*
*
*
رفعت نظرها عن هاتفها ما أن فتح لها سكرتيره الباب قائلا
" يمكنك الدخول
سيدتي "
وقفت حينها ورفعت حقيبتها وتوجهت نحو الباب المفتوح
بخطوات ثابتة أنيقة كما كانت دائما وما أن دخلت المكتب الواسع
الفخم اغلق الباب خلفها دون عناء لأن تلتفت وتغلقه ووقع نظرها
فورا على الذي وقف من خلف مكتبه الوثير مبتسما بحبور يشبه
سنوات عمره السبعين وخبرته كرئيس قضاة لأعوام ثم كوزير
للعدل لازال مركزه يتمسك به تحيطه دعوات كل من علم عن
عدله في تلك البلاد بأن يمتد عمره لأضعاف ما كان وزاد عليه
علاقته القوية بالرجل الذي رباها مما جعلها تثق أكثر به وبعدله
معها في بلاد لن ينصفها فيها ولا القانون لأنها كمن يحارب ثنين
بعصى من خشب وعبارة واحدة تسمعها من الجميع
( غسق من عقلك تفكرين في محاربة رئيس البلاد بالقانون !! )
أجل بالقانون أليست مواطنة كالجميع ؟
وأليس هو الرجل العادل المنصف للمرأة ومن اتبع شرع الله
في صياغة قوانينه الجديدة ؟
إذا هي أحق من غيرها وقبل الجميع بأن ينصفها القانون
وأن تدافع عن نفسها وتسلب حقها من مغتصبه وتقتص
لسنوات عذابها وحرمانها وأن يتحول جلادها للضحية كما
تحكم عدالته .
استقبلها الذي خرج من خلف مكتبه مصافحا إياها بكلتا يديه
يشد على يدها قائلا بابتسامة
" غسق شراع في مكتبي ! لا أريد أن أقول زارتنا البركة فقد
لا تتكرر مجددا كما حدث مع سابقتها "
اغتصبت ابتسامة شعرت بها تعذب روحها وقالت بحزن
" بل جئتك اليوم بصفتي غسق دجى الحالك لعلها تجد من
ينصفها في كل ما قاسته حتى اليوم "
تبدلت نظرته للتوجس وأشار بيده جهة الصالون الجلدي الانيق
عند زاوية مكتبه وقال
" تعالي اجلسي فلا يبدوا أن في حديثك ما يسر يا ابنة العظماء
الشرفاء كان من يكون من انتسبت له "
تبعته ونظرتها الحزينة ملئها امتنان فهي كانت واثقة بأنه
ثمة أشخاص لن يخذلوها وهي تعلق كل آمالها بعد الله على
هذا الرجل فإن رفض إنصافها فستدخل حربها وحيدة فهي
ستفعل ذلك في جميع الأحوال فبعدما حدث تلك الليلة لن
تسامح هي نفسها إن استمرت في الصمت على أفعاله
معها والتي ختمها بجوابه عن ذاك السؤال في جريدة
العوسج وكأنه يقاتلها من ذات مضمارها السابق وهو يقول
وبكل برود أعصاب بأن سبب زواجه منها وصية من شراع
صنوان قبل موته أن لا يترك ابنته ليصفعها صفعة جديدة
وهو يقدمها للجميع كمسؤلية وقعت على عاتقه وأن العقد
الذي يربطهما ليس سوى عهد قطعه للرجل الذي وصفه بأنه
الشخص الوحيد الذي حمل له دينا في عنقه وها قد وفاه له
لكنها لن تكون السداد لذاك الدين .. لن تسمح له بتحطيمها
أكثر من ذلك ولن تستمر كضحيته الدائمة وأمام الجميع .
