كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
نظر من نافذة السيارة لضوء الفجر الذي بدأ يتسلل للسماء لونا
أبيضا خفيفا وتنهد بأسى فلم يتحدث أي منهم عما يريدونه منه
ولما هو هنا في حوران مسافة ثماني ساعات سيرا بسيارة
مسرعة ؟ هل جريمته عظيمة بهذا الشكل درجة أن يتكفل هؤلاء
الرجال وبرتبهم العالية نقله شخصيا ! حتى أصحاب جرائم القتل
لا يحظون بهذا القدر من الاهتمام ! إلا إن كانت تهمته سياسية
وهنا المنفى الذي لا خروج له منه وحانت نهايتك يا يمان ، اتكأ
برأسه لمسند الكرسي الخلفي حيث يجلس وأغمض عينيه لتظهر
صورة تلك العينان الخضراء الباكية أمامه فورا فيبدوا بأنه كتب
عليه أن تتعلق إحداهن بعنقه دائما ليبقى منشغلا بمصيرها بعده
بل وهذه المرة وضعه أسوأ من السابق فما سيحل بتلك الفتاة إن
حدث له شيء وهي التي لم تخفي لحظة احتياجها لحمايته
فهي تراه الجدار الذي يفصل بينها وبين كل ذاك السواد في
عالمها وإن سقط تكالبت الوحوش البشرية عليها وهذا ما لا
يريده لها وما لم يرده من قبل أن يعلم بقصتها ومنذ أخبرته تلك
الطبيبة بحالتها فجل ما كان يخشاه وقتها حال تخليه عن
مسئولية ما حدث لها أن يكون سببا في ضياعها فترك من في
مثل حالتها ولأي سبب كان معناه أن تسلك طرق الانحراف حالها
حال ضحايا الاغتصاب .
لن ترى أي واحدة منهن إلا أنها لم تعد تجدي سوى لتلك الأمور
وبأنه لن تكون لها حياة طبيعية كغيرها من الفتيات .
فكيف كان سيهرب من عقدة الذنب حينها بل ومن عقاب الله لأنه
قد يكون سببا في ضياعها ؟ حتى أنه لم يستطع ترك الباب لتغلقه
هي من الداخل كما طلب منها بل أغلقه بالسلسلة والقفل وتراجع
عن قراره السابق ولم يفهم حتى الآن لما فعل ذلك ! وكأنه يريد
أن يضمن بأنها لن تفتحه وتخرج فمن هذا الذي سيفتحه وهي
في الداخل وتغلقه على نفسها ؟
مسح على وجهه بكفيه مستغفرا الله وهو يعتدل في جلوسه
وانحرف بأفكاره للطريقة التي سيصل بها لشقيقها إن حدث وكان
متورطا في أمر معقد لازال يجهله ولم يجد حلا أمامه سوى أبان
فخاله يكون الرجل الذي اختفى شقيقها باختفائه فإن لم يكن ميتا
سيوصل له خبر ما آل له حال شقيقته أو يجد لها حلا غير رميها
على أولئك المتحجرين ميتي القلوب .
انتقلت نظراته لشوارع العاصمة حوران وعلم فورا بأنهم وصلوا
لوجهتهم أخيرا ولمصيره المجهول الذي عليه أن يكون معلوما
بالنسبة له فما يفعلونه به الجنائية إن لم تكن جريمة وليس أي
نوع من الجرائم تلك ! تنهد بعمق متمتما
" توكلت على الله فهو حسبي نعم المولى ونعم النصير "
فعليه أن لا ينسى ما تسلح به طوال حياته وهو اليقين بالله فلن
يغفل عنه أبدا كما لم يغفل عن شقيقته حين عجز هو عن
مساعدتها وسيفعل ذلك مع التي تركها خلفه في الجنوب ولن
ينساها وإن نسيها الجميع .
توقفت سيارتهم أمام بوابة بناية رفع لها رأسه فورا باستغراب
ينظر لتلك الأعمدة الحجرية المرتفعة والنوافذ الطويلة .. هذا ليس
قسم شرطة ولا مركز الإدارة الجنائية ولا يفترض به أن يكون هنا
فإلى أين ينوون أخذه تحديدا !!
عبرت سيارتهم البوابة الواسعة والحرس المسلحين المنتشرين
حولها دون عناء انتظار وكيف لأحدهم أن يتصور بأن يوقفوا من
يحملون تلك القطع الذهبية على أكتافهم ؟ يعرف هذا المكان جيدا
لكن لم يتوقع يوما أن يدخله ولا لأي سببٍ كان فما الذي سيجعل
قدماه تعتبان بوابة القصر الرآسي ! مكان ليس للمجرمين بالتأكيد
كما كان يتوقع ويجزم بأنه سيكون مصيره وهو يبات أول ليلة له
في حياته خلف قطبان الزنزانة لكنه ليس مكانا يتواجد فيه أمثاله
أيضا وليس سوى مجرد مهندس زراعي فاشل لم يسبق وأن
دخل ولا مبنى البرلمان أو حتى أحد الوزارات ليكون هنا في
المكان الذي لا يعرفه هو وأمثاله الملايين سوى في التلفاز رغم
أنه في بلادهم ويعرفون مكانه لكن حتى الشارع المقابل له ليس
لأي سيارة أن تسلكه ! .
