الفصل الأول
جلست بشهقة من وسط نومها ويدها على قلبها الذي كان ينبض بجنون , عيناها
شاخصتان في الظلام حولها تشعر أنها لازالت في ذاك الكابوس حتى الآن وكأنها
رميت بقوة من الفضاء الخارجي ولم تدرك بسهولة من هي وأين تكون , زحفت
من بين تلك الأغطية الناعمة هامسة " ابنتي "
غادرت ذاك السرير الواسع حافية القدمين لم تشعر ولا بالأرضية الباردة التي
لامستها قدماها ما أن اجتازت تلك السجادة الحريرية الناعمة وقد استدلت طريقها
سريعا جهة الباب دون أن تراه في ذاك الظلام الدامس وكأنها تحفظ طريقه كاسمها
وفي رجفة يديها أضاعت مكان مقبضه وهي تبحث عنه دون هدى ودموعها قد
وجدت لها سبيلا عبر وجنتيها التي لم تفارقها إلا من أيام قليلة ولازالت شفتاها
المرتجفة تنادي بهمس " ابنتي ... أيــ ن أنتم "
فتحت الباب أخيرا وخرجت راكضة في ذاك الممر الطويل الذي كان واجهة منه
عبارة عن سياج خشبي يشبه الشرفة تطل على الطابق الأرضي لذاك المنزل الفخم
الذي يمكن تسميته بالقصر الصغير للاتساع والفخامة في كل زاوية فيه .
نزلت السلالم النصف دائريه المطل على البهو الواسع بأثاثه الأبيض الفخم وسط
تلك الإضاءة الخافتة وصمته المميت وكانت وجهتها الباب مجددا لكن هذه المرة باب
المنزل الزجاجي الضخم , فتحته دافعة له للداخل بقوة وخرجت ليلفحها ذاك الهواء
البارد لاسعا دفء ذراعيها ووجهها وقد نزلت تلك العتبات النصف دائرية متجاهلة
كل ذاك الطقس الصقيعي وركضت بلا هدى بين أحواض وممرات الحديقة المنسقة
بعناية تتدلى فوقها الأضواء كالنجوم في تلك الليلة المغيمة السوداء , وقفت ونظرت
حولها كتائه اكتشف فجأة بأنه أضاع طريقه , أنفاسها الساخنة تخرج متتالية
تلهث منادية بهمس ابنتها التي تجهل حتى اسمها
" غسق !! "
التفتت خلفها فورا تحضن نفسها بيديها شعرها الطويل بسبب الريح يتطاير حول
جسدها الذي تغطيه بيجامة قطنية سوداء بدون أكمام , لهث تنفسها وهي تسحبه
بقوة وهمست بضياع " عمتي !! "
اقتربت منها وأمسكت بذراعيها قائلة " غسق ما أخرجك وحدك هذا الوقت وبهذه
الثياب ؟ لقد أفزعني صوت جهاز الإنذار بعد فتحك للباب "
لم تستطع أن تجيبها بشيء وهي في غمرة ارتجافها ذاك وشفتاها لازالت تهمس
" ابنتي عمتي .... ابنتي "
حضنت وجهها بكفيها الدافئان تنظر باستغراب لعينيها النجلاء الواسعة والدموع قد ملأت
تلك الأحداق السوداء الكبيرة فهي لم تذكر ابنتها تلك طوال الأربعة عشرة عاما ونيف التي
قضتها بعيدا عنها , لم تبكها يوما أمامهم ولم ترى منها ضعفها الآن فيما يخصها وقد اعتادوا
على تجاهل ذكرها أمامها حتى نسو وجودها وهي من اختفت حديثة ولادة مع والدها ولم
يستطع أحد ولا جلب أخبار عنهما رغم نفوذ والدها الذي رباها كرئيس للبلاد وما فعله
ابنيه من جهد دون علمها , مسحت بكفها على غرتها الناعمة قائلة بقلق
" ما بها ابنتك ؟ من أخبرك عنها يا غسق !! "
هزت رأسها بضياع وتقاطرت دموعها قائلة بعبرة " ابنتي ليست بخير عمتي
قلبي يخبرني بذلك ... ليفعل لي أحدكم شيئا أرجوكم "
ضمتها لحضنها قائلة بحزن " تعوذي من الشيطان يا غسق واذكري الله وادعي
لها يا ابنتي وستكون بخير "
" ما بكما ؟ ما بها أمي ! "
نظرت جويرية للخيال الذي ظهر مقتربا منهما ركضا وقالت تضم تلك لحضنها
تهدئ من ارتجافها " لا شيء يا كاسر سندخل الآن "
نظر لهما بحيرة وللمختبئة في حضن عمة والده تبكي بصمت , من ربته وأرضعته
وكبر على يديها في مشهد لم يراه لها ولا حين وصلهم خبر مقتل جده شراع وعمه
رماح في عملية الاغتيال البشعة تلك التي عصفت بحال البلاد كالموج الغاضب فقد
احتفظت بحزنها لنفسها في خلوتها لم يظهر منه سوى اللون الأسود الذي بات لا
يفارقها , راقبهما بعينين قلقة وهما تعبران أمامه ولم يفهم حتى الآن ما يحدث فلم
يرى تلك القوية التي بنت مملكة الغسق بأكملها ودافعت عن حقوق المرأة بكل قوة
ضعيفة ومنهارة هكذا ! تبعهما للداخل يخفي كفيه في كمي بيجامته الطويلان بسبب
شدة البرد في الخارج وأغلق الباب خلفه نظراته تتبعهما وقد ابتعدت عمة والده بها
وأجلستها بجوارها على الأريكة الواسعة المقوسة يتكئ رأسها على كتفها تمسح
على شعرها الحريري الأسود بحنان مسمية بالله عليها وهي تهمس بصوت
ضعيف مرتجف " هي ليست بخير عمتي أنا متأكدة من ذلك "
*
*
التفتت للخلف ولازالت راكضة , مسحت عينيها بكفها بقوة لتستدل طريقها من بين تلك
الدموع التي لازالت تنزل بغزارة وركضت جهة الباب الخشبي الذي ظهر لها عند آخر
الممر الذي دخلته وكان المنفذ الوحيد في ذاك الرواق الطويل المتسخ كريه الرائحة
الموجود خلف تلك الحانة التي لازال صوت الموسيقى والصراخ يصلها منها حتى ذاك
المكان وتشعر بها كالزلزال في قلبها النابض بجنون , كانت تركض بخطوات متعثرة
من شدة خوفها لا تفكر سوى في الخروج من ذاك المكان تلعن غبائها وإطاعتها لتلك
الفتاة لتأتي بها إلى هنا , ما أن وصلت الباب وفتحته وخرجت منه حتى صرخت بذعر
بسبب اليد التي شدتها من ذراعها ولفتها بقوة تطاير معها شعرها الأسود الطويل المموج
وشخصت عيناها الزرقاء الواسعة بذعر وهي تنظر للواقف أمامها وذراعها لازالت في
قبضة يده لتكتشف أنه ليس من كان يطاردها بل الشاب الذي كان واقفا في الداخل لم يفارق
تلك الزاوية منذ دخلتا وقد لاحظت نظراته المركزة عليها رغم وقوف رجلين أمامه يحدثانه
ولم يلتفتا للخلف أبدا رغم شدة الصخب في ذاك المرقص , نظرت بذعر لعينيه التي كانت
تنظر لعينيها في صمت وعلمت حينها أنها هربت من قدر لآخر قد يكون أسوأ منه ولن تنجو
هذه الليلة أبدا وهي تقع في قبضة مجهول آخر ليست تعلم ما جعله يلحق بها ما أن غادرت
راكضة مجتازة جموع الراقصين وقد تبعها ذاك الرجل الانجليزي دون علمها وبأمر من رئيسه
أو قريبه الذي كان يقف ملاصقا له , كانت عيناهما محدقة ببعض بصمت , نظراتها المذعورة
وعيناها الممتلئة بالدموع كجوهرتين تعكسان عرض المحيط وعيناه الرمادية الواسعة الجامدة
الباردة كتلك الليلة الصقيعية الغائمة , نظرة لم ترها في عيني رجل من قبل مليئة بالثقة بالنفس
والكبرياء تنظر لعينيها نظرة عميقة وكأنه يسبر أغوارها , وما هي إلا لحظة وسمعا صوت
تلك الخطوات الثقيلة تقترب من خلف ذاك الباب فشدها نحوه بقوة ودسها خلف ظهره هامسا
بشيء من بين أسنانه لم تفهمه ولم يكن أمامها من حل سوى الاختباء خلفه في مكان لا
يمكنها فيه حتى الهرب منه وليست تعلم أين ستذهب إن هي لاذت بالفرار ؟!
شدت ظهر سترته بقبضتيها بقوة تخفي وجهها فيها والتصقت به دون شعور منها حين انفتح
الباب بقوة وخرج منه الذي صرخ بضحكة وكأنه وجد شيئا ثمينا قد فقده فازدادا ارتجافها
وتعلقها بسترته بل والتصاقها بجسده تلتمس الأمان من شخص لا تعرفه ولم تراه إلا الليلة
وهي تشعر بأصابعه على خصرها حين أدار يده ولامست فستانها وكأنه يثبتها لتتماسك
واقفة , صرخت بقوة وكادت توقعه للخلف من شدها له حين سمعت صوت تلك الرصاصة
التي كادت تصم أذنيها وقد كان جسده وكتفيه كفيلين بإنقاذها من رؤية ذاك المشهد وذاك
الرجل الذي كان يلاحقها يهوي أرضا بعدما أصابت تلك الرصاصة أربطة مشط قدمه من
مسدس لم يكلف صاحبه نفسه ولا عناء وضع كاتم صوت له ليخفي فعلته تلك وهو يعيد
مسدسه لحزامه بكل ثقة وقلب جامد هامسا من بين أسنانه " بتر قدمك سيعلمك أن لا
تكرر هذا مجددا "
فانفتحت عيناها على وسعهما من الصدمة وابتعدت عنه لا تصدق أن الكلمات التي سمعتها
عربية نظيفة بل وبنفس لهجتها , تراجعت خطوتين للخلف تنظر بذعر للذي التفت لها
وقال بنبرة حادة قاسية
" What brought a girl of your age here?"
) ما الذي جاء بفتاة في مثل عمرك هنا ؟ )
لم تستطع قول شيء ولا الإجابة تستغرب أن خمن سنها والجميع ما أن يروها يضنونها ابنة
العشرين عاما , كان صوت أنين ذاك المرمي أرضا لازال يصلها بوضوح والطنين في أذنيها
بسبب صوت تلك الرصاصة يضرب في رأسها تحاول جمع الصورتين للشاب الواقف أمامها
سواد شعره ولحيته المشذبة أدلة لم تستنج منها أن يكون عربيا فثمة أجانب يحملون تلك
الصفات خاصة في بريطانيا وخاصة مع بياض بشرته وملامحه الشديدة الوسامة وعينيه
التي لم تتأكد من لونها بعد , مثلما أن ملامحها لم تجعل ذكائه يدرك بأنها عربية أيضا
سرعان ما انتقل بصره خلفها والتفتت هي جهة نهاية المبنى خلفها حيث صوت الركض
القادم من تلك الجهة وكليهما يعلم أنه لأقدام باقي حراس ذاك الرجل وأتباعه , توجه نحوها
بخطوتين واسعتين وشدها من يدها وسحبها معه وركضا بسرعة في الجهة الأخرى , لم تكن
تكاد تجاري خطواته الواسعة تشعر بخوف لم تعرفه في حياتها رغم الكف الدافئة والأصابع القوية
التي كانت تقبض على نعومة يدها وتسحبها بعيدا عن كل ذاك الخطر .. لكن أين وإلى ماذا !!