جلست على أريكة الصالون الجلدي الأسود نظرها على يديها
في حجرها تكاد تمزق أصابعها من شدها عليهما وتعلم جيدا
أن الجالس أمامها يتوقع وإن جزءا مما ستقوله وذاك ما حدث
فعلا حين وصلها صوته العميق المتزن
" هل لجوء ابنتي غسق لي معناه أنها باتت تشعر بأنها
وحيدة "
رفعت نظراتها الكسيرة له وقالت بحزن
" بلى وكان عليها بالفعل أن تلجأ لوالدها الثالث من وقت طويل
وكل ما أتمناه أن لا تردني خائبة "
تنهد بعمق وقال
" ما أفهمه يا غسق أن مطر شاهين في الأمر وعليا
أن أتدخل ؟ "
قالت بجدية
" بل محاكمة عادلة وتطلقني منه .. هو حق لي كأي شخص
في هذه البلاد ، وقبل كل ذلك ثمة أوراق أريدها من المحكمة "
*
*
*
تململت في نومها مستشعرة خشونة ما كان يغطي جسدها وهي
التي نامت من دون غطاء ! وما أن فتحت عينيها اكتشفت بأن
ذاك اللحاف الذي غطته به البارحة أصبح ملتفا حول جسدها
فجلست بحركة واحدة مبعدة له عنها ونظرت حولها فكان
فراشه فارغا ! مررت أصابعها في شعرها تنظر للمكان حولها
فليست تذكر متى نامت تحديدا لكنها بكت طويلا وفارق النوم
بعدها عينيها لساعات ثم ... ! يبدوا أنها نامت بالفعل وأنه
الصباح ...
وقفت قافزة وفتحت باب الغرفة ونظرت للشمس في كبد السماء
بصدمة فسيكون هذا وقت الظهيرة بالتأكيد وهي لم تصلي !
كيف نامت كل هذا الوقت ولم تشعر بنفسها !
توجهت راكضة جهة الباب المقابل لها مستغفرة الله بهمس
وما أن وصلت له تأكدت من أنه باب حمام من قبل أن تفتحه
بسبب الحذاء البلاستيكي الرجالي أسود اللون أمامه فلبسته
فورا وابتسمت على شكل قدميها البيضاء الصغيرة في حجمه
الكبير فها هي تخترق تفاصيل حياة ذاك الرجل لتشاركه كل ما
يخصه ، فتحت باب الحمام ودخلت تشعر بالأسى على نفسها ..
هل هي متعطشة للعطف وللاحتواء وللشعور بالأمان لهذا الحد !
إنها لمدعاة للشفقة بالفعل !! لكن اللوم ليس عليها بل على
ظروفها وحياتها التي عاشتها تفتقد حتى للكلمة الطيبة وإن
مجاملة ولأن تشعر بأنه ثمة من يشعر بها .. يحميها يسعى
لسعادتها ولراحتها فلم تعرف ذاك الشعور حياتها ولم تسمع
الكلمات التي سمعتها منه البارحة من شخص من قبل ...
بل ومن رجل وعدها هكذا أن لا يكون سطرا جديدا في مأساتها
وكم تتمنى أن لا يخلف وعده ذاك حين يعلم بتلك الحقيقة التي
تخفيها عنه وعن أنه مجرد ضحية للعبة اشتركتا فيها مستغلتان
شهامته وطيبته لتستخدمه جسرا للعبور فوق ظروفها وحاضرها
، خرجت من الحمام تنزل أكمام فستانها الطويل تستغفر الله
تشعر بذاك الفرق الشاسع في مشاعرها بين وقت دخولها
وخروجها منه وهذا سيكون حالها الدائم بالتأكيد ستنسف
مخاوفها أي سعادة قد تشعر بها هنا .
