*
*
*
أدارت الصينية الحديدية الواسعة بيد تحاول باليد الأخرى جمع
الدقيق بالماء لتتكون العجينة التي باتت تشك بأن تحصل عليها
والجالس هناك ينظر لها هكذا ولا تفهم ما به اليوم وما أرجعه
مبكرا على غير العادة يجلس هناك ومنذ وقت ! بل كان شبه
مضطجع يثني الوسادة تحت مرفقه ينصب إحدى ركبتيه بينما
يثني ساقه الآخر تحتها ويجلس معها هنا في المطبخ منذ رجوعه
ولا تفارقها نظراته التي كانت تلاحظها وإن لم تنظر ناحيته حتى
أربكها وهذا حالها منذ أصبح هنا وها هي تحاول جمع العجين
مع بعضه بتكرار والذي وكأنها لأول مرة تعجنه وليست تفعلها
منذ عرفت شقيقها جسار وزوجته حتى أصبحت تلمه وتسبكه
في لحظات !!.
" مايرين "
أغمصت عينيها متنهدة بعمق فها هو على الأقل قرر أن يخرج
من صمته وقد تفهم على الأقل سبب هذه الزيارة المبكرة
والنظرات الغريبة ، نظرت ناحيته وأجبرت شفتيها على رسم
ابتسامة صغيرة فلن تستطيع التحدث على ما يبدوا ولا بكلمة
نعم ، وكم حمدت الله أن أبعد نظره عنها ينظر لعود القش في
يده وهو يقول
" أنت لم تطلبي شيئا لنفسك أبدا منذ تزوجنا ... ألا تحتاجين
لأشياء قد لا نهتم لها نحن الرجال ؟ "
نظرت له باستغراب وكانت لتفسر كلامه ذاك ملايين التفاسير لولا
تابع ولازال ينظر لتلك القشة الذهبية في يده
" المتزوجون يشتكون دائما من طلبات زوجاتهم التي لا تنتهي
ولا أراك تطلبين شيئاً أبداً "
فزحفت تلك الابتسامة الصادقة لشفتيها قبل أن تتحول لضحكة
صغيرة وهي تقول
" وهل يزعجك أن لا أكون متطلبة مزعجة مثلهن ؟! "
رفع نطره لها وقال
" بل أخشى أنك تفعلين ذلك من أجلي فقط وتحرمين نفسك
من أبسط حقوقك علي "
يا إلهي من يسمح لها فقط بأن تقبّل هذا الرجل بين عينيه شكرا
وامتنانا فقط على كلماته وإن لم ينفذها ، قالت تنظر ليديها
والعجين الذي بدأ يجف على أصابع يمناها
" لا شيء ينقصني يا يمان أقسم لك بل ولدي أكثر مما
أحتاج واعتدت "
وتابعت تكتم ضحكتها لازالت تتجنب النظر له
" ويبدوا أنه عليك أن تحمد الله أن لا جيران ولا أصدقاء لنا لما
رحمتك أبدا من سأذهب لتلك وستأتي لزيارتي الأخرى ..
هذا إن اضفنا له حفلات الزفاف "
وصلها صوته فورا
" وهذا جزء مما أظلمك فيه يا مايرين ويبدوا أنه علينا فعلا
الانتقال من هنا بل ومن الجنوب بأكمله لتتمكني من العيش بين
الناس كأي امرأة مثلك لكن أمهليني حتى أجد فرصة عمل
مناسبة بعيدا عن الجنوب والأراضي الزراعية "
نظرت له سريعا وبصدمة قائلة
" ما هذا الذي تقوله يا يمان ! بل وأين ستجد فرص أفضل من
هنا ؟ أنت تعلم جيدا وأنا مثلك بأن ذلك لن يحدث ... ثم أنا لست
منزعجة من وضعي هنا ومعتادة على العيش وحيدة .. من أخبرك
بأني أحتاج لجيران أو حتى لصديقات ؟ أنا كنت أمزح فقط حين
قلت ذلك "
حدقت فيها تلك العينان الرمادية بجمود وقال بجدية
" أعلم بأنك تقولين ذلك فقط من أجلي لا أحد يحب أن يعيش
وحيدا ومنبوذا .. لا تحاولي إقناعي بذلك "
وما أن كانت ستتحدث معترضة قاطعها من فوره
" قد أكون من انتشلك من الشارع وحتى من مخالب أعمامك
أولئك لكني لست من وفر لك الحياة التي تنتظرها أي امرأة من
الرجل الذي تتزوجه "
أبعدت شفتيها لتتحدث لكنه كان الأسبق ومجددا وقد شردت عيناه
للفراغ بوجوم كئيب
" أنا أعلم بنفسي منك يا مايرين لا يمكن لامرأة أن تعتمد علي
لأني سأخذلها نهاية الأمر بسبب عجزي واستسلامي "
