نزل السلالم راكضا حتى كاد يقفز جميع عتباته في خطوة واحدة
أو يقفز من أعلاه فإما أن يصل هناك أو يموت فصوت ذاك
الصراخ الذي ضرب قلبه قبل أذناه أفقده ما تبقى من صوابه ،
وما أن وصل لآخره دار حوله في الهواء ممسكا نهاية سياجه
وركض جهة ممر غرفتها بالكاد يستطيع رؤية أي شيء أمامه
حتى وصل الباب ودفعه بقوة ودخل يتبعه الذي بالكاد استطاع
اللحاق به وأنفاس كل واحد منهما تسابق الآخر ليتسمرا مكانيهما
ينظران بصدمة للتي كانت تمسكها مربيتها بذراعيها بقوة من
خصرها وهي تصرخ باكية تحاول الفكاك منها وما أن وقع نظرها
على اللذان اجتاحا المكان مدت يدها جهة الواقف مواجها لها
تماما صارخة ببكاء
" وقاص أرجوك إنه يموت .... وقاص افعل شيئا "
لكن الصدمة شلته عن فعل أي شيء وهي تناديه باسمه أي ليس
نومها السبب وتراه فعلا وليس شخص آخر ! تراه وترى شيئا
آخر يجهل ما يكون وهي في وعيها التام !
وفي تلك اللحظة انفكت يدا التي تركتها ودموعها تنزل مع بكائها
بعدما اطمأنت بأنه ثمة من سيحميها من كل شيء حتى نفسها
لكنها لم تتحرك من مكانها كما كانت تريد قبل قدومهما بل نزلت
على الأرض على ركبتيها تشد رأسها بيديها صارخة فركض
ناحيتها الذي فقد تعقله حينها كما فقد قدرته على الحركة قبل قليل
وجثى أمامها على ركبتيه أيضا قبل أن يجلس أمامها وأمسك
ذراعيها وقال صارخا يحاول رفع جسدها ورأسها له
" من هذا الذي يموت يا زيزفون ...! ماذا تقصدين بهذا ؟ "
فرفعت نظرها له وأمسكت قميصه بقبضتها وبدأت بضرب صدره
بقبضتها الأخرى وصرخت ببكاء ناظرة لعينينه
" وقاص قسما أنه يموت أرجوكم الرحمة ... أرجوك "
فلم تفعل شيئا حينها سوى أنها دمرت وقاص فوق ما هو مدمر
أساسا وأسقطت آخر حصونه بمنظرها ذاك الذي كان كفيلا بجعل
الجدران تنطق لكنه ليس جدار ولا حتى أي بشر أمام هذه المرأة
تحديدا .. وكل ما فعله ذاك البشري حينها أن شدها لحضنه
وطوقها بذراعيه يدفن بكائها في صدره يشعر بعبراتها تدمر
أضلعه وبلا رحمة وقال بوجع يتكئ بخده على رأسها يغمض
عينيه بقوة
" زيزفون ارحمي نفسك وارحميني قبلك .... زيزفون توقفي
عن فعل كل هذا بي "
وما كان أمامه من شيء آخر يفعله من أجلها وهو يجهل حتى
عما تتحدث ومن هذا الذي هي عاجزة حتى عن الوصول له وكأن
كل ما كانت تريد فعله أن تصل له هو وتستنجد به لكن ما في يده
يفعله ؟ ماذا غير دفنها وسط أضلعه يستمع لكلماتها من بين
عبراتها سكاكين تخترق قلبه
" يموت يا وقاص ... إنه يموت ... سأخسره أيضا ... قسما
سأخسىر كل شيء إن خسرته يا وقاص "
فكانت فقط تبكي وتبكي وتستمر في الهذيان يشدها لحضنه ضاربا
عرض الحائط بكل شيء وحتى الواقف خلفه ينظر لما يحدث
أمامه بصدمة وعدم استيعاب ولا أحد منهم يعلم بأن ثمة ما يقطع
الأميال والقارات لا يحتاج لتقنيات حديثة ولا اتصالات أو أقمار
اصطناعية ... أمور تتعلق بالقلوب .. بالأرواح المترابطة في كل
شيء فحتى الأقرب منهم هناك لم يكونوا ليروا أو يشعروا بتلك
السيارة التي كانت تتهاوى من أعلى المنحدر تنقلب حول نفسها
قبل أن تصل القاع تدمر معها قلبها ومشاعرها .. ماضيها بقايا
عائلتها وأجمل ما في عالمها الكئيب ، ولا أحد يرى أو يفهم ولا
يملك شيئا ولا الذي يدفنها في حضنه يشدها لصدره بقوة ومن
وحده طلبته واحتاجت مساعدته حتى فيما تعلم بأنه عاجز عن
فعله وذاك أكثر ما بات يقتله .