وصلت الغرفة ودخلتها مجددا ولفت الحجاب الذي أعطتاها إياه
مع الفستان وغطت به شعرها جيدا ووقفت تلتفت حولها فهي
لا تعرف مكان القبلة هنا ؟ لفت انتباهها السجادة المطوية في
طرف الغرفة فتوجهت نحوها وفتحتها وكما توقعت من صلى
عليها ثناها لمرتين وهي في مكانها وليس ثمة أحد غيره هنا
وكم حمدت الله حينها فظنونها فيه لم تخب أبدا وهو يخاف الله
فعلا وفي كل شيء وستكون فاتته صلاة الفجر مثلها تماما
لكان أيقظها لتصلي ، صلت الفجر والظهر أيضا
ونزعت حجابها وعلقته في العلاقة الحديدية المستطيلة خلف
الباب ثم غادرت الغرفة ومقصدها المطبخ هذه المرة لترى إن كان
ثمة ما يمكن طهوه ليوقفها مكانها صوت باب المنزل والسلسة
الحديدية تسحب منه فيبدوا أن من غادر وليست تعلم متى ها قد
عاد ، شعرت بضربات قلبها ترتفع بشكل أخافها من أن يخرج
من مكانه أو أن يسمعه الذي فتح الباب ومن قبل أن يصل لها ، لم
تستطع التحرك من مكانها وكأنه ثمة من تبث قدميها في الأرض
بمسامير وعبثا ستحاول تحريكهما وكان الأوان قد فات بالفع
ل فالذي كان يغلق الباب من الداخل استدار وتحرك جهتها وإن
كان مشغولا بنقل بعض الأكياس بين يديه ولم يرفع رأسه ولم
يراها إلا أن الفرصة لتهرب منه جهة المطبخ ضاعت منها
وانتهى الأمر فراقبته نظراتها بفضول تنتظر بالفعل أن ترى
وجهه فهي لم تراه حتى الآن وبشكل واضح ولا تعرف منه
سوى هذا الجسد الطويل العريض فقط والذي انتبهت له منذ
دخوله عليهم في مجلس شعيب وأشقائه بالأمس وكم حمدت
الله أن تزوجت برجل أطول منها وخشيت أن لا يحدث ذلك بسبب
طولها فهي ورثت ذلك من والدتها أيضا والتي عملت كعارضة
أزياء قبل أن تتجه للصحافة وتدخل هذه البلاد وتتزوج وتعتنق
الإسلام .
شعرت بجسدها تيبس وفقدت أنفاسها تماما ما أن انتبه الذي
اقترب أكثر لوجودها ورفع رأسه ووقف مكانه لحظة أن وقع
نظره عليها فبلعت ريقها بصعوبة وهي تنظر لعينيه ... فقط لتلك
الأحداق الفضية الغريبة في حجمها وانسحاب تلك الاجفان حولها
بميلان خفيف في طرفهما وعلقت أنفاسها في حلقها تنزل ببطء
للأنف المستقيم والشفاه المتساوية مع بروز في انحنائة شفته
العلوية من المنتصف يحيطها شارب ولحية خفيفان بلون شعره
البني الغامق وشعرت بأن صديقتها فجر لم توفه حقه في الوصف
أبدا ! ولا تلك النبرة الهادئة المتزنة في صوته يمكن دمجها مع
هذه الملامح الرجولية المتفجرة ! بل كان يليق به أن يكون صوتا
خشنا عميقا قاسيا ، ولم يكن حال الواقف مقابلا لها بمختلف عنها
فهو أيضا يرى وجهها للمرة الأولى وإن كان سبق ورأى جسدها
وبياض بشرتها الحليبي الذي بدى أوضح له الآن ..
إنها من أكثر البشر بياضا رأتها عيناه ! كما أن ملامحها غربية
بالفعل وإن لم يكن متأكدا من قصتها لشك في أن تكون عربية ..!
حدقتان خضراء واضحة اللون وبياض العين يظهر من تحتها
لاتساع حجمهما وطرفا جفنيها مسحوبان بشكل مميز وملفت
للنظر .. أنف صغير وشفاه رقيقة بشكل متساوي تتناسب مع
ذقنها الصغير وشعر أشقر متموج بترتيب قد وصل طوله لنهاية
خصرها النحيل البارز من ذاك الفستان الأحمر الطويل المطرز
والذي كشفت ياقته المربعة مع لونه عن بياض ذاك النحر
والصدر وكأنهما لوحة وليس حقيقة أمامه ! وما أن عاد بنظره
من جسدها لوجهها أرخت نظرها وشبكت يديها وأنزلت رأسها
ببطء فعلم بأنه تمادى في التحديق بها فتحركت خطواتها نحو
باب المطبخ لولا أوقفها صوته وهي تكاد تصله
" مايرين ... تعالي "
هل شعرت حقا في المرة الماضية بقلبها يتراكض وسط أضلعها ؟
ها هو يتوقف عن العمل تماما الآن !
هل خيل إليها سابقا أن ما يليق به الصوت الخشن القاسي !