حركت رأسها نفيا وكأنه يراها وعيناها المحدقتان به يغمرها
الأسى والحزن وقالت معترضة
" لا أعلم على أي أساس تصف نفسك بظلم وإجحاف هكذا ؟
متأكدة من أن والدتك توفيت وهي فخورة بك وشقيقتك من بعدها
ومن ستكو.... "
قاطعها مجددا وهو يستوي جالسا ولازال يتجنب النظر لها وكأنه
يخفي تلك النظرات الغارقة في الألم
" أخبرتك بأني عكس ما تظنين ولم أقدم شيئا لهما وخذلت
شقيقتي بي .. هذا هو أنا مهما حاولت أن أكون العكس "
ووقف من فوره تراقبه نظراتها المستغربة من حديثه وقال
متوجها نحوها " لما لا تتركينا من الحديث عن كل هذا فثمة
ما عليك رؤيته "
نظرت له باستغراب وهو يجلس بجوارها متربعا ومد يده ليدها
اليسرى والنظيفة وأمسكها وسحبها نحوه بينما كانت يده الأخرى
تخرج شيئا ما من جيب بنطلونه دسه فورا في إصبعها قائلا
" هذا من أبسط حقوقك التي لم أوفرها لك في وقتها المناسب "
رفعت يدها ونظرت لخاتم الزواج الذهبي البسيط الذي دمج
اللونين الفضي والذهبي مزين بفصوص صغيرة جدا قبل أن
ترفعه مجددا بالذي كان ينظر لها مبتسما وما أن عادت بنظرها
له يزين إصبعها الأبيض الطويل امتلأت عيناها بالدموع تنظر لما
لم تمتلكه في حياتها فكيف أن يكون خاتم زواج وهي التي لم
تتوقعه يوماً !! حضنت يدها تلك بيدها الأخرى تضمهما لصدرها
تنظر له بعينين دامعة وبالكاد خرج صوتها وهي تهمس
" شكرا لك يا يمان "
وسرعان ما ارتمت في حضنه والتفت ذراعها حول خصره
بقوة قائلة مجددا
" شكرا لك يا يمان ... يا من تتمنى كل امرأة في الوجود أن
تحظى بمثيل لك "
ودست وجهها في صدره ما أن شعرت بأصابعه وكفه تلامس
شعرها وبتلك القبلة الطويلة العميقة لرأسها قبل أن يتكئ بذقنه
عليه هامسا
" قد يتغير رأيك هذا بي يوما "
حركت رأسها بالنفي لازالت تدفن وجهها في صدره وهمست تشد
ذراعيها حول خصره بقوة أكبر
" لن يتغير أبدا ومهما حدث أقسم لك "
فلم يكن تعليقه التالي بضع كلمات محبطة كسابقتها ولا أن
أبعدها عن حضنه وقبل جبينها وغادر في صمت ككل مرة بل
أن تخللت تلك الأصابع الرجولية الطويلة شعرها الأشقر تبعده
عن طرف وجهها .. وارتجف جسدها بوضوح وازداد تعلقها به
وكأنها ستسقط في الفراغ حين شعرت بنعومة شفتيه على
صدغها في قبلات رقيقة ناعمة متتالية جعلتها تهوي للقاع وقد
نزلت تباعا لطرف وجنتها وانحنى أكثر نحو عنقها ونحرها
يقبلهما بشغف يزيد من احتضانها وبقوة جعلتها تنهار عاجزة
أمامه وعلمت حينها بأن حقيقتها بل وكذبتها تلك شارفت على
نهايتها وبأنها من ستخذله بها لا هو ومن ستخسره وقريبا جدا .
انتفضت مبتعدة عنه بينما وقف هو على طوله حين علا صوت
الباب الحديدي في طرقات مرتفعة وكأنه يكاد يخلع من مكانه
فرفعت نظراتها الوجلة به تحاول ترتيب خصلات شعرها الغجري
الطويل والتي تبعثرت مع وقوفه مخرجاً أصابعه منه وكان ينظر
جهة باب المطبخ حيث يصلهم الصوت الذي لم يتوقف للحظة
مزلزلا الجدران ، وما أن تحرك ناحيته وقفت ولحقت به وأمسكت
بيده قائلة
" إن كان شعيب أو أحد أشقائه فسأذهب معك إلى حيث
سيأخذونك "
فالتفت لها وفك يده منها وقال بضيق ناظرا لعينيها
" مايرين توقفي عن الجنون فقد يكون أحد العمال .. ابقي
هنا ولا تخرجي أو غضبت منك "
وما أن أنهى عبارته تلك غادر المكان تاركا إياها خلفه تودعه
عيناها الدامعة لا تعلم متى سترحمها همومها ولا تخشى في كل
مرة يخرج فيها من هنا وإن لعمله بأنها لن تراه مجدداً .
