كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
أغلقت باب سيارتها وتحركت بخطوات أنيقة رغم سرعتها جهة
الباب الخشبي الضخم المفتوح كقرش متوحش يلتهم ضحاياه
بأناقة تشبه تفاصيله فقط أما ما يوجد داخله لا أحد يعشق المكوث
فيه بسببه ، أبعدت النظارات الشمسية عن عينيها وثبتتها فوق
حجابها واجتازت الباب نظراتها تبحث بين الأشخاص الموجودين
في المكان حركة حدقتيها السوداء الواسعة الفاتنة تشبه بطء
خطواتها وهي تجتاز الأجساد المتحركة بعشوائية في المكان
الواسع حتى وقع نظرها أخيرا على هدفها الذي دخلت مبنى
المحكمة من أجله فقد علمت من المحامي الذي وجدته في مكتبه
أنه يقضي اليوم هنا في محكمة العاصمة ويومين في مكتبه يستلم
قضايا موكليه ومن بعدها لا يرجع للعاصمة حتى التاريخ المماثل
له من الشهر القادم ، نظرت له من مكانها وهو منشغل مع
الواقف أمامه ويبدوا أنهما يتحدثان في موضوع مهم منسجمان
فيه درجة أنهما لا يشعران بشيء مما يحدث حولهما ... لازال
كما تذكره رغم مرور كل تلك الأعوام فله ولشقيقه وسام وسامة
قبائل غزير المنحدرة أساسا من الحالك فوالدهما من غزير أيضا
وها هو لازال يحتفظ بذاك الشعر الأسود والملامح الحادة الجذابة
رغم مرور أعوام على آخر مرة التقيا فيها فهي لم تراه منذ سبع
سنوات تقريبا ومنذ ذاك الحفل الرآسي الذي لم يتبادلا فيه أكثر
من عبارات الترحيب الرسمية وفي وجود شقيقته جليلة قبل أن
يغادر وكأنه قرر ترك المكان فقط لأنها أصبحت فيه رغم تعامله
اللبق معها حينها فهو انعزل عنها كما عن عائلته منذ ذاك
الشجار العنيف بينه وبين شقيقه من والدته وثاب بعد رحيل
المدعو مطر شاهين وإعلان خبر طلاقها منه حتى أنه لم يحاول
التحدث معها قط عكس شقيقه الذي وضع نفسه في مواجهة
حامية الوطيس حتى مع جبران ولولا تدخل والدها شراع حينها
والذي أعلمهم كما الجميع بأنه لن يزوجها لأحد لما انتهت تلك
الحرب أبدا ، تنهدت بعمق ولا حل أمامها غيره فقائد لا يشبه
وثاب ولا حتى جبران وانسحابه الصامت كان أكبر دليل بل
ومعاملتها باحترام عكس عدويه اللذان لم يبخلا في تجريحها حين
فقدا الأمل فيها واتهماها حتى بأنها أجبن من أن تنسى رجلا نبذها
وهجرها تاركا إياها خلفه .
تنفست بعمق مستغفره الله وتحركت نحو تلك الجهة بخطوات
حذرة حتى كانت خلفه تماما وأغلقت هاتفها قبل أن تضعه على
أذنها وقالت بصوت منخفض
" قائد أنا غسق فاستمع لي دون أن تلتفت "
وأخفضت نظرها حين لاحظت تصلب جسده فجأة وكأنها مررت
كفها على ظهره وليس تحدثت له فقط ولن تستغرب صدمته بهذا
لكنه حلها الوحيد فهو من يمكنها الوثوق به وهو أيضا من
سيقاتل باستماته معها وهذا ما هي متأكدة منه وإن رفض ستجد
حلولا أخرى ولن تستسلم بسهولة أبدا ، نظرت للأسفل ولازالت
تثبت الهاتف على أذنها وقالت بصوتها المنخفض
" حاولت أن أحصل على رقم هاتفك لكن نائبك في المكتب رفض
متحججا بالخصوصية وبأنك ترفض أن يكون لدى أي أحد غير
موكليك وأنا لم أستطع إخباره عن هويتي الحقيقية وجليلة
تعرفها جيدا غريزتهاالحمائية ناحيتك تجعلني في نظرها وحش
عليه أن لا يقترب منك "
انخفض رأسه قليلا قبل أن تسمع صوته الرجولي العميق
المتزن قائلا
" بما يمكنني أن أخدمك يا غسق فيبدوا أنك مراقبة ! هل ثمة
مشكلة ما ؟ "
سحبت أنفاسها ببطء قائلة
" هل تمسك قضية موكلتك فيها غسق شراع أم نظرتك لي لا
تختلف عن جبران ووثاب ؟ "
نظر للواقف أمامه والذي ابتسم له بمكر مدركا أنه يتحدث مع
الواقفة خلفه وإن لم تظهر له وقال يرمقه بتوعد
" غسق أنت تخطئي في حقي بهذا "
ابتسمت من فورها فهو لن يخذلها كما توقعت ، رفعت نظرها
وجالت به حولها قائلة
" ماذا قلت إذا ؟ "
قال من فوره وقد دس يديه في جيبي بنطلون بذلته السوداء
الأنيقة
" سأتصل بك فيما بعد فأنا أملك رقم هاتفك "
ابتسمت بحزن وهمست بخفوت وقد نظرت لقفاه القريب منها
مبعدة الهاتف عن أذنها ببطء
" تعدني بأن تعاملنا سيكون كمحام وموكلته ؟ أنا أثق بك يا قائد
وبأنك لا تشبه وثاب في شيء "
حرك رأسه جانبا وكأنه شعر بنظرتها من خلفه وقال وقد بات
يقابلها بنصف وجهه وإن لم يكن ينظر لها
" أعدك يا ابنة خالتي فنحن الآن تجاوزنا مراحل المراهقة بأعوام
، أنت فقط لا تُحملي القلب فوق طاقته "
نظرت لملامحه الرجولية الساكنة ونظره الشارد للبعيد وتمنت لو
لم يقل ما قاله ختام جملته تلك لكان أزاح حملا ثقيلا عن كاهلها
لكنها تحتاجه وواثقة من أخلاقه ثقتها في نفسها ولن يعنيها شيء
أكثر من نيلها لما تصبوا له ثم حتى إن طلب الارتباط بها ستوافق
فالحياة بدون مشاعر مع رجل يحبك أفضل من العيش ذليلاً مع
شخص لا يبادلك تلك المشاعر .
غادرت مبنى المحكمة بعد أن زارت وجهتها التمويهية وركبت
سيارتها وانطلقت عائدة لمبنى شركتها الجديدة فكل شيء خططت
له يسير على ما يرام حتى الآن وانشغال ذاك الرجل عنها في
مشاكل البلاد الأخيرة كان ضربة حظ موفقة لصالحها لكان كعادته
قادر حتى على قراءة أفكارها عن بعد أميال .