انفتحت أبواب السيارة ونزل منها مرافقيه الثلاثة ونظره يتبعهم
لازال لم يستوعب بعد ما هو فيه وخيل له حتى أن هذا المكان
مجرد محطة سينزلون فيها وحدهم قبل أن ينقلوه لمكانه الأساسي
لكن تلك الطَرقات بمفصل سبابة الواقف في الطرف الآخر على
زجاج النافذة جعلته يفتح بابه وينزل أيضا موقفا كل تلك الأفكار
والتحليلات فمحطته يبدوا بأنها انتهت هنا صدق ذلك أم لم
يصدقه فلا خيارات أخرى أمامه سوى الإنصياع فلعل ساعات
التوتر واستنزاف القدرات الذهنية انتهت وسيعلم على الأقل لما تم
جلبه من أقصى الجنوب الغربي للبلاد لشماله الشرقي !
تبعهم يجتازون الرواق تلو الآخر وصالات الاستقبال الأفخم
فالأكثر فخامة واتساعا ولم يستطع أن يسير مثلهم بخطوات ثابتة
نظراتهم لا تفارق هدفهم الأساسي فهو لم يعتد دخول هذه الأمكنة
وليس مثلهم يراها كل يوم فلم يستطع منع عيناه من التجول ليس
في تفاصيل المكان الفخم بل في الأشخاص من حوله ..
شخصيات أغلبها لم يكن يراها سوى في التلفاز ويسمع عنها
بعضهم باللباس الرسمي والبذل الفاخرة رائحة المكان عجت
بعطورهم القوية والبعض الآخر بالزي العسكري ومن كانوا لا
يدخلونه سابقا بثيابهم هذه مهما علت مراكزهم ورتبهم أما الآن
وبعد عودة ابن شاهين ومحاولة عسكرته للدولة كما يتهمه
البعض فبات هذا المشهد مألوفا في جميع الاجتماعات الرآسية
والسياسية فلطالما ارتبط ذاك الزعيم باللباس العسكري وكيف
سينسلخ عنه الآن ورجاله أولئك لازالوا ملتفين حوله ومتقيدين
به ، مكان أشعره بغرابة وجوده بينهم بثيابه البسيطة تلك
ونظراته الفضولية الممزوجة بالدهشة فهو لم يجتز بعد صدمة
وجوده هنا ! .
وما أن كثر انتشار رجال الأمن والحرس الشخصي علم بأنهم
وصلوا مكانا يحوي شخصا مهما وأهم من سابقيه وأخذته
توقعاته للكثيرين وحتى لوزير الداخلية لكنه لم يتخيل ولا في أبعد
أحلامه أن يكون هدفهم ووجهتهم الموجود خلف الباب الذي
فتحه لهم الواقف أمامه دون أن يكلفوا أنفسهم عناء ولا الوقوف
لطرقه ... أن يجد نفسه أمام من كانت رؤيته حتى في التلفاز
تشعره بالهيبة بالتوتر وبالانبهار فكيف أن يجده أمامه مباشرة !
ذاك الذي التقطته نظراته فورا من بين جميع الموجودين في ذلك
المكتب الواسع الذي حوى حتى طاولة اجتماعات بيضاوية طويلة
وصالونان كبيران أحدهما محاذ للنوافذ الزجاجية الطويلة التي
شكلت واجهة واسعة مطلة على أهم معالم عاصمة البلاد ، شعر
بتوتره يزداد بل ويتعاظم وهو ينظر للذي كان منشغلا مع
الموجودين معه والذين رغم كثرة عددهم بدوا قلة مع اتساع
المكان وفخامته ، والذي ما أن انتبه لوجودهم حتى ضرب له
الواقفان أمامه التحية فاجتاز المتحلقين حوله ناحية ذاك المكتب
الخشبي الفخم الواسع مقتربا منهم فاستدارا حينها الواقفان
أمامه مجتازان له خارجان من المكان بعد كلمات قليلة منه لا يعلم
لم يفهمها أم لم يسمعها بل لم يستطع لا فهمها ولا سماعها من
شدة ما كان مصدوما من وجوده هناك وكأنه في حلم ينتظر أن
يفيق منه في أي لحظك ! فتبعت نظراته المستغربة اللذان غادرا
مجتازان له في صمت وقد بدأ عدد الموجودين هناك أيضا
بالتقلص وهم يخرجون تباعا حتى لم يبقى غير صاحب تلك