*
*
*
نظرت لشاشة هاتفها ووضعته على الوضع الصامت ودسته
في جيب بجامتها مجددا ولم تجب ولن تفعلها أبدا فعليه أن يتعلم
الدرس ذاك الأحمق ولا يكررها مجددا فهي لم تتصل به حينها
إلا لأنها تحتاجه بالفعل .. لا وكررت الاتصال مرارا مما يؤكد
له ضرورة أن يجيب عليها وكل ما فعله حينها أن أرسل لها
بأنه مشغول وبأن تتصل بعمها صقر أو برعد إن كان الأمر
ضروريا .. أهو زوجها أم رعد ؟ أم حتى عم والدها ؟ ولأنها
تعلم بأنه لن يستطيع المجيء هنا لمنزل والدتها استمرت
في عنادها .
عادت بنظرها للعبة في يد الكاسر متجاهلة مجددا اهتزازه في
جيبها .. ولم يكن وضعها مختلفا عن الجالسة على مبعدة منهم
يفصلها عنهم حاجز زجاجي مزخرف فيبدوا بأنها وابنتها
متفقتان على معاقبة الرجال وهي تقلب هاتفها أيضا دون أن
تجيب على الذي كان قد حاول للمرة الثالثة حينها وعادت
بنظرها مجددا للتي كانت تشرح لها والقلم في يدها عن الموجود
في الورقة تحتها لكنه يبدوا اتخذ أسلوبا آخر هذه المرة وبأنه
ليس بأقل عنادا عن زوج ابنته وهو يرسل لها رسالة بدلا من
أن يتصل فرفعت هاتفها مجددا وفتحتها ونظرت لأحرفها
المختصرة
( نتناول العشاء معا الليلة ؟ )
فأرسلت ومن فورها
( لا )
ولم يتأخر رده أبدا وكما توقعت
(سآخذك من منزل رعد وارجعك له ولن نخل بالاتفاق
يا مجحفة )
فأرسلت وبإصرار
( لا ... وكن نزيها يا مطر )
تعلم بأنه يفهم جيدا ما تعني كما تعلم جيدا بأنه يفعل ما يريد
دائما وإن رفضت وعاندت .
" يبدوا أنك مشغولة
سيدتي ؟ "
رفعت نظرها بالجالسة أمامها والوجه الدائري ببشرته البيضاء
النقية يلتف حوله حجاب قرمزي يشبه لون شفتيها .. نظرت لها
مبتسمة بإحراج أقرب للإعتذار وقالت
" لم أعد كذلك الآن ويمكننا متابعة ما كنا نتحدث عنه "
فحركت تلك كتفيها قائلة
" الأمر لن ينجح هكذا سيدتي ما لم نتفق وحفل الافتتاح
بات قريبا جدا ولا وقت أمامنا "
تنهدت بأسى و فركت جبينها بأصابعها تنظر للأوراق المتناثرة
بينهما ووصلها صوتها بعد لحظات قصيرة
" الجميع متفق على ذلك سيدتي ومهمتي كانت محاولة إقناعك
ويبدوا لي لم ينجح الأمر "
رفعت رأسها ونظرها لها وقالت متنهدة باستسلام
" من الصعب أن تقف ضد الجميع ... حسنا أنا أستسلم "
فابتسمت تلك من فورها وقالت
" سينجح الأمر سيدتي لا تقلقي وأعدك أن نراعي جميع البنود
التي كانت سبب رفضك "
أومأت برأسها بهزة خفيفة متمتمة
" أتمنى ذلك بالفعل وأن لا نواجه أي مشكلات مستقبلا "
وقفت تلك وبدأت بجمع الأوراق بينهما قائلة
" لن يحدث ذلك سيدتي بما أننا لم نخالف القانون والدولة على
اطلاع بكل ما نفعل .. كوني مطمئنة "
واستوت واقفة تحضن الأوراق التي جلبتها معها تنظر للتي وقفت
أيضا وقالت مبتسمة
" شكرا لك سيدتي وآسفة حقا لإضاعة الكثير من وقتك "
قالت بابتسامة تشبه ابتسامتها
" بل أنا من عليها شكرك والاعتذار يكفي أن نفذتم طلبي
بحضور من ينوب عنهم ويأتي هنا لمنزلي "
قالت المقابلة لها باحترام
" نحن في الخدمة دائما سيدتي ولم يوجه أي من الشركاء
أي اعتراض على هذا "
وصافحتها مغادرة بعدما شكرتها مجددا بأدب واحترام بينما
رافقتها هي حتى غادرت من باب المنزل خطواتها الأنيقة تشبه