لا هو يليق به هكذا عميقا متزنا هادئا مكملا لشخصيته بل لداخله
للرجل الشهم النبيل ، التفتت له فمد لها بأحد الأكياس قائلا
" هذه أغراضك كانت في سيارة عمك وأرسلوها مع
أحد العمال "
توجهت نحوه دون أن ترفع نظرها له وأخذت منه الكيس
متمتمة بحزن
" لكنه ليس عمي ولن يعجبه سماع هذا منك "
قال بجدية وما لم تتوقع كسابقته
" بل أعمامك جميعهم ، أليس اسمك مايرين يحي غيلوان ؟
أليسوا من اختار هذا لك ؟
إذا هم أعمامك ورغما عنهم لأنه اختيارهم "
اشتدت أناملها على الكيس فيهما تنظر لهما وشعرت برغبة
مؤلمة في البكاء فلم ينسبها أحد سابقا لهم ولا لعبد الجليل
غيلوان الذي اعترف بأنها ابنته قبل موته بل تركوها معلقة
بين التكهنات حتى أن البعض نسبها لأشخاص غيره حتى باتت
منسوبة لنصف رجال القرية تقريبا .
كاد يغمى عليها حين التفت أصابعه على ساعدها وسحبها جهة
الكرسي الخشبي البسيط قرب الجدار فقد كان المكان يحوي ثلاث
كراسي من ذات النوع والشكل المربع ومن دون مسند للظهر ،
وصل بها هناك وقال وهو يترك ساعدها
" اجلسي يا مايرين ثمة ما أريد قوله لك "
جلست كما طلب تنظر له باستغراب وهو يسحب كرسي آخر
وجلس أمامها ووضع باقي الأكياس من يده على الأرض ونظر
ليديه التي شبك أصابعها ببعضها يتكئ بمرفقيه على ركبتيه
وقال بهدوء
" ليلة صدمتك بسيارتي ... "
وتوقف عن الحديث فجأة فشعرت بقلبها سيتوقف حقيقة هذه
المرة لا مزاح فيها ولا حياة بعدها فها هو سيتحدث عن تلك
الكذبة والحادثة وحان وقت المواجهة يا مايرين ، أغمضت عينيها
وتنفست بارتياح ما أن تابع قائلا بذات هدوئه الذي تخلله شيء
غريب يشبه الحزن
" لقد فقدت سيارتي تلك الليلة وسرقت مني وهي في سور
المستشفى وفي داخلها كل ما أملك من مال ففقدته معها ووصلت
لغرير بصعوبة تلك الليلة لأكتشف بأن منزلي احترق بالكامل
هناك وفقدت حتى ثيابي وهاتفي وأغراضي ولم أستطع العودة
هنا بسهولة لذلك تأخرت وقد استلفت بعض المال لأكون هنا
ولأحضر بعضا مما قد يلزمنا وهو نفذ اليوم ، سأستلم راتبي
من الشركة الزراعية خلال أيام وسأسدد الدين لصاحبه وسنحاول
تمضية الشهر بباقيه وقررت البحث عن عمل في المزارع فترة
ما بعد الظهيرة فسيكون عليك تحمل ظروفي لبعض الوقت حتى
تتحسن "
قبضت أصابعها تمسك يدها بصعوبة عن الوصول له وملامسة
شعره لتعبر له بامتنان بأنه هو من تحتاجه لا المال ولا أي شيء
وبأن الأمان والمعاملة الحسنة ما ينقصها فقط ووجدتها لديه فما
الذي تريده بعد ذلك ؟
ضمت يديها في بعضهما كي لا تتهور وتفعلها بالفعل وقالت تنظر
لما يظهر لها من ملامحه لأنه كان منحنٍ قليلا في جلسته
" لا يحتاج الأمر أن ترهق نفسك بأعمال العمال وسيكفينا باقي
راتبك مادمنا قانعين بالقليل "
حرك رأسه نفيا وقال من دون أن يرفعه
" أنا معتاد على ذاك العمل ثم يلزمنا الكثير هنا فثمة أمور
ضرورية عليا شرائها وأولها براد صغير للمطبخ فنحن مقبلون
على فصل الصيف كما سنحتاج لجهاز تكييف وسخانة مياه من