الشخصية والحضور كما الهيبة الفريدة من نوعها حتى أنه تميز
عن الجميع بذاك اللباس الرسمي رغم كل ما وصلوا له من قوة
حضور وثقة وجاذبية ، أغلقوا الباب خلفهم ولم يبقى هناك منهم
غير اثنان منهم فقط يقفان على جانبيه وكأنهما نسران يقفان على
كتفي تنين أسطوري عظيم فكم كان معجبا بهذا الرجل من قبل أن
يراه بل ومنذ صغره حين اجتاح أراضيهم ليس ليحتلها بل ليعيدها
لهم بالشكل الصحيح ، لن ينسى ذاك العام ما عاش وكيف تعالى
ذكر اسمه في كل منزل في الهازان وكل ذي حق مهضوم بات
ينتظر وصوله بشوق والفزاعة التي أخافهم بها ابن راكان لسنين
طويلة باتت الأمل الذي أصبح ينتظره كل واحد منهم ليشرق على
بلداتهم ومدنهم البسيطة الفقيرة التي عانت من الظلم والاضطهاد
ما عانته ، ومنذ ذاك الوقت أصبح مطر شاهين رمزا للقوة للعدالة
وللإيمان بأنه ثمة صباح مشرق دائما بل وثمة رجال ولدوا من
رحم الحياة ليعيدوها لمن فقدها ، يذكر جيداً حتى لعبهم في
الشارع حينها وكل فتى يمسك عصى في يده كسلاح يريد أن
يكون ابن شاهين ودور البطل يتشاجر عليه الجميع ، وبعد كل
هذه الأعوام وما أن عاد بعد اختفائه الطويل ذاك وأصبحت صوره
تملأ الصحف وشاشات التلفاز علم أي بطل يكون هذا الرجل
وليس لأي شخص أن يتقمص دوره مهما فعل وحاول فهذا
الرجل لا يمكن إلا أن يكون نفسه .
لم يعرف معنى الشعور بالإغماء من شدة التوتر في حياته إلا
لحظتها وهو ينظر للذي اقترب منه حتى وقف على بعد خطوتين
أول أقل فقط بدلا من أن يجلس على مكتبه ويأمره بالاقتراب كما
يفعل من هم أدنى منه بكثير ولا يملكون سوى مكتبا ومركزا
متواضعا وإن كان إدارة مدرسة ابتدائية لينظر للناس من علو !
ولم تنتهي المفاجآت هناك فقد أكرمه أيضا بسماع صوته
الجهوري المتزن الذي ميزته تلك البحة التي علقت في ذاكرته من
أعوام حين سمع خطابه في المذياع وهو ابن العشرة أعوام
" يمان أتعلم لما أنت هنا ؟ "
بحث عن الكلمات في قواميس عقله بصراع مستميت قبل أن
يقول باحترام بالغ
" لست أعلم أني ارتكبت ذنبا قد يوصلني إلى هنا سيدي سوى
أني عشت وسط عائلة غيلوان "
فاجأته ابتسامته التي ظهرت معها أسنانه البيضاء المصفوفة
والتي لم تزد تلك الملامح الرجولية سوى وسامة قبل أن يقول
صاحبها
" وما أخذك لأراضيهم وأنت تعلم بطشهم جيدا يا ابن الهازان ؟ "
تردد قليلا ليس لشيء سوى رهبة منه قبل أن يقول
" قد يكون قدري أو أجلي لكني حقا لست ممن يخشى مما قدّره
الله عليه ولا مفر منه "
ربت على كتفه بتلك الطريقة التي لا يفهمها ولا يتقنها سوى
الرجال والعظماء منهم فقط وقال
" لن أستغرب هذا منك فجيناتكم واحدة "
نظر له باستغراب زاده رفعه ليده بمحاذاة كتفه فسلمه أحد
الرجلين الصامتين ورقة مدها له فورا وقال
" يمان إبراهيم حجاج هذه السيارة اشتريتها أنت من صاحبها
وليس مدوناً اسمه في هذا العقد أليس كذلك ؟ "
أخذ الورقة منه ونظر فورا لرقم ونوع السيارة المدون المعلومات
عنها فيها والتي لم تكن تحوي لا اسمه ولا اسم الذي اشتراها منه
والتي اختفت تلك الليلة مع ذاك الأخرس الغامض الهارب والذي
توقع بأن حكايته انتهت من حياته بانقضاء تلك الليلة الغريبة !