*
*
*
وضعت الكوب من يدها بعنف على الطاولة وغرست أناملها في
شعرها القصير وأبعدته عن وجهها مسندة مرفقها على طرف
الطاولة وراقبت نظراتها بضجر حركة الطلاب في مقهى الجامعة
وكم كرهتهم جميعهم واحدا واحدا فلما حين كان الأمر يخصها
صدّق الجميع تلك الحكاية وأصبحت حبيبة الأستاذ الجديد القادم
من الجنوب بينما حين كانت الفضيحة معتبرة والقصة العملاقة حد
التشويق تخص السيد أويس عبد الجليل كانت جمرة رميت في
البحر بمجرد أن تحدث أحد أبناء الجنوب عن أن اسم الفتاة يكون
مايرين يحي غيلوان فتركوا ضحيتها الأساسية وأصبحوا يتناقلون
قصة الفتاة وينهشون لحمها بين متعاطف مع قصتها وبين مشكك
حتى في شرف والدتها بل وتعاطفوا حتى مع ذاك الرجل الذي
اعترف بأنها ابنته بعد نكرانه الطويل للأمر واختفى في ظروف
غامضة ثم اكتشفوا بأنه ميت في الصحراء ولم تجني شيئا فذاك
الطاووس لازال يمشي بكل ثقة في أروقة الجامعة كما وصلها
وقيل عنه فهي ألغت اليومان اللذان يكون فيهما هنا من جدول
أسبوعها وأولهم حضور مادته وإن كانت معرضة للرسوب فيها
" هل يمكنني مشاركتك الطاولة آنستي ؟ "
تصلب جسدها وانتصبت في جلستها لا شيء فيها يتحرك سوى
رموشها السوداء الكثيفة وكأنها لوحة قديمة مسكونة فهذا
الصوت لا يمكنها أن تخطئه أبدا فقد سكن حتى كوابيسها ! لم
تستطع الإجابة كما الالتفات لصاحب ذاك الصوت والذي دار حول
الطاولة وسحب الكرسي المقابل لها يمسك في يده كوب قهوة
ورقي حدقتاها الذاهلتان لازالتا تتبعانه وهو يجلس دون أن ينظر
ناحيتها حتى استقر جالسا ورفع حينها نظره لها وقال مبتسما
" أعلم بأنه تطفل لكن خلوتك اجتذبتني "
تصلبت ملامحها وتمتمت بصوت بالكاد استطاعت إخراجه
" متى تغير جدول محاضراتك ! "
وضع الكوب من يده قائلا بابتسامة جانبية
" يفترض بالعدو دراسة تحركات عدوه جيدا إذا يا زهرة "
نظرت له بضيق وقالت
" إسمي زهور وعذرا فأنت لم تسمع موافقتي على الجلوس معي
فأنا لا ينقصني شائعات "
قال متجاهلا كل ما قالت
" لكن جدول محاضراتي لم يتغير وأنا هنا من أجلك فقط "
تراجعت للخلف تنطر له بصدمة وعدم تصديق فابتسم تلك
الابتسامة الرجولية التي لا يتقنها سوى رجال الجنوب كما كانت
تصفها صديقتها الخائنة المنسية ماريه وقال
" أنا حقا لا أمزح يا زهرتي "
ضربت بيدها على الطاولة قائلة بضيق
" لست زهرتك .. بل وسأغير إسمي أيضا فاتركني وشأني "
ثم نظرت حولها وزمت شفتيها بحنق ما أن لاحظت كل تلك
الأنظار التي تركزت عليهما بسبب صرختها الغاضبة تلك وتمنت
لحظتها أن دُفنت مكانها فنظرت مجددا للجالس بكل هدوء
وأريحية وكأن شيئا لا يحدث حوله ! ولما سيتأثر فلن يطاله شيء
وهي المتضرر الوحيد ككل مرة وسيتحول الحديث في هذا المكان
مستقبلاً عن شجار الحبيبان في مقهى الجامعة وستكون هي
بالطبع الحبيبة التي تخلت عن حبيبها بسبب ما قيل عن والده ،
وقفت ورفعت مذكراتها فوقف من فوره ومد يده عبر الطاولة
وأمسك برسغها قائلا
" لم أترك والدتي لوحدها في الجنوب لليلة أخرى فقط لأراك ثم
أدعك تقفي هكذا وتغادري بكل بساطة "
سحبت يدها منه وقالت بضيق
" إن كنت هنا لتعتذر عما فعلته سابقا فاعتذارك ليس مقبولا ولن
تتخلص من فضائحك بالتكفير عن جرمك بي "
أشار للكرسي بقربها وقال بتهديد
" زهور اجلسي لنتحدث أو حملتك على كتفي وخرجت بك من
هنا لحيث يمكنك الصراخ كما تشائين "
تحركت من مكانها متجاهلة له وسارت بقربه لأنه في الجهة
المقابلة للباب فوقف في طريقها وقال بتصميم يدس يديه في
جيبيه
" قسما أفعلها يا زهور وأنت تعرفينني جيدا "
رمت مذكراتها على الطاولة بقوة وغضب وجلست قائلة بضيق
" لا يحتاج الأمر أن تقسم فأنت لا تدخر جهدا في إيذائي فأنا
بالطبع عدوتك التي لم تفهم يوما سبب هذا العداء "
وتابعت بذات ضيقها تنطر له وهو يعود للجلوس أيضا
" لا بل أعرف السبب إنها ماريه هارون الناكرة للجميل تلك
لكن ما الخطأ الذي ارتكبته تعاقبني عليه هكذا ؟ لو كنتَ زوجها
لتفهمت الأمر بل كان عليكما شكري للفت نظركما للجرائم التي
كانت تتعرض لها ويصمت الجميع عنها "
قال بهدوء ما أن أنهت سيل عباراتها الحانقة تلك
" هل انتهى لومك زهور ؟ "
ضربت بقبضتها على الطاولة وقالت بحنق
" لا ليس بعد ولن ينتهي أبدا حتى ينسى الجميع هذا المشهد
أيضا وانظر كم نحتاج لعام إلى تنتهي دراستي وأنا مصدر
للشائعات ، لقد جعلتني أكره حتى التخصص الذي كنت أحبه
وتحديت والداي لأدخله "
قال بذات هدوئه وكأنها لا تشتعل أمامه
" زهور إهدئي وسنعالج كل هذا "
قالت بذات حنقها
" ستعالجه بماذا مثلا ؟ لقد شوهت سمعتي وانتهى الأمر
وسأموت إن علم والدي بكل هذا فلم أخذله بي يوما "
وقف ودار حول الطاولة حتى كان عندها تنظر له بصدمة وهو
يمسك بيدها وأوقفها منها فشهقت بصدمة أشد ما أن أمسك
خصرها بيديه ورفعها بخفة وبخطوة واحدة سريعة رفع قدمه
على الكرسي الذي كانت تجلس عليه وارتفع بها في الهواء
ووجدت نفسها في لحظة واقفة فوق الطاولة وجميع تلك النظرات
الفضولية لازالت تحدق بهما وقد انتقلت للذهول وبعضهم وقف
لينظر لما يجري بشكل أوضح وليروا الذي رفع قدمه فوق
الكرسي تحتها ووضع سبابته على شفتيه وقبله قائلا بصوت
سمعه الجميع لسكونهم الفضولي
" وهذه توبة حبيبتي "
استوى بعدها واقفا ينظر لعينيها المحدقتان فيه بصدمة قبل أن
يرفع يديه فاردا ذراعيه جانبا وقال بصوت مرتفع أكثر لازال ينظر
لها مبتسما
" خطيبتي غاضبة مني توسطوا معي هيا لترضى "