زيها الرسمي المميز ، وما أن أغلقت الباب خلفها تحركت نحو
الداخل ووصلت بقرب اللذان كانا وكالعادة يتشاجران على تلك
اللعبة الإلكترونية السخيفة وبالرغم من الإصابة في يد أحدهما
فحركت رأسها بيأس منهما قبل أن تقول ببرود
" أنتما ألا تكبران أبدا ؟ "
وما أن نظرت تيما ناحيتها بعبوس وجد الجالس ملتصقا بها
الفرصة لسرقتها من بين يدها وقفز واقفا بها على نظراتها
الحانقة له فوقها وكان التعليق من رعد الذي قال ضاحكا
" لا يبدوا ذلك حتى يكون ثمة من أصغر منهما "
فنظرت ناحيته فورا وكما توقعت ضحك من فوره وغمز لها
فشعرت بأنها أصبحت والأرضية الرخامية تحتها سواء من شدة
الإحراج ونقلت نظرها فورا للجالسة على مسافة قريبة منه
والتي حركت كتفيها من فورها مبتسمة فزمت شفتيها تنظر لها
بضيق تلك الثرثارة ، بينما تحدث من لم يكفه إحراجا ذاك على
ما يبدو ووصلها صوته الباسم قائلا
" آستريا عليك أن لا تتدخلي يوما وأبدا بين زوجان متخاصمان
لأنك ستشعرين دوما بأنك مع الطرف الخاسر ونهاية الأمر
تكتشفي بأنك وحدك من كان كذلك "
فشدت أصابعها في قبضة واحدة قبل أن تحركهم بعشوائية وما
أن نظرت له كان وكما توقعت ينظر لها مبتسما بتسلية وعليها
أن تتوقع كل ذلك بالطبع ولازال ينتظرها من الإحراج المزيد فما
معنى وضعها هذا سوى أنهما ..... يا إلهي جل ما تخشاه أن
يفكروا كما فكرت عمتهم سابقا بأنه كان يدخل منازلهم لغرفتها
متسللا .
أشاحت بوجهها متجاهلة نظراته تلك دون أن تعلق على ما قال
وتحركت من هناك وغادرت ووجهتها السلم الذي صعدته من
فورها فتشارك رعد وزوجته ضحكة صغيرة بينما تبادل الكاسر
والجالسة أمامه نظرات الاستغراب قبل أن تنظر تيما نحوهما
قائلة
" ماذا هناك !؟ "
فضحك رعد وقال
" انشغلا بلعبتكما تلك ولا تتدخلا فيما لا يخص الأطفال "
فنظرت له بضيق تمسك خصرها بيديها ولم تكن نظرة الكاسر
بأقل منها فضحك مجددا وقال ناظرا للجالسة قربه
" لم أخبرك حبيبتي فتيما تزوجت "
نظرت له الجالسة على الكرسي المحاذي لأريكته باستغراب وقالت
" تزوجت ؟! "
قبل أن تنقل نظرها لها متابعة
" حقا تزوجت تيما ...؟ لكن ممن ومتى ؟ "
فحركت تلك كتفيها مبتسمة وقالت
" من قريب لوالدي .. وكيف هذه لا تسأليني عنها فمن هذا
الذي يفهم كيف يزوج مطر شاهين النساء "
ضحكت تلك من فورها وقالت
" معك حق والدليل حدث معي ... مبارك لك على أي حال "
قالت الجالسة بعيدا بضحكة صغيرة
" أنت أول شخص يعلم عن الأمر ولا ينتقد سني ويستغرب
الأمر بسببه "
ضحكت تلك أيضا وقالت
" وما المشكلة في ذلك ؟ "
وتابعت مبتسمة ترمق الجالس قربها بطرف عينيها
" فأنا حين كنت في مثل سنك هذا تحديدا كنت على استعداد لأن
أتزوج من أحدهم إن طلب مني ذلك لكنه كان يحتاج بالفعل لمطر
شاهين ليفعلها رغما عنه "
فقفز حينها المعني بالأمر واقفا وأمسكها من يدها وسحبها
معه قائلا
" لما لا تتركينا من هذان المملان قليلا "
وغادر بها من هناك تتبعهما تلك النظرات الباسمة قبل أن تنظر
صاحبتها للواقف فوقها منسجم تماما مع اللعبة الإلكترونية في
يديه والذي ما أن شعر بنظراتها الموجهة له ضحك وتحرك من
هناك راكضا فالتفتت تنظر له بحنق من خلف ظهر الكرسي وهو