قال ما أن رفع نظره منها له
" أجل سيدي "
قال بجدية
" أنت تعلم يا يمان بالتأكيد بأن عدم تسجيلها باسمك لكل هذا
الوقت مخالفة ؟ "
سحب نفسا طويلا لصدره قبل أن يقول بلمحة توتر
" أجل سيدي لكني قسما ألححت على الرجل الذي اشتريتها منه
كثيرا أن ننهي أوراق ملكيتها لكنه كان يماطل حتى ظننت بأنه
سرقها من أحدهم لكني كنت أحوج لها من أن أعيدها له أو ابلغ
عنها وأنا غريب عن تلك القرى "
مد له يده فأعاد له الورقة وقال وهو يأخذها منه
" أجل وهذا كان كلام ذاك الرجل أيضا لكن ما أنت هنا من أجله
ليس هذا "
قال من فوره
" هي سرقت مني سيدي ولا أعلم أين هي وإن تم استخدامها في
جريمة ما فلست مسئولا عنها اقسم لك "
أعاد الواقف أمام الورقة للذي أخذها منه قائلا
" متى سرقت منك يا يمان ؟ أعطني التاريخ بالتحديد "
لم يحتج الأمر أن يفكر كثيرا فهو لم ولن ينسى تلك الليلة بكل ما
حدث فيها حتى وصوله لغرير ومنزلهم المحترق فقال سريعا
" قبل أسبوعين إنه السادس من هذا الشهر تحديدا وكان الوقت
ليلا بل وتلك الليلة كانت الأغرب في حياتي "
نظر لعينيه لبرهك قبل أن يقول
" أخبرنا بكل شيء .. أريد أن أعلم كيف وصلت سيارتك لإسحاق
تلك الليلة ومن الذي طارده منهم تحديدا "
نظر له بصدمة قائلا
" هل ثمة جريمة أنا متهم بها سيدي ؟ كل ما فعلته تلك الليلة أني
أنقذت فتى مطارد في أراضي غيلوان لا أعرفه ولم أراه سابقا ثم
فتاة صدمتها بسيارتي ليظهر بأنها ابنة لتلك العائلة أيضا لكني لم
أقتل أحدا ولم أشاركهم في شيء قد يكونوا فعلوه فلست سوى
مستأجر في أرض ابن عمهم "
ولم يتأخر عليه أبدا بما أراحه به
" لا يا يمان أنت لست متهما بشيء كل ما أريده أن تحكي لي ما
حدث تلك الليلة ومفصلا "
أومأ برأسه موافقا قبل أن يبدأ في سرد كل ما حدث معه ليلتها
من وقت خروجه من منزله في الجنوب حتى اختفاء سيارته وما
حدث بعد عودته للجنوب ولقائه بشعيب غيلوان فهو طلب منه
إخباره بأي حديث دار بينه وبين ذاك الرجل فأخبره بكل شيء
محتفظا بسر تلك الفتاة في نفسه فهو ليس مجبرا على قول سبب
زواجه منها وهي زوجته الآن ولن يذكر حكايتها أمام رجل وإن
كان رئيس البلاد بنفسه ثم هو لم يسأله عن تفاصيل ذلك واكتفى
فقط بأن همس ما أن علم بمسألة زواجه منها وهويتها
( رائع ... هذا جيد ) واستغرب فعلا ما الرائع والجيد في الأمر
بالنسبة له ! هل يكون صحيحا أن شقيقها غادر البلاد معه وليس
كما شكك البعض في أنه قتل على أيدي أعمامه وليس خبر رحيله
سوى تمويها عن فعلتهم تلك ! حتى أن البعض شكك في موته
خلال الحروب مع الهازان بل وحتى هي يرى من حديثها الوحيد
بينهما عنه بأنها ترجح موته لغيابه كل تلك الأعوام الطويلة !
ما أن أنهى حديثه وأجابه عن كل سؤال سأله إياه قال
" إذا أنت لا تعرف هوية مطارديه ولم ترى أيا منهم ؟ "
حرك رأسه بالنفي قائلا
" لا سيدي وإن كنت أعلم لأخبرتك فورا "
أومأ إيجابا وفي صمت قبل أن يقول
" لقد تعرض ذاك لشاب لحادث بالسيارة وتحطمت بشكل كلي لأنه
كان مطاردا وهي يبدوا لم تستحمل كل تلك السرعة ، لذاك الشاب
مكانة خاصة عندي وهو في غيبوبة منذ ذاك الوقت فما الذي
فقدته أيضا غير السيارة لأنه دين في عنقي "
نظر له بعدم استيعاب من كم تلك الحقائق التي صدمه بها دفعة
واحدة وقال ما أن اكتشف بأنه أطال الصمت وتحديقه المصدوم به
" السيارة قديمة سيدي ولم يكن فيها سوى القليل من المال فما
من داعي لأن تعوضوني عنها ، كل ما أتمناه أن يشفى ذاك
المدعو إسحاق فهو كان بالفعل خائفا ومذعورا "
قال الواقف أمامه من فوره
" وهذا جل ما أتمناه أيضا لذلك عليك أن تأخذ حقك يا يمان
وسنعوضك بسيارة جديدة ومبلغ مالي أيضا "
نظر له لبرهة مترددا قبل أن يقول
" إن لم تكن كسيارتي وبذات عمرها ومال بالمبلغ الذي فقدته فلن
تكون تعويضا لي واعذرني سيدي لن أستطيع أخذ ما هو أكثر من
حقي فأنا لم أفعل من أجل ذاك الشاب شيئاً "
حرك رأسه بالنفي قائلا بجدية
" بلى فعلت يا يمان فلولا الله ثم إخراجك له من هناك لكان
ميتاً الآن
ولسنا نعيش على أمل أن يشفى ، بل وليس أي شخص يساعد
أحداً في أراضي تلك العائلة إلا إن كان شجاعاً على الحق فأنت
تستحق أن تعوض "
وكما توقع حرك رأسه بالنفي أيضاً قائلا باحترام بالغ
" آسف سيدي لا أستطيع فاعذرني لأني لن أركبها حتى لو
أخذتها منك "
وهذا ما توقعه جيدا منه وما أخبره عنه أبان وصدق حقا فيما قال
عنه فعلا ولولا خشيته عليه ومن أن يكون مصيره كإسحاق لجعل
منه عينه الجديدة هناك لكنه لن يجازف بشخص آخر من عائلة
عمه وزوجته بل وحتى ابنته فمن حقهم أن يجتمعوا معا نهاية
الأمر كعائلة واحدة ، قال بذات نبرته الجادة المبحوحة التي تميزه
وبغرابة عن البقية
" يمان أنا لست كأي شخص ولن تكون منة هذه التي أعطيها لك
فهل تردني ؟ "
صدمته كلماته كما أشعرته بالإحراج فقال موضحاً
" أبدا سيدي ليس ذاك ما أقصده فأنت أعظم من أن ترد حتى في
عطاياك لكني فعلا لا أستطيع أخذ ما هو ليس من جهدي وتعبي ..