*
*
*
بدأت سرعة سيارتها بالتباطئ تدريجيا وكأن أفكارها هي من
تتحكم بمقودها أيضا حتى وجدت نفسها تقف بها على جانب
الطريق واتكأت بجبينها على ساعديها الملتفتان حول المقود
تحاول أن تتنفس بهدوء .. أن تفكر بهدوء وأن تحسب كل شيء
بروية وهدوء والسؤال الذي جعلها تتردد في كل ذلك
( ماذا إن حدث ما لم تكن تتوقعه ؟ )
ماذا إن كانت ورقة المساومة الجديدة ؟ هل سيهتم فعلا بأن يقدم
التنازلات من أجلها ؟ آستريا كانت مقابل حرب الثنانيين والعرب
فماذا سيحدث مثلا إن تحولت هي لرهينة لديهم ؟ لا شيء طبعا
فلا أحد يعلم بأنها من الحالك وبأنها ابنة عم مطر شاهين وأنه قد
يتنازل عن أي شيء من أجلها .. ليس الوطن ليس الحرب
والدماء والدمار هي تعرفه جيدا وقالها لها في الماضي
وبوضوح : الوطن قبل كل شيء حتى عائلته ، فلما تتردد إذا
وهي من تعلم بأن جبران لا يخلف وعوده ... لكن جبران
الماضي تغير لم يعد كما كان حتى أنه قرر تدمير حياتها في
الماضي دون أن يهتم رغم أنها اعترفت له حينها بأنها تحب
زوجها وراضية تماما عن حياتها معه لكنه لم يهتم بتحطيمها من
أجل ماذا ؟ من أجلها وهو يعلم بأنه لن يحصل عليها ؟ لكن أتتركه
للموت .. للضياع أكثر بسببها ؟
رفعت رأسها ونظرت لهاتفها المرمي على الكرسي بجانبها حين
علا رنينه مالئا صمت تلك السيارة المغلقة وللاسم الذي يضيء
شاشته باستغراب ... هذه تيما لما تتصل بها الآن وفي هذا الوقت
! لن يكون ثمة مكروه أصابها لما كانت اتصلت بها فهل سيكون
شخص آخر ؟ كرهت ذاك الشعور الكريه الذي جعل ضربات قلبها
تنفعل بشكل مرير ففيما سيعنيها إن كان ثمة مكروه أصاب ذاك
الرجل ولما ستتصل بها هي ؟ جزء من عقلها كان يرفض أن
تجيب عليها لكن النصف الآخر كان يؤيد ذلك وبشدة فهي لم
تكلمها اليوم لم تسمع صوتها ولم تبدأ يومها وتنهيه به كالعادة
وكانت ممتنة لها بالفعل لأنها لم تفعلها فمزاجها كان أسوأ من أن
تتحمل سماع اسمه منها أو أن تدافع عنه أمامها فستنفجر بكل
ما يشتعل بداخلها حينها بالتأكيد ، هي لا تنكر بأنها لم تجتز تلك
المسألة حتى الآن وأنها أكبر عقبة في علاقتهما ويبدوا عليها أن
تتأقلم مع ذلك فهي كما قال عنها والدها لن تقتنع بغير أفكارها
تلك أبدا ومهما حدث .