يصعد السلالم ثم وقفت أيضا ووجهتها ذات وجهته وصعدت
السلالم يديها في جيبي بجامتها وما أن وصلت للأعلى وعبرت
الممر وجدت نفسها ودون شعور منها أمام باب غرفة والدتها
ويدها ترتفع له وأدارت المقبض ببطء دون أن تطرقه خشية أن
تكون نائمة وتوقظها ، وما أن فتحت الباب قليلا ظهرت أمامها
التي كانت تضطجع على السرير شبه جالسة تضع مجموعة
وسائد خلفها متكئة برأسها عاليا وتمسك عينيها بأصابعها
وتريح يدها الأخرى على وسطها حيث معدتها ، وما أن أبعدت
يدها ونظرت ناحيتها قالت بهدوء مبتسمة
" إن كان وجودي يزعجك أغادر أمي "
فابتسمت لها تلك الملامح المتعبة قبل أن تمتد تلك اليد
ناحيتها وهمست
" تعالي يا تيما "
فأغلقت الباب من فورها مبتسمة بسعادة وتوجهت نحوها مسرعة
ونامت معها على سحابة الوسائد الناعمة تلك وحضنت خصرها
بقوة تتكئ برأسها على كتفها نظرها على النافذة والسماء الزرقاء
الصافية من خلف زجاجها بينما مسحت تلك الأنامل على شعرها
منزلة حجابها عنه فأغمضت عينيها مبتسمة وتركت نفسها لتلك
المشاعر ... فقط للشعور بذاك الحضن الدافئ وضربات ذاك
القلب المنتظمة وللشعور بملمس أناملها وحركتها البطيئة على
شعرها فلطالما عاشت وحلمت وتمنت هذا وانتظرته وهي هناك
بعيدة عنها لا تعرف ولا كيف تكون ملامحها .. لا تسمع صوتها
لا أخبارها ولا أي شيء سوى ذاك الحب والشوق المدفونان لها
داخلها يعذبانها باستمرار .
عبست ملامحها الجميلة وتنهدت بضيق حين قطع صوت هاتفها
كل تلك المشاعر واللحظات الجميلة وذاك الصمت الذي اختارتاه
كليهما فجلست تدس يدها في جيب بجامتها وأخرجته ونظرت
لاسم المتصل قبل أن تفتح الخط وتضعه على أذنها قائلة
" أجل أبي "
وعضت طرف شفتها تنظر للتي ارتفعت حدقتاها السوداء جهة
النافذة ووصلها صوت من الطرف الآخر فورا
" مرحبا تيما ... "
وقبل أن تجد مجالا لتجيب تابع ذاك الصوت الجهوري المبحوح
" كيف هي والدتك ؟ "
فارتسمت ابتسامة رقيقة على ملامحها لازالت تنظر لذاك الجمال
الساكن الصامت أمامها وقالت بصوت رقيق منخفض
" لا أعلم إن كانت بخير فعلا لكنها لازالت موجودة وهذا
هو المهم "
وعادت لغرس أسنانها البيضاء الصغيرة في طرف تلك الشفاه
الزهرية ما أن استدارت المقلتان السوداء ناحيتها وعلمت على
ما يبدوا تلك الفاتنة النصف نائمة على سريرها بأن الحديث
عنها .. وتلك كانت الصورة أمامها بينما كان الصوت مختلفا
رجوليا عميقا حازماً وقع في أذنها فورا
" ما معنى لا تعلمين يا تيما ! أهي مريضة ؟ "
فابتسمت أمام تلك العينان النصف مفتوحتان والمحدقتان فيها
ببرود تفهمه جيدا وحركت كتفيها بمعنى لا حيلة لدي بينما تابع
من في الطرف الآخر قائلا
" هل تناولت طعامها جيدا ؟ "
فتمتمت من فورها
" ليس تماما "
" تيما لما لا تقولي جملا مفيدة يمكن فهمها "
عضت طرف شفتها مجددا قبل أن تقول
" بعض السلطة وقطعة لحم صغيرة فقط "
وعضت طرف لسانها وكأنها توبخه ما أن كتفت الجالسة أمامها
ذراعيها لصدرها وأشاحت بوجهها جهة النافذة البعيدة بينما كان
التوبيخ صارما ممن في الطرف الآخر وكأن الصوت والصورة
متفقان عليها
" وأين أنتم جميعكم تتركونها تهمل طعامها هكذا ؟ "