الله خلقني هكذا ولن أقبلها منك ثم لا أركبها ، ولا تنسى سيدي
بأني أسكن الجنوب وأراضي غيلوان خصيصا فما سيفكرون
فيه وأنا أمتلك فجأة سيارة جديدة وهم يعلمون بأني لا أملك
شيئا ؟ "
تنهد الواقف أمامه بعحز من محاصرته بالحقيقة التي يعلمها
جيدا وقال
" إذا واحدة تشبهها لكن في حالة أفضل توصلك لشقيقتك على
الأقل اتفقنا ؟ "
أنزل كتفيه متنهداً تنهيده مشابهة لتنهيدته وقال
" حسنا سيدي من أجلك فقط وغيره لن آخذ إلا المبلغ الذي
فقدته في سيارتي "
ربت على كتفه وقال
" لن أتوقع غير هذا منك وكنت أود بالفعل دعمك بالكثير وبما
أنك سترفض فلن أضغط عليك أكثر "
ثم دار مولياً ظهره له وسار جهة مكتبه ورفع شيئا من هناك
وعاد ناحيته ومد له ببطاقة صغيرة مذهبة قائلا
" الرقم المدون أسفلها سيوصلك لهاتفي الشخصي مباشرة فلا
تحتفظ بها بل احفظه عن ظهر قلب ثم تخلص منها وسريعا وإن
احتجت لأي شيء وفي أي يوم لا تتردد في الاتصال بي وكن
حذرا يا يمان ولا تأمن شر أولئك الغيلوانيين أبداً "
أخذها منه ونظرته المستغربة تنتقل للرقم المميز المحفور فيها
وقد نظر له نظر سريعة ثم مدها له قائلا
" هذا يكفي فأنا أخشى من إخراجها معي لأي مكان وسأستعين
بكم سيدي بالتأكيد إن شعرت بالخطر وعلى زوجتي قبلي "
أخذها منه وقال محدثا الواقف على يمينه
" تكفل بكل شيء يا عمير وتأكدوا من وصوله إلى منزله
سالماً "
وتابع ما أن عاد بنظره له
" أقرب مهبط طائرات قد تنزل فيه طيارة خاصة في الجنوب هو
مطار جينوة ولا نستطيع إيصالك له بها لنختصر عليك الطريق
خشية عليك من شكوك من حولك هناك فأنا أقترح بأن تزور
شقيقتك وترتاح هناك ثم تغادر بسيارتك الجديدة "
شرد بنظره بحزن قبل أن يقول
" كنت أتمنى فعل ذلك لكن الذهاب للحميراء الآن معناه أن أقضي
يوما آخر هنا ثم نصف يوم لأصل لمنزلي هناك ولا يمكنني ترك
زوجتي لوحدها كل ذلك الوقت "
وتابع وقد رفع نظره له
" خاصة أنها لا تعلم لما تم أخذي ليلا ومن قِبل ضباط الجنائية
ولا أحد لها بعد الله غيري وأخشى أن يصيبها مكروه ما "
أومأ له بالموافقة مبتسما ومد يده له قائلا
" حظاً موفقا إذا يا بطل ولا تنسى ما اتفقنا عليه "
نظر ليده لبرهة وصافحه فورا يشعر بالنشوة وبسعادة لا يمكنه
وصفها فقط لأنه تحدث مع هذا الرجل ورآه وجها لوجه بل
وصافحه فطالما كان رمزا بطوليا بالنسبة له وقدوة يقتدي بها
وكم تمنى أن كان شقيقه ووالده وعمه وخاله وجميع من يقربون
له فحلم طفولته كان أن يصبح مثله تماما لكن شتان بينهما فمن
بإمكانه أن يخدم الوطن ويقدم له ما قدم هو واهبا حتى سنوات
عمره لأجله ودون تفكير ، ما أن تحرك الواقف على يساره قائلا
" اتبعني يا يمان "
حتى استدار ولحق به قبل أن يقف مكانه فجأة واستدار مجددا
ونظر للذي لازال واقفا مكانه يراقبهما وقال بتردد فلم يستطع
منع نفسه من الحديث عن الأمر ففرصة رؤيته له قد لا تتكرر أبدا
" أيمكنني معرفة معلومات عن شخص ما ومنك تحديداً
سيدي ؟ "
قال الواقف أمامه من فوره
" هازار يحي غيلوان تقصد ؟ "
نظر له بصدمة وكان عليه أن يتوقع ذلك وأن رجلاً مثله سيعلم
حتى فيما يفكر ! تنفس بعمق وقال
" أجل هو أعني وأريد جوابا بكلمة واحدة فقط سيدي أهو على
قيد الحياة ؟ "
وراقب بفضول الذي أومأ برأسه إيجاباً قبل أن يقول
" أجل لكن لا يمكنه دخول البلاد حالياً ولفترة لا يمكن