ذاك ما كان يرعبها بقدر رعبها من ملاحقيهما رغم أن معرفتها بجنسيته أراحها قليلا , كانت
تقاوم كي تركض بسرعة ولا تقع وتعيق ركضهما فيلحق بهما من لازالت أصواتهم وأصوات
ركضهم تصلها بوضوح فأي تأخير سيكون ثمنه غاليا جدا وليس عليها وحدها بل وعلى من
أنقدها منهم دون أن يعرف من تكون أو أي سبب قد يجعله يعرض حياته للخطر أو حتى للهلاك
من أجلها , أغمضت عينيها بقوة ودموعها تتقاطر منها حين سمعت تلك الخطوات وهي تخرج
للشارع الذي أصبحا فيه , لقد وصلوا لهما وليس أمامهما سوى ممران أحدهما قد يوصلهما لهم
مباشرة , وقف فجأة فصرخت حين سحبها ممسكا بيده الأخرى ذراعها لتصبح أمامه موليا ظهره
لنهاية ذاك الشارع وتوقفت أنفاسها تماما حين ضمها لصدره بقوة مطوقا لها بذراعيه دافنا إياها
في حضنه الدافئ وتيبس جسدها وهي تشعر بجسده الملتصق بها وضربات قلبه المندفعة بقوة
لا تفهم سبب ما فعل وقد انكمشت صارخة ومتمسكة به بقوة حين سمعت صوت تلك
الرصاصة التي لم تعرف من أين خرجت وأين استقرت حتى أبعدها عنه ورفع
يده ودفعها بقوة صارخا
" Just go from here now.. Run "
( غادري من هنا الآن ... اركضي )
نظرت له بذعر وهو يمسك كتفه بيده وفهمت حينها أين وصلت رصاصتهم تلك وأين
استقرت , تراجعت للخلف ببطء تنظر له بعينين دامعة مذعورة وصرخت مغلقة أذنيها
بيديها حين خرجت رصاصة أخرى من مسدس الواقف هناك عند رأس الشارع وانحنى
الواقف أمامها على إحدى ركبتيه للأرض وقد صرخ بها مجددا رغم صوته المتعب
" .... leave fast "
( غادري بسرعة.... )
فركضت فورا جهة الشارع الآخر دموعها تنزل دون توقف وقد رافقها صوت بكائها الذي
لم تعد تستطيع إمساكه تاركة خلفها منقذها المجهول ذاك وهو يضع سماعة ما في أذنه مخرجا
مسدسه ذات الوقت يحاول الوقوف مجددا رغم كل ما به , وما أن وصلت تقاطعا وسلكت
إحدى الطريقين فيه حتى سمعت صوت الرصاصة الثالثة فوقفت مكانها ونظرت خلفها حيث
ذاك الصوت بعيدا وأغلقت فمها بيدها تمسك عبراتها وبكائها المرتفع تتخيل أن ذاك الرجل
مات على أيديهم وبسببها هي , كرهت نفسها تلك اللحظة مئات أضعاف المرات وتمنت أن
قتلوها بل أن ماتت من قبل أن تعتب قدماها خارج باب منزلهم فمن ينقذها من والدها الآن
إن علم بما فعلت وخالفت أوامره من أجل قصة من تلك الفتاة ليست تعلم حتى إن كانت
صادقة أو تكذب , قفزت صارخة بذعر بسبب اليد التي أمسكت بذراعها ونظرت برعب
للشاب الأشقر الذي أبعد يده ما أن رأى كل تلك الدموع والخوف وقد قال بهدوء
Hurry.. I will take you home miss before "
they start looking for you "
(بسرعة سأوصلك للمنزل يا آنسة قبل أن يبدؤوا بتمشيط
المنطقة بحثا عنك)
نظرت له بصدمة فاغرة فاها الصغير ثم نظرت خلفها مجددا , هل ذاك الشاب من أخبره
ليأتي وإلا كيف علم مكانها وأنها بحاجة لمن يوصلها !! لم تستطع تفسير الأمر إلا بذلك
وهي ترى نظراته الودودة التي تدل على شخصية لطيفة جدا يمكن الوثوق بها , نظرت
له وأشارت بأصبع يد مرتجفة من حيث جاءت قائلة ببكاء
" They shot him.. Murdered him "
( رموه بالـ ـرصاص .... لقد قــ ـتلوه )
توجه للسيارة القريبة عند الرصيف وفتح لها الباب الخلفي قائلا
Don't think about him he will find a way out.. Come "
on.. Hop in and I will take you wherever you want "
لا تفكري فيه سيجد لنفسه مخرجا , هيا اركبي لأوصلك)
حيث تريدين)
*
*
فتح باب السيارة ووقف في مواجهة الريح الباردة ينظر للخيال الذي خرج له من
بين الأشجار حتى وصل عنده وأصابع طويلة اندست في طرف جيب معطفه
الشتوي الثقيل تدس ورقة صغيرة مطوية وهمس بصوت رجولي خشن
"He entered London hours ago , we want total surveillance "
" for him and reports about all his telecommunications
"
) لقد دخل لندن منذ ساعات , نريد مراقبه تامة لهذا الشخص وتقارير
عن جميع اتصالاته (
ثم ربت بيده على كتفه وهو يمر من عنده قبل أن يتوارى ذاك الخيال من جديد في عتمة تلك الشوارع الباردة المظلمة
*
*
أخرج طرف الخيط من بين أسنانه ثم بصق متأففا ومسح جبينه بظهر كفه وعاد
لتقطيب جرح الجالس أمامه متجاهلا أنته المتألمة لخشونته فيما يفعل وقد قال
بجمود " كنت أعلم أني سأقضي أغلب وقتي أعالج جراحكم السخيفة "
أمسك الجالس أمامه عضلة ذراعه وهمس بصوت متألم " كف عن التذمر
يكفيك أن نسلم لك أنفسنا وأنت لم تصبح طبيبا بعد "
لم يعلق متابعا ما يفعل فتابع ذاك بسخرية رغم تألم ملامحه " لو أعلم ما
هذا العقل الذي في رأسك تترك الطب في آخر عام لك ؟ "
تجاهل ما سمع منه مجددا ورفع مجموعة من القطن من المنضدة الجالس عليها
الموجود أمامه ووضعها على الجرح مزيلا الدماء قائلا ببرود" إما أن الذي
أطلق عليك النار ثمل أو أنك صاحب حظ تحسد عليه "
رفع ذاك رأسه للأعلى مغمضا عينيه بتألم ونفث الهواء من فمه بقوة وهمس
بصعوبة " ألا بنج موضعي لديك على الأقل أم تفعل هذا متعمدا ؟ "
وضع له الشريط اللاصق فوق القطن الجديد الذي غطى به جرحه قائلا بذات بروده
" لما لا تخبرني أنت يا أحمق من هذه التي كدت تموت من أجلها ومهمتك هناك
كانت مراقبة رجل لم يترك المكان ولا بعد خروجك لتدس أنفك في أمر لم
ترسل له "
شد ذراعه ونظر للشريط اللاصق الكبير فوقها وقال ببرود يجاريه فيه
" الثرثار الأرعن ذاك يحتاج من يقطع له لسانه كي لا يتحدث عن كلما يراه "
شخر الواقف خلفه ساخرا وتمتم يجمع أشيائه " لا تنسى يا قاسم أنه ممنوع عنا
جميع النساء هنا , وأن تقترب من أي منهن معناه أن تكشف الكثير عن نفسك
وتلك فيها هلاكك وهلاكنا يا رجل "
هز رأسه نفيا مطأطأ به للأسفل وهمس " لن يكون ثمة شيء بيننا , وأنا أعلم
منك بالقوانين أيضا "
توجه للكرسي المنزوي تحت النافذة التي عكست نورها الخفيف على جانب قسمات
وجهه وسط تلك الغرفة بنورها الباهت , رفع القميص وقال وهو يرميه له " ولا
هي تركت لك أثرا خلفها فقد طلبت منه أن ينزلها في مكان عام ولم تتحرك
من مكانها حتى غادر "
وقف ذاك ورمى القميص على كتفيه وأدخل يده السليمة بصعوبة ليلبسه ولم يعلق فهو يعلم
جيدا أن لا لقاء آخر بينهما مثلما يجهل السبب الذي دفعه للحاق بها والخروج خلفها بل
ومراقبتها طوال الوقت في ذاك الملهى وليس يعلم إن كان السبب كما يضن أنه استغرب
خوفها في مكان مثله فقط ليس إلا أو ثمة شيء آخر ؟ فلم تشده واحدة من قبل وهو موقن
من أنها ستترك مكانها ذاك لتنام في حضن رجل قد تكون تراه لأول مرة كغيرها من
أولئك النسوة الغربيات , رفع سترته وقال بصوت مرتخي ووجهته باب الغرفة
" تصبح على خير وشكرا لك يا تيم "
لوح له بيده وتمتم ساخرا " حضا موفقا ولا تنسى أن ترجع لتعقيم جرحك "
ثم نظر من النافذة للرصيف تحتها وحبات المطر ترتطم به بعنف وأشعل سيجارة بعدما
التقطها بشفتيه ليتصاعد دخانها أمام نظره وتلك العبارة التي سمعها منه تتكرر ( لو
أعلم ما هذا العقل الذي في رأسك تترك الطب في آخر عام لك ؟ )
أبعد سيجارته يمسك بطرفها وشرد بنظره في الشارع وصورة والدته على سريرها
ذاك في تلك الغرفة وكلماتها له يومها تتكرر وكأنها أمامه والوعود التي قطعها لها
في مرضها , مشاهد لم يكن الزمن كفيلا بمسحها من ذاكرته ولا جعله ينساها
لتطارده كحبل يلتف حول عنقه فلم يخشى الموت ولم يفكر فيه إلا من أجلها
وبسببها , نظر لسيجارته مبتسما بسخرية ثم رماها من النافذة لتنزل مع حبات
المطر الباردة وهمس ببرود " وهذه أيضا من أجل تلك الوعود البائسة "
*
*
دخلت الغرفة ضاربة بابها خلفها بقوة وأمسكت بطرفي كنزتها الصوفية الحمراء
ونزعتها عن جسدها ورمتها بطول يدها على السرير لتبقى بالبنطلون الجينز
الأزرق الغامق والقميص الأبيض الضيق وتوجهت للسرير فورا وجلست على
طرفه تبعد شعرها البني الناعم جانبا عن وجهها ثم انحنت تنزع حذائها ليرجع
للتساقط مجددا على وجهها ويديها , نزعت الحذاء ورفعت جسدها مبعدة شعرها
بأصابعها ثم تمددت مضجعة على السرير تمد يدها للدرج بجانبه , فتحته
وأخرجت منه هاتفها المحمول ثم ارتمت للخلف على ظهرها ليتناثر ذاك
الحرير البني حولها وهي ترفع هاتفها عاليا أمام وجهها وهمست بملل وهي
تقلبه بسبابتها " زهور .. زهور , اثنا عشرة مكالمة ورسالتين أيضا "
طلبت رقمها فورا فأجابت تلك سريعا قائلة بتذمر " ضننت أني أتصل
برئيس البلاد ولا أحصل عليه وليس فتاة غبية أسمها ماريه "
ليصلها هناك الرد منها سريعا قائلة ببرود " وأنا ضننت أن أمرا مهما
سيحدث معي وأنا أرى كم المكالمات في هاتفي لأجدها جميعها من
معتوهة فاشلة اسمها زهور "
شخرت تلك ساخرة فورا وقالت " ومن ضننت يا حبيبة عمك ؟
زوجك المهاجر مثلا ؟ "
شعرت بتلك الغصة وإن كانت كتمتها ككل مرة بل وكل دقيقة تتذكره فيها
وقالت ببرود تمرر أصابعها للخلف في شعرها " لما لا نتوقف عن
الحديث عنه أم لا سلاح لديك غيره تؤذيني به كل مرة "
وصلها صوت صديقتها المقربة بل والوحيدة هادئا نادمة وهي تقول
" آسفة ماريه يبدوا أني آذيت مشاعرك "
ابتسمت بمرارة فها هي انكشفت حتى دواخلها ولم تستطع إخفائها ككل مرة يتطرقا
فيه لموضوعه , انقلبت على بطنها تخفي وجهها في أغطية السرير الزهرية الناعمة
والسميكة والهاتف لازال على أذنها وهمست بأسى " تجدد عقد زواجنا اليوم أيضا
يا زهور وهذه المرة بعد عامين وليس أربعة أعوام كالمرات الثلاث السابقة "
وصلتها تنهيدة تلك واضحة " ماريه ذاك الشاب يضيعك معه "
قبضت بيدها وأصابعها البيضاء الرقيقة على قماش الغطاء تحتها
وهمست بوجع " أنا ضائعة في كل الأحوال "
قالت تلك من فورها " إن كنت مكانك لرفعت قضية خلع وتزوجت من غيره
وعشت حياتي كغيري بدلا من أن تسجني نفسك في قوقعة ترفضين
دخول أحد لها بسبب ما حدث وما يقال "
همست مجددا تغمض عينيها بقوة " أنتي لم تعرفيه يا زهور "
صرخت تلك بحدة " أعرفك أنتي وأعرف ما حدث وعانيته يا ماريه , لا أعلم ما
بك قوية في مواجهة كل شيء وأي أحد إلا اسم وذكر الأحمق الفار ذاك , ماريه
أنتي ما تزالين في التاسعة عشرة الآن لكن العمر يركض منك يا صديقتي وتكبرين
قبله لأنه رجل , ألم يكفيه ما تركك تعانيه حتى الآن والناس تنهش شرفك ولحمك
وترفضين حتى الدفاع عن نفسك أمامهم وهو كل ما فعله أن اعترف بشيء لم
يفعله وفر تاركا إياك وحدك تعانين ويلات ذلك "
انقلبت على ظهرها مجددا مبعدة شعرها عن وجهها وهمست بهدوء معاكس لاشتعال
محدثتها تلك " لكني من طلب منه الهرب يا زهور "
أتاها ردها مباشرة " لكنك من طلب أجل .... ولكنه يعلم بالتأكيد أن عمك لم يمت
يومها مثلما يستطيع الآن تجديد عقد زواجكما متى أراد ومثلما يوكل محام يشرف
على قضيته من أعوام يصد أي محاولة لفك ذاك العقد , ومثلما يا ماريه هو من
مرر أوراق انتسابك للكلية ليأتي ذاك الخطاب من الوزارة لقبولك رغم أنه ينقصك
درجتين على النسبة المطلوبة هناك وكأنه سمع بكائك المحتج ذاك اليوم وأنت
تتلقين خبر رفضك من تلك الجامعة فما حجته الآن ؟ "
جلست متربعة وقالت بملل " زهور لما لا نغير الموضوع "
قالت تلك من فورها " تحضري معي زواج ابنة خالي الليلة "
أنزلت كتفيها متمتمة بعبوس " تعالي هنا نشاهد فيلما أفضل لنا أليس كذلك ؟ "
قالت برفض قاطع " لا "
فرمت الهاتف بعدما قطعت عليها الاتصال وغادرت السرير جهة الحمام
متجاهلة رنينه الملح
*
*
" يمكنك أخذ جوازك أيها السيد "
رفع نظره الشارد لها ومد يده ساحبا بها جواز سفره الذي ختمته للتو وغادر بخطوات
كل من ركّز عليها شعر أنها مسموعة رغم الضجيج من حوله , خطوات ثابتة ثقيلة
واسعة يقبض بأصابعه الطويلة على يد حقيبته الدبلوماسية التي تتحرك بتناغم مع
