه وكأنهما الشيء الوحيد الذي يمكنها
التحكم به ! لو يتوقف فقط عن إخراج حروف اسمها من شفتيه
وعن العبث بمشاعرها بحرفية وإجحاف هكذا .. ألا يعلم بأنه
قادر وبمهارة على بعثرتها وبكل سهولة ؟
سحقا له بل ولها معه فنظرته الماكرة ما أن عادت بنظرها له
كانت أكبر دليل على أنه قرأ أفكارها الغبية تلك .. لكنه لم يترك
لها أيضا أي مجال لإنقاذ نفسها ولا الموقف وهو يقول بابتسامة
جانبية وقد نزل بنظره للأسفل
" حسنا أنا لست هنا من أجل كل ذلك "
وتابع يخرج شيئا من جيب سترته
" بل من أجل هذا "
نظرت باستغراب للعلبة السوداء المخملية التي أمسكها بكلتا
يديه وفتحها أمامها موجها إياها جهتها كاشفا عن خاتم الزواج
الماسي الرائع الجمال فيها فالتصقت بالخزانة خلفها أكثر تدس
يديها خلف ظهرها هامسة بجمود
" لن ألبسه "
ورفعت نظرها سريعا لعينيه وسبقته هي هذه المرة قبل أن يعلق
قائلة بضيق
" ثم هل هذا المكان المناسب فعلاً لمثل هذه الأمور ؟ "
قالت ما قالته وتعلم جيدا بأنه لا جواب لديه ولن يستطيع
فعلها في منزلهم وحيدا هكذا من دون عائلته لذلك يفعل
كل هذا ويتركها هي لمواجهة جميع تلك الأسئلة التي
ستهاجم بها ومن قِبل الجميع وهو يلبسها خاتم الخطبة
في المطار ووحدهما وكأنها لقيطة رموها من ملجأ
للأيتام لا أحد ولا عائلة لها .
توقعت منه كل شيء حينها حتى أن يجبرها على ارتدائه
بحسب ما ستأمره به شخصيته المتملكة المسيطرة إلا
ما حدث لحظتها وهو يعيده لجيب سترته قائلا بلامبالاة
" لا بأس لن اجبرك على ما لا تريدين ولن يقع اللوم عليا الآن "
شعرت بغضبها يستعر مجدداً بل وبشدة أكبر هذه المرة فها
هو ومرة أخرى يثبت لها بأن والدته من تقرر ما لا يريد وبأنها
ليست سوى تحفة اعجبت بها في مكان ما وما عليه سوى
شرائها لها لتصمت عنه .. شدت قبضتيها بقوة خلفها تنظر
لعينيه وقالت ببرود عاكس كل ما يحدث في داخلها
" ما كان عليك أن تجبر نفسك على هذا أيضا "
ولاحظت بوضوح اشتداد فكيه العريضان ... هل شعر بالإهانة ؟
وماذا عنها هي التي لم يتوقف عن تجريحها مراراً وكأنه لا
مشاعر لها ؟ أيحق ذلك له فقط ؟ فليحترق إذا .. وذلك ما حدث
فعلا وقد بدا ذاك جلياً حين خرجت الأحرف من بين أسنانه
المشدودة
" أنا لا أحد يتحكم بقراراتي "
قالت من فورها ومتجاهلة غضبه المتوقع
" لما لم تكن إذا من قرر كل هذا ؟ لماذا تعقد الأمور وتتهمني
بذلك رغم أنه يمكنك إنهاء كل شيء بكلمة واحدة منك
كما تقول ؟ "
كانت تعلم بأنها لن تستطيع محاصرته بكل هذا وبأن ما يفعله
دائماً هو استفزازها أو ما يقودهما لذلك وإن كان فيه خسارته
لجولة جديدة معها وكأنه يستمتع بهذا ..! وذاك ما حدث
حينها بالفعل حين تبدلت ملامحه للامبالاة فجأة وارتسمت
على شفتيه ابتسامة ساخرة متمتماً
" عجبا أتفضلين عصيان أحد والديك على فعل ما لا تريدين ! "
فكانت هي من شدت على أسنانها بقوة هذه المرة بل وكادت
تحطمها غيضاً قبل أن تتنفس بعمق قائلة بجمود
" ثمة فرق كبير بين العصيان وحرية اتخاذ القرارات "
" لما لم تجبري والديك على ما لا تريدينه إذا ؟ "
كان تعليقه سريعا بل ومدمرا وأصابها به في مقتل .. من
يعطيها المجال لتحطيم هذا الوجه الوسيم لعلها تحطم غروره
وثقته في نفسه معه ! لكنها لن تستسلم له لن يحلم بها ..