تحديدها "
لم يستطع منع تلك القسوة التي زحفت لملامحه وحدقتاه
الرماديتان قبل أن يقول
" ليس وقت عودته ما أسأل عنه بل أريدك أن تبلغه رسالة "
أومأ له بالموافقة دون أن يتحدث فتابع من فوره وبنبرة جادة لم
تخفى لمحة الضيق فيها
" قل له زوج شقيقتك يقول لك لو كنت مكانها ما غفرت لك ما
حييت وإن كنت مكانك لكنت فضلت الموت على أيدي أعمامي
وقبيلتهم وما كنت تخليت عن امرأة من دمي وتحتاجني لينتهي
بها الأمر مرمية في الشارع "
وما أن أنهى عبارته تلك استدار وغادر ناحية الواقف عند الباب
ينتظره وخرج خلفه لازالت تراقبه تلك النظرات التي همس
صاحبها مبتسما
" رجل أنت فعلاً يا يمان "
*
*
*
فتح الباب مبتسما على حديث الداخل خلفه يتحدث بحماس عن
القوانين المصاغة حديثا من قِبل المدعي العام لتموت تلك
الابتسامة ما أن وقع نطره على الجالس في مكتبه هناك ينتظره
والذي وقف على طوله ما أن وقع نطره عليه وقد استقبله بنظرة
يفهمها جيدا فوقف مكانه ينظر لعينيه بصمت وجمود فنقل الواقف
بجانبه نظره بينهما وقال مبتسما باعتذار
" سأراك فيما بعد يا وقاص "
وغادر مغلقا الباب خلفه تاركا ذاك الجو المشحون يدور في حلقة
مغلقة يلتف كالإعصار حول الواقفان متقابلان يتبادلان نظرة
قوية ورثتها جيناتهم عبر الأجيال محدودة النسل ومعقدة التركيب
في صمت مخيف لم يقطعه سوى ذاك الصوت القاسي للذي
تحدث عاقدا حاجبيه
" لما لا تجب على اتصالاتي يا وقاص ؟ "
أشاح بنظره عنه ودس يديه في جيبي بنطلونه وقال بجمود
" لأن كلانا كان في مزاج سيئ وأعتقد بأنه يكفي علاقتنا
نفوراً "
لون الغضب سواد عيني الذي شد قبضته على رأس العصى في
يده وقال بحدة
" انظر إلي وأنت تتحدث معي يا وقاص ولا تقلل من احترامي "
نظر له من فوره وقال بذات جموده
" أنا لا اقلل من احترامي لك وأنت تعلم ذلك جيدا "
قال مباشرة وبضيق
" ذاك في مخيلتك فقط يا ابن ضرار "
فلوح بيده وقال بضيق مماثل
" وأنا لا أراك جدي الذي عرفته فهل سيكون اللوم عليك ؟ "
أشار له بالعصى في يده وقال بضيق أكبر
" بل عليك في كلا الحالتين "
وتابع بغضب ضاربا بها على الأرض تحته
" إن كان ثمة من سيجعلني أندم على إخراج زيزفون من المصح
وجلبها للمنزل سيكون أنت يا وقاص "
أشار بإصبعه للبعيد جهة الباب وقال بضيق
" وإن كان ثمة من سيعيدها له كنزيلة فعلية فيه فسيكون
حفيدك ذاك "
وتابع وقد أشار له
" وصمتك سيكون السبب جدي "
فضرب بعصاه الأرض مجددا وقال بذات غضبه
" لا تبارزني في الحديث يا وقاص "
لوح بيده وقال بحدة
" أنا لا أبارزك جدي نحن نتناقش في مصير من يفترض بأنها
حفيدتك مثلنا تماماً بل وأكثر منا وهي الأنثى الوحيدة بين أحفادك
والتي عانت وقاست ما تستحق أن تعوض بما ينسيها ذلك "
اشتدت ملامحه قسوة أكثر وهو يصرخ به
" كم مرة سأذكرك بأنك لن تشعر بحفيدتي أكثر مني وأنّ تدخلك
في شؤنها لن يزيد وضعها إلا تعقيدا فلعلمك فقط يا نائب المدعي
العام فمحكمة العاصمة حوران فتحوا ملف قضيتها مجددا
ويطالبون بالتحقيق معها وراسلوا المصح الذي كانت فيه "
نظر له بصدمة لم يستطع اجتيازها بسهولة وقد همس ما أن
وجد صوته
" وكيف علموا ! "
أشار له بعصاه وقال بضيق
" اسأل نفسك هذا السؤال وأنت من لم يتوقف عن محاولاته
العقيمة في دمجها مع من هم حولها متناسيا أنه ثمة تقرير