فأنزلت كتفيها متنهدة بإحباط وقالت
" نحن نحاول جهدنا أبي وأنت تعرفها أكثر منا "
" خالك رعد هناك في المنزل "
همست من فورها
" أجل "
" حسنا وداعا الآن "
نظرت لشاشة هاتفها بعبوس ما أن أغلق الخط شاركه سريعا
ذاك الصوت الأنثوي البارد قربها
" أترياني طفلة أنت ووالدك ؟ "
نظرت لعينيها المحدقتان فيها بضيق وقالت بعبوس
" أمي أمامك هو من اتصل وسألني هل أكذب عليه مثلا ؟ "
أشاحت بوجهها عنها مجددا فهمست بأسى منزلة كتفيها
" أمي لا تغضبي مني أرجوك فلا ذنب لي في هذا "
وسرعان ما زحفت تلك الابتسامة الرقيقة لملامحها الجميلة
ما أن امتدت لها تلك اليد مجددا فنامت في حضنها فورا
وشدت ذراعها على خصرها بقوة تغمض عينيها بقوة هامسة
" أحبك أمي كما لم تحب فتاة والدتها في الوجود "
وخالطت ابتسامتها سعادة غامرة وهي تشعر بتلك الشفاه تقبل
رأسها بحنان وعادت لغمر نفسها بتلك المشاعر المفعمة بالدفء
والعاطفة مجددا .. وكانت أيضا من كسر ذاك الصمت وقد رفعت
رأسها تنظر لها قائلة
" أمي هل أسألك عن أمر تخبريني عنه ولا تغضبي وإن
رفضتِ ذلك "
فنظرت لها تلك العينان قبل أن تحدقا في الفراغ مجددا
وهي تهمس
" اسألي يا تيما "
فابتسمت بسعادة قبل أن تقول مندفعة بحماس
" احكي لي ما حدث حين اقتحمت حدود الحالك في الماضي "
وتلاشت تلك الابتسامة تدريجيا كما حماسها معها ما أن طال
صمت تلك الملامح الشاردة بعيدا عنها وفقدت الأمل في أن
تجيب وكل ما بات يعنيها وقتها أنها لم تغضب منها لكن تلك
الشفاه الفاتنة خانت توقعاتها حين تحركت ببطء وخرجت
منها الكلمات متأنية تشبه شرود تلك الأحداق الواسعة
" يمكنك سؤال والدك عن هذا فأنا ما أن رماني ذاك الجواد
من على ظهره لم أفق إلا وقد أصبحت في منزله "
فحدقت فيها تلك العينان بصدمة وصاحبتها تجلس هامسة
بفضول
" لم يمسكوا بك إذا بل الجواد السبب ! "
انعقد حاجباها الرقيقان ونظرتها تتحول للجمود تدريجيا وكأنها
تعيد ذكرى ما حدث وترفضه وقد تمتمت بضيق
" بل رصاص أسلحتهم السبب "
ونظرت ناحيتها ما أن تابعت بذات ضيقها الرقيق مثلها
" وهكذا كان والدك وأصبح .... يفسد كل ما يخصني وأريده "
فخرجت منها ضحكة صغيرة وكأنها لا تهاجمه أمامها فهي وكما
أخبروها وعلمت عنها لم تتحدث قط عن تلك الفترة من حياتها
وكأنها ليست موجودة فلن تضيع هذه الفرصة لتعلم أي شيء عن
ماضيها مع ذاك الرجل وكيف جعلته يحبها ويتعلق بها ، قالت
مبتسمة بحماس
" وماذا عن زواجكما هل رآك وتحدثتما أولا ؟ "
ولم يكن الجواب مختلفا عن سابقه وهي تبعد نظرها عنها مجددا
قائلة ببرود
" عليك سؤاله هو عن هذه أيضا فمن زف لي الخبر كان عمته
وأنا هي التي لم أراه إلا بعد زواجنا "
فمدت شفتيها بعبوس قبل أن تتمتم
" ما كل هذا التعقيد ! أين التشويق في الحكاية إذا ؟ "
قالت التي عادت بنظرها لها مجددا
" ومن قال أنه ثمة تشويق في الأمر ؟ "
وتابعت من فورها وبامتعاض
" أتري حال والدك الآن هناك في منزلكم ؟ "
عبست تلك الملامح الجميلة أكثر ولم تعلق فتابعت المقابلة لها
من فورها
" وهو كذلك في الماضي لم يتغير شيء "
مدت شفتيها بعبوس وإحباط فهي لم تحصل على أي شيء
بالرغم من أنها أجابت عن أسئلتها جميعها ، لمعت فكرة