حسمت أمرها ورفعت الهاتف وأجابت عليها فوصلها ذاك الصوت
الرقيق الحزين فورا
" أمي هل كنت نائمة ؟ آسفة إن أزعجتك لكني مشتاقة لك ولم
أستطع النوم من دون سماع صوتك "
ابتسمت بحزن هامسة
" وأنا كذلك بنيتي وأردت الاتصال بك اليوم لكني لم أجد وقتا "
وصلها ذات ذاك الصوت الحزين فورا
" المهم أنك بخير أمي وأني أسمع صوتك ... كوني بخير من
أجلي أمي أرجوك فيكفيني أن أعلم أنك بخير وإن لن أراك
مجددا "
شعرت بتلك الغصة في صدرها من مجرد فكرة أن لا تراها
مجددا وأن تفترقا ولأي سبب كان وذاك كان الخيط الذي
انقطع في قرارها المتردد ذاك فقالت مباشرة
" تيما لما هذا الكلام الآن بنيتي أنا بخير ما الذي يجعلك
تفكرين هكذا ؟ "
همست ببحة بكاء
" لست أعلم ما بي أمي سوى أني أحبك أكثر من كل شيء فأنت
ووالدي أغلى ما أملك في الوجود وأخشى أن أخسر أيا منكما
وسيكفيني من الحياة أن أعلم أنكما فيها فقط "
تنفست بعمق مغمضة عينيها وهمست بخفوت " ليحفظه الله لك
تيما وهيا نامي لا تسهري هكذا مجددا "
" حسنا أمي وداعا الآن .... أحبك "
قبضت أناملها على الهاتف فيها وأنزلته لحضنها تكابد الدمعة
السجينة في تلك الأحداق السوداء تشعر بالضياع في أفكارها
يتعاظم ويتعاظم .. وطال الصمت وتحديقها في الفراغ قبل أن
تتخذ قرارها النهائي وشغلت سيارتها وتحركت من هناك ، لم
تختر طريق العودة ولا طريقا تعود بها جهة العمران بل طريقا
فرعيا دخل بها لمدينة لم تزرها منذ متى لا تذكر ؟ منذ وفاة
والدها شراع ؟ بل قبل ذلك بكثير ... بكثير جدا ، أجل منذ استلم
هو رئاسة البلاد وانتقلوا جميعهم لحوران ولم تجد الجرأة لزيارة
هذا المكان مجددا فكيف بعد وفاة والدها الذي رباها أيضا وليست
تفهم حقا ما دفعها لفعلها الآن وفي هذا الوقت تحديدا ؟
أوقفت سيارتها أمام سور المنزل الواسع المرتفع ونزلت ودفعت
البوابة الحديدة بيدها ودخلت مجتازة له لتتسابق الدموع لملئ
مقلتيها سريعا تتذكر أول مرة دخلت هذا المكان بعد عودتها من
الحالك بل بعدما طردها ذاك الرجل من حياته وأرسلها مع عمه
وكأنها خرقة بالية لم يكلف نفسه ولا عناء أن يرميها بنفسه أو
يعتذر منها قبل ذلك ... دخلت هنا ذاك اليوم تجر أمنياتها الميتة
مع حركة قدميها الكسيرة تحمل قلبها المحطم في صمت الأموات
لتتلقفها تلك الذكريات وتدمر ما تبقى منها وهي ترى كل مكان
جمعها وشقيقها الوحيد ومن رحل وترك لها كل تلك الأماكن
والذكريات .. هنا لعبا .. هنا ركضا وهناك سقطت ورفعها على
ظهره بل وفي ذاك المكان تحديدا كانا يختبئان حتى يغلبهما
النعاس لأنهما كسرا أحد مجسمات رماح الخشبية فيفران من
العقاب رغم يقين كل واحد منهما بأن تلك المدللة الصغيرة
سيأخذ الكاسر العقاب عنها فلا يد تمتد عليها مهما فعلت .
مسحت دموعها بظهر كفها واستندت بيدها على جذع إحدى
الأشحار وفكت حجابها فلم يعد يمكنها التنفس هكذا فستختنق
وتختنق حتى يموت جزء آخر من داخلها ، هذا ما كانت تشعر به
كلما فقدت شيئا وذاك ما شعرت به حين مات الكاسر ثم حين
رماها ذاك الرجل للأقاويل ولقلبها الخاوي المحطم ورحل ثم حين
أخذ ابنتها منها ولتختم مأساتها بموت من كانت تجزم بأنها
ستفقد حياتها إن فقدته وستموت إن تلقت يوما خبر موته فلما لم
يحدث ذلك ؟
لما هي على قيد الحياة حتى الآن !
أيكون توالي الصدمات قبلها السبب ؟
هل عليها أن تشكر ذاك الرجل على هذا ؟
على تحطيمها حتى لم يعد يمكن لشيء آخر ومهما عظم أن
يجعلها تنهار أو تفقد حياتها .