واختلطت الضحكات بالعبارات المشجعة ونظراتها المصدومة
انتقلت منه لهم قبل أن تنزل قافزة من فوق الطاولة وحملت
مذكراتها وضربت كتفه بإحداها بقوة ولم تزدها ضحكته وهو
يمسك كتفه سوى اشتعالا فغادرت من هناك بخطوات غاضبة
وتركته خلفها فعلت الصرخات الأنثوية يسار المقهى الواسع
" إلحق بها أستاذ بسرعة "
فنظر ناحية مجموعة من طالباته هناك وأشار لهن بإبهامه
مبتسما ثم غادر جهة الباب وعلم فورا أين ستكون حينها فخرج
لمواقف السيارات مباشرة فتلك عادتها إن غضبت غادرت المكان
برمته ، وكان توقعه صحيحا فقد كانت هناك فعلا فلحق بها
بخطوات راكضة وأمسك بيدها قبل أن تركب سيارتها وأدارها
ناحيته قائلا
" انتظري يا حمقاء فورائك محاضرتين ستضيعان عليك "
وتابع مبتسما ينظر لعينيها الغاضبة
" يكفيك أن ترسبي في مادتي "
سحبت يدها منه وقالت بضيق
" بل لن أكون هنا مجددا وها أنا سأترك لك هذا المكان
بمحاضراته فشكرا على العام الذي أضعته مني "
وما أن أنهت عبارتها تلك مدت يدها لمقبض باب سيارتها فوضع
يده على زجاج نافذته مانعاً إياها من فتحه وقال ناظرا لها
" لا سبب لتتركي الجامعة يا جبانة فلن يتحدث عنا أحد
بعد الآن "
حركت رأسها قائلة بسخرية
" بلى يا ذكي فمن هذا الذي لن يعرف من سنك بأنك لست طالبا
هنا وتصرح بأننا مخطوبان ؟ سيدفع الفضول الجميع لمعرفة من
يكون هذا المراهق الكبير بالطبع ... وضاع مستقبلك يا زهور "
قال مبتسما وكعادته متجاهلا غضبها المشتعل
" لما لا تنتبهي لكلماتك يا طويلة اللسان فأستاذك هذا الذي
تتحدثين معه "
قالت بضيق متجاهلة أيضا ما يقول
" ثم أنا مخطوبة ما سيكون موقفي حين يعلم بكل هذا ؟ "
أبعد يده عن زجاج النافذة وقال بذات ابتسامته
" لا بأس سأشرح له الأمر ولن يغضب "
شدت على أسنانها بغيض أعجزها حتى عن التعبير فرفع يده
وأبعد بطرف سبابته خصلة الشعر التي طارت أمام وجهها راميا
لها بعيدا وقال بذات ابتسامته
" حسنا لدي اقتراح آخر ... سأكون أنا البديل عنه وانتهى كل
شيء "
نظرت له بصدمة قبل أن تصرخ محتجة
" بل لن أتزوج من جنوبي أبدا .. أو لن أتزوج مطلقا "
وركبت سيارتها ضاربة بابها بقوة وغادرت من هناك مجتازة
بوابة الجامعة والشتائم لا تتوقف عن الاندفاع من بين شفتيها قبل
أن تصرخ غاضبة تضرب المقود براحة يدها
" مجنون ألم يفكر كيف سيكون موقفه أمام طلبته والأساتذة في
الجامعة على الأقل إن لم يكن يفكر بي أنا ! "
*
*
*
فتح باب الحمام ورمى المنشفة التي كان يجفف بها شعره وحرك
رأسه للأعلى بشكل دائري محركا كتفيه فهذا اليوم كان مرهقاً بل
ومتلفا للأعصاب بطريقة لم يعهدها سابقا فلم يستطع مغادرة
المنظمة حتى وقت متأخر فوق إرهاق سفرهم فكان يوماً سيئاً
بجميع المقاييس ولا ينقصه الآن سوى أن يرى المدعوة لوسيانا
فيحطم عظام عنقها بين أصابعه لا محالة ، التفت نصف التفاتة
ونظر للهاتف الذي كانت تضيء شاشته وقد عاد رنينه لملأ صمت
الغرفة المميت والذي وصله سابقا داخل الحمام فتوجه لقميصه
القطني أولاً ولبسه بحركة سريعة متقنة وجلس على طرف
السرير ورفع الهاتف ممررا أصابع يده الأخرى في شعره الرطب
رافعا له للأعلى وأجاب بحاجبان معقودان
" مرحبا يا زعيم "
وصله ذاك الصوت الحازم فورا
" تيم صحيح أن زوجتك تسكن معك ؟ "
نزل بأصابعه لقفا عنقه متأففا بصمت وهذا ما توقعه سيصل الأمر
لشاهر كنعان وهو سيتكفل بالباقي وكأنه طفل يشتكون لوالده
ليفرض أوامرهم عليه ، قال بجمود
" لم يكذب عليك بالطبع "
" متهور !! "
تلك الصرخة الغاضبة الحازمة هو ما كان يتوقعه بل وتابع
صاحب ذاك الصوت القوي الحازم قائلا
" أتدرك معنى هذا يا تيم ؟ أنت تعرض نفسك والفتاة للخطر
يا رجل "
قال بحزم مشابه
" أمر ماريا يخصني وحدي "
ليصله ذاك الصوت الغاضب مباشرة
" تيم احترمني يا ولد "
شد على أسنانه بقوة وغضب قبل أن يقول بجمود
" أنا لا أقلل من احترامك لكنها زوجتي ومكانها الطبيعي هنا
معي ، وأعتقد بأني أقوم بمهمتي على أكمل وجه ولا علاقة لهذا
بذاك "
صرخ فيه فورا
" بل كل العلاقة يا ابن كنعان فكيف سيكون وضعك مع ابنة
الجنرال ؟ أنت تقود مهمتك للفشل يا تيم بل ونفسك للهلاك
وزوجتك قبلك "
مرر أصابعه في شعره الكثيف الرطب مجددا ونظر للأرض تحته
متمتما ببرود
" لا تقلق من ناحية هذا الأمر "
وصله صوته مستغرباً هذه المرة
" ما تعني بهذا يا تيم ؟ "
نظر جانبا مخرجا أصابعه من نهاية شعره وقال ببرود
" ذكائك لن يصعب عليه فهم ما قلت "
فصرخ فيه ذاك الصوت الأبح فورا وصاحبه لا يزداد إلا غضبا
منه
" جننت يا تيم ! كيف تخبرها بالأمر ؟ ألم أحذرك سابقاً ... ؟
سحقا لعقلك كيف تفعل أمراً كهذا "
لوح بيده قائلا بغضب
" لن أكون شاهر كنعان آخر ولا مطر شاهين أيضا ... عليكم أن
تقتنعوا بهذا رضيتم بذلك أم لا "
وصله ذاك الصوت الغاضب أيضاً
" وما الذي فعلته الآن يا متهور ماذا ؟ ألست تعلم بأن هذا لن
يكون حلاً مطلقا ولن توافق هي عليه وتقف تصفق لك ... النساء
لا يفكرن مثلنا نحن الرجال يا تيم وستتحكم بها عاطفتها وقد
تتحول يوماً حتى لوحش يؤذيك أنت قبل الجميع إن تراكمت
جراحها منك يا رجل مطر شاهين الأول "
نظر للأسفل وقال بجمود
" ليست ماريا من تفعل ذلك "
" لا تكن واثقا "
كان تعليقه سريعاً وواثقا بطريقة جعلته يقبض على أصابع يده
بقوة وقال بجدية
" بلى أثق بها كما أثق بتيم كنعان وأعلم بأنها لن تؤذيني وإن
تأذت مني وأنا لن أسمح لذلك أن يحدث في جميع الأحوال "