قالت ببرود
" لأنك لعبتها بذكاء بالطبع لما كان لهذه الخطبة ألا منطقية
أن تتم "
رفع رأسه عاليا وتنفس نفسا طويلا قبل أن ينظر لها
مجددا ورفع يده لقبعته ونزعها وقال بهدوء وكأنه
يتعمد إشعالها
" لازلت تفسدين الامر بغباء كوينو ولن تنجحي أبدا "
قالت بضيق
" لا أفهم لما تكره أن يخلصك أحدهم مما لا تريد ؟
لا أعتقد أن برك بوالدتك يصل لهذا الحد ؟ أو أنك
ممن يجبره الغير على أي أمر يرفضه "
تمتم ببرود وكأنها لا تشتعل أمامه
" سبق وتحدثنا عن هذا "
أغمضت عينيها لبرهة متنهدة بعمق تشعر بتلك الجمرة
تشتعل في قلبها ولن تلوم أحداً على هذا سوى نفسها
بالطبع .. ركزت نظرها على عينيه وهي تقول بجدية
" لن أكون الوسيلة لإرضائك لها وتأكد من أنك وحدك
من سيندم على هذا "
قالتها بالرغم من يقينها من أنها الخاسر الوحيد
في الأمر ومن سيخرج بجراح نازفة لن تؤثر فيه
ولا في والدته .. بل وأضافت وبحزم
" فلن أتركك تتزوج من أخرى وأنا زوجتك .. لا تفكر
في ذلك مطلقا "
وكادت تغرق في مكانها بل في المياه التي كانت تشعر
بها تخرج من مسامات جسدها بأكمله حين انحنى
نحوها وابتسم هامسا وناظرا لعينيها
" ستكون أمامك فرصة طويلة لفعلها إذا "
وما أن أنهى عبارته تلك ابتعد عنها ولبس قبعته
مجددا لازال ينظر لعينيها مبتسما وغادر من فوره
وتركها خلفه تشتعل غيضاً .. فلما لم تؤثر به كلماتها ؟
كانت تستفزه وبوضوح ليفصح لها أكثر عن المرأة
التي يريدها وترفضها والدته لكنه لم يفعل بل ولم
يتأثر أبدا برفض وجودها في حياته ..! لا بل وسمح
لها بأن تجرب فرصة إزاحتها عن طريقها !!.
تأففت مبتعدة عن الخزانة التي بقيت ملتصقة بها
كالحمقاء رغم مغادرته وبدأت بترتيب شعرها
وملابسها وكأنها كانت في معركة جسدية معه
لا حرب كلمات خرجت منها خاسرة وكالعادة ..
فهذا ما يفعله بها في كل مرة .. يظهر ويختفي
تاركا إياها مبعثرة ليس من الداخل فقط بل ومن الخارج .
وما هي إلا لحظات ودخل من وقفت هنا تنتظره كل ذاك
الوقت والذي قال مبتسما
" آه كوينو اعذريني يمكنك المغادرة الآن "
فتحركت من هناك تنظر للأرض تحتها واجتازته خارجة
بخطوات غاضبة تمسح عيناها التي أخفت عنه دموع
القهر السابحة فيهما متجنبة النظر له ، وما أن
أصبحت في صالة المسافرين وقفت مكانها ما أن
وقع نظرها على الواقف مع مجموعة من طاقم رحلته
والذي كان ينظر لها بدوره وقد رفع يده وحياها بسبابته
والوسطى عند طرف قبعته مبتسما فزمت شفتيها تنظر له
بحنق قبل أن تشيح بوجهها عنه وتحركت من مكانها
مجددا ولم تنظر ناحيته أبداً وجهتها باب المطار الرئيسي
حتى كانت في مواقف السيارات وركبت سيارة أجرة
حامدة الله في قرارة نفسها أن رحلة العودة لتلك الطائرة
وطاقمها تكون اليوم ولن تضطر للاحتكاك به ولا رؤيته مجددا .
غادرت المطار ووجهتها لم تكن منزلهم بل منزل آخر
عليها زيارته أولاً بما أنه ما يزال أمامها بعض الوقت
حتى موعد حفل الليلة ، وما أن وصلت العنوان المقصود
وضغطت زر الجرس حتى فُتح لها الباب سريعا ووقف
أمامها الذي ابتسم لها قائلا
" مرحبا كنانة ... جئتِ في الوقت المناسب تماماً "
ابتسمت بمودة واحترام للواقف أمامها ومن تعده في مقام
والدها رغم أن صلة القرابة بينهم بعيدة ومعقدة
فهم عائلة أخرى ما يربطهم هو المدعو تيم كنعان
الذي يكون ابن عمها بينما يكون الواقف أمامها الآن
عم والدته ، وها هو ما قالته ماريه حدث ويحدث فعلا
والدليل كلماته تلك التي قالها فما بها هي لم تفكر مثلها !
بل وما لا تفهمه هو سر رفضها الدائم له ! على الرغم
من جميع مميزاته وثراء عائلته بل ووسامته فقد تغير
وبشكل جذري منذ عاد من سفره للدراسة كل تلك
الأعوام حتى أنها لم تتعرف عليه في أول لقاء لها به
حين كانتا تتسوقان معا !! قالت مبتسمة
" جئت لزيارة ساندرين فهل تسير الأمور بشكل سيء ؟ "
قال يفتح لها الباب أكثر لتدخل
" يبدوا لي ذلك فهي ووالدتها في شجار مستمر منذ الصباح "
دخلت مبتسمة واستأذنته قبل أن تسير يسارا حيث الممر الذي
سيأخذها لغرفة تلك الغاضبة والتي وصلتها أصوات ما تحدث
عنه ما أن اقتربت من هناك ووالدتها تقول بضيق
" سيصل سائقهم خلال ساعتين وستغادرين معه ..