شدت أناملها في قبضة واحدة على الجذع وأنزلت رأسها للأرض
وأغمضت عينيها بقوة وتقاطرت تلك الدموع ... دموع الألم
والخذلان دموع الطعنات المتتالية وبلا رحمة وعقلها يعود لسرد
كل ما حدث اليوم بل وسافر بها لأبعد من ذلك بكثير وهي تتذكر
كل ما حدث قبل أربعة عشر عاما وتحديدا بعد عودته من سفره
ذاك فما أقسى انكشاف الحقائق الموجعة حين يكون وجع
انجلائها أشد من أوجاع إخفائها عنك .. أبعد ما كان قد يتوقعه
عقلها أن يتهمها بخيانته أن شكه فيها وصل لذلك ومع من مع
شقيقها ! مع من تربت معه منذ طفولتها فأي صور تلك التي
سيكون صورها له عقله عن الحبيبان اللذان كانا يعيشان معا
وعن خيانتها المستمرة له معه ..... لكن لماذا ؟ لما لم يرى
مشاعرها اتجاهه وحبها لهم كأشقاء وهي من لم تتهمه بالمثل
رغم سماعها لصوت تلك المرأة بأذنيها وعملت بنصيحته التي
لم يعمل بها هو
( تريثي واسألي أولا وتأكدي قبل أن تحكمي عليه )
لا تصدق أن جبران فعل كل ذلك وهي من أخبرته بنفسها بأنها
تحبه وقانعة تماما بحياتها معه ! لماذا يدمر حياتها معه هكذا ؟
هل يعاقبها معه أم يعاقب نفسه معهما ! ثم ماذا ...؟
يرمي بنفسه للهلاك وللموت بسببها زاعما أنه من أجلها !
يحارب رجلا يعلم بأنه أقوى منه وسيهزم على يديه لا محالة
ليحملها هي ذنب كل ذلك لباقي عمرها ؟ .
تحركت من هناك تدوس تلك الأفكار بخطواتها لتطردها كما فعلت
وكانت تفعل طوال تلك الساعات القاسية التي مرت عليها سجينة
غرفتها تحاول أن تجد مسوغات للواقع أن تستنتج أمورا أخرى
تغير كل تلك الأفكار بل وتمحوها تماما لكن ذلك لم ينجح ..
لم ينجح أبدا فالواقع أقسى من أن تغيره الأوهام والأمنيات .
سارت بخطوات بطيئة تاركة كل ذلك خلفها كذاك القماش الأسود
الذي حملته الريح من كتفيها ورائها وانتهى به الأمر عالقا
بأغصان الأشجار اليابسة حتى وصلت باب المنزل ، وقفت أمامه
ومسحت بكفها على خشبه القديم المقسم لمضلعات بارزة تراقب
نظراتها الدامعة بحزن جميع تفاصيله وكأن طفولتها لازالت
محفورة فيه فبواسطته تعلمت والكاسر الأعداد وكان جبران من
اخترع لهما تلك اللعبة وكان كل واحد منهما يسابق الآخر في
حفظ أعداد أكثر منه ليرتفع بالباب أكثر وكانت هي من وصلت
لرقم عشرة قبله واحتج هو لأنه أكبر منها بعام ولأن جبران طبعا
ساعدها كي لا تخسر وتبكي بينما تلقت هي الحلوى والهدايا من
الجميع ، وصلت أناملها لقطعة معينة فيه ومررت أظافرها
المقصوصة في حافتها وسحبتها بقوة فسقطت فورا وتبعها صوت
رنين ذاك المفتاح الذي كانا يخفيانه تحته وكان سرهما الصغير
فقد سرقه الكاسر وخبأه تحته بمساعدتها طبعا ليستطيعا الدخول
حين يقررا العودة من المدرسة من قبل الذهاب لها فكان كما
يسميه والدهما : فاشل وتعلم شقيقتك كيف تكون فاشلة مثلك .