قال من في الطرف الآخر بجدية وحزم
" سأذكرك بحديثنا هذا يوما يا تيم وها أنا الآن أؤكد لك فشلاً
قريبا لكل ما تفعله إن بقيت تلك الفتاة بقربك وستخسرها قبل
نفسك فعالمك لا يمكنه أن يحتوي امرأة مثلها فيه لأنها إن لم
تفقدك ستفقد نفسها فعليك أن تحميها منك يا تيم وأنقذ نفسك
من الهلاك وأبعدها عنك ولأبعد مكان فوراً "
" لا "
قالها مباشرة وبحزم وتابع من فوره وبحزم أشد
" ولا تسعوا لفعل ذلك رغما عني لأني قسما سأضرب الأرض
واخرجها من تحتها وأعيدها هنا أو تركت لكم مهمتكم وما فيها "
وصله ذاك الصوت الغاضب فوراً
" تيم للمرة الأخيرة أقول لك ما تفعله ليس في صالح كليكما
وستُكشف سريعا هكذا "
تنفس بعمق وقوة وقال مبتعداً عن الموضوع بأكمله
" ثمة معلومات مهمة حصلت عليها خارج قصر الجنيرال
غامسون هذه المرة "
فسمع تلك التنهيدة الواضحة الصادرة ممن في الطرف الآخر قبل
أن يقول صاحبها بجمود
" هات ما لديك وفكر في كلامي يا تيم ولا تؤذي الفتاة وتظلمها
معك فهي زوجتك لن يأخذها أحد منك ونهايتها لك "
تجاهل كل ما قال مجددا وانتقل للمعلومات التي حصل عليها
مؤخرا ولأن هاتفه يخصع لبرنامج حماية من التجسس كان
وسيلتهم الأسرع لنقل المعلوات ، وما أن انتهى حديثهما عن
الأمر أنهى الاتصال معه قبل أن يسمع سيلا آخر من ذات العبارات
الموبخة تلك وعن ذات الموضوع ، رمى الهاتف على السرير
ووقف وبدأ يحاول ترتيب الفوضى التي سببها في الغرفة بحركة
لا تقل ضيقا وعنفا عن تلك التي ترك بها بصمته فيها وقت
وصوله وغادر بعدها الغرفة مغلقا بابها خلفه ونظر لسكون
المكان المميت وكأنه لا أحد يشاركه فيه ويبدوا بأن شريكته في
السكن لازالت تعتصم في غرفتها فلم يسمع ولا حركتها في المكان
، قادته خطواته جهة ذاك الباب المغلق فورا ودون تردد وكما في
جميع قراراته منذ عرف نفسه طفلا أمسك مقبض الباب وأداره
ببطئ وفتحه ليقع نظره فورا على النائمة فوق السرير بالعرض
دون غطاء شعرها البني الناعم متناثر على ملائته البيضاء تنام
على جانبها الأيمن تخبئ وجهها في ذراعها ويدها الأخرى مرمية
جانبا لازال قلم الحبر في كفها المرتخي فتوجه نحوها ورفعه من
بين أناملها ووضعه على الطاولة قرب السرير والتي كانت تضع
عليها كتبها وأوراقا كثيرة مبعثرة حتى أن بعضها كان مرميا على
الأرض تحتها فيبدوا بأنها أنهكت نفسها في هذا حتى غلبها
النعاس أو حاولت ذلك فقد لفت نظره سريعا ما أكد له العكس
فانحنى لتلك الطاولة مجددا ورفع الورقة الشبه فارغة ونظر
للأحرف التي كتبتها في منتصفها
( آسفة استاذ هامبسون لخذلاني لك في البحث هذا الأسبوع ...
لم أستطع اعذرني فأنا حقا لست بخير)
اشتدت أنامله على طرف الورقة ونقل نظره لها قبل أن يرميها
تحته بإهمال وتوجه نحوها مجددا ورفع اللحاف وغطى به جسدها
وانحنى جهة رأسها وقبل طرف ذراعها العاري برفق وغادر من
هناك مغلقا الباب خلفه وتوجه للمطبخ من فوره وقام بتشغيل
آلة تحضير القهوة فهو ليس من عادته استخدامها لكن شكلها
الممتلئ أغراه فها هو الدليل الوحيد على مغادرتها لسجنها
الاختياري ، ملأ الكوب الخزفي الكبير لأكثر من نصفه بذاك
السائل الأسود الساخن وسار بخطوات واسعة ثابتة ناحية باب
الشرفة المفتوح على ذاك المطبخ المجهز بفخامة لا تختلف عن
باقي الشقة الواسعة ودفعه نحو الداخل وخرج ورغم أن
استخدامه لذاك الباب انتهى منذ وقت طويل إلا أن خطواته قادته
له وكأن التعلق في الهواء هو ما كان يحتاجه وقتها وما سيشعره
بأنه شخص آخر جديد لن يتشاجر مع عقله ولا إنسانيته أو
شخص ليس ملزما بأي شيء أكثر من نفسه ومتحرراً من القيود
الملتفة حول أطرافه كالأغلال ، اتكأ بساعديه على سياج الشرفة
الضيقة نسبيا نظره للأسفل يرتشف من كوبه في فترات متباعدة
وكلمات من تحدث معه منذ لحظات ترفض تركه لخلوته الهادئة
تلك وكأنه ينقصه أوامر وتدخل فيما يخصه وفيما وحده له القرار
فيه ، أغمض عينيه لبرهة وتنفس بعمق يستجلب عقله تلك
الصورة العالقة فيه منذ ساعات وقت دخوله لذاك المكتب في
المنظمة ورؤيته لذاك الوجه الذي ما آلمه ليس تعرضه للضرب
ممن يفترض بأنه يخدمهم ومن كان عليهم حمايتها لا تعريضها
للخطر بل تلك النظرة الميتة البعيدة عنه في تلك الأحداق الذهبية
فلم تكسره بحديثها الغاضب الذي لم يسمعه ولا بدموع الخذلان
والمهانة التي لم يراها فيهما بل بإشعاره بأنها وحيدة رغم وجوده
وما أكده أكثر صمتها وانعزالها عنه منذ الصباح ثم العبارة التي
كتبتها لأستاذها في ورقة البحث ، ذكرت ذلك أمامه بغضب باكي
مرارا في شجاراتهما السابقة وبأن الجميع تخلى عنها وحتى هو
لكن الأمر لم يكن بالقسوة التي وصله بها تلك اللحظة ولم يكن
يستبعد حينها أن يسقط عليهم ذاك المبنى بطوابقه من شدة
غضبه .
رفع الكوب لشفتيه ورشف منه مجددا وبارتفاع رأسه ووجهه
حينها وقع نظره على الشرفة المقابلة له تماما من المبنى
السكني المجاور ... تلك الشرفات والنوافذ التي كانت السبب
الفعلي لتوقفه عن استخدام شرفات شقته وخاصة هذه ، شرب من
كوبه ببطء ينظر لذاك العرض الذي يبدوا بأنه لم يتغير رغم مرور
الأشهر لساكني تلك الشقة ... ذات المشهد الهزلي وذات
الجسدين معقدا التركيب وتلك الأيدي المتحركة بعشوائية في
الهواء كدمى الخيوط يكاد يترجم حوارا كاملا لشجارهما اليومي
ذاك وإن لم يكن يسمعه فياله من نموذج سيء للحياة الزوجية
بل ونموذج ممتاز لصمود تلك العلاقة الهشة حتى الآن ! .