أجل الشتاء والمطبخ ينقصه الكثير من الأدوات الضرورية وباب
المنزل يحتاج لتركيب قفل فلن أغلقه عليك بالسلسة في كل مرة
فقد يحدث أي أمر طارئ وأنا لست هنا ولن تستطيعي الخروج
حينها ولا لطلب المساعدة فلا هاتف لدى كلينا وهذا ما عليا
توفيره أيضا ، كما أني لن أحرمك الثلاث وجبات الأساسية
التي يتناولها الجميع "
يا إلهي كيف تمسك نفسها عن احتضان هذا الرجل امتنانا له بل
والبكاء في حضنه حتى ينتهي عمرها وتفرغ كل تلك الهموم فيه ،
كيف تبتسم لها الحياة هكذا ودفعة واحدة وهي من لم ترى فيها
يوما سعيدا ؟ كيف يهديها قدرها هدية رائعة كهذه وهي من
حرمت حتى الأبسط منها ؟
لا تعلم كيف وجدت صوتها وهي تهمس بصوت مرتجف حزين
" يكفيني أن تحميني من الجميع يا يمان وإن متنا جوعا "
ولم يعد يمكنها التحكم في الدمعة التي انزلقت على وجنتها
فمسحتها سريعا قبل أن يرتفع رأس الذي قال وهو يقف
ويرفع الأكياس من الأرض
" حاولت جلب ما قد نحتاجه فهل تعرفين الطبخ ؟ "
وقفت أيضا وقالت مبتسمة بحزن ونظرها على ما في يده أيضا
" بل وأعرف كيف أطهو أطباقا مميزة من مكونات ليست حقيقية
ولن تكتشف الفرق أبدا "
رفع نظره لعينيها وقال مبتسما
" سنبدأ حياتنا بالغش يا مايرين ؟ "
لم تستطع إمساك ضحكة رقيقة قصيرة خرجت منها وقالت
" لا بالطبع "
وتابعت وقد أرخت جفنيها عن النظر لعينيه
" زوجة شقيقي كانت تبيع الطعام الجاهز وتغشه بحرفية وتعلمت
ذلك منها مجبرة لأني من كان يساعدها فلا تفكر في مشكلة الطبخ
أبدا "
مد لها بالأكياس قائلا بابتسامة
" جيد فأنا لا أعرف أكثر من طهو البيض المقلي وإن رأيت شكل
المقلاة ستعلمي كم مرة حرقته "
رفعت عينيها له وهي تأخذ منه الأكياس وقالت ضاحكة
" لا بيض مقلي أبدا إذا "
وغادرت من فورها جهة المطبخ قائلة
" سأحتاج لأقل من ساعة وسيكون الطعام جاهزا "
راقبها حتى اختفت خلف الباب تتبعها خصلات شعرها الغجري
الأشقر الطويل وتنهد بعمق متمتما
" أتمنى أن لا أخذلك أيضا يا مايرين ويشملك فشل يمان في
كل شيء "
استغفر الله بهمس وتوجه جهة الحمام فعليه أن يتوطأ ويصلي
الظهر فالمسافة من الشركة الزراعية إلى هنا سيرا على قدميه
أضاعت منه الكثير من الوقت حتى فاته وقت الصلاة ،خلع حذائه
ولبس ذاك الخاص بالحمام هامسا بضيق
" سامح الله ذاك الفتى الأخرس لو فقط ترك لي سيارتي "
*
*
*
ما أن سمعت صوت سيارته تدخل كراج المنزل رمت الكتاب من
يدها وركضت خارجة من الغرفة فها قد وصل أخيرا وقد تأخر
فوق المتوقع والمعتاد وستكون سيارته تعطلت في الطريق
كعادتها مؤخرا بالتأكيد ، عبرت الممر وما أن كانت في بهو
المنزل انفتح الباب ودخل منه الذي كان يحمل أحد قطع السيارة
الداخلية في يده وكما توقعت هي سبب تأخره بل ويبدوا أنه وصل
بها هنا يسحبونها سحبا ، وقفت ونظرت له وهو يغلق الباب وما
أن التفت وانتبه لوجودها قالت ومن دون مقدمات
" تيم أخذ ماريه من هنا "
نظر لها بصمت لبرهة قبل أن يقول ببرود وهو ينزع حذائه
" مساء النور وحمدا لله على سلامتي "