خطواته , بذلة رسمية سوداء لم يخفي قميصها الأبيض عضلات صدره العريض
ولا بنطالها الأسود طوله الفارع , نظره على ذاك الباب الزجاجي الواسع الذي يفتح
أليا كل حين في وجه الداخلين أو الخارجين منه متجاهلا بعض الرؤوس التي التفتت
مع حركته , وصل للخارج ووقف أمام أحد الأرصفة الداخلية للمطار ينظر لساعته
بشيء من الضجر وعيناه تمشطان المكان , تحركت حدقتاه السوداء في نظرة خاطفة
سريعة للسيارة التي مرت مسرعة من أمامه وقد أثارت الهواء حوله بقوة عابثا بأطراف
سترته الفاخرة وربطة عنقه وشعره الأسود الناعم القصير محركا ذاك المشهد شفتيه
بابتسامة ساخرة وتلك السيارة البروش الرياضية السوداء تتراجع للخلف حتى استقرت
واقفة أمامه ومد أصابعه لمقبض بابها وفتحه وركب قائلا ببرود والسيارة
تتحرك قبل حتى أن يغلق بابه " في المرة القادمة اصدمني بها لترتاح "
لتخرج تلك الضحكة الساخرة من الجالس بجانبه خلف المقود قائلا
" وكنت طلبت من سائقك المجيء لأخذك مادامت قيادتي لا تعجبك "
نظر للنافذة بتجاهل وقال " هل تحدثت مع خالك فيما اتفقنا عليه ؟ "
مد يده لزر التكييف وقال وهو يرفع من نسبته " تحدثت معه وقال بأنه
سيتكفل بالأمر بنفسه ويبدوا لي جادا هذه المرة "
هز رأسه بحسنا دون كلام على صوت شقيقه قائلا
" وأنت ؟؟ "
نظر له بطرف عينه وقال " وما بي أنا ؟؟ "
أمال ابتسامته ونظره لازال على الطريق وقال " لا تضن أني غافل عما
بينك وبين نجيب مؤخرا يا وقاص "
تأفف دون صوت مشتتا نظره على ملامح الأشجار التي تتلاشى صورها بسرعة مع
سرعة سيارتهم الجنونية وقال بشيء من البرود " تعلم كما يعلم شقيقك ذاك أني لم
أكن راض عن كل ما فعلوه وما خطط له "
قال الجالس بجانبه مباشرة " لكنك لم تعترض يا وقاص والصمت يعني الموافقة
وأنت أكثر من يعلم ذلك "
علت ملامحه ابتسامة متهكمة ساخرة وقال " لو كنت تحدثت لضن شقيقك الأحمق ذاك
أني أفعلها عمدا لأخسره جولة قد ترفع مكانته كما يتخيل , ومنذ البداية أخبرتكم أن
تنسوا أمر تلك الفتاة وتتركوها في غرفتها وعالمها المجهول لكن نجيب كعادته
دائما لا يرتاح ما لم يعكر مزاج جميع سكان المنزل "
انطلقت ضحكة روَاح الساخرة وقال " تخيلت كل شيء إلا أن لا يخرج تلك الليلة
من عندها إلا صباحا , هذا على أساس أنها خرساء مجنونة ! سحقا للرجال "
هز حينها وقاص رأسه وقال ببرود " أراك مهتما كثيرا بذاك الأمر ؟ هلاّ
شرحت السبب "
حرك أصابعه على المقود بتراقص وقال مبتسما " فضول ليس إلا لأعلم ما رآه
شقيقك خلف ذاك الباب فكل توقعاتي كانت أن يتزوجها من أجل مخططه ذاك
فقط لكن أن يقتحم حصون الغول ومن أول ليلة ! تلك لم أتوقعها منه وصراخها
ليلة دخل لها يؤكد كل ما سمعناه عنها "
هز ذاك رأسه مجبرا نفسه على عدم التفوه بأي حرف وتمتم ناظرا للخارج
" هل ستكون في المنزل الآن ؟ "
قال ذاك من فوره محركا المقود بقوة " لا يا رجل فعليا أن أختفي ساعات
الصباح من المنزل فرارا من والدتي "
توقفت حينها السيارة بعدما اجتازت شوارع ( بريستول ) واجتازت تلك البوابة
الضخمة ودارت حول النافورة مستقرة أمام باب ذاك المنزل الفخم بطوابقه
الثلاثة على صوت روَاح قائلا بفخر " حمدا لله على السلامة سيد وقاص ولا
تنسى أني أوصلتك في وقت قياسي لا تحلم به مع سائقك الشخصي ذاك "
فتح الباب وقال نازلا منها " ولا تنسى أنك نفخت لي رأسي طوال
الطريق وأشعرتني أنها أطول من المعتاد بأضعاف "
وضرب الباب دون أن يسمع ردا منه ولا أن يلتفت له ولا أن يخبره أنه اختاره
خصيصا لإحضاره من المطار ليصل سريعا وكان واثقا أنه سيكون هنا في زمن
قياسي , دفع باب المنزل ودخل على حركة الخادمات العشوائية حيث توجهت
إحداهما نحوه مسرعة وأخذت حقيبته قائلة " حمدا لله على السلامة سيدي "
سار أمامها يده في جيب بنطاله وهي تتبعه قائلا " حين يأتوا بالحقائب
خذوها لجناحي أريد كل شيء مكانه حين أرجع مساء "
لتسير تلك في اتجاه مغاير له منفذة الأوامر وتابع هو خطواته الواسعة الواثقة لوجهته
الأساسية ووقف مكانه راسما ابتسامة جانبية على ملامحه المتجهمة لسبب واحد فقط
هو إثارة ذاك الموضوع الذي لشقيقه نجيب ضلع فيه , وقف ونظره على الواقفة توليه
ظهرها أسفل السلالم المؤدي للطابق الثالث وتبدوا منشغلة بشيء ما على الطاولة
الرخامية المرتفعة بأذرعها الذهبية تتوسطها تحفة باللون البني اللامع تأخذ شكل
رجل يحمل دلوا تنزل منة المياه خلفه مسندا قدمه على جدع شجرة .
تقدم نحوها تمسح عيناه تفاصيل جسدها المتناسق والشال الحريري يغطي رأسها
منسدلا على جوانب كتفيها ووجهها ولم تشعر هي بمن تقدم نحوها متفائلا لما يرى
فلم يتخيل أن تعطي الحمية نتائجها في هذا الوقت القياسي ويبدوا تهديده لها أعطى
ثماره وفترة الثلاثة أشهر التي كان فيها خارج البلاد استغلتها جيدا ولن يكونا في
شجار جديد ومتكرر حول تلك العملية التي تصر عليها دائما وهو يرفضها , وصل
عندها ودون أن يتساءل عما تفعله كل هذا الوقت عند تلك التحفة مرر ذراعيه حول
خصرها في حركة جعلت جسدها تيبس مكانه بين تلك الذراعين القوية التي شدتها
لذاك الجسد الصلب ومال برأسه داسا وجهه في عطر وشاحها القوي الغريب عنه
كعادتها تعشق تغيير كل شيء ويراه هذه المرة أروع من كل سابقاتها وهو يعبق
برائحة الزهور وليس عطرا فاخرا كعادتها , همس ولازال تحت وقع خدره
الغريب عنه باستنشاق عطرها وتحسس جسدها الطري وكأنه يعرفه للمرة
الأولى " جيد فعلتها في غيابي وكنتِ عاقلة , أرأيتِ أن الأمر لا يحتاج
لتلك العملية لتنحفي هكذا "
تجمدت أطرافه وأنفاسه حين لم يرى منها أي استجابة ولم يسمع صوتها ولا شيء
سوى أنفاسها المتلاحقة التي تحولت لأنين خافت يشبه البكاء أو هو بكاء مكتوم
بالفعل فأرخى ذراعيه عن خصرها وفكرة واحدة تعصف بعقله وكادت تدمره
( من تكون هذه إن لم تكن زوجته تلك ؟؟ )
وما أن ارتخت ذراعاه تماما عنها انطلق ذاك الجسد راكضا عبر السلالم للأعلى وعيناه
تتبعان بذهول الشعر الحريري الأشقر الغامق الذي تطايرت أطرافه من جانبي جسدها
مع ركضها وقد وصل طوله لنهاية خاصرتها وزوجته لم يعرفها إلا بشعر أسود لم يتعدى
طوله كتفيها , ولم يأخذ وقتا كبيرا في تفسير كل ذلك وهو ينظر لتلك التي تعثرت وكادت
تقع على السلالم بسبب اندفاعها القوي ومفاجأتها وقد أمسكت بإحدى أعمدة الدرابزين
ليصبح ذاك الشلال الحريري منسابا على الأرض تحتها فقد علم فورا أنها ساكنة ذاك
الطابق الوحيدة والتي سرعان ما استقامت في وقفتها وواصلت صعودها دون أن يصدر
عنها أي رد فعل ولا أن تلتفت للخلف لترى من يكون ذاك الذي اجتاح وحدتها وصمتها
منذ قليل عابثا بخصرها بين لمساته , بل ولم يستوعب عقل الواقف مكانه يحدق في مكانها
الخالي منها كيف أن صاحبة هذا الجسد والشعر التي لم يرى وجهها بعد تكون ذاتها من
سمع كل ذلك عنها طوال فترة وجودها هنا ! بل وما أخرجها من سجنها الدائم !! ظهر
نجيب من آخر الممر دون أن ينتبه حتى لقدومه ومر من جانبه وفي عينيه تلك النظرة
التي يطمر بها مشاعر لا يقرأها إلا المعني بها وقال بسخرية لاذعة ضاربا كتفه
ومتابعا طريقه " حمدا لله على السلامة , جدي ينتظرك يا زعيم "
لكنه لم يستجيب للمسته ولا مغزى كلماته الساخرة بل ولم يحرك عينيه عن المكان
الذي اختفت منه تلك الغريبة منذ لحظة فقط , لم يستوعب عقله بعد كل تلك الصور
ولم يركبها !! بل ولم يخرج من غمرة ذاك الإحساس بعد , مرر يده على صدره
حيث لازال يشعر بجسدها ... كانت هنا امرأة غريبة عنه وقريبة في ذات الوقت
... امرأة ما كان ليدنوا منها لكل ذاك القرب إن كان يعلم أنها ليست من ظنها تكون
مرر إبهامه جهة قلبه تحت سترته السوداء الفاخرة وضغط عليه ونظره لازال معلقا
ناحية نهاية تلك السلالم وكأنه انتهى هناك , أجفل فجأة ونظر يمينه لصاحبة اليد
التي مسحت على ذراعه قائلة بحنان وحب " وقاص حمدا لله على سلامتك بني
متى عدت ؟ "
دار جهتها وقبل رأسها وهمس بتلقائية " سلمك الله خالتي كيف حالك ؟
كيف هي صحتك ؟ "
تعلق نظرها به رافعه رأسها للأعلى لتنظر لعينيه وقالت بمودة " بخير , ما
كل هذا الغياب عنا ؟ لم تغب هكذا من قبل ! ما قصدك بهذا النوع من
الاحتجاج يا وقاص "
هرب بنظره من عينيها وقال بجمود " كانت رحلة عمل ليس إلا خالتي , والأمور
المتراكمة هناك من وقت كانت تحتاج لفترة طويلة لإنجازها على أكمل وجه "
هزت رأسها بحسنا رغم عدم اقتناعها بسبب غيابه مدة الثلاثة أشهر الماضية وفي هذا
الوقت بالذات فهي من ربته مع ابنها وتعرفه جيدا إن لم يستطع التكلم ومنع ما لا يريد
أن يحدث في هذه العائلة يبتعد لأن بقائه كان سيكون فيه شجار محتم وعنيف مع شقيقه
نجيب وبالتالي جده وهو من كان يعلم أنه لن يستطيع الصمت إن كان هنا , مسحت
بيدها مجددا على ذراعه وقد رفعت نظرها لوجهه " هل تريد شيئا بني ؟
هل أعد لك شيئا تأكله ؟ سأصنعه بنفسي فقط أطلب "
ابتسم لها وقال " لا تتعبي نفسك خالتي أكلت في الطائرة سأستحم وأرى جدي
ثم أخرج ثمة مشوار ضروري ينتظرني ثم عليا زيارة مكتب المدعي العام
وسأتناول العشاء هنا وأرتاح اطمئني "
أومأت بحسنا مبتسمة ثم غضنت جبينها وقال عاقدة حاجبيها الرقيقان
" أين رواح ؟ سمعت أنه من سيحضرك هنا "
لم يستطع كبت ابتسامته وهو يقول " فر من عند الباب , وأعتقد أنك لن
تريه قبل آخر الليل "
غادرت من عنده متمتمة بضيق " إن كان ثمة من سيقتلني قبل أواني سيكون
ذاك المجنون "
راقبها مبتسما حتى اختفت ثم نظر لساعته في معصمه , ألقى نظرة أخيرة
على ذاك السلالم الأبيض الضخم ثم تحرك من هناك
*
*
تنهد بعجز أمام غضبها المفاجئ ونقل نظره منها لشقيقته ذات الثلاثة أعوام وهي متمسكة
بثوب والدتها تمسك بيدها الأخرى قطعة حلوى تمصها ودمعتها لازالت معلقة في رموشها
الكثيفة بعد صراع طويل معها لتعطيها لها في هذا الوقت من الصباح وقبل أن تتناول
فطورها , عاد بنظره لملامحها الحانقة المتجهمة وقال بجموده المعتاد
" أمي أرجوك لما لا ننسى هذا الموضوع قليلا "
قالت برفض قاطع " أبدا ... وقدم لي عذرك الآن لأعلم سبب رفضك ؟ هل
لأنها من الهازان أم لأني من اختارها لا تريدها ؟ "
تأفف وقال بنبرة هادئة هذه المرة " أمي ما هذا الذي تقولينه ؟ أنا لا تعنيني تلك
الأمور التي بدأت تتلاشى مع السنين وينساها الكبار لنتمسك بها نحن الشباب
ولا سبب سوى أني لست مستعدا لذلك الآن "
قالت بحنق " ومتى ستكون مستعدا وأنت أصبحت في السابعة والعشرين الآن ؟
إن كان هذا ردك أنت غيهم ما سيكون كلام أبان طويل اللسان ذاك ؟ ضننت
أنك ستوافق ما أن تعلم أني أريد ذلك "
حرك رأسه وهمس بضجر " وأبان جهزت له عروسا أيضا ؟ حسنا إن وافق
هو أنا موافق "
غادرت من عنده تسحب ابنتها من يدها متمتمة بغضب " حسنا كن عند كلمتك وذاك
لي تفاهم آخر معه "
هز رأسه متنهدا بيأس ونقل نظره فورا لباب المنزل الذي انفتح حينها ودخل منه ذاك
الشاب ذو الشعر الأسود الحالك الذي ورثه وحده عن والدته والعينين السوداء التي
لم ينافسها غيره فيهما يلف مفاتيحه حول أصبعه يدندن لحنا واقترب منه مبتسما
" ما بك متجهم هكذا يا ابن الحالك ؟ "
قال غيهم بحنق " والدتي هي والدتك يا ابن صنوان وأعتقد أن والدي والدك
أيضا وأنك من يشبهها وليس أنا "
خرجت منه ضحكة صغيرة وقد سند ساعده على كتف شقيقه قائلا بسخرية
" أحسدك يا رجل فكل من رآني نسبني لقبائلهم "
أبعد يده عنه وقال ببرود " جهز نفسك إذا يا ابن جوزاء شاهين الحالك لأنها
وجدت لك عروسا "
شهق أبان بذعر وقال " أعوذ بالله من أين أتت بتلك الأفكار الجديدة ؟ "
تمتم الواقف أمامه بعبوس " لا أعلم ما جعلها تغرس الفكرة في رأسها فجأة !