ما في رأسها وقررت تنفيذها قبل أن تتراجع فأخرجت هاتفها
من جيبها قائلة تبحث عن رقم معين قبل ان تمنعها
" علينا أن نكون عادلين إذا فقد يكون الطرف الآخر
يملك الأجوبة "
وما أن مدت يدها لهاتفها قائلة بضيق
" تيما ما هذا الذي تفعلينه ؟ "
حتى أبعدت الهاتف جهة أذنها الأخرى وأمسكت يدها
قائلة بابتسامة
" لن أخبره بأني معك أمي أقسم لك .. دعينا نستمع لرأيه
في الأمر فقط "
وما أن سمعت صوت الرنين في الطرف الآخر أبعدت الهاتف
عن أذنها وشغلت مكبر الصوت فهكذا سيكون الأمر أفضل
ولتستمعا معا .. وتجاهلت بالطبع كل تلك النظرات المتضايقة
الموجهة لها تنطر لهاتفها بحماس والذي كما توقعت خرج
منه ذاك الصوت الرجولي المميز بتلك البحة العميقة قائلا
" ما بك يا تيما ؟ "
فرفعت نظرها مبتسمة بالتي لازالت تخصها بتلك النظرات
الحانقة وقالت
" آسفة إن أزعجتك أبي أردت فقط سؤالك عن أمر ما فهل
أنت لوحدك الآن "
قال من فوره
" أجل لوحدي ماذا هناك يا تيما ؟ "
عضت طرف شفتها مبتسمة لازالت تنظر لتلك العينان
المحدقة بها وقالت
" سألت والدتي سابقا عن مغامرات ماضيها ودخولها
لأراضيك في الماضي لكنها لم تملك أي جواب لأنك
من يملكه بالطبع "
" هي قالت ذلك ؟ "
نظرت لها بطرف عينيها متمتمة بابتسامة
" أجل "
" وماذا قالت أيضا ؟ "
ابتسمت بمشاكسة وزحفت قليلا للوراء هربا من تلك
النظرات المتوعدة قائلة
" قالت أيضا بأن وضعك كما هو الآن غائبا عن المنزل
طوال الوقت ووجودك يشبه غيابك "
فخرج صوته الحاد من ذاك الجهاز الأصم فورا
" لما لا تقولي لها في نصف عينيها بأنها كاذبة "
فأمسكت فمها وضحكتها بيدها تنظر للتي اتسعت عيناها
بصدمة وهذا ما كانت تتوقعه كلاهما أن يعلم من نفسه
بأنها قربها الآن وتسمعه بينما تابع ذاك الصوت الجهوري
مالئا صمت الغرفة مجددا
" واسأليها ولتقر الآن عن السبب الذي جعل حبيبة تصاب
بالحمى وتمرض يوما كاملا فبإجابتها ستعلمين "
فاستلت تلك اليد الهاتف من يدها وأخذته منها وفصلت
الخط متمتمة بضيق
" وقحة أنت ووالدك "
فقالت من فورها محتجة تضرب فخذها بقبضتها
" لا أمي هيا أخبريني أرجوك من تكون حبيبة تلك
وما سر إصابتها بالحمى ؟ "
رمت لها هاتفها في حجرها قائلة بضيق
" غادري هيا أريد أن أنام "
فرفعته مبتسمة ووقفت خارج السرير وقبلت خدها
وحضنتها بقوة قائلة
" حسنا سأتركك تنامين ... أحبك كثيرا أمي "
وغادرت من فورها وما أن وصلت الباب وفتحته
التفتت لها فكانت تنظر لها مبتسمة بحنان فابتسمت
وأرسلت لها قبلة بيدها قبل أن تغلق الباب وتختفي
خلفه تاركة تلك العينان للفراغ والوحدة مجددا والتي
سرعان ما ظهر من بددها ورنين هاتفها يرتفع تدريجيا
فرفعته وكما توقعت كان اسمه يضيء شاشته فشعرت
بجسدها تجمد ما أن تذكرت ما قال لابنته وذاك الموقف
وما حدث حينها وفصلت الخط دون أن تجيب وأرسلت
له فورا وقبل أن يفكر في المحاولة مجددا
( لن أنساها لك أبدا يا مطر )
وكما توقعت كان رده سريعا
( وافقي على الخروج للعشاء لتتوقف الحرب ضدك )
أرسلت ومن فورها ( لااااااا )
ورمت هاتفها على طاولة السرير وعدلت الوسائد
رامية ببعصها بعيدا عنها ونامت تغطي حتى رأسها باللحاف .