ضربت الأرض بقدمها وقالت بضيق
" أبي لم أتوقع أن يكون موقفك لا مباليا هكذا ! لقد أخذها من
جامعتها وصفعها لو ترى خدها وشفتيها لبكيت على حالها
وأحضرها هنا وما أن احتججنا على معاملته لها بتلك الطريقة
أخذها معه دون أن يهتم لرأي أحد بل وكان سيشهر سلاحه في
وجه كين ولم يحترم ولا وجود والدتي وحديثها معه وعاملنا
جميعا كأ... "
قاطعها مغادرا من مكانه وبذات بروده
" قسما أنكن النساء سبب حروب العالم بأكمله "
نظرت له بصدمة ولحقته وهو يتوجه جهة المطبخ قائلة بحنق
" وما الذي قلته غير حقيقي ! بل ولم اضف شيئا من عندي
ويمكنك أن تسأل والدتي وكين أيضا ، لما تسكتون عن أفعاله
حتى أصبح يتمادى في كل مرة ؟ حتى والده لا أراه فعل شيئا
مما هدد وتوعد به واليوم صفعها غدا ماذا سيفعل لها وهو يرى
أنه لا أحد ورائها ؟ "
فتح باب المطبخ الخارجي وخرج للفناء الخلفي وهي تتبعه
متوجها جهة المخزن الخشبي الصغير وقال وهو يفتح بابه
" وما كان رأي ماريه ؟ "
قالت بضيق من خلفه
" ماريه حمقاء مغفلة كعادتها يمكنه خداعها بكلمتين لأنه يعلم
بمدى تأثيره عليها لكنه الجنون بعينه أبي أن تكون معه هناك
حيث خطيبته تلك "
التفت لها وقال وهو يضرب الباب الخشبي مغلقا له بقوة
" أظنك أكثر من يعرف بأن ماريه ليست ضعيفة ولا جبانة وبأنها
تعلم جيدا ما تريد وتفعل بل وهي من يتحكم في ذاك الشاب كيف
تشاء اعترف بذلك أم فعل كل ما ينكره وهي قادرة على جعله
يفعل ما تريد إن هي أرادت ذلك ، وحين تلجأ إلي لن أخذلها أبدا
وقد سبق واتصلت بي والدتك وأخبرتني بما حدث وأنا أرسلت
لماريه رسالة أخبرتها أن تتصل بي إن هي احتاجتني فاتركوا
لها حرية أن تقرر فيما يخصها فلن يتحكم فيها هو ونحن ووالده
جميعنا ونهاية الأمر لن تعرف حتى من هذا الذي ستلقي باللوم
عليه فيما ستخسره مستقبلا ، اتركوا الفتاة وشأنها تتعلم أن تكون
نفسها واجزم بأنها وحدها القادرة على حل مشاكلها معه أما نحن
فلن نزيد الأمر إلا سوءا ، ثم أنا تحدثت مع كين أيضا وهو
أخبرني بما حدث في الجامعة وقت أخذه لها من هناك فنظرة
تيم لما حدث لن تكون مشابهة لنظرة كين ولا لنظرتك أنت ولا
غيركما أنا عربي وعشت وكبرت هناك وأعلم جيدا كيف يفكر
الرجل الشرقي الغيور المتملك فكان موقفه متوقعا أو لن يكون
تيم الذي أعرفه أبدا ولن يكون مهتما بها مطلقا إن لم يكن له
موقفا مشابها "
ضربت الأرض بقدمها مجددا وقالت باستياء
" أنتم تتخلون عنها أبي .. يتخلى عنها الجميع وتتركونها
وحيدة وقت تحتاجكم "
تحرك مجتازا لها وقال بضيق وهو يدخل من الباب مجددا
" لا حول ولا قوة إلا بالله ... بأي لغة تفهم هذه الفتاة ؟ "
ودخل وتركها هناك تتآكل غيظا فضربت بقدمها دلو الماء
الحديدي الصغير بغضب ودخلت أيضا لا تتوقف عن ترديد ذات
عباراتها الغاضبة حتى وصلت غرفتها وضربت بابها خلفها
قائلة بغضب
" معه حق وما علاقتي أنا إن كانت حمقاء وغبية ؟ سترجع هنا
إن اليوم أو في الغد وسيعلمها ذاك المتحجر المتعجرف درسا