رفعت المفتاح من الأرض وغرسته في فتحة الباب بالكاد تستطيع
رؤية مكانه فيه من بين كل تلك الدموع وما أن انفتح بدفعة من
يدها وتسلل النور داخله ممتدا حتى ذاك الكرسي الهزاز الذي
تحرك بتلقائة مصدرا ذات ذاك الصوت الذي دفن في ذاكرتها
لأعوام ركضت نحوه فورا وجثت على ركبتيها أمامه ورمت
نفسها عليه تدفن دموعها وعبراتها الموجعة فيه لتملأ صمت ذاك
المكان الخالي المظلم معبرا عن الفقد عن الضياع عن الوحدة
وعن الشوق لمن لن نراه ونجده أبدا ما حيينا .. عن أقسى أنواع
الفراق ... فراق الموت والأموات ، لكم تحتاجه الآن في كل وقت
وفي كل شيء .. لأن تسمع صوته المليء بالعاطفة وهو يقول
لها مبتسما بدفئ
( أنت أقوى من عقبات الزمن يا غسق ، أنت قوية وشجاعة لا
تحتاجين لشيء ولا لأحد لتكوني امرأة كذلك )
ولازالت تذكر حتى الآن كيف حكى لها عن والدتها وذاك كان بعد
فراقها عن ابنتها وقد أخبرها ولأول مرة عن علاقته بها وعن أنه
أحبها رغم انعزالها عنه ورغم انغماسها في حزنها على زوجها
وعلى مصير ابنتها وأن طوال فترة زواجه بها لم يناما معا
كزوجين حقيقيين سوى مرة واحدة وبطلب منه هو احترمت هي
فيه رغبته كزوج وقد أقسم بعدها أن لا يقربها إلا إن أرادت هي
ذلك وبعد وفاتها تركت له حزنا عميقا وجهه لها هي لابنتها التي
تركتها له بعدها وكيف استطاع أن يدفن كل ذلك في حبه لها
واهتمامه بها فلم يعد يشعر بذاك الفراغ والحزن ففهمت رسالته
فورا وأصبح بالفعل ابن شقيقها وأحب فقيد لديها هو المتنفس
لكل ما فقدته لكن ذلك لم يعوضها فقدها له .. لا شيء أبدا ولا
رؤية ابنتها من جديد فكيف للحي أن يأخذ مكان ميت كيف ؟ لما
تركها وحيدة هكذا من دونه وحتى والدها الحقيقي لا تستطيع
الوصول له إلا إن رضخت وتنازلت وداست على قلبها وجرحها
وألمها فبقي هكذا حسرة في قلبها .. حسرة جديدة قد تنتهي
بفقدانها له أيضا ومن دون أن تراه فالموت لا يسأل ولا يستأذن
ولا يراعي الاشتياق واللقاء .
امتدت بها الدقائق وهي مكانها هناك تبكي على ذاك الكرسي كما
لم تبكي أبدا حياتها فذاك القناع المزيف سقط بفقدانها له وما عاد
قلبها الكسير يحتمل المزيد من الألم من الفقد ومن الفراق لذلك
لم تستطع أن ترى أحد أشقائها وأحد أبناء شراع يموت أيضا
وأن تكون هي السبب وبأي شكل كان وأن يكون الحل بيدها
ولا تحاول فعل أي شيء لكنها فشلت في هذا أيضا .
هذه هي غسق شراع ... أجل هذه هي حقيقتها التي لا يعلمها
أحد .. المرأة القوية المناضلة التي تحصل على كل ما تريد ..
ابنة شراع صنوان والتي ولدت ابنة زعماء أجمل نساء صنوان
والأنثى التي ذكر اسمها في كل مكان في البلاد المقسمة
آن ذاك ...
تزوجت زعيم الحالك وحملت في أحشائها طفله وحتى حين تركها
تحولت لابنة رئيس البلاد مالكة مملكة كاملة بما فيها إن تمنت
شيئا حصلت عليه .. تلك هي غسق التي حسدها الكثيرين وعلى
مر أعوام لكن الحقيقة عكس ذلك تماما فهذه هي غسق
الحقيقية.. الموجودة في هذا المكان المظلم الكئيب تطارد
ذكرى ما ضاع منها ولن يعود أبدا ... مجهولة النسب رغم
معرفتها من تكون ... من تركها الرجل الذي أحبته بكل ما عرفته
الأنثى من مشاعر فنبذها بتهمة خيانة ثم اعترف بها على نفسه
وأمام الجميع بل وبعدما أعادها زوجة له وكأنه يتفنن في قتله لها
ليظهر الآن أن كل ذلك مجرد كذبة كبيرة صدقتها هي قبل الآخرين
ومن قبل أربعة عشر عاما ... فقدت والدها المزيف ولم تستطع
الوصول لوالدها الحقيقي ... خسرت ابنتها وحين وجدتها لم
تجدها ... هذه هي غسق دجى الحالك للأسف ... هذه هي غسق
الحقيقية لم تحصل يوما على ما تمنته وعاشت تفقد فقط ...
تفقد وتفقد وتفقد حتى استنزف الفقد روحها ومشاعرها وأحلامها
وتركها جوفاء لا تصلح سوى لتكون تمثال
زينة يمتع الناظر له
ولا يستفاذ منه في شيء .
وقفت تمسح دموعها بباطن كفها كطفلة لم تجد من يمسح تلك
الدموع ولا من يهتم لبكائها فاختارت ترميم نفسها بنفسها
وتوجهت للسلم المظلم المغطى بالأتربة وصعدت درجاته بالكاد
تستطيع ساقيها أن تحملانها حتى وصلت لغرفة معينة ما كانت
لتختار غيرها في ذاك المكان وذاك الوقت تحديدا .
*
*
*