*
*
*
ابتسم وهو يدس هاتفه في جيبه وصعد عتبات الباب
بخطوات سريعة واسعة وثابتة حتى كان في الداخل
ووقف مكانه ما أن ظهر في وجهه الذي قال بحاجبين معقودين
" أين هي ابنتي ؟ "
تنفس بضيق ممسكا خصره بيديه من تحت سترته السوداء
المفتوحة وقال ببرود
" لا أصدق بأنك لم تتصل بها أو بتيما وتعلم "
قال دجى بذات ضيقه
" أنا أسألك أنت الآن يا مطر وليس هما "
تمتم حينها ببرود
" عليك إذا أن تغير صيغة سؤالك للما هي هناك فهذا
كان مقصدك بالتأكيد "
قال من فوره
" جميعها واحد فلما أخذتها هناك بدلا من أن ترجعها
إلى هنا وما الذي حدث ؟ "
كتف ذراعيه لصدره قائلا
" أخذتها هناك لأنها من طلبت ذلك .. وما حدث أنها أرادت أن
تبتعد لفترة عن هنا وأنا وافقت وأفهم أسبابها وستتغير الأمور
بعدها عمي أعدك "
اومأ برأسه موافقا وكأنه فهم الأمر وقال
" وماذا حدث بشأن إسحاق ؟ "
فتنهد الواقف أمامه بعمق قبل أن يقول
" وضعه في تحسن والأطباء قالوا بأن جسده بدأ يستجيب
للأجهزة وثمة مؤشرات جيدة عن إفاقته قريبا "
تنقلت نظراته في ملامحه قبل أن يقول بتوجس
" هل سيكون بخير يا مطر ؟ "
فك ذراعيه ومرر أصابع يده اليمنى في شعره قائلا
" لا تقلق فالحراسة حوله مشددة ويتم التحقق حتى من
الأطباء الذين يدخلون له "
علق المقابل له سريعا
" لكنه ليس هنا لتتمكن من حمايته جيدا يا مطر وأنا
أخشى أن نفقده ... بل أن تفقده شقيقته "
قال بجدية
" وهناك أيضا أذرعنا كثيرة ولن نعجز عن حمايته كن مطمئنا "
اومأ برأسه بحسنا وقال
" وماذا عن .... "
" مطر أين ابنتك ؟ "
ليقاطعه ذاك الصوت الرجولي الحانق الذي اقتحم حديثهما
فجأة فالتفت مطر للواقف خلفه ينظر له عاقدا حاجبيه قبل
أن يقول بضيق ملوحا بيده بينهما
" ما بكم معي أين ابنتي وأين ابنتك ...؟ هل سأحاسب
عليهما حيا وميتا ؟ "
قال المقابل له
" يمكنك أن تجيب عن السؤال فقط إذا "
قال وبذات ضيقه
" في منزل رعد ... فها قد أجبت "
فشد على أسنانه هامسا
" فعلتها تلك المحتالة إذا "
عقد حاجبيه قائلا
" ما بكما ؟ "
قال فاردا يديه وبضيق
" قل ما بها هي وليس بي وهي ترفض الإجابة
على اتصالاتي وتعتصم لديهم هناك لأنها تعلم بأني لن أصل لها
وكل هذا فقط لأني لم اجب على اتصالاتها بالأمس وأرسلت لها
بأن تتصل برعد أو عمي صقر لأني كنت مشغولا "
فظهرت ابتسامة واضحة على طرف شفتي الواقف أمامه
والذي قال من فوره
" فعلت بك ما تستحق .. لا أراها تحتاج لمن ينصفها
في حياتها معك مستقبلا "
نظر له بضيق وما أن نقل نظره للواقف خلفه انفجر
ضاحكا وقال
" دميتي الجميلة تلك تستحق وساماً بالفعل "
فأمسك خصره بيديه ينظر له بضيق وتحرك مطر
من هناك جهة ممر مكتبه قائلا
" عمي اتبعني علينا التحدث عما يخص خروجك من هنا "
وغادر بخطوات ثابتة حتى اختفى عن نظراتهما المستغربة
قبل أن يتبادلانها معا وتحرك دجى ليلحق به ولحقه ذاك
من فوره .
*
*
*