أنزل الكوب ونظره معه ببطء ليقع هذه المرة على النافذة أسفلها
والتي انفتحت فجأة والجالسة أمامها تماما تكاد تكون لوحة
يحيطها إطاره الرخامي وها هو المشهد الثابت الآخر لذات تلك
الشقراء الشابة .. الخصلات الذهبية الحريرية الملتفة فوق الثوب
الحريري المربوط حول الخصر النحيل الذي لا يتوقف عن
الشجار معه على ما يبدوا فهو بالكاد يسيطر عليه يكاد ينزلق عنه
للأرض .. والأكمام الواسعة الفتحات تنزلق بانسياب ونعومة حتى
نهاية الساعدان الثلجيان لأبسط حركة ليديها في محاولة للسيطرة
على تلك الخصلات التي تتقن صاحبتها فن جعلها في تنافر دائم
مع قسمات وجهها لتحكم سيطرتها عليها نهاية الأمر وتنجح في
إعادتها لمكانها بحركات مدروسة ... يا لها من امرأة روتينية
مملة ألم تسأم من تكرار مسرحياتها الفاشلة ! هل ترى الرجال
أغبياء هكذا أم أنهم كذلك بالفعل ! والدليل الواضح صوت النوافذ
المتحركة من حوله تسترق النظر لتلك الصورة التافهة في نظره
وحده على ما يبدو وبعضهم يدعي حتى أنه يرمي منديله الورقي
المتسخ فقط كي لا تنتبه النصف المرأة الحمقاء التي تعيش معه
بأنه يبحث عن نصفها المفقود لدى غيرها ، نظر للسائل الأسود
في كوبه قبل أن يرتفع نظره للتي يبدوا بأنها فكرت أخيراً في أن
تلقي نظرة عابرة على أصحاب تلك القلوب التائقة ... نظرة بقدر
قصرها لم تعطي أيا منهم مبتغاه على ما يبدوا وتلك الأصابع
الثلجية تعانق الخصلات الذهبية الطويلة مجددا فابتسم بسخرية
قبل أن يعود بنظره لكوبه مجددا يتقاسم أفكاره مع ذاك السائل
الأسود الشاحب العنيد ليقطعها هذه المرة رنين الهاتف في جيبه
فأدار يده لجيب بنطلونه الخلفي وارتفع نظره مع حركته تلك للذان
يبدوا بأنهما قررا إنهاء ذاك الشجار العقيم أخيرا والذي كالعادة
ينتهي بمغادرة العنصر الأقوى والمنتصر ككل مرة وبكاء الأضعف
عند زاوية السرير البارد ، رفع الهاتف أمام نظره وغضن جبينه
ينظر باستغراب للرقم على شاشته والذي اختفى فور أن نظر له
! وقبل أن يفكر في التفتيش عن هوية صاحبه عن طريق أحد
البرامج الخاصة الموجودة فيه أضاءت تلك الشاشة مجددا معلنة
عن وصول رسالة نصية ومن ذات ذاك الرقم المجهول ففتحها
فورا وقرأ أحرفها بنظرة جامدة
( يمكننا أن نتشارك كوب قهوة ساخنة ؟ )
نظرة سريعة لتلك الأحرف لم يحتج معها لإعادتها مجدداً ليدرك
هوية مرسلها المجهول فانتقلت نظراته فورا ناحية التي امتدت
يدها للنصف الأيمن من زجاج نافذتها وأغلقته ببطء قبل أن ترفع
نظرها ناحيته ويبدوا أنها قررت أخيراً رمي سنارتها على الهدف
وأنها سئمت بالفعل من أداء دور العنقاء المنيعة لتوقع فريستها
دون عناء إهدار أي جزء من كبريائها العتيد والمتسترة خلفه
بغباء ، لم يكن هاتفها في يدها لحظتها وتبدوا واثقة فعلا من
نتائج حربها الصامتة الطويلة لتهديه تلك الابتسامة التي تشبه
ملامحها الانجليزية الفاتنة فاستوى في وقوفه ناظرا لكوبه قبل أن
يعود بنظره للتي بدأت بتمرير يدها ببطء على إطار نافذتها فرفع
يده والكوب فيها لمستوى وجهه يراقب تلك الابتسامة التي
ازدادت اتساعا بالتدريج قبل أن يحرقها بذاك السائل الساخن وهو
يقلب كوبه بحركة واحدة وانسكب ما تبقى فيه متناثرا مع قوة
جذب الأرض له لازال يراقب تلك النظرات التي تحولت لجدار
صلب قبل أن تزينهما ابتسامة أخرى وكأنها تقول له :
أنا أفهم تمنعك وهو يجذبني ، ولم تكتفي بذاك القدر فقط بل
أتبعت ابتسامتها تلك بحركة لم يصعب عليه كرجل فهمها وفهم ما
تعني بها ولِما اختارتها ذاك الوقت تحديدا فالتفت أصابعه على
الكوب بقوة وغضب يشبه ذاك الاشتعال في حدقتيه السوداء
ورفع يده خلف رأسه قبل أن يدفعها باتجاه تلك النافذة بقوة
واندفعت تلك القطعة الخزفية بقوة واستقامة نحو ذاك الزجاج
الذي أصابه في منتصفه بحرفية قناص محترف وقد فاق صوت
ضجيج تحطمه قوة تناثره لقطع لحظة أن ارتد ذاك الجسد للخلف
تنظر صاحبته بذهول لآثار ذاك الإعصار الذي اجتاح غرفتها قبل
أن تنقل نظراتها المصدومة تلك له فاستدار بلامبالاة ودخل ضاربا
الباب خلفه شتائمه الهامسة لو كانت تصلها لقتلتها في مكانها
وترك باب المطبخ ورائه أيضا وتوجه من فوره للباب الذي أغلقه
منذ قليل وفتحه مجدداً وأغلقه هذه المرة خلفه بهدوء لا يشبه
فتحه له وهو يدير يده دون أن يلتفت له وسار جهة الورقة التي
أعادها أولاً لمكانها السابق تم توجه ناحية التي لازالت تعانق
ذراعها ملامحها عناقها القوي لعالم النوم الذي يبدوا بأنها ترفض
التخلي عنه وارتمى على السرير بجانبها وأراح ساعده على
عينيه وقرر تقليدها في هذا فسيتقاسم النوم معها لن يتركه لها
وحدها تنعم به وبعيدا عنه كما تريد ، لكن وضعه ذاك لم يدم
طويلا وقد استدار على جانبه ليصبح جسده ملاصقا لظهرها
ودفن وجهه في ذاك الشعر الحريري وأراح يده برفق على
خصرها ، حركة كان يعلم بأنها ستفقدها النوم الذي حسدها عليه
وقرر مشاركتها فيه وسيحرم نفسه منه أيضا لكن الأمر حدث
وانتهى ، وما توقعه حدث فعلا حين أجفل ذاك الجسد النحيل
جالسا فرفع جسده بيده وجلس أيضا ينظر للتي مررت أناملها في
غرتها ببطء تنظر له بصدمة بالكاد استطاعت سحب أنفاسها
معها فمد يده لوجهها ومرر طرف إبهامه على وجنتها هامسا
بجدية
" لا تخافي ماريا فأنت في المنزل الآن وذاك الكابوس انتهى
ولن يتكرر "
أخفضت رأسها ودفنت وجهها في كفها متمتة بخفوت وصوت
مرتحف
" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق "
غادر حينها السرير وانحنى جهتها وأمسك خصرها ورفعها
متجاهلا شهقتها المصدومة وأدارها راميا لها على السرير بشكل
صحيح قائلا ببرود
" لا أكون أنا أحد شرار خلقه أولئك ماريا ؟ "
ووقف على طوله ممسكا خصره بيديه ينظر للتي سحبت اللحاف
على جسدها بأكمله وغطت به حتى رأسها ولم تعلق على ما قال
فابتسم بسبب حركتها تلك وانحنى للأرض ورفع إحدى الأوراق
البيضاء الفارغة المرمية هناك وجعدها بين يديه حتى تحولت
لكرة صغيرة ورماها عليها قائلا بابتسامة مائلة
" طالبة فاشلة "
وكما توقع لم يبدر منها أي رد فعل أو تعليق فانحنى لأوراقها
مجددا وجمعها ووضعها على الطاولة ثم غادر الغرفة مغلقا الباب
خلفه بهدوء .