انتهى وقت الحديث في كل ذلك ساندي "
وما أن وصلت الباب حتي تقابلت هي والخارجة منه
والتي قالت بضيق ما أن رأتها
" ادخلي لها وأفهميها جيدا مغبة التصرف بجنون الليلة
يا كنانة "
وغادرت مجتازة لها ونظراتها تتبعها حتى اختفت
وحركت كتفيها متنهدة قبل أن تدخل حيث الجالسة
على طرف سريرها تنظر للأسفل مكتفة ذراعيها
لصدرها تضرب قدمها بالأرض بغضب وكأنه
لا منفس لها غيره ! وما أن رفعت نظرها لها
أجفلت تنظر لعينيها المكحلتان باحمرار واضح
ليست تعلم من الغضب أم البكاء الذي لا تعرفه فيهما وقالت
" ساندي رجاءً لا تنظري لي وكأني رواح ولا حتى أني
أقرب له "
فأشاحت بوجهها عنها في صمت وكم حمدت الله على ذلك
فهي إن تحدثت تعلم جيداً ما ستقوله وستجعل منها متنفسا
لغضبها بكل تأكيد ، اقتربت منها وجلست على الكرسي الخشبي
الصغير المغطى بالقماش أمامها وقالت بهدوء تنظر لعينيها
" أحيانا علينا أن نرضخ لرغبات الغير ساندي "
وتابعت وقد أسدلت جفنيها تخفي الألم في مقلتيها السوداء
" نكون مجبرين على تحمل كل شيء وحتى تأذي مشاعرنا
من أجل الأشخاص الذين نحبهم "
ولم تتوقع منها بالطبع أي تعليق كسابقتها حتى وصلها
صوتها الحانق
" لكني لست على استعداد لبناء تعاستي من أجل أي أحد
ولا والداي ... لا يمكنني أن أكون مثلك يا كنانة "
فرفعت نظراتها المصدومة بها فلم تتوقع أن تحلل الأمر بشكل
صحيح هكذا من الأمور القليلة التي تعرفها ..! ومعها حق فهي
وفي كل الأحوال تدمر كل شيء وترضى بتبعات ذلك فقط كي
لا تجرح والديها أو تحرجهما فهل ستندم نهاية الأمر حقا
وتلقي باللوم عليهما ؟
شردت نظراتها بحزن وقالت وكأنها تحدث نفسها وليست
تكشف دواخلها أمام الغير
" لكن الفرق شاسع حين تكون مشاعرك من الداخل هي التي
تحاربك وترفض رفضك لذاك الشخص ... ثمة فرق كبير ساندي
بين ما يحدث معك ومعي "
" أخشى أن الواقع العكس تماماً "
رفعت نظراتها سريعا ونظرت باستغراب لتلك الأحداق
الزرقاء الغامقة والسابحة في الدموع وهمست بتأني
" ما قصدك بهذا ساندي ! "
فوقفت الجالسة أمامها وقالت
" لا شيء ... ما سر اتصال
والدتك وطلبها مني المجيء لمنزلكم ؟ "
وقفت أيضا وقالت باستغراب
" والدتي طلبت منك ذلك ؟ "
حركت كتفيها قائلة ببرود
" أجل وأنا مثلك تماماً استغربت الأمر وخشيت
من الذهاب لها وأنت لستِ في المنزل "
تبدلت ملامحها للضيق قائلة
" وما الذي ستفعله لك والدتي مثلا ؟ هي ليست مجنونة
لتخافي منها "
انحنت جهة الطاولة بجانب السرير وقالت تخرج مشبك
شعر من الدرج فيه والذي فتحته بعنف
" هي ليست كذلك بالطبع لكني من ستصاب بالجنون
حينها وأنت تعلمين لما "
ووقفت على طولها وقالت تجمع شعرها به وبحركة
غاضبة أيضاً
" لنذهب لها إذا بما أنك أصبحت هنا "
نظرت لها بصدمة وقالت
" لن تسمح لك والدتك ساندي .. بل وستغضب منك
ومني أيضاً "
أمسكت بيدها وسحبتها معها نحو الباب قائلة
" لا تقلقي سنغادر من باب المنزل الخلفي "
قالت تجاري خطواتها المسرعة عبر ممر غرفتها لتدخل منه
لآخر متصل به
" لكن ماذا بشأن السائق الذي سيكون هنا من أجلك ؟ "
قالت بضيق تفتح الباب الخشبي الذي وصلتاه نهاية الممر
" لا علاقة لي به فليغادرا هما معه "
*
*
*