وأعرف عنادك فلا توافق وتورطني معك "
كان سيتحدث لولا انتقل نظرهما للذي نزل السلالم وتوجه نحوهما قائلا بضيق
" من منكما الذي أغضب والدته هذه المرة ؟ "
تمتم أبان ونظره على والده المقترب منهما لازال ببيجامة النوم
" وقعنا الآن شر وقيعة "
وصل عندهما وقال ناظرا لأبان " هل تكترث لو أخبرتك أني لم أسمع
ما قلت ؟ "
نظر ذاك فورا بطرف عينه للواقف بجانبه وقال " غيهم من كان معها
أنا دخلت وهي مغادرة من هنا "
نقل نظره فورا لابنه الأكبر فتمتم ذاك ببرود " هي من تبدوا لي بمزاج
سيء اليوم "
نقل نظره بينهما قائلا بضيق " كم مرة قلت لا يضايقها أحد ولست أراها سوى
مستاءة من أحدكم كل يوم وكأن جميع من في هذا المنزل يصغر وليس يتقدم
في العمر "
تمتم أبان يمسك ضحكته " لكننا أربعة أبناء والأسبوع سبعة أيام فمن المسئول
عن الثلاثة أيام الباقية "
رماه والده بنظرة قاسية تجاهلها كعادته وأمال وقفته يلعب بمفاتيحه وقال مبتسما
بمكر " أعلم أنه ليس أنت يا أيوب فليتك فقط تقدرنا أبنائك كما تقدرها هي "
وكزه الواقف بجانبه يشعر بجسده تقلص من حيائه بينما غادر والدهما متمتما
" جيل تنقصه التربية "
وصعد السلالم وقد وصلهما صوته قائلا بتهديد حازم " هذه آخر مرة أراها
غاضبة بسبب أي منكما تفهما "
واختفى عن نظرهما فنظر غيهم لأبان وقال بضيق " ألا تستحي أنت تتحدث
هكذا أمام والدك ؟ "
ضحك ذاك وضرب له كتفه بطرف مفاتيحه وقال " تعلم الرومانسية منه يا أخرق
أعان الله زوجتك القريبة عليك , ثم لو لم أحرجه ما فارقنا حتى علم بالأمر ووافقنا
على زوجات المستقبل رغما عن أنفينا "
هز غيهم رأسه وهمس بكدر " كنت سأتحدث معها عن سفري "
ضحك أبان مجددا وقال مغادرا جهة ممر غرفته " تسافر وهي تخطط لتزويجك ؟
قسما أن ترميك خارج المنزل إن قلت كل هذا أمامها اليوم "
*
*
*
رمت شعرها للخلف ولعبت بأصابعه خلاله وقالت للواقفة عند الخزانة مكتفة
يديها لصدرها " ما رأيك ؟ "
وتحولت نبرتها للرجاء وهي تتابع " قولي أني أشبهها يا كنانة حلفتك بالله "
خرجت ضحكة الواقفة هناك رغما عنها وقالت " تشبهين من يا حمقاء ؟ "
نظرت تلك للمرآة وقالت تسرح شعرها بأصابعها " أشبه غسق شراع
صنوان طبعا "
ثم عادت بنظرها لها وقالت بحماس " من يوم رأيتها السنة الماضية طار عقلي
من برجه وكرهت لون شعري ولون عيناي وحتى ملامحي "
جمعت كفيها عند فمها وقالت برجاء طفولي " قولي أني أشبهها ولو واحد
بالمائة "
لم تستطع تلك كتم ضحكتها وقالت " أنا لم أراها مثلك لأقيّم الأمر "
انخفض كتفاها وتمتمت بعبوس " مصروفي ضاع في صبغات الشعر
والعدسات اللاصقة كل شهر وهذا يكون جوابك ؟ "
رفعت تلك كتفيها بقلة حيلة وقالت مبتسمة " تعلمي أنها ترفض الظهور إعلاميا
رغم مكانتها في البلاد ورغم كل ما فعلته فمن أين سأراها وأنا في بريطانيا
هنا منذ صغري ولم أسافر لبلدي قط "
قفزت تلك جالسة على السرير وقالت " تعيسة لو رأيتها لشل دماغك , لا أصدق أنها
كانت في الواحدة والثلاثين من عمرها حين رأيتها السنة الماضية, لم أسمع شيئا
مما قيل في تلك الندوة النسائية وأنا فاغرة الفاه فيها "
" ساندي ... سااااااااااندي "
تمتم بسخط ناظرة للباب الذي فتح بعد ذاك النداء المرتفع " ساندرين أمي
... ساندرين هو اسمي كم مرة قلت لا تختصريه هكذا "
لكن تلك تجاهلت كل ما قالت ونظرت حانقة لشعر ابنتها " ألن تتوقفي عن جنونك
المفاجئ هذا ؟ حين رأيت منابت شعرك ترجع لطبيعتها ظننتك تخليت عن ذاك
المظهر الجديد "
مررت أصابعها في شعرها شديد الكثافة بلمعته السوداء الاصطناعية الشديدة وقالت
مبتسمة وهي تتركه من بين أصابعها " هذا مظهري الدائم عليكم أن تعتادوه "
وعقبت الواقفة عند الخزانة قائلة بضحكة " طبعا حتى ترى شقراء تسحرها
وتجعلها ترجع لشكلها القديم "
غادرت تلك متمتمة بسخط وقالت الجالسة عند السرير بضيق ونظرها على
الواقفة هناك " قريبتي أنتي أم قريبتها ؟ "
ضحكت وقالت " لا أقرب لأي منكما طبعا "
قفزت ساندرين من السرير وقالت متوجهة للمرآة " بلى قريبتي يا ذكية "
وتابعت مخللة أصابعها في شعرها ونظرها عليه في انعكاس صورتها " أليس ذاك
الشاب الجاف البارد الوسيم المدعو تيم ابن عمك ؟ ووالدي يكون عم والدته ؟
إذا نحن قريبتان "
ضحكت تلك وقالت " قريبتان ؟؟ قولي كل واحدة قريبة له هو فقط "
تجاهلت ما قالت وهي تتمتم بسرحان ترتب شعرها الأسود " لو يقول لي أحدهم
أني أشبهها ولو جزء بالمائة أحبه كل عمري "
وتنهدت متابعة وأصابعها لازالت في شعرها " يا قلبي ما أجملها , لا أعلم كيف
لعقل ذاك الرجل أن يقرر فقط أن يطلقها ويترك البلاد للأبد تاركا تلك
الحسناء خلفه "
*
*
*
نظرت بعيدا حيث الجالس على الصالون الآخر ونظره على شاشة حاسوبه من وقت لم
يبعده ولا حركة تصدر منه سوى تنقل مقلتيه السوداء الداكنة في تلك الشاشة المضيئة
التي عكس نورها لون لحيته وبشرته البيضاء , لحيته التي كحال شعره رغم تجاوزه
الخامسة والأربعين بقليل لازال يحتفظ بلونه ولمعته الملفتة للنظر ولن يلاحظ أحد تلك
الشعرات البيضاء القليلة المتفرقة إلا إن اقترب منه وكأنه يحكي الجذور النظيفة لذاك
الرجل التي لم يخالطها نسب آخر وخصال قبيلته التي عرفت بها ( قبيلة الحالك )
نزلت بنظرها للكوب بين يديها تمسكه بأصابع لا يظهر سوى نصفها من كمي كنزتها
الصوفية البيضاء وغابت بنظرها في البخار المتصاعد منه جالسة فوق الأريكة ترفع
ساقيها أيضا فوقها وهذا مكانها منذ وقت , نظرت للدوائر التي تحركت بوضوح في
شرابها الساخن بسبب ارتجاف يديها ما أن عادت بذاكرتها لأحداث البارحة , الأحداث
التي لم تغب عنها لحظة لتنساها فقد أمضت ساعات الفجر في شيء لا يشبه إلا الكابوس
وجسدها بأكمله يرتعش وكانت مجبرة على الخروج من غرفتها والجلوس هنا اليوم كي
لا تثير شكوك والدها حولها وهي أكثر من تعرف جيدا دقة ملاحظته وتحليله للأمور
وذكائه المخيف فإن استجوبها ببضع عبارات فقط لسردت كل شيء دون شعور منها
وهذا ما تعلم جيدا أنه لن يغفره لها مهما بررت وقالت وحلفت بأنها لن تكررها
تعرفه جيدا وتعرف مدى حرصه على كل ما تفعل وزلة كهذه تعد جريمة في قاموسه
فإن كانت هي لا تراها إلا جريمة شنعاء فكيف سيراها هو ؟ رفعت نظرها له مجددا
مع رفعها للكوب لشفتيها ورشفها منه ببطء وعلق نظرها على عينيه وحركة تلك
الأحداق الواسعة وعاد ذاك الشعور بالرعب في أوصالها فأغمضت عينيها بشدة
لتظهر صورة ذاك الشاب أمامها ... الصورة التي عبثا حاولت محوها من مخيلتها
وليست تعلم ما كان سيحدث لها لو لم يلحق بها وقتها وينقدها منهم , أبعدت الكوب
ومررت ظهر كفها على شفتيها وذقنها تمسح ما تسرب من شراب الشكولاته الساخن
بسبب عدم تحكمها في يديها المرتجفة تلك اللحظة , عادت بيديها مجددا لحجرها
وتنفست بقوة وزفرت ذاك النفس بحدة , لا تشعر أنها بخير أبدا وليست تعلم حتى
متى ستمثل هذا الدور من الصمود واللامبالاة ومتى سيفضحها جسدها وتسقط في
نوبة تشبه الصرع أو لا تعلم ما تكون غير أنها ستعبر عن كل ما تكبته من ارتجاف
لازال يسكن أوردتها ويصل حتى لقلبها , أرخت جفنيها للأسفل يخفيان تلك الأحداق
الزرقاء الواسعة وهمست تمسك شفتها السفلى بأسنانها
" يا رب لا يكون مات بسببي "
" تيما "
انتفض جسدها بقوة ونظرت فورا لصاحب ذاك الصوت الجهوري المبحوح المحدق
بها وقالت تمسك الكوب بقوة كي لا يقع من يديها " نعم أبي "
راقبت بقلب يصرخ بقوة من تسارع نبضاته عيني الذي عاد بهما للشاشة أمامه
وقد قال بنبرة غامضة أخافتها " ما المشكلة ؟ "
رطبت شفتيها بلسانها وحمدت الله أنه أبعد نظراته الثاقبة تلك عنها وقالت بصوت
جاهدت كي يكون طبيعيا " ما من مشكلة أبي "
جل ما كانت تخشاه أن يكون يعلم بما حدث أول ليلة أمس رغم استبعادها لذلك فهي تعرفه
جيدا فإن كان يعلم ما كانت لتكون ردة فعله باردة لا مبالية هكذا ولعلم كيف يعاقبها بطريقة
ستجعلها تندم على فعلتها لآخر عمرها , زفرت نفسا كبيرا كم شعرت به خرج من أعماقها
ساحبا معه كل ذاك الخوف والفزع وهي تراه يعود لانشغاله بما كان يفعل ولم يزد حرفا
على ما قال , رشفت من كوبها مجددا ولازالت تراقبه بصمت من فوق طرف الكوب الذي
لم تبعده عن شفتيها , أحيانا تشعر أنها لا تفهمه وكأنه ليس والدها ولم تعش معه كل هذه
السنوات رغم قلة رؤيتها له أو بالأصح حديثها معه فهو طوال الوقت مشغول إما مع أحدهم
أو بأحدهم أو بجهازه الملتصق به ذاك , يجتمع طوال الوقت بمجموعات من الأشخاص لا
تعرف سوى أسمائهم التي تسمعها من الخادمة التي تنطق أغلبها بشكل خاطئ لأنها أسماء
عربية ولم يسبق لها وقابلت أي منهم وجها لوجه , أحيانا تسمع فقط صوت بعضهم إن
أجابت على الهاتف والاحتكاك بأي منهم أو غيرهم ممنوع , ما تعرفه أنهم مجموعة كبيرة
منظمة تنظيم لا يمكن لأي جهاز أمني بريطاني خرقه يعملون ليل نهار ومنذ سنوات من
أجل أمر مرتبط ببلادها هناك .... بلادها التي لم تزرها يوما ولا تعرف عنها سوى ما
تراه في التلفاز , تنهدت بحزن وأنزلت الكوب مجددا فمجرد التفكير في وطنها يأخذها
لأن تفكر في والدتها التي لم تراها يوما ولم تسمع ولا حكايات والدها عنها ليشبع فضولها
لتعرف المرأة التي كانت زوجته وأنجبتها من صلبه فليس لديها سوى أسمها وما يقال
إعلاميا عنها , رفعت نظرها مجددا للجالس هناك تراقب ملامحه الجامدة التي لا
تعبيرات فيها ولا مع تغير الألوان التي تصدرها شاشة حاسوبه على نظارته وعادت
تلك التساؤلات التي تزورها دائما كلما فكرت في صمته الدائم والغامض عن ماضيه
كانت تسأل ومنذ صغرها عن تلك الأم التي حرمت منها لكنها مع مرور الأعوام تعلمت
أن تتوقف عن كل تلك الأسئلة لأنها لم تكن تجد لها أجوبة لديه , وكانت ببراءة تضن أنه
لا يعرف الجواب وحين كبرت علمت أنه يرفض قوله والفرق بينهما كبير , تذكر حين
سألته يوما وكانت في عمر الثالثة عشرة ويوم ميلادها تحديدا وقد طلب أن تختار هدية
لها فقالت دون ترتجع أو تفكير " هل أشبه والدتي ؟ هل أخذت لون عيناي منها ؟
هل صورتها يمكنني أن أراها كلما نظرت في المرآة "
كانت أسئلتها متلاحقة متلهفة وكأنها خشيت أن يسكتها ولا تجد وقتا لسردها جميعها وكم
شعرت وقتها بانجراف مشاعرها لهوة عميقة وندمت .... ندمت حقا على ما قالته وهي