بخصوص مرضها تحتمي خلفه وثمة قضايا قتل متهمة بها
لم تغلق بعد "
رفع يده وقبض أصابعه بقوة وكأن الصدمة أعجزته تماماً عن
التحكم في جميع انفعالاته فأنزلها مرتجفة وقال بضياع
" هذا ليس كافيا ليصلهم خبر مغادرتها المصح ، أنا محامٍ ولست
غبياً لأصدق هذا فثمة من سيكون أوشى بها عمداً "
قال المقابل له من فوره
" إن كنت تقصد نجيب وهذا ما أنا واثق منه فهو لا يعلم عن
ماضيها شيئاً فابحث عن عدو لك غيره "
أشاح بوجهه جانباً ولم يعلق على الرغم من أنه لم يقتنع يسحب
أنفاسه بقوة بل ويشعر بأنه سيفقدها نهائيا من صدره ، ولم يكن
يتوقع بأن الصدمات لم تنتهي بعد حتى وصله ذاك الصوت الجاد
" لذلك علينا إرجاعها للمصح النفسي "
نطر له بسرعة وقال برفض غاضب
" لا ذلك ليس حلا وأنا لن أسمح به "
فصرخ فيه مباشرة
" ما هذا التملك المرضي ناحيتها يا وقاص؟ "
لوح بيده قائلا باحتجاج
" هذا ليس تملكا بل شعور وإنسانية ورابطة دم ، أتعلم ما الذي
سيحدث لها إن هي عادت هناك ؟ "
قال من فوره وبذات غضبه
" لا حل غيره أو ستسلمها للسلطات بنفسك يا حفيد السلطان ،
وجريمتان تنتظرانها أي سجن مضاعف وسينتهي عمرها قبل أن
تنهي محكوميتها "
مرر أصابعه في شعره ينظر للأرض بتشتت وضياع قبل أن يرفع
رأسه ونظر له مجددا وأصابعه لازالت تتخلل شعر قفا عنقه وقال
بنبرة جوفاء
" ثمة من سيساعدني هناك وسنغلق ملف القضية مجددا لبعض
الوقت ، أنا أحتاج لبعض الوقت فقط "
واجهته تلك الملامح القاسية بالواقع المرير فورا
" فات الأوان على ذلك فقد بدأوا بإجراءات نقل القضية للمحاكم
البريطانية هنا وأنت تعلم جيدا معنى ذلك "
أخرج يديه من شعره بقوة صارخا
" لا هكذا سيحكمون بضياعها ، من هذا الذي له السلطة ليفعل
هذا ؟ من وراء عائلة المقتول يدعمهم بقوة هكذا لتدميرها ! "
حرك ذاك رأسه بالنفي قائلا بحدة
" لا أعلم ولا يعنينا التفكير في ذلك والتفتيش عنه "
مسح وجهه بكفيه وجمعهما عند شفتيه ينظر للفراغ بضياع قبل
أن ينزل بهما لجيبي بنطلونه ودسهما فيه وقال بجمود يعاكس
النيران المشتعلة في داخله
" فلينقلوا القضية وليفعلوا ما استطاعوا أنا من سيتولى الدفاع
عنها وسأخرجها منها لأنها بريئة وإن اعترفت بذلك "
حرك الواقف هناك يده والعصى فيها قائلا بضيق
" مغفل .. كيف ستثبت براءتها وهي تصر على أنها من فعل ذلك
؟ كيف تتحول لمحامٍ غبي هكذا فجأة ؟ "
لوح بقبته قائلا بحدة
" هي لم تفعلها .. إنها تحمي أحدهم وسأعلم بكل شيء ، أنا
أحتاج لبعض الوقت فقط "
واجهه بغضب حازم من فوره
" لازلت تصر على تدميرها بتدخلك يا وقاص ؟ "
أشار بيده جانبا قائلا بضيق
" وهل إرجاعها للمصح الحل المناسب ؟ "
" هو الأنسب "
قالها له مباشرة ولم يراعي ولا قسوتها عليه فأغمض عينيه بقوة
وتنفس بعمق قبل أن ينظر له مجدداً وقال بحزم
" مستحيل وعليا أن أعلم من هذا الذي أوصل لهم هناك خبر
مغادرتها المصح "
رأى الغضب الواضح في عينيه والذي يعلم سببه جيداً وكما توقع
لم يتأخر تعليقه الغاضب القاسي
" أبعد نجيب عن دائرة متهميك وابتعد عنه وعن التدخل في
حياته يا وقاص فمن حقه أيضا أن لا يتدخل أحد فيما يخصه أم
الأمر حكر لك وحدك ؟ "
شد قبضته بقوة حتى آلمته أصابعه وقال بأمل كسير
" جدي أنت يمكنك التعاون مع المصح مجددا وإخراج تقرير