لن تنساه ما عاشت "
وما أن أنهت عبارتها تلك ركلت كرسي طاولة التزيين بقدمها
قبل أن تتوجه ناحية هاتفها الذي بدأ بالرنين ورفعته وما أن
نظرت للرقم فيه غضنت حبينها باستغراب ثم فتحت الخط وما
أن وضعت الهاتف على أذنها وصلها ذاك الصوت الرجولي
الباسم متحدثا بالفرنسية
" Bonsoir ma chérie "
أبعدت الهاتف عن أذنها ونظرت لشاشته قبل أن تعيده لها
وقالت بملامح مشمئزة
" هذا أنت ؟ أتعلم بأنك فاشل في الفرنسية يا متحول "
ولم تزدها تلك الضحكة الرجولية العالية سوى اشتعالا وغضبا
فقالت صارخة
" توقف عن الضحك .. كنت أعلم بأن نهاية حياتي ستكون على
يد هازاني مجرم ولن أسمح بأن يكون أنت ، سأترك شرف ذلك
لابن خالك فهو أشرف لي "
وصلها صوته المرح وكأنها لا تحترق غضبا
" هيا ما بك يا جميلة غاضبة هكذا ؟ أثمة من تتحدث مع خطيبها
هكذا وهي لم تراه لأسبوعين كاملين ! "
صرخت فيه من فورها
" أنت لست خطيبي وأنا لا أعترف بك "
قال وصوته لم يتخلى عن مرحه المعتاد
" يبدوا لي أن ما حدث العكس وثمة من أعلنت خبر خطبتنا على
الملأ أم المتحولات كاذبات أيضا ولا كلمة لديهن "
شدت على أسنانها بغيظ وقالت
" بلى كاذبة وتراجعت في كلامي فتزوج لك فرنسية قبل رجوعك
إلى هنا فأنا لن أنام في حضن رجل نامت فيه جميع النساء "
وصلها صوت ضحكته الذي لا يزيدها إلا اشتعالا وقال
" محتالة أخبرتك سابقا أني لم أُقبّل غيرك "
صرخت تشد قبضتها بقوة
" توقف عن قول ذلك أو أخبرت والدي عن فعلتك تلك "
ضحك من فوره وقال
" أخبريه أيضا بأنك لم تمانعي وقتها "
ضربت الأرض بقدمعا قائلة بضيق
" كنت طفلة "
ضحك وقال
" وكنتي جميلة ومطيعة وأنت الآن أجمل لكن تلك الطاعة تبدوا
طارت مع القُبلة ويبدو أنك تحتاجين لأخرى لتعودي مطيعة
مجددا "
انفتحت عيناها بصدمة وما أن كانت ستتحدث سبقها قائلا "
اتركينا من القُبل الآن فلكل شيء أوانه وأخبريني كيف تريدين
أن يكون فستان حفل الخطوبة وما لونه ؟ "
قالت بضيق
" اختره على ذوقك لأنك أنت من سيلبسه "
وتصاعدت تلك الأبخرة من رأسها لصوت ضحكته قائلا
" ساندي الحفل قائم قائم رضيت بذلك أم لا فلا تضيعي على نفسك
فرصة شراء فستانك من هنا "
تأففت قائلة بغضب
" قلت لا حفل ولا خطوبة لما لا تفهم ؟ "
" حسنا أخبري والدك بهذا وليس أنا يا جميلة ، وبالمناسبة
سنغير خاتم الخطوبة أيضا في الحفل وسأرسل لك صورا لفساتين
تختارين منها أو اخترت أنا واحدا فأنصحك باختيار ما يعجبك
أفضل لك "
وختم عبارته ومن قبل أن تتحدث
" Adieu mon amour "
وأتبعها بقبلة وأغلق الخط فرمت الهاتف بطول يدها هامسة من
بين أسنانها
" على جثماني يحدث ما تريد يا زير النساء "
ورمت اللحاف عن سريرها بغضب واندسيت تحته وغطت جسدها
ورأسها متمتمة بحنق
" غدا أجمل ساندي ولا هازاني فيه ... غدا أجمل "
ونجح الأمر كالعادة ونامت بسلام نهاية الأمر وسريعا أيضا ،
وتلك هي طباعها التي تنسيها همومها ما أن تستفيق صباحا
وكأنها شخص آخر .
*
*
*