*
*
*
اجتاز بوابة المنزل بسيارته والتي فتحت أمامه فور اقتراب
سيارات حرسه السوداء المطوقة لسيارته منها ، وكحاله في كل
مرة دخل فيها منزلا لتلك العائلة لم تجتز سوى سيارته لوحدها
أسوار المكان العالية فهو المكان الثاني الآمن له والذي يرفض
دخولهم له معه ، وقفت سيارته أمام باب المنزل ونزل منها من
فوره وانفتح بابه أمامه بذات الطريقة وكأن الجماد يتحرك بأوامر
صامتة منه ، سارت الخادمة التي فتحت له الباب يسارا ووقع
نظره فورا على النازل من السلالم راكضا والذي وقف في الأسفل
ناظرا له بصدمة قبل أن يحك شعره في حركة طفولية قائلا
بإحراج
" ظننتها سيارة والدتي فهي ليست هنا منذ البارحة "
قال ناظرا له وهو يقترب منه
" كيف أنت يا كاسر ؟ "
وصل عنده وصافحه قائلا بضحكة
" بخير ... فابنتك تشعرني بأني كذلك كلما عادت لمنزلك "
ابتسم له وسحب يده قائلا
" ألن تفكر أنت كذلك في زيارة منزلك الآخر والتعرف على باقي
أفراد عائلتك أم لا والد لديك ؟ "
اتسعت ابتسامته وقال بسعادة
" بالتأكيد سأفعل ذلك قريبا ، وطبعا حين تترك لي تلك المدللة
الفرصة لألحق بها هناك "
بادله الإبتسام قبل أن يقول بهدوء
" والدتك ستكون هناك يا كاسر وقد يكون للأبد وأريدك معها
ومع شقيقتك ولا مجال للتفكير في الأمر فها أنا أقرر عنك "
نظر له بصدمة لم يترك له الذي اقترب منهما الفرصة ليجتازها
وهو يقول مبتسما
" مرحبا يا مطر .. اعذرني فلم يتركني ذاك العنيد اغلق الخط
لأكون في استقبالك "
لم يعلق على ما قال وتحرك معه ليبدأ حديثهما من قبل أن يصلا
مكتبه الذي فتح له بابه على اتساعه ودخل خلفه قائلا
" ليس عليك أن تبرر في كل مرة يا مطر فجبران من يلقي بنفسه
للتهلكة بعناده الأحمق "
وقف والتفت له قائلا بجدية
" لكني لم ولن أنسى وعدي لوالدك قبل موته بأن لا قتال بيننا
وأن يكون قاتلي ولا أكون قاتله وأفهم جيدا لما طلب رحمه الله
ذلك مني والسبب هو غسق وعلاقتي بها فهو يعلم بأنها تفكر
وتتصرف بقلبها ومشاعرها "
تنهد الواقف أمامه بعمق وقال بهدوء
" لن اخفيك يا مطر بأني أتمنى أيضا أن تعطيه فرصة لحياة أطول
في كل مرة أملا في أن يستفيق لنفسه فيكفينا ما خسرنا حتى الآن
وجبران لم يكن يوما هكذا وهذا أكثر ما يؤلم قلبي "
قست ملامحه وقال بجمود
" الأمر تخطى لديه حدود المعقول يا رعد .. إنه يغذي قلبه بحقد
سيحرق كل شيء وإبعاده وإن بموته لن يكون حلا للمشكلة
الأساسية وهي استغلال تلك النفوس الضعيفة لإيصال البلاد
للضياع وها هم يحاولون فتح الحدود من تلك الجهة وحينها
سيدخل أي شيء للبلاد يا رعد وكل شيء كما تسلل المتطرفون
قبل أسابيع "
نظر لعمق عينيه وقال بحذر
" لكن البعض يتهمك بتلفيق تهمة صفقة السلاح تلك لتضرب
اليرموك يا مطر "
قال من فوره وبجدية " ليس يعنيني ما يقال وإن وقفت البلاد
بأكملها ضدي ، وإن حدث ونحج مخططهم في فتح الثغر عبر
الحدود فسأطوق الشمال الغربي لصنوان ونحاصر كل من فيها
ونمنع عنهم كل شيء "
نظر له بصدمة قبل أن يقول
" لكن ذلك تبعاته سيئة يا مطر وستقف المنظمات الدولية وحتى
الدول العظمى ضدك بتهمة الإضرار بالمدنيين "
شد قبضتيه وقال بضيق
" ذاك أسلم من أن آمر قوات الجيش باقتحامها يا رعد وإخراج
تلك الشرذمة من بينهم فعليهم التوقف عن حمايتهم ودسهم بينهم
فهم سيوصلونهم للهلاك قبل الجميع "
قال في محاولة جديدك لعذله عما يفكر فيه
" معك حق في كل ذلك لكن حصارهم ليس حلا وسيجلب لهم
تعاطفا أكبر ، نحن نسعى جهدنا للصلح معهم فلنعطي المجال
للطرق السليمة لحل الأمور يا مطر "
اشتدت ملامحه قسوة وقال بضيق
" حتى متى يا رعد ؟ إنهم يماطلون لكسب المزيد من الوقت
والمزيد من الفوضى ليس إلا ولن نترك مصير البلاد للتكهنات "
قال بجدية ودون يأس
" يمكنك إيجاد حلول أفضل من تلك يا مطر أنا أثق بك كما
الجميع في هذه البلاد فيكفي حكمتك في عدم محاربتهم حتى الآن
فمن الغباء أن تحارب متمردين من ذات البلاد وفي نظام قبلي
كوضعنا والقبيلة تحميهم فالحرب في هذه الحالة معناها شلال
دماء لن يتوقفا أبدا فتمسك بحكمتك التي عرفت عنك منذ وحدت
البلاد .. ومن كان قادرا على توحيد دولة كاملة مفككة تغلي تحت
وطأة الحرب الأهلية قادر على فعل ما هو أيسر من ذلك "
وتابع بابتسامة مازحة من قبل أن يعلق
" أم اللوم على شقيقتي في هذا وهي من بات يتحكم في مزاج
ابن شاهين حتى في الحرب ! "
تنفس بحدة متمتما
" شقيقتك تلك إن انضمت لؤلئك المتمردين فسترسم لهم خططا
ناجحة لا محالة في تدمير أنفسهم في أسرع وقت ودون
عناء منا "
ضحك وقال ممسكا كتفه بيده
" وضعكما متأزم لهذا الحد ؟ مزاجها من أكثر من أسبوعين
لم يعد يَحتمل ولا إبنيها يا رجل فارحمها قليلا "
أبعد نظره عنه وتنفس بضيق لم يبخل بتوزيع لمساته على
ملامحه وانفتح الباب حينها ودون طرق ودخلت منه التي وقفت
مكانها وألقت نظرة جامدة على الواقف قرب شقيقها أخفت بها
صدمتها بوجوده هنا قبل أن تنقل نظرها للذي وجهت كلماتها
الباردة له قائلة
" رعد أريد التحدث معك بمفردنا "
تعلقت الأحرف عند طرف شفتيه ونقل نظره منها للذي تحرك
جهة الباب قائلا ببرود مماثل
" سننهي حديثنا في مكتبي يا رعد ، ولا أحد يعارض الكاسر
فيما طلبت منه فأخبر شقيقتك بذلك "
وغادر كما دخل وكما كان طوال حياته انتقاء منفرد في الرجولة
التي تقف إجلالا عند أدق تفاصيله مدمرا قلب أي أنثى فكيف إن
كان مُدَمرا بسببه سلفا ؟ وما أن اجتازها ودون أن حتى يكلف
نفسه عناء النظر ناحيتها كرهت تلك المشاعر المتأذية من
صدوده المتعمد والذي لم يعاملها به بعد عودته مطلقا بل وكرهت
أكثر ذكرى كلماته تلك قبل ساعات فقط فصلت الليل عن النهار
وهو يضرب بأطراف أصابع يده على صدره ناظرا لعينيها
المحدقة به بجمود
( هذا استنكرني بعدك يا غسق .. رفضني لأعوام لأنك لم تعودي
فيه .. سرق النوم من عيناي لليالٍ يطلبك فما حجم غرورك الذي
لم يشبعه كل هذا يا ابنة دجى الحالك ؟ )
أسدلت جفنيها على تلك الأحداق الواسعة وارتسمت ابتسامة
ساخرة متألمة على طرف شفتيها فهذا هو مطر شاهين الحقيقي
الذي لم ينجح في خداعها بذاك المزيف الذي سرعان ما سقط
القناع عنه فهذا هو القاسي الحقيقي من أعجزها فعلا عن توقع
نهاية ألمها منه فكلما قالت هذه هي الضربة الموجعة الأقسى
والأخيرة أتحفها بأكبر منها وكأن عباراته الزائفة تلك ليست
سوى ستار لأفعاله المستقبلية فينحر روحها بهمسات العاشق
الذي لم تعرفه يوما ليصفعها بعدها ودون رحمة وآخرها وجود
والدها الذي اجتهد لإخفائه عنها ليقهرها ويكسرها ويرجعها له
ذليلة أولا ، فهل لا مبالاته الآن معناها أن طعناته انتهت أخيرا ؟
هل سيرحمها من عذابها الذي لازال هو السبب الأساسي فيه !