ترى انسدال جفنيه لتخفي عينيه عنها وعلمت حينها أنه أخفى شيئا عميقا وعظيما فيهما
لم يشأ لأحد أن يراه , كانت ستتراجع بل قد تركض مغادرة المكان لترحمه من الإجابة
لولا أن سبقتها كلماته ولم يرفع عينيه بها " عيناك كلون عيني جدة والدتك فهي كانت
خماصية من الهازان أما شكلك فكجدتك من والدتك أميمه غزير ... والدتك أخذت
شكل جدتها الخماصية وعيني والدتها أميمه "
وكم كانت خيبتها عظيمة يومها فهي خسرت الهدية التي كانت تفكر ما ستكون منذ العام
الماضي رغم أنه أجاب على أسئلتها جميعها , وعلمت حينها أنها ووالدتها النقيض تماما
وأن والدها لا يرى فيها ولا شبح زوجته تلك , وكم تبادر لذهنها أنها لو كانت تشبهها
فكيف كانت ستكون نظراته لها وقربه منها ؟؟ كانت تعلم أنها أفكار سخيفة ساذجة من
فتاة رباها والدها وعلمها لتكون أكبر من سنها بكثير لكن ذلك كله كان سببه غموض
الجالس هناك وصمته عن كل تلك الأمور التي تخص ماضيه مع المرأة الوحيدة التي
اقتربت منه كجسد واحد , ورغم كل ذلك كانت تراها فيه حقا , رغم صمته وتهربه من
أي حديث قد يقود لتلك المرحلة من حياته كانت تراها في كل شيء حتى في صمته ذاك
في عينيه ونظراته التي يشيح بها عن أي امرأة تقترب منه وكأنه يحفظ تلك العينين لامرأة
واحدة لن يخونها ولا بنظراتهما , تراها في غرفته في سريره الذي ينام فيه وحيدا وفي
ذاك النور المنبعث من تحت باب تلك الغرفة لوقت طويل خلال الليل رغم أنه لا يدخل لها
أي شيء يخص عملهم السري المبهم ذاك ولا حتى حاسوبه , بل وتراها أكثر في
تدليكه لعنقه المتعب وهو مغمض العينين حين يهمس متنهداً بتعب
" ليتك رحمت نفسك بها يا مطر "
لم تكن تفهم معنى ما يقوله في كل مرة تصدر عنه ذات تلك الحركة لكنها تقرأها في كلماته تلك
في اسمه الحقيقي الذي لا ينطقه إلا في تلك العبارة الهامسة وهو من اتخذ اسما مستعارا ممنوع
عنها حتى هي استخدام غيره إن اختارت أن لا تناديه بوالدي ولا يعلم اسمه الحقيقي ذاك إلا زمرة
معينة وضيقة جدا كما لاحظت وفهمت من تعليماته لها . نقلت نظرها منه للخادمة التي اقتربت
ووقفت عند كرسيه هناك وقالت تضم يديها لبعضهما " سيدي كيسم يطلبك على الخط الأخضر "
فوقفت حينها بعدما وضعت كوبها على الطاولة الزجاجية المنخفضة فذاك الذي تناديه الخادمة
بقيسم ورغم جهلها لهويته وشكله تعلم أنه سيدخل لوالدها في مكتبه خاصة لاتصاله على ذاك
الخط تحديدا وهي يُمنع عليها النزول قبل أن يغادر , صعدت للأعلى ودخلت غرفتها وتوجهت
رأسا لهاتفها ضاربة الباب خلفها ورفعته وهو في رنين مستمر ولأنه تم حضر الأرقام الغير
مسجلة فيه ولا يتصل به إلا أرقام معينة علمت من سيكون صاحب ذاك الرقم , وضعت
الهاتف على أذنها بينما أمسكت خصرها بيدها الأخرى وقالت من فورها
" لا أهلا ولا سهلا ومن اليوم وصاعدا لا أنتي عمتي ولا أقرب لك "
قالت من في الطرف الآخر من فورها " يا حمقاء ما هذا الذي فعلته البارحة ؟ "
جلست على السرير بقوة وصاحت بحنق " وما تتوقعين مني فعله ؟
كدت أكون ضحية لما الله وحده يعلم ما سيكون وأحدهم قد يكون الآن ميتا بسببي
وتلومينني يا غيسانة ! أقسم إن رأيت تلك الفتاة مجددا جررتها لوالدي وأخبرته
بكل شيء ولن تلعبا بعقلي مجددا كالبلهاء "
تأففت تلك وقالت " أخفضي صوتك إن سمعك الآن لن يرحم أحدا وأولهم أنا , أنتي
من تهورت كانت الأمور تسير على خير ما يرام , لما غادرت الملهى ؟ أنتي سبب
ما حدث وما كان سيحدث لك "
أغلقت الخط في وجهها ورمت الهاتف على السرير بقوة متمتمة بحنق
" سحقا لك ولها , أنا الغبية التي أطعتكما "
*
*
*
أبعدت يده عنها والتفتت له وهمست بضيق " كاسر أبعد يدك , كم أكره حركتك
هذه في شد الثياب , أنت لم تعد طفلا "
همس بضيق مماثل ناظرا لعينيها " عمتي هذا ليس وقت توبيخك لي "
تنفست بحدة والتفتت وعادت للنظر من خلف العمود العريض الذي يختبئان خلفه للجالسة هناك
على الطاولة البيضاوية البيضاء تمسك شعرها الأسود الحريري الطويل للأعلى بعشوائية ووجهها
كعادته من أشهر خال تماما من مساحيق التجميل , تحتل جزئا من تلك الطاولة والأوراق مبعثرة
أمامها تمسك إحداها بين أناملها وترفعها قليلا ونظرها عليها وبيدها الأخرى تثبت هاتفها المحمول
على أذنها وتقرأ أرقاما وأمور يتعسر عليهما فهمها محدثة من في الطرف الآخر وليست تعلم شيئا
عما يجري حولها , همس الفتى ذو الستة عشر عاما من خلف أذن عمة والده ونظره على
الجالسة هناك " عمتي لنقترب واسأليها أنتي ففي أي لحظة قد تقف وتغادر لمبنى
الجمعية ولن ترجع قبل مقربة المساء "
وكزته بمرفقها للخلف وهمست من بين أسنانها " كاسر إما اسكت أو تحدث أنت معها "
حركة بسيطة من الجالسة هناك جعلتهما يخرجان من مكانهما رغم أنها قصدت فقط جلب ورقة
بعيدة قليلا عنها ولم تنتبه لهما إلا بسبب خروجهما واقترابهما منها وعمتها تتقدم على الذي يكاد
يكون ملتصقا بظهرها وقالت مبتسمة " كنت أود التحدث معك لكن يبدوا لي أنك مشغولة "
عادت بنظرها للأوراق تحتها وقالت وهي تجمعها " انتهيت عمتي وسأغير ملابسي
وأذهب لمكتبي إن كان الأمر يطول الحديث فيه فلنتركه للمساء "
التفتت للذي يكزها بإصبعه من ظهرها وتأففت في وجهه ثم عادت برأسها ونظرت
للتي وقفت تجمع باقي الأوراق وهي تقول " كاسر أين المدرسة اليوم ؟ "
ثم رفعت نظرها له حين قال مبتسما " لا مدرسة اليوم أمي أم نسيت أنها أيام ذكرى
توحيد البلاد وهي للإجازة وليس الاحتفالات فقط "
انحنت للأسفل ورفعت حقيبة سوداء أنيقة وضعتها على الطاولة وجمعت الأوراق فيها
ولم تعلق بشيء على ما قال فقالت جويرية " لقد اتصلت جوزاء شاهين يبدوا لي أنها
أرادت التحدث معك وحين أخبرتها أنك لست في المنزل قالت فقط أنها تسأل عنا
وبأنها قد تمرنا لرؤيتك وقت ذهابها لزيارة خالة والدها في الجنوب "
أنهت جملتها وكالعادة لم يقابلها سوى الصمت من التي انتهت من جمع أوراقها وغادرت
المكان بخطوات ثابتة هادئة لم تعبر عن شيء مما يعصف داخلها , راقباها تختفي خلف
الجدار الزجاجي وتصعد السلالم الموجود بالجانب الأيمن لبهو المنزل والمؤدي أيضا
للطابق العلوي لكن لغرفتها مباشرة , ومع اختفاء قدميها عن نظرهما عند آخر عتبة تظهر
لهما من ذاك السلالم الأبيض الضخم التفتت تلك للواقف خلفها وهزت رأسها بيأس ودون
كلام فهمس بإحباط منزلا كتفيه للأسفل " لو أعلم ما بها عمتي فهي كانت على علاقة
جيدة بهم نسبيا قبل وفاة جدي شراع ! ما سر قطع علاقتها بها بعد ذلك ؟ "
تنهدت الواقفة أمامه بعجز هامسة " لا أعلم أكثر مما تعلم بني "
غرس أصابعه في شعره الأسود الكثيف المبعثر قليلا وقال بأحرف كسولة
" السر في الماضي عمتي أليس كذلك ؟ "
هزت رأسها بحيرة وقالت " لا أحد يعلم ما السبب وما حدث لها هناك في الأشهر التي عاشتها
معهم فقد أغلق ذاك المنزل بعد اختفاء ابن شاهين وموت عمته وسفر عمه وعودة شقيقته
لزوجها لتُغلق مع أبوابه أسطورة ذاك الرجل وقلب والدتك الصغير للأبد , ودفنت نفسها
في أعمالها وتربيتها لك وبثنا نرى غسق جديدة لم نعرفها من قبل تقتل تلك الفتاة
المرحة داخلها شيئا فشيئا "
تمتم بعبوس شيئا لم تفهمه ثم قال " والنتيجة لم تحدثيها عما اتفقنا عليه "
حركت كتفيها قائلة ببرود " أردت أن أمهد للأمر ولم أنجح ولا في التمهيد
تحدث أنت معها فلن تحبني أكثر منك "
غادر من عندها وقال وهو يبتعد ويديه في جيبي بنطلونه الرياضي
" لا يبدوا لي سينجح الأمر أبدا مع مزاجها هذا , سأرجع لدراستي "
*
*
*
مسحت برفق بالمرهم على الكدمة الخضراء الواسعة على ذراع الجالسة أمامها
قائلة بضيق " كسر الله يده ذاك المجرم , أكثر من أسبوعين مرا ولازالت
بذات لونها بل وتزداد قتامه , هذا غير الخدوش الأخرى لا بارك
الله فيه ولا في من أنجبه ورباه "
عادت لمسح المرهم مجددا ثم سوت وقفتها ونظرت للتي تخفي ملامحها المتألمة في راحة
يدها , نظرت لها بحزن شديد وهي من عرفتها واعتنت بها لست سنوات خلت ومنذ كانت
في الحادية عشرة من عمرها حين أحضروها ووكلت بالعناية بها وأحبتها وكأنها ابنتها التي
أنجبتها وليست غريبة عنها حتى في الدم والوطن فهما تبقيان غريبتان هنا في بلاد أجنبي
ولا ترى هذه الفتاة إلا مثلها وأسوأ وهي التي يفترض أنها تعيش وسط عائلتها الآن .. جدها
وعمها وزوجاته وأبناء عمها لكنها لم ترى منهم إلا كل سوء , راقبتها وهي تبعد يدها وتمسح
عينيها بقوة رغم أنها لم تسمح لأي دمعة بالتسلل منهما وكم تحار في صبر هذه الفتاة فرغم
أنها في الثامنة عشرة من عمرها بل ورأت خلال سنوات حياتها منذ صغرها ما لم يره أحد
لم تراها يوما منهارة وتبكي ولم تشتكي قط إلا في مرات نادرة جدا تغلب فيها ألمها وحزنها
وذكرياتها الموجعة على صبرها وعزمها القويان , فلازالت تذكر تلك الحالة البشعة التي
كانت عليها في أول لقاء لهما وهي ترى أمامها فتاة صغيرة منهارة شبه فاقدة للعقل وكأنه
ثم خراجها من براثن الغول , هزت رأسها بأسى وهي تنظر لعينيها البلوريتان الزرقاوان
والدمعة سجينة تلك الأحداق وهي تنظر لذراعها ولتلك الكدمة البشعة ممررة سبابتها فوقها
برفق وعيناها تحكي قصصا من الصمت يفهمها كل من عرفها وعاش معها دون أن تتحدث
وهي من لا تتفوه إلا بالقليل النادر , حسناء شابه وفتية مثلها هذا ليس مكانها ولا ذاك
المتوحش ينفع زوجاً لها , كانت تلك أفكارها كلما رأتها في كل لحظة ويوم لتتساءل متى
سينتهي عناء هذه الفتاة ؟؟ رفعت يدها لها ومسحت على شعرها الأشقر الغامق قائلة بحنان
" زيزفون لما لا تبحثي عن وسيلة لتتصلي بالزعيم ذاك مجهول الهوية وتخبريه ما فعلوا
بك هؤلاء الأوغاد "
هزت رأسها فورا برفض وهي تنفخ بشفتيها الرقيقة برفق على ذراعها فذاك الهواء البارد
يشعرها ببعض التحسن لتنسى ذاك الألم ولو قليلا , جلست تلك أمامها وقالت بإصرار
" زيزفون لا تنسي أنه وافق ما تريدين الآن تحت إصرار وضغط كبيرين منك ولو
يعلم ما يحدث فلن يعجبه هذا وقد يعاقبك أيضا "
أنزلت القماش الرقيق على ذراعها مغطية له بكاملة ونظرت جهة زجاج النافذة الغير قابل للكسر
والمحمي من الفتح وهمست بخفوت ونبرة قاسية ونظرة شاردة في البعيد" لن أخرج من هنا
حتى يحدث ما خططت له وأريد وذاك الرجل يعلم هذا جيدا وموافق عليه "
كانت الجالسة أمامها ستتحدث فأوقفها همسها ونظرها لازال هناك عند السماء الكئيبة