من عندهم كما في المرة السابقة ؟ "
قال من فوره وبجمود
" سيُكشف الأمر مجددا مهما طال الوقت "
قال مباشرة
" وهذا ما أنا أحتاجه الوقت فقط "
اشتدت نبرته حدة وهو يقول
" وقاص كم مرة سأعيد بأنه عليك أن تبتعد عن حياة شقيقك
وعن زوجته "
" لكن أ..... "
قاطعه بذات نبرته الحادة
" إن أردت ذاك التقرير فابتعد عن نجيب وزيزفون وعن كل تلك
القضية يا وقاص "
قال بغضب محتج
" جدي حتى متى ستستخدم معي أسلوب المساومة ؟ "
قال من فوره وبحزم
" ما لديا قلته والخيار لك فإن كان نجيب وراء ما حدث كما تقول
فتدخلك في شؤونه لن يزيده إلا إصراراً على تدميرها بسببك
وليدمرك بها وأنت تعلم ما أعني جيدا "
قال بغضب رافض
" لو أفهم فقط لما تصرون على تركيب مشهد العاشقيْن لنا ؟ "
واجهه بغضب مماثل
" توقف إذا عن إظهار هذا وإيصاله لنا واحمي ابنة عمك منك
يا وقاص "
لوح بيده قائلاً بذات غضبه
" مستحيل ... أنت تطلب المستحيل جدي "
صرخ فيه بغضب مماثل
" لا تلقي باللوم على أحد إذا حين توصلها بنفسك للسجن "
وما أن أنهى عبارته تلك تحرك من مكانه ليغادر فأوقفه قائلا
" جدي انتظر "
فوقف ونطر له وقال بجمود
" أعلم بأن عقل حفيدي المفضل وذكائه لن يخوناه أبدا "
أشاح بوجهه عنه وتنفس بعمق مغمضاً عينيه يتخيل فقط أن
تصل للسجن بالفعل ويقف هو مكتوف اليدين لا شيء بيده سوى
أن يبكي فقدها وحيداً ويخذلها كما فعل الجميع ، ما سيكون عليه
عالمه حينها وأي سواد ذاك الذي سيغلفه ؟ .
" ماذا قلت ؟ "
رفع نظره للذي يبدوا أنه يصر على استعجاله حتى في موته وقال
بقلة حيلة مجبراً نفسه على كل ذلك
" سأبتعد عنها لكنها لن ترجع للمصح النفسي وسيقدم التقرير
بخصوصها والأهم لن يخرجها نجيب من المنزل "
لاذ ذاك بالصمت للحطة قبل أن يقول بحزم
" أقسم لي بالتزامك بذلك يا وقاص "
شد قبضتيه بقوة يشعر باحتراق في داخله يكفي لإشعال مدينة
بأكملها وقال بجمود يعاكس دواخله تماماً
" أعدك أن أفعل "
قال الذي لم تترك نظراته القوية عيناه ومباشرة
" بل أقسم لي فقد تفعلها ولأول مرة في حياتك وتخلف وعدك
لكن قسمك لا وأنا أعرفك جيدا "
فمرر أصابعه في شعره ينظر للأعلى مستغفرا الله بهمس ولم يعد
يريد شيئا سوى إنهاء هذه المشادة الكلامية المنهكة لروحه وقلبه
وحواسه أجمعها والانفراد بنفسه وأفكاره ليجد حلا لكل هذه
الكوارث المتعاقبة ، أنزل رأسه ونظر للأسفل وقال بأسى مجبر
" اقسم أن أبتعد عنها وعنه فالتزم أنت بباقي الاتفاق ولا تجعلني
أفقدها "
عقد حاجبيه وقال بقسوة
" ما هذا الذي أسمعه يا وقاص ؟ "
رفع نظره وعينيه التي سيطر ذاك الألم عليهما رغما عنه وضرب
بقبضته على صدره قائلا بأسى
" يكفيكم قتلا لهذا ، لقد وعدتُ وأقسمت وسأبتعد عنها بل وعنكم
جميعكم فارحموني "
قست ملامحه وصرخ فيه فورا
" وقاص لا تتصرف كطفل "
نظر للأرض وسحب نفسا طويلا لصدره وأخرجه ببطء قائلا
بانكسار
" جدي حلفتك بالله ننهي الحديث عن الأمر فقد حصلت على
ما تريد "
فلم يسمع بعدها سوى خطواته وصوت ضرب طرف عصاه
للأرض وهو يجتازه حتى خرج ضارباً الباب خلفه فأغمض عينيه
بقوة يشعر بأنه ضرب به قلبه بل وأغلق باب حياته الوحيد بما
فعل ويفعل ، فتح تلك العينين المليئتين بالألم والغضب وتوجه
جهة مكتبه ورمى كل ما كان على طاولته صارخا بغضب ما كان
ليطفئه ولا تدمير المكان بأكمله .
*
*
*
|