لكن لا فاللعبة لم تنتهي بعد والدور بات لها الآن لتجرعه من
نفس الكأس التي أسقاها منه لأعوام ، أغمضت عينيها تخفي
ذاك الألم فيهما وسحبت نفسا قويا مشبعا بعطره القوي المميز
الذي رفض ترك المكان بعده .. نفسا جعلها تكره أنفاسها تلك
التي لم ترفض تذكرة عبوره لصدرها وتمنت أن عاقبتها وإن
بحجب الهواء عنها حتى الموت ... كانت نظرة لم تنجح جفناها
الواسعان في إخفائها عن الواقف هناك مِن أن يلمحها قبل أن
تخفيها بتلك النظرة الصخرية الميتة الجديدة فقال بهدوء حذر "
غسق حتى مشاكل الدول تنتهي عند طاولات الحوار فامنحا
لنفسيكما فرصة واتركا عنكما حركات الأطفال فأنا أراه بدأ يتحول
لنسخة عنك "
قالت بذات ابتسامتها الساخرة
" أعطني مثالا واحداً لمشكلة كان حلها فوق تلك الطاولات
السخيفة يا رعد ؟ إنها لا تستخدم سوى كمسكن آلام لمريض لا
أمل في شفائه ليعيش على الأمل الميت حتى يموت "
وتابعت وقد تبدلت ملامحها للجمود
" ثم لا مفاوضات بين دولتين منفصلتين ستنتهي حتى الحدود
الوهمية بينهما عما قريب وتتحول لجدار مرتفع "
نظر لها باستغراب وقال
" غسق هل أفهم ما تقصدين بهذا وما الذي تفكرين في فعله ؟ "
أشاحت بنظرها عنه جانبا وقالت ببرود
" لقد كنت في منزل عائلة شاهين "
تنهد بأسى قبل أن يقول بجدية
" غسق لا جبران ولا من معه تأذوا وكل ما فعله ابن شاهين أن
أنقذ البلاد من جنونهم ودمر مخازن ذخيرة ومعسكرات ومطاراً
حربياً مع طائراته وحوّل منطقة عسكرية لخراب من أجلك وأجلي
ومن أجل كل شخص في هذه البلاد و جبران أولهم "
نظرت له وقالت بضيق
" لا يعنيني ما فعل ويفعل ذاك الرجل وسبق وقلتها له وها أنا
أعيدها الآن إن مات جبران بسبه فلن أسكت له عنها أبدا ، ثم هذا
ليس ما أنا هنا للتحدث عنه "
كان من لم يجتز صدمته بما سمع منها سيتحدث فقاطعته قائلة
بجمود
" والدي هناك وأنا كنت معه الآن "
نظر لها بصدمة تجمدت معها ملامحه وقال ما أن اجتازها وإن
جزئياً
" والدك تعني ... أعني أنك .... بأنه والدك نفسه ! "
ابتسمت بمرارة امتلأت معها تلك الأحداق السوداء الواسعة بالألم
قائلة
" بلى دجى الحالك وإحدى مفاجآت بطلكم التي كان يخفيها عني
كورقة أخرى ليذلني بها "
وتابعت من قبل أن يعلق مبعدة نظرها عن عينيه ليديها قائلة
بجمود
" كنت معه منذ البارحة وهو يرفض أن أعيش معكم هنا وبعيدا
عنه فهو لا يمكنه مغادرة أسوار ذاك المنزل وغضب حين رفضت
وأنا مضطرة الآن للانتقال هناك حتى وقت لن يكون بعيدا أبدا "
نظر لها باستغراب منتقلا بحدقتيه البنيتان بين ملامحها قبل أن
يقول
" غسق أتعني بأنك ستنتقلين لمنزل ابن شاهين ؟ "
رفعت نظرها له وقالت بجدية
" بل لمنزل عائلتي .. منزل جدي وجد جده من قبله ووالدي
وجميع عائلته وهذا كان رأي والدي الذي أصر عليه ورفض
غيره وكما أخبرتك الأمر سيكون مؤقتا فقط قبل أن آخذ والدي
وابنتي من هناك فتيما قاصر والمحكمة ستحكم لي بها
وبسهولة "
رفع رأسه وحركه بعجز أمام الصدمات المتتالية بسببها قبل أن
ينظر لها مجددا قائلا بجدية
" غسق حمقاء أنت أم ماذا ! كم مرة سأذكرك بأنك تحاربين
رجل القانون نفسه وستكونين سخرية للعامة ليس إلا "
نظرت له بعناد لم يبعثره الحزن في تلك العينان الفاتنة ولم تعلق
ولن تتحدث أكثر عن أنها ستحاربه بالقانون نفسه وحين ستنال
حريتها منه سيكون المطالبة بحضانة ابنتها قضية لن تأخذ في
المحكمة أكثر من ساعات وستلزمه بعدم الاقتراب منها مطلقا فهو
أب فاسد وباعتراف منه والدليل على استمرار خيانته تلك
سيكون لديها قريبا وبأي ثمن كان وإن فتشت لندن عن تلك المرأة
شبراً شبراً
" غسق أنا أتحدث معك "
حركت حدقتيها الشاردتين نحوه وقالت ببرود
" ذاك الرجل لن يكون موجودا في المنزل فهو حين كان زعيما
للحالك فقط كان مجرد اسم يذكر في جدرانه أكثر من رؤيته فيه
فكيف به الآن وهو رئيسكم الحالي؟ ثم وأنا أيضا لدي ما يشغلني
أكثر من مقابلة الجدران هناك ولا أريد أن يغضب والدي مني
بسبب خلاف عن بقائنا معا "
حرك رأسه بعدم فهم وتنفس بعمق قائلا
" غسق هل تتوقعين مثلا أن يسمح لك ابن شقيقه بأن يكون
بعيدا عن نظره وأي خطأ بسيط قد يعرضه للخطر وتفقديه
وللأبد ؟ "
شدت قبضتيها بقوة وقالت بحزم
" لن يحب والدي أكثر مني وأنا أيضا قادرة على حمايته وإن
عشنا معا في الصحراء "
تمتم مستغفرا الله وقال بجدية
" والكاسر يا غسق ؟ قد لا تهتمي لنا جميعنا لكن هو
لا أصدق ! "
قالت من فورها
" ومن قال بأني سأتركه هنا "
فرد كفيه قائلا بعدم استيعاب
" غسق بربك أنت تقولين هذا حقيقة أم مزاحا سخيفا ؟ "
قالت بضيق
" لا أرى الموضوع يحتمل المزاح يا رعد والكاسر بنفسه سبق
وطلب مني هذا وهناك عائلته أيضا فتيما شقيقته ووالدها والده
ووالدي جده كما أن عمي صقر عمه وجوزاء عمته فهم عائلته
مثلكم ومتأكدة من أن ما تحدث عنه ذاك الرجل قبل خروجه
يخص الموضوع ذاته أما رماح فسيتزوج قريبا ولن يحتاج لأي
منا وعمتي في مكانها الصحيح من دوني فلم أعد بالنسبة لها