المغيمة " اتركيني وحدي يا خالة أرجوك "
فوقفت تلك من فورها متنهدة بيأس وعجز بل ورحمة على حال التي تركتها خلفها وسارت
بخطوات بطيئة جهة الباب المشترك بين غرفتيهما , الغرفتان اللتان صممتا لتكونا سكنهما
الدائم حيث يعزل أهل ذاك المنزل المجنونة الخرساء كما يضنون وأرادت هي أن يفهموا
مع رفيقتها أو من تهتم بشئونها ويُمنع عنهما الخروج منها , أغلقت باب غرفتها برفق
ونظرها على الجالسة هناك حتى أغلقته تماما وتركتها لصمتها المعتاد وشرودها الغامض
الممتد وحدقتيها الزرقاء لازالت تعانق السماء الرمادية الملبدة بالغيوم وقد مررت طرف
إبهامها على ذراعها نزولا , تريد أن تزيل ذاك الشعور بتلك الذراعين القوية التي
احتضنتها في الأسفل وتعجز عن فعل كل ذلك فلازال إحساسها بهما على خصرها
وتلك الأنفاس الدافئة على بشرة وجهها حتى الآن , تكرههم ... تكرهه وتريد طرد
كل هذا الشعور الذي لازالت ترسله خلايا بشرتها , لم تره لكنها علمت من يكون
من مناداة ذاك له بالزعيم , مررت أناملها على القماش الحريري الناعم على ذراعها
وهمست بنبرة ساخرة " وقاص سلطان ضرار سلطان .... أنت إذاً رئة
التنفس لجدك العزيز "
*
*
*
فتح باب الجناح ودخل مغلقا إياه خلفه والهدوء والصمت يعمان المكان وكأنه لا أحد فيه
نظر لحقائبه التي أوصلتها الخادمات هناك ولم تتحرك من مكانها رغم أنه مر بمكتب جده
قبل قدومه إلى هنا , توجه لباب غرفة النوم رأسا وفتحه ودخل ووقع نظره فورا على الجالسة
أمام الطاولة الخاصة بصالون الغرفة الواسعة وأطباق متنوعة من المأكولات مصفوفة أمامها
وهي تنظر لها ودموعها على خديها , أغلق الباب ورمى سترته على الكرسي القريب منه
وتوجه للمرآة وقال وهوا يرخي ربطة عنقه عودية اللون " إما تناوليه أو ارفعيه من
أمامك يا جمانة وكفى تعذيبا لنفسك "
وقفت من فورها وتوجهت نحوه وما أن وصلت عنده حتى حضنته بقوة تلف ذراعيها حول
خصره وشدها هو لصدره برفق وتابعت هي مسح دموعها الصامتة على قميصه الأبيض
وهمست بنشيج باكي " جربت كل الطرق ولم أنجح ... كم أكره نفسي يا وقاص "
مسح على شعرها الأسود قائلا بهدوء معاتب " جمانة كم مرة قلت أنه لا يعنيني
وزنك وهو معتدل بالنسبة لي لكن يبدوا أن أراء الناس هي ما تعنيك وليس زوجك "
ابتعدت عنه بقوة وقالت مندفعة وبنبرة حادة " أنا أسمع كلام الناس وليس كلامك أنت
وهم يقارنوني بك ... حمقاء عادية الجمال والطلعة بدينة .... وأخرها لم تنجب له
رغم مرور ثلاثة أعوام على زواجهما "
خرج هو من هدوئه هذه المرة وقال بقسوة " جمانة قلتها وسأعيدها ولآخر مرة تلك
العمليات التجميلية لن تجريها فأخرجي تلك الأفكار من دماغك , أنا راض بك كما
أنتي هكذا ولم أشتكي يوما والمرأة لا تقاس بشكلها , السذّج فقط هم من يفكرون
بهذا المنطق "
رمت يدها في الهواء قائلة بحنق باكي " أنت لست راض عني , أنت وافقت على الزواج
بي نزولا عند رغبة جدك ولمصالح مشتركة بين العائلتين , أنا لست غبية ولا حمقاء
وأعلم عن كل ما حدث "
وقبل أن يعلق بأي كلمة نزلت جالسة على الأرض وحضنت وجهها بيديها وقالت ببكاء
" أنا آسفة لم أقصد أن أرفع صوتي يا وقاص لكني كرهت حقا حتى مقارنة نفسي
بك , أكره نفسي وشكلي وجسدي وحتى تفكيري "
مرر أصابعه في شعره متنهدا بعجز وتوجه نحوها جلس أمامها على الأرض فوق السجادة
وقال بحزم " جمانة لن أُذكرك بكلام طبيبك في كل مرة وهو يقول لك بأنك سبب ما أنتي
فيه الآن وحتى مشاكل الحمل نفسية ليست إلا ولن تحملي مادمت تعانين من كل هذه
الاضطرابات , أنا وافقت جدي في اختياره لا أنكر ذلك لكنه ما كان سيفرض عليا
الزواج بك إن كنت لا أريد "
كانت ما تزال تخفي وجهها بكفيها وأصابعها الطويلة الممتلئة والطلاء الأحمر الناري يغطي
أظافرها وقالت بذات بكائها " لكنك لم تطلب ولا رؤيتي بعد الخطبة , لم تهتم ولا لأن تراني "
تنفس بقوة يهدئ نفسه قدر المستطاع وقال بصبر " لكني لم أهرب منك ليلة تزوجتك وأنتي
لستِ كما يصور لك عقلك يا جمانة وأنا سئمت من تكرار ذات العبارة بأنك تعجبينني كما أنتي "
أبعدت يديها ليظهر وجهها والكحل قد خط خطان أسودان على وجنتيها الممتلئة وقالت بنحيب
" لكنك لست سعيداً معي أنا أعلم ذلك جيدا , أنت تحاول أن تحتويني تراعيني وتعاملني
بالحسنى لكنك لا تحبني كرجل يحب امرأة , لا تشعر بالسعادة معي ... أنا لست غبية "
وقف وقال بضيق طغى على صبره كله " تعبت في إيجاد طريقة أفهمك بها يا جمانة
عوضاً عن أن تستقبلي زوجك الغائب من ثلاثة أشهر كأي زوجة غاب عنها
زوجها تسمعيني محاضرتك المعتادة وكأني لا أحفظها عن ظهر قلب "
عادت لإخفاء وجهها في كفيها وعادت للبكاء مجددا وأسوأ من السابق فتحرك من
هناك متأففا وتوجه للحمام ودخله ضاربا بابه خلفه
*
*
*
" ما تعليقك يا قاسم ؟ "
أبعد نظره فورا عن الواقف عند النافذة لازال يرمقه بتلك النظرة التي يعلم ما تعني جيدا ولازال
يحمد الله على صمت الجالس أمامه خلف الطاولة لم يتحدث بشيء وهو يعلم حديثه جيدا إن قال
شيئا , همس ونظره على أصابعه يده وقد مررها على ذراعه المجروح " كان مجرد أمر
يمكن تسميته بالعمل الإنساني "
قال دجى بحزم " كانت لديك مهمة محددة يا قاسم وقد خضنا شوطا طويلا تعلمون
جيدا أن التلكؤ فيه قد يفقدنا الكثير في أي لحظة فما يعني مخالفة الأوامر لديك ؟ "
رفع نظره له وقال بنبرة صلبة " الهدف كان مجرد رجل سكير جالس بين امرأتين لا
يفعل شيئا والفتاة كانت تواجه مـ .... "
قاطعه فورا " هل كنت ستلحق بأي فتاة تخرج من ذاك الملهى ؟ هل ستترك أي مهمة توكل
إليك لأنك ستجد فرصة في كل مرة لما تسميه عملا إنسانيا ؟ لم يكن لك سوابق مشينة
هكذا يا قاسم "
نظر للأسفل وقبض أصابعه بقوة وأول ما ظهر أمامه صورة عينيها وحدقتيها الزرقاء الواسعة
الدامعة وتلك النظرة المذعورة , يعلم صحة ما يقوله خاله جيدا وما بقي هنا بعد تحريره من
ابن راكان وحُرم من رؤية والدته ولو لمرة واحدة قبل موتها لكي يسيء لمبادئ عملهم الذي
اختار الانخراط فيه , همس ولو مكرها " لن يتكرر الأمر مجددا "
تحدث حينها الجالس خلف الطاولة الزجاجية السوداء خارجا من صمته لأول مرة منذ
دخولهم للغرفة " المنطقة كانت مراقبة جيدا برجالنا , لما لم تتصل بأحدهم للحاق بها
وإنقاذها بل خرجت أنت تحديدا في أثرها ؟! "
رفع نظره ونظر له باستغراب من سؤاله وكان سيتحدث لولا سبقه مطر متابعا بخشونة
" هل تعرف من تكون تلك الفتاة يا قاسم ؟ "
هز رأسه بلا فورا فقال مطر بحزم " إذا لا داعي للتحدث في الأمر أكثر "
قال جملته تلك منهيا الموضوع بأكمله ونظرات قاسم المستغربة لازالت تتفحصه ولم يبدوا
له مكترثا بنظراته تلك وهو يقلب الأوراق أمامه , طرقات على الباب تلاها دخول تيم الذي
ألقى التحية همسا وجلس فورا في الكرسي المقابل له دون أن يضيف شيئا كعادته فتنفس
بارتياح لانتهاء الجو المشحون في ذاك المكتب وانتهاء جولة التحقيق معه وتوبيخه فالوافدون
تباعا سيلهون خاله أكثر للابتعاد عن الموضوع , وما هي إلا لحظات ودخل من ذات الباب
شخص آخر قائلا " جيد لا يبدوا أنني تأخرت فالعدد لازال في أوله "
*
*
*
بعد حمام لم يشعر بأنه أزال شيئا مما يشعر به خرج لافا المنشفة حول خصره ووقع نظره فورا
على الجالسة مكانها السابق تأكل بنهم وتمسح دموعها ولم تلتفت جهته أبدا فهز رأسه بيأس
وتوجه للمرآة رفع مشطه وسرح به شعره للخلف ثم دخل غرفة الملابس ولبس ثيابا مريحة
وعملية أكثر وخرج ووجهته الباب فورا مغادرا من هناك ولم يحاول فتح أي مجال للحديث
مع من تركها خلفه تفرغ غضبها وانفعالها في الإفراط في الأكل كعادتها حين تصاب بتلك
النوبة الدائمة من اليأس , فما أن رأته يخرج مغلقا الباب خلفه بهدوء دون حتى أن ينظر
ناحيتها ازدادت نهما في أكلها أكثر وكأنها لم تأكل حياتها , رمت قطعة اللحم من يدها بقوة
لتتطاير صلصة الطماطم والأعشاب من الطبق بسبب ارتطامها القوي به ما أن سمعت رنين
هاتفها ووقفت تمسح شفتيها بالمنديل بقوة ورفعته وأجابت بحزن " نعم أمي "
وما أن قالت من في الطرف الآخر " مرحبا يا جمانة "
حتى انهارت جالسة على السرير ودخلت في نوبة بكاء جديدة لم تهدأ بعدها بسهولة ولم تسمع
ولا ما كانت تقول والدتها بشكل واضح وقالت بنشيج باكي " لا لم نتشاجر .... بلى تشاجرنا
وأنا السبب لقد خرج غاضبا مني , أمي لما لا ترحموني من لعب هذا الدور الغير مناسب لي "
قالت تلك بحدة " حمقاء طوال عمرك ولا تجيدين التصرف أبدا "
رشفت أنفها في المنديل وقالت بذات بكائها وبحسرة " في ثيابه عطر امرأة أمي , لقد فعل
ما لم يفعله طيلة السنوات الثلاث التي عشت فيها معه , كنت أعلم أنه سيبحث عن غيري
أخبرتكم من البداية أني لا أليق به لكن والدي لم يحاول ولا سماع رأيي "
صاحت والدتها بصدمة " من هذه التي تقول حماقة كهذه ؟ زوجك وحياتك هناك تتمناهما كل
فتاة عربية في انجلترا بل وحتى الإنجليزيات ويحسدك على ما لديك الجميع , لولا سوء
تصرفك وعدم ثقتك بنفسك ونهمك في الأكل كالدّابة ما كان ذهب منك لغيرك وهو من
يُعرف بنزاهته وبعده عن النساء بجميع أنواعهن في بلاد ترمي فيه المرأة بنفسها في
حضن الرجل دون حتى أن يدعوها إليه "
وتابعت صراخها بها " لو فقط عجّلوا قليلا قبل أن تتزوج شقيقتك جيهان لكانوا خطبوها هي
وتزوجته بدلا من ذاك النكرة الذي تزوجها وكانت ستعرف كيف تجعله خاتما في أصبعها
فهي ليست غبية مثلك لا تجيدين سوى الأكل وإهمال نفسك "
رشفت أنفها مجددا وقالت بعبرة وكأنها لم تسمع كل ما رمتها به بقسوة " هل سيكون وقاص
كزوج جيهان الحالي لتضعه خاتما في أصبعها ؟ لا أعتقد أمي ثم هو لا يستحق واحدة
كحبيبتك جيهان امرأة خبيثة كالأفعى "
تجاهلت تلك أيضا حديث ابنتها وقالت بحزم " تصرفي يا جمانة حكمي عقلك المتوقف عن
العمل ذاك فبما أنه يرفض أن تجري العملية ولم يتذمر من مظهرك قط فهو لا يهتم بذاك
الأمر فاكسبيه يا غبية قبل أن تخسريه نهائيا "
عادت للبكاء القوي قائلة بعبرة " لا يحبني يا أمي لا يحبني ما فائدة كل تعامله النبيل معي
ومراعاتي وهو لم يسمعني كلمة حب مرة واحدة ؟ الأمور ليست كما تتخيلينها أبدا "
صرخت فيها بقوة فوق صوت بكائها " توقفي عن شرب السوائل على الأقل لتخف هذه
الدموع الحمقاء التي لا تتوقفين عن ذرفها , كم مرة أخبرتك أن الرجال يكرهون المرأة
الضعيفة الحمقاء ولا أراك إلا تزدادين تمسكا بطبعك القديم "
كتمت بكائها بيدها وقالت تجاهد عبراتها " توقفي عن معاملتي أنتي أيضا بهذا الشكل
فأنا أخذت بنصائحك دائما ولم أجد طريقة تجدي أبدا "
وصلها صوت والدتها الحانق " ستعلمين الطريقة وستعرفينها جيدا يا جمانة حين تري
غيرك تطبقها عليه ووقتها فقط ستتعلمين لكن الأوان سيكون قد فات ولن تجني إلا
الندم والحسرة "
أبعدت الهاتف عن أذنها حين انقطع الخط ثم رمته على السرير ووقفت وتوجهت لخزانتها
فورا وسحبت بابها الكبير بقوة جانبا وأخرجت الصورة المبروزة التي أخفتها هناك من كثرة
ما كرهت النظر إليها وكانت صورتها ووقاص ليلة زفافهما , وما أن وقع نظرها على
وجهيهما حتى انفجرت باكية من جديد
*
*
*
نزلت السلالم العريض الموجود في طرف بهو المنزل الواسع بأثاثه العاجي المذهب وهي
تلف حزام حقيبتها الأنيقة خلف رأسها ليستقر على كتفها الأيسر بينما نزلت تلك الحقيبة
بنعومة على وركها الأيمن وجمعت مقدمة شعرها بمشبك فضي صغير كانت تثبته بين
أسنانها فعليها الخروج مجددا والمحاولة مرة أخرى قبل أن تغلق مكاتب رؤساء الأقسام
وقت الظهر , تباطأت خطواتها في آخر العتبات تنظر حيث الجالسة هناك أمام شاشة
التلفاز ترمي قشور حبوب دوار الشمس حولها دون اكتراث لمكان رميها لها بعد تناولها
للبها وعيناها معلقة بشاشة التلفاز أمامها رفعت يدها ونظرت للساعة في معصمها ثم
عادت بنظرها هناك وهزت رأسها بيأس , هذه ألا دراسة ومدرسة لديها !! فقد بلغت ابنة
عمها تلك الخامسة عشرة من أشهر وكان لهما ابن رزقا به منذ قرابة الأربعة سنوات وبعد
محاولات حثيثة وجهد كبير ليرزقا بابن آخر أو ما يسميانه بالعوض عن ابنهم المفقود
( ظافر )
توجهت جهة المطبخ وما أن دخلت وجدت زوجة عمها مع إحدى الخادمات هناك فسحبت
الكرسي وجلست عليه ورفعت حبة برتقال وبدأت بتقشيرها دون أن تتبادل أطراف الحديث
مع أحد ولا أن تسألها أي منهما شيئا تأكله فطورا لها وهي من يعلم الجميع أنها لم تأكل شيئا
منذ الصباح فلا هي اعتادت اهتماما من أحد ولا هم اعتادوا اعتبارها شخصا موجودا هناك
بدأت بتناولها غير عابئة بحديث زوجة عمها والخادمة وضيوفهم القادمين لأنها لن تشارك
في استقبالهم كالعادة , شعرت بشيء ما يدفعها من وركها فنظرت للأسفل وإذا بيدين
صغيرتين تدفعها وقد قال صاحبها بضيق " انهضي من كلسيي يا ناكصة "
فرمت يديه بعيدا عنها ووقفت وقد رمت باقي البرتقالة وقالت ببرود ووجهتها باب
المطبخ " ومن جعلني ناقصة غير والدك "
وخرجت متجاهلة التي لحقت بها ترميها بسيل من الشتائم حتى خرجت من باب المنزل ولم
تترك عبارة جارحة ومنقصة لقيمتها إلا ورمتها بها وكأنها لا تعلم حقيقة ما حدث معها وتلفيق
زوجها لكل تلك التهم كمن كذب كذبة وصدقها , بل وتُعلمها لابنها الصغير ليكون نسخة عنهم
بل وكأنهم لا يعيشون بمالها وقد أصبحوا ما صاروا عليه الآن بسبب تلك الأموال وتضخيمها
على مر الأعوام لتتحول لأرقام ضخمة جميعها تصب في أرصدة عمها , نزلت عتبات المنزل
الرخامية يضرب كعبا حدائها على سطحها اللامع ممزوجة بصوت آخِر عبارات تلك صارخة
من خلفها " لا أمل حتى في زوج يأتي لأخذك ونرتاح منك فلن يقربك أحد وأنتي
موصومة بالعار "
ابتسمت بسخرية أقرب للمرارة وقد داعب النسيم البارد خصلات شعرها مبعثرا لها حول
وجهها ما أن نزلت آخر تلك العتبات العريضة متجاهلة كل ما قيل كعادتها فتلك المرأة
تحولت من المتجاهلة لها على مر أعوام وكأنها غير موجودة لسليطة اللسان هذه ما أن
حاولت وزوجها رفع قضية لتطليقها من الزوج المهاجر والمختفي عن الأنظار لينزاح
عنهما كابوس اختفاء كل المال الذي يملكانه , وحين حاولا إجبارها على المضي معهما
للمحاكم واجها شابا شرسا قد وكل كمحام عن الطرف الآخر الغائب عن الصورة ألا
وهو ( تيم ) وعرف كيف يجعلهما يتراجعا عما ينويان فعله رغم الوقت الطويل والشوط
الذي خاضاه على مر ثلاث سنين في محاولة تطيقها منه , وقد استخدم ذاك المحامي
معهما ومحاميهما حتى التهديد ونجح الأمر نهاية المطاف واستسلما لكن الثمن كان
تضييق الخناق عليها أكثر ليتحول الصمت واللامبالاة والتهميش طوال تلك السنوات
لتجريح مستمر وكأنهما يذكرانها بما فعلاه من جرم حيالها من أعوام وهما يجعلانها
ضحية لتهمة شرف لم ينساها أحد وضلت ملتصقة بها حيثما ذهبت وكانت .
خرجت للشارع ومسحت بطرف كم كنزتها الصوفية تلك الدمعة التي فكرت في التمرد
على رموشها السوداء الكثيفة مخلفة احمرارا بسيطا في أسفل طرف جفنيها فهي تعلم
جيدا أن الدموع لن تفعل لها شيئا .. لن تشفي جراحها القديمة ولن تمحوا قصتها من
أذهان الناس , رفعت رأسها ووجهها في مواجهة الريح الباردة كي لا تحنيه أرضا
مجددا وقد همست بوجع " أنتي اعتدت كل هذا يا ماريه فلا تكترثي "
ثم أشارت بيدها فوقفت سيارة الأجرة أمامها مباشرة فهي لا تريد الخروج بسيارتها وإثارة
أي شكوك حولها بسبب لونها الذهبي المميز , ما أن استقرت على المقعد الجلدي في الخلف
قالت وهي تسحب الباب مغلقة له " خذني لمحكمة بينبان وسأعطيك فوق أجرتك فقط
خذني هناك وعد بي إلى هنا "
*
*
*
أوصلته الخادمة حتى منتصف الممر وغادرت في الاتجاه الآخر فنزع سترته المصنوعة
من الجلد الطبيعي فلم يعد لها من داع بسبب التدفئة التي كانت تغمر ذاك المنزل الواسع
فتح الباب ما أن وصله فكان العدد قد انتهى تقريبا من نظرة سريعة له على الموجودين في
غرفة المكتب تلك , دخل بخطوات سريعة ملقيا التحية وأدار الكرسي وجلس عليه ليصبح
عدد الموجودين في ذاك المكان تسعة أشخاص وقال ما أن استوى جالسا
" آسف على تأخري "
وما أن أنهى جملته حتى اندفع الباب ودخل منه من يرافقه ضجيجه طوال والوقت , ضرب
جبينه بيده ضربة تحركت معها خصلات شعره الأسود القصير الناعم وقال بسخط
" آه لا .... كنت سأتحجج بأن وقاص سيأتي بعدي , ما هذا اليوم السيئ "
قال تيم ببرود مكتفا يديه لصدره ناظرا له عند الباب " إن لم تتأخر أنت ينفض
الاجتماع لأن ثمة أمر غير طبيعي في الموضوع "
دخل رواح وقفز آخر خطوة وجلس بجواره قائلا " وبما أنك أنت نطقت فالأمور
تجري في مسارها السيئ بالتأكيد "
تجاهله ذاك كعادته فمال برأسه لشقيقه وقاص مستغلا انشغال مطر ودجى مع الواقفان
معهما يناقشون ورقة ما وهمس له " نحن جميعنا أرملان ومطلقان وخمس شباب
عزاب ما موقعك أنت المتزوج الوحيد بيننا "
رمقه ذاك بطرف عينه قائلا ببرود " لست وحدي المتزوج هنا فلا تخلط الأمور "
كتم رواح ضحكته وتمتم بخشونة خشية أن يسمعه ابن خاله الجالس في جانبه الآخر
" نسيت أن ثمة متزوج غيرك لكن من هذا الذي يستطيع التحدث معه في الأمر ؟
أخشى أن يخنقني إن فقط ذكرت أسم زوجته البعيدة تلك "
تحرك الواقفون هناك وعاد كل لمكانه فعدل رواح جلسته ونظر الجميع فورا لوجهي
الواقفان خلف الطاولة من لن يمل أي منهم من النظر لهما كلما وقفا هكذا جنبا لجنب
قائد تلك المجموعة وعمه وذراعه اليمين ورغم اختلاف شكليهما تماما فمن يراهما يعلم
فورا أنهما من ذات تلك السلالة من ذات عروق أشراف الحالك وإن اختلطت دماء ذاك
الذي لم يسرق الشيب من لون شعره الأسود الفاحم سوى مساحة قليلة من صدغيه رغم
تجاوزه للخامسة والخمسين من عمره فلازال يمكنه منافسة ابن شقيقه في البنية والحيوية
والقيادة , جلس مطر على الكرسي الجلدي خلف الطاولة وقال " شاهر قد يتأخر
بضع دقائق أخرى لذلك سنبدأ قبل مجيئه "
لم يغب عن أغلب الجالسين هناك إن لم يكن جميعهم إشاحة الجالس أمام الطاولة لوجهه وتصلب
فكيه وقسوة ملامحه بشدة وذاك الوميض الأسود في حدقتيه ليعود ذاك التوتر يملأ غرفة المكتب
التي ضاقت رغم وسعها لوجود كل تلك الأجساد فيها وكل واحد منهم كفيل بملأ المكان بشخصيته
التي تميزه عن غيره , توجهت أغلب الأنظار له وقد تحركت يده داخل سترته السوداء الجلدية
لتتصلب مكانها ما أن خرج صوت مطر قائلا " لا سجائر هنا يا تيم "
فحول تيم نظره له فورا وقد تابع بحزم ونظره على الأوراق التي يجمعها
" ولا شجارات أيضا "
فوقف من فوره وغادر المكان بخطوات ثقيلة واسعة , وما أن تحرك من كان يجلس
مقابلا له حتى أوقفه صوت مطر آمراً " أجلس يا قاسم "
فصر على أسنانه وعاد للجلوس مكرها ونظره على ملامح ابن خاله الجامدة قبل أن يبعده
مشيحا به للأسفل ولا يفهم سبب منعه من اللحاق به وهو موقن من أن هذه اللحظة بالذات
سيشعر فيها تيم بالوحدة والوحشة أكثر من أي وقت كان وإن لم يكن يعترف بذلك ولا
يظهر عليه لكنه يعلم حساسية الأمر بالنسبة له كما يعلم جيدا الحيز الكبير الذي يأخذه تيم
في قلب مطر وتفضيله له على الجميع وعدم مناقشته له في أي قرار يتخذه فحتى إيقافه
لدراسته وهو في آخر عام له لم يناقشه فيه أبدا , بل ووحده من سمح له بالانضمام
للوحدات البريطانية الخاصة رغم خطورة عملهم واستماتة تدريباتهم فكان الوحيد منهم
المنطوي تحت تلك الزمرة التي تضم أشخاصا من دول مختلفة ووحده الذي سُمح له
ليكون ذراعهم السرية هناك حيث الموت والموت للخونة في نظرهم فكانا هو ووقاص
من أقوى أسلحتهم حيث الآخر اقترب من أن يكون وسط مكتب المدعي العام الرئيسي
وذاك المكان سيخدمهم بشكل لا يصدق إن لم يخن الحظ ذاك المحامي الشاب وأرداه
لأجله المحتوم وهو السجن طوال العمر أو الإعدام بتهمة الخيانة , رفع نظره مجددا
حين بدأت المجموعة بتقاسم الأوراق التي وزعها خاله دجى عليهم ونظره يتبعه
مستغربا وقد قال " شغل الشاشة يا مصعب فالمجموعة هناك تنتظرنا من أكثر
من ساعة "
نقل قاسم نظره بين الذي وقف مستجيبا للأوامر وبين خاله دجى الذي عاد للوقوف
مكانه ثم نظر للجالس خلف الطاولة وقال " هل نسيتم إعطائي ورقة أيضا ! "
لم ينظر مطر له وحدقتاه معلقة بالشاشة الكبيرة المثبتة على الجدار تعكس نظاراته ألوانها
الحمراء المتدرجة وهي تنتقل لمراحل تشغيلها وقد قال ببرود " أنت لن تكون في
المهام القادمة لأنك ستغادر البلاد "
فاتسعت حدقتا الجالس أمامه على اتساعها فأن يجتمع قادة المجموعات الآن وهنا
المجموعات التي ينطوي تحتها ما يفوق الخمس مئة شخص بعضهم حتى أجانب
وأن يناقشوا خطوتهم القادمة ويستثنى هو وإن كان سيسافر فهذه ليست أول مرة
يسافر فيها في مهام ورغم أن مهامه لم تكن بخطورة وحساسية غيره منهم لأنه من