سوى العنصر المشتت للعائلة ومشاعرها السابقة نحوي لم تتغير
أبدا فدوري انتهى في حياة الجميع سوى والدي هو من يحتاج
الآن لوجودي بحجم احتياجي له "
تنهد بعمق وحرك رأسه بعجز متمتما
" حتى متى سنستمر في فقدانك يا غسق ؟ "
غلفت المرار صوتها وهي تهمس بألم
" حتى أجد نفسي التي فقدتها بسببه ومنذ عرفته "
أغمض عينيه متنهدا بعمق فلا وجع في حياته يشغله أكثر منها
هي . . مَن خسرت وخسرت وتوالت خساراتها حتى دمرها الفقد
وبشكل نهائي ، وحتى من ظن بأنه من سيلملم شتاتها ويداوي
جراحها برجوعه لا يراه سوى وجعاً جديداً يضاف لسلسلة
أوجاعها السابقة ، وما الذي في يده هو يفعله وليس شقيقها
سوى في أوراق زائفة وحكاية كاذبة لا يمكنه ولا ضمها لحضنه
والتخفيف عما تدفنه في داخلها وإن لم تصرح عنه وتخرجه أمام
أي منهم فذاك الرجل وحده من يملك ذاك الحق ويبدوا أنهما
وصلا لطريق مسدود بالفعل والأمل الباقي في والدها الذي لن
يقدم لها الله هدية أجمل منه خاصة في وضعها هذا وجرح فقدها
لوالدها الذي رباها لازال ينزف حتى الآن ، نظر لها وقال بهدوء
" لن أتدخل كي لا تلقي باللوم سوى على نفسك حين تدمري
بيديك ما يحمله لك في داخله يا غسق فالرجال أمثال مطر شاهين
لا يعشقون بسهولة وليس أي امرأة تلك التي تسكن الموجود
وسط أضلعهم فخياراتهم عظيمة مثلهم تماما كما قراراتهم بالوداع
والفراق إن جُرح كبريائهم يا شقيقتي لا تنسي هذا "
نظرت له بصمت لبرهة قبل أن تغادر من عنده قائلة ببرود
" لم أرى سوى الخسارات المتتالية منذ عرفته فليكن هو واحدة
منها كما اختار قبل أعوام "
واجتازت الباب والممر الذي يليه تاركة كل ما قالاه خلفها لا
تحاول سوى دفنه في أرضه هناك ككل شيء كان وسيكون ،
صعدت السلالم مسرعة ما أن وصلت لبهو المنزل ولم تتوقف إلا
وهي واقفة أمام باب الغرفة المجاورة لغرفتها وفتحته ببطء
وابتسمت بحزن تنظر للذي كان يقف أمام أبواب خزانته المفتوحة
جميعها يخرج ثيابه ويضعها في حقيبة حجمها أكبر منه ...
تفهمه وتشعر بما يشعر به فشعور اليتم سيء للغاية ومثلما
تحتاج الفتاة لوالدتها دائما يحتاج الفتى أن يكون له والد ولن
تعطيه هي ما سيمنحه من يناديه أبي مهما وهبته ، يؤسفها بأنه
سيفقد ذاك المكان سريعا لكن والدها سيعوضه هي أكيدة من ذلك
فهو يمكنه لعب ذاك الدور أكثر من المدعو مطر شاهين الذي لن
يكون موجودا ليجد فيه الوالد الذي يبحث عنه فوالدها بخلاف
جميع الرجال الذين عرفهم الكاسر في حياته منشغلين عنه طوال
الوقت سواء أعمامه أو جده شراع سابقا فسيكون ذاك الجد قريبا
منه كتيما تماما التي أشعرته بالفعل بمعنى أن يكون له شقيقة ،
وفترة بقائهما هناك قبل أن تنفصل عن ذاك الرجل ستكون كافية
ليكتشف بأن ذاك الوالد لا يصلح لشيء سوى لتحطيم الآمال .
انتبه لها فجأة فابتسم من فوره وركض نحوها وسحبها من يدها
جهة الخزانة قائلا بحماس
" أمي تعالي هل آخذ ثياب الشتاء أيضا "
قالت مبتسمة بسخرية وكأنها تجهزه لخيبات الأمل سلفا كما تراها
" لا يحتاج بني أنت ستنتقل لمنزل رئيس البلاد فهل سيتركك
تحتاج لهذه الأمور ؟ "
قال مبتسما
" أجل معك حق ... متى سننتقل هناك ؟ "
تنهدت بضيق متمتمه
" اليوم فلا أريده أن يغضب مني أكثر من ذلك "
ضحك وعض طرف لسانه قبل أن يقول
" لا تقلقي لن يغضب منك وهو يحبك "
نظرت له بصدمة قبل أن تقول بضيق
" كاسر اصمت فأنا لا أتحدث عمن تفكر فيه "
رمش بعينيه وقال
" عمن تتحدثين إذا ! "
نظرت حولها قبل أن تعود بنظرها له وقالت متجنبة الحديث عن
الأمر قبل أن يصل هناك
" أراك متحمسا لفراق عميك وعمة والدك ! "
قال وقد عاد لإخراج ثيابه ورميها في الحقيبة الواسعة كتمساح
ضخم يبتلع كل ما يسقط في فمه
" عمي رعد لديه زوجته وبرلمانه وبالكاد بتنا نراه ، عمي رماح
لا يعرف صديقين له سوى التلفاز والعبوس أما عمتي جويرية
فأراها تنسجم مع صمته وتجهمه أكثر من أحاديثي السخيفة كما
تسميها وهي لا تترك رماح أبدا حتى أنها تحولت لمحلل سياسي
من كثرة ما تشاهد الأخبار معه "
عانقت تلك الابتسامة ملامحها الحزينة وإن كانت أكثر بهوتا من
أن تتغلب عليه فتابع ولازال في عمله الدؤوب لإفراغ كل ما
تحويه تلك الخزانة الواسعة
" أما هناك فأنت موجودة وأنا لا أعيش من دونك أمي فأنت الماء
وأنا الأخطبوط ، وكما يوجد هناك تلك المزعجة ابنتك وعليا أن
أرد لها بعضا مما فعلته بي هنا ، ثم من الممتع أن نتشارك أنا
وهي في كل شيء حتى مغادرتنا للمدرسة معا وسيكون لدي
شخص أناديه أبي ... إنها العائلة أمي وأخيرا "
مسحت بيدها على كتفه لازال يوليها ظهره جهة الخزانة تكابد تلك
الدموع التي ملأت عينيها وغادرت بعدها فورا قبل أن ينتبه لها
من التفت ما أن شعر بملمس يدها فراقبها مبتسما بحب وهي
تجتاز باب غرفته وهمس بحزن ما أن اختفت عن نظره
" أدفع عمري بأكمله لأراك سعيدة أمي وواثق تماما من أن
سعادتك مع ذاك الرجل لذلك علينا أن نضحي جميعنا
من أجلك "
*
*
*
|