عائلة مطر شاهين لكنه لم يستثنى أبدا من قبل !! شرد بنظره ودهنه بعيدا عن كل ما
حوله وما يقال ويناقش في ذاك الاجتماع الممتد لساعات وفكرة واحدة تشغله هي
مغزى الكلمات التي قالها ابن خاله فذاك معناه أمر واحد فقط فهمه فورا وهو أنه
سيرجع لبلاده وفي وقت قد لا يكون بعيدا
*
*
*
" غسق "
رفعت جفنيها المسدلان على الأوراق المبعثرة على الطاولة أمامها لتكشف عن تلك
الأحداق السوداء الواسعة وقد غشاهما وجوم كئيب أبهت لونهما وكأنها كانت غارقة
في دوامة لا نهاية لها من الأفكار , نظرت للجالس قربها وتهدرج صوتها وهي تقول
" نعم يا رعد "
لوح بقلم الحبر المذهب في يده قبل أن يضرب به طرف أنفها وقال مبتسما
" أنتي لست معي أبدا ولا تسمعين ما أقول "
أومأت برأسها وحركت أطراف أناملها المرتعشة قليلا على الأوراق تحتها وقالت ببعض
الجدية " بلى أسمعك كنا نتحدث عن رأي القضاء الأعلى وخطورة الاحتجاج
لكني مصرة على موقفي وسأتقدم بالطعن في القانون "
أمال رأسه وقال بابتسامة صغيرة " لم نكن عند هذه النقطة ولكن لا بأس نرجع
للخلف قليلا "
وتابع بحزم أخوي لم تغيره السنين لازال يربطهما وبشدة " غسق لن أقول أنك تنوين
التلاعب بالقانون , صحيح أنك أنجزت بجمعية مملكة الغسق أمور لم ينجزها أحد ونساء
كثر ممتنات لما قدمته الجمعية بضخامة حجمها على مر أعوام لكن أن تنتقلوا لمرحة
الاحتجاج ولن أقول الطعن في بعض الأحكام المتعلقة بالمرأة أمر لن يسير في
صالحكم غالبا حتى وإن كنت ابنة رئيس البلاد السابق "
شعرت بتلك الطعنة التي تتغاضى عنها بجهد كبير كلما سمعت تلك الكلمات التي تقودها
للمفقود الذي لن تعوضها الحياة بمثيل له وقالت تجاهد صوتها كي لا تخونها عبرتها أمام أي
أحد غير وسادتها وأغطية سريرها " لكننا لا نطالب بشيء يسيء للقانون يا رعد , قضايا
العنف الجسدي ضد المرأة من القضايا التي تعاني تهميشا كبيرا في المحاكم , لا عقوبات
ولا أولويات تشجع على رفعها "
قال بصبر فوق طباع شخصيته الصبورة " لكنها من القضايا الرابحة دائما يا غسق فيكفيكم
أن اتخذتم على عاتقكم جمعها وإخراج بعض النساء من قوقعة صمتهن عن الأمر ومعالجة نفسية
لهن بعدها وتوكيل محاميات للتكفل بها لتكون قضايا مجانية وخضتم في الأمر شوطا رائعا
فما يقودك الآن للدخول في صراعات مع القوانين "
تمتمت بسخط تنظر للأوراق التي تحركها تحتها " لا رجاء فيك أبدا يا رعد كان عليا
أن أفقد الأمل "
ابتسم يراقب ملامحها الجميلة الحزينة التي يحيطها حجابها الأسود الملفوف بعناية وأناقة
مثبت طرفه بمشبك كريستالي كبير وأنيق وقال " كَوني عضواً هاما في البرلمان الحاكم
لا يخولني لتلك الصلاحيات وحدي يا غسق , أستطيع أن أقدم لك مساعدات كبيرة لكن
ما تصبين له أمر كبير قد يحتاج حتى لاحتجاج شعبي ولن تحصلوا عليه فانتظري
رئيسا جديدا وحكومة أخرى "
وتابع يكتم ضحكة " أو قودوا احتجاجات وأسقطوا الحكم سيكون رائعا أن
تنظموا البلاد كما تريدون وقتها "
كان يتوقع منها تعليقا لاذعا أو تمتمة ساخطة كعادتها لكنه تفاجئ بصمتها وانقباض أناملها
البيضاء فوق الأوراق أمامها ونظرها عاد للشرود بعيدا بحزن أو عبوس أو لا يفهم ما
يكون ذلك فتنهد وقال بهدوء " غسق لن تسوء أحوال البلاد كثيرا بعد الأحداث الأخيرة
كما يتوقع المراقبون فالجميع يقوم بجهده , صحيح أن ثمة هوة تتسع قد تبتلع البلاد
وما فيها وثمة جماعات تشكل وتمرد قد يكون وشيكا لكنـ.... "
" لا أريد أن أراه يا رعد "
جمدت ملامح الجالس أمامها قبل توقف كلماته وتحجرها أمام شفتيه وهو ينظر لها بصدمة
وأناملها تقبض على الأوراق في يديها بقوة وجفناها المنسدلان للأسفل يخفيان ما قد يقرأه
في عينيها وها قد فهم الآن سبب تغيرها اليوم , همس ولازالت الصدمة تعلوا ملامحه
" غسق من أخبرك أ..... "
قاطعته وقد رفعت عينيها ونظرت له بحدقتين لامعة بحقد " سيأتي ولا أريد رؤيته
ولا حتى تحت مسمى أني رئيسة جمعية ومملكة الغسق "
كان ذهوله يزداد وهو ينظر لعينيها القاتمة وتنفسها القوي المضطرب الذي يعلو معه
صدرها ويهبط بشدة , قالت حين طال صمته وتحديقه بها وقد تحول كل ذاك الحقد الدفين
في نظراتها لمزيج من الألم والحنق " أعلم مثلك عن حال البلاد يا رعد فلا تحاول
طمأنتي وأعلم أكثر ما قد يحدث خلال الأيام القريبة القادمة , أنت لك أحقية شرعية
كبيرة في البلاد وتعلم ما تستطيع فعله لتحقيق ما طلبت منك "
هز رأسه بحيرة وكأنه لم يستوعب بعد ما قالت ثم همس بخفوت
" لن أعدك بالكثير يا شقيقتي "
وتابع قبل أن تعلق " ليحدث ذلك ثم لكل حادث حديث فلا تكدري نفسك بأمور
قد لا تحدث "
كانت قبضتيها تشتد أكثر فوق الطاولة البيضاء المستديرة وملامحها تقسوا وقد
تمتمت بصوت مسموع " سيحدث ذلك رغم أني لا أتمنى إلا أن تغلق أبواب
مجلس البرلمان في وجهه "
كانت دهشته تزداد تباعا فهو لم يرى هذا الوجه الحاقد الكاره منها سابقا ولا حتى
في مواجهة من آذوها وهي من عرفت طوال سنوات حياتها معهم ومنذ صغرها
بتفوق قوى التسامح في قلبها الرقيق ! وكل هذا الحقد والغضب ناحية ذاك الرجل
لم يسبق وأخرجته أمام أي منهم منذ غادر تاركا إياها خلفه بل وآخذا ابنتها معه فقد
تسلحت بصمت وصبر فاجئ الجميع لكتمانها كل ما اعتلى مشاعرها ككتمانها القاسي
الكبير لكل ما حدث معها منذ أصبحت زوجة له هناك ولم تُطلع أحد عن أي شيء مما
كان بينهما كزوجين لتبقى تلك الفترة من حياتها وسط الحالك وبين جدران منزل
زعيمه لغزا حتى اليوم والساعة , تصلبت فكاه وهو يقول بجدية " غسق الناس لم
تنساه , لم تنسى يوما ما فعل مطر شاهين وذكره لازال يصدح في كل جدران في
البلاد فكيف سيرفضونه برأيك وتغلق الأبواب في وجهه إن عاد ؟ "
أرخت قبضتاها ودست يديها تحت الطاولة في حجرها تخفي انفعالها من سماعها
لاسمه الذي لم تتوقف الناس لحظة عن تذكيرها به كما قال , ألقت نظرها على
أصابعها وقالت تهرب بنظرها منه " كيف حال رماح ؟ "
حرك رأسه برفض لتغييرها لمجرى الحديث وقال باقتضاب " رماح على حالته
وبالعودة لحديثنا السابق لن يستطيع أحد منع الواقع يا غسق فأنتما كنتما زوجين
وتجمعكما ابنة "
رفعت رأسها بسرعة وقالت بحزم " أنا لا أتحدث عن الصعيد الشخصي يا رعد فهو
لن يرجع من أجلى ولا بسببي ولا شيء يربطنا أو يجمعنا , أنا أقصد النواحي العملية
وكوننا صرنا مؤسسة من مؤسسات الدولة مؤخرا "
نظر لها بحيرة لملامحها المشدودة وعينيها التي أقر بأنها جاهدت ببراعة لتخفي أي مشاعر
قد يقرأها فيها وعادت ذاكرته لوقت قريب في لمح البصر وقال " غسق ما سر الحديث
الأخير الذي دار بينك وبين والدي قبل وفاته ؟ ولما أنتي أكيدة الآن من عودة ذاك
الرجل المختفي من أعوام طويلة "
صرير الكرسي خلفها كان الجواب الوحيد عن سؤاله حين وقفت رافضة الرد عليه وإنهاء
الحديث في الأمر فوقف مثلها أيضا وقال يحثها على عدم المغادرة وهو موقن من أن
ذاك ما تفكر فيه " غسق حديثنا لم ينتهي بعد "
لم تستطع التحرك من هناك وتركه وترك المكان قبله احتراما له , قالت بجمود يشبه
الصقيع برودة " انتهى يا رعد وسأؤجل أمر الطعن في القوانين الوضعية التي ذكرت
حتى يستقر وضع البلاد لكني لن أغلقه نهائيا وشكرا لك يا شقيقي أعذرني على
إهدار وقتك "
قرأت في ملامحه جيدا أنه ينوي قول شيء ما وأن ذاك الشيء قاسي جدا ولن يعجبها
لكن سرعان ما ارتخت خطوط وجهه وابتسم لها تلك الابتسامة التي تحب قائلا
" عنيدة دائما يا حسناء صنوان "
ظهر على محياها شبح ابتسامة بسيطة رغم لمحة الحزن فيها وهمست تراقبه وهو يأخذ
معطفه الكشميري من على ظهر الكرسي ويلبسه " لقد نسي الناس قولها فلما لا
تنساها أنت ؟ "
ابتسم ورفع بعضا من الأوراق التي كانت أمامها وقال وهو يجتازها " لم تنساها الناس
أيضا يا غسق , سآخذ هذه معي وأرجعها لك فيما بعد , أراك في وقت لاحق يا
شقيقتي "
التفتت تتبعه وهو يمر بقربها لتوقفه نبرتها الهادئة الرقيقة
" رعد "
التفت لها بعدما وقف مكانه فقالت ناظرة لعينيه " هل فكرت فيما
تحدثنا عنه آخر مرة ؟ "
هز رأسه بلا وقال مبتسما " لم أفكر فيه وعليك نسيانه تماما "
ظهر الضيق في نبرتها وهي تقول " أتعجبك حياتك هكذا وحيدا في ذاك المنزل الضخم ؟
لقد أصبحت في السابعة والثلاثين ولا ينقصك لا مال ولا سلطة وكل فتاة في البلاد
تتمناك فلما تعاند هكذا ؟ "
أومأ لها برأسه والابتسامة لم تفارق ثغره وقال " أنتي من لم تتركي لي أحدا يعيش معي
عمتي استحوذت عليها بأنانية والكاسر يرفض أن يفارقك لحظة فلم يبقى لي أحد "
تمتمت بعبوس " عن الزوجة والأبناء أتحدث يا رعد فلا تتغابى "
خرجت ضحكته خشنة وقد غادر قائلا " لا تفكري في الأمر فلن يحدث , أو لننتظر
قدوم الغائب الغير منتظر ذاك فقد تتغير الأمور حينها "
وغادر واختفى خلف الباب الذي أغلقه بعده بهدوء على نظراتها المستغربة ولم تفهم
شيئا مما يقول وما علاقة ذاك الرجل بزواجه الذي يرفض الحديث فيه !! انفتح الباب
مجددا كاشفا هذه المرة عن الخادمة متوسطة العمر بثيابها السوداء والمريل الأبيض
وابتسامتها الهادئة قائلة "
سيدتي اتصال لك من المكتب الخلفي , إنها السكرتيرة "
أومأت لها برأسها بحسنا وخرجت خلفها صوت ضربات كعب حدائها على الأرضية
الرخامية يتبع خطوات حداء تلك الأرضي المسطح حتى وصلت ردهة المنزل الفسيحة
وجلست عند طرف الأريكة ورفعت السماعة قائلة " أجل يا راوية "
قالت من في الطرف الآخر " سيدتي آسفة لإزعاجك , ثمة اتصال يبدوا
مهما وليس مسجلا "
انفرجت شفتيها وكانت ستتحدث فارتجفت في صمت لارتجاف أوصالها حين
تابعت تلك " إنها مكالمة خارجية سيدتي والرقم لمستشفى "
نظمت تنفسها وعقدت حاجبيها الرقيقان هامسة " من أين ؟ "
قالت تلك من فورها " لندن سيدتي ويبدوا الشخص متعبا من صوته ولا يمكنه
الانتظار أكثر "
مررت أصابعها على عنقها الذي يخفيه حجابها الناعم وقالت ببحة
" حولي الاتصال يا راوية "
وردها كان طنينا متواصلا لجهاز الهاتف تلاه ذاك الصوت الذي يشبه الريح وهو
يتسلل عبر ثقوب السماعة واشتدت أصابعها تقبض عليها بقوة وتدلت دمعتها من
بين رموشها الطويلة وما توقعته حدث حين وصلها الصوت الرجولي الرخيم
بحروفه المرتجفة وهو يهمس
" غسق "
نهاية الفصل
الفصل الثاني يوم الأربعاء القادم في نفس الوقت
إن شاء الله