كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
*
*
*
تبعته حتى الباب وأمسكت بكم قميصه وأدارته ناحيتها وقالت بحدة
" أبان أنا لم أنهي كلامي بعد .. متى ستتعلم أن تحترمني ؟ "
التفت لها وقال بضيق
" أمي ما الذي قلته أو فعلته قللت به من احترامك ؟ أخبرتك
بأنه يترك هاتفه في المنزل وأمامك اتصلت به ولم يجب ،
ولن نزورهم من دون موعد مسبق ذلك لا يجوز أمي ولم تربينا
عليه أبدا "
قالت من فورها
" اذهب لمنزلهم إذا وتأكد من أنهم ليسوا هناك فعلا فهو منزل
صديقك وكنت تزوره سابقا لا جديد في الأمر "
تنفس بعمق محاولا تهدئة نفسه كي لا يغضبها منه فإن كانت
في حالات هدوئها لا يستطيع مجاراتها في العناد والحدة فكيف
وهي غاضبة هكذا ؟ مرر أصابعه في شعره الفاحم وقال بصبر
" أمي قلت لك ما أن يرجع يمان للمنزل ويجيب على هاتفه
سأتأكد منه بنفسي أقسم لك "
قالت مباشرة
" ومتى سيرجع مثلا ؟ "
قال بنفاذ صبر
" يفترض اليوم أمي فارحميني أرجوك "
قالت من فورها وبضيق " ها أنت قلتها بنفسك يفترض بأنه في
منزلهم اليوم فلما لا يجيب ؟ "
همس من بين أسنانه
" يا صبر أيوب الشعاب عليها زرني ولو لمرة واحدة "
قالت بضيق " ماذا تقول فلست أسمعك ؟ "
قال بضيق مماثل
" قلت ارحميني يا أمي فلن أفعلها وأذهب هكذا دون علمهم
كاللصوص "
قالت بحدة وعناد
" بل ستفعلها يا أبان أو قسما أركب سيارة أجرى وأذهب لها بنفسي "
نظر لها بصدمة وقال
" أمي تركبين سيارة أجرى من الحميراء لغرير ! ألا تعلمي بأنها
ساعة كاملة تلك التي تفصلنا عن هناك ! "
قالت من فورها
" أعلم لكنكم لم تتركوا لي خيارا غيره ولن أتوانى عن تنفيذه
فلا والدك يريد أخذي هناك ولا أنت وافقت ولا على الذهاب لهم
وحدك وغيهم ليس هنا لما كان ردني خائبة أبدا "
رفع حاجبه وقال ببرود
" إن كان غرضك من هذا الإنتقام مني فمخططك فاشل فأنا أحب
شقيقي ولن أتحسس منه أبدا "
صرخت فيه بحدة
" أبناااان "
نفض يديه قائلا بضيق
" أمي بالله عليك ارحميني بأي عبارات أشرحها لك ؟
سأتحدث معه ما أن يرجع من الجنوب ألا تستطيعين
الإنتظار قليلا ؟ "
قالت من فورها
" لا فلست مطمئنة عليها بسبب تهربهم الواضح منا وقلبي يقول
لي أن مكروها حدث لها "
تأفف وقال
" أمي هي بخير وتحدثت معها بالأمس وسمعت صوتها بأذني ..
يكفيك هذا ؟ "
شهقت بصدمة وقالت" تحدثت معهااا !! "
قال من فوره وبضيق
" بل أجابت هي على هاتف شقيقها فلا يتوقف قلبك أمي فأبان
المتوحش لم يقترب من طفلتك الجديدة "
قالت متاجهلة ما قال
" لما لم تجب هذه المرة إذا ؟ أرأيت أني على حق ؟ "
تأفف مجددا ممررا أصابعه في شعره وقال بنفاذ صبر
" أمي اخرجي من رأسي رحم الله والديك ووالداي واتركيني
أذهب في حال سبيلي فلن أرجع من بينبان إلا منتصف الليل
على هذا الحال وأبي سيغضب إن أنا تأخرت على ذاك الرجل "
قالت مباشرة
" تذهب لهم إذا فغرير في طريقك "
تنهد باستسلام من عنادها الذي كان يعرفه مسبقا ويتعب نفسه
ليس إلا وقال
" حاضر أمي ... أوامرك مولاتي فهل يمكنني الذهاب الآن ؟ "
قالت بجدية " عدني أولا "
أمسك رأسها وقبله وقال
" أعدك أمي قسما سأمر بمنزلهم في طريق عودتي فقط حرريني
لألحق موعدي مع ذاك الرجل "
تنهدت بضيق قائلة
" ليحفضك الله بني ورافقتك السلامة "
فخرج من فوره مغلقا الباب خلفه وضمت هي يديها عند صدرها
متمتمة
" في رعاية الله بني وليحفظك الله ويطمئنني عليها "
*
*
*
بعد مسافة قصيرة من انطلاق السيارة بهما تبتلع ذاك الطريق
الساحلي بنهم اختارت الجالسة بجانبه أن تكسر صمت رحلتهما
هذه المرة قائلة ونظرها على يديها في حجرها
" أنت لست غاضب بسبب ما قلته أمام شقيقة زوجتك ؟ "
سرق نظره ناحيتها قبل أن يعود به للطريق مجددا وقال باختصار
" لا "
نظرت له هذه المرة وقالت بجمود
" لكني أخبرتها أمورا ليست حقيقية ستوصلها لها بالتأكيد "
قال ببرد ونظره لم يبعده عن الطريق أمامه
" لا شيء بيني وبين جمانة تدمريه يا زيزفون "
نظرت له بصمت لوقت قبل أن تنظر جهة نافذتها متمتمة
" كنت أود الاعتذار منك لكنك أفقدت نفسك شرف ذلك "
فارتسمت ابتسامة على شفتيه وأغمض عينيه لبرهة متنهدا
بعمق قلبه يردد دون توقف
( سحقا ... سحقا ... سحقا لوقاص الغبي )
وجل ما كان يحاول مقاومته حينها هو النظر ناحيتها كي
لا يقول لسانه ما يرفضه عقله فما أقسى أن تكون مجبرا على
بناء حاجر مرتفع متين بينك وبين شخص أنت أحوج له منه لك .
وعلى ذاك الصمت استمرت طريقهما حتى توقفت تلك البنتلي
السوداء اللامعة بالقرب من الباب الداخلي للمنزل ونزل منها
الذي ارتفعت نظراته فورا للواقفة في الجانب الآخر حيث
بابها المفتوح حين قالت
" أريد البقاء في الحديقة قليلا "
وتابعت تنظر ليدها اللتي أغلقت بها باب السيارة متجاهلة
نظرته المصدومة لها
" ووحدي "
فنظر للساعة في معصمه ما أن اجتاز صدمته مما قالت
ثم لها وقال باستغراب
" في هذا الوقت يا زيزفون !! "
نظرت جانبا حيث الحديقة المضاءة في كل زاوية فيها وقالت
" أجل ولن أبتعد "
نقل نظره منها للمكان حوله ولم يعرف ما يقوله تحديدا !
لا يمكنه منعها من ذلك فهي رغبتها لكن .... نظر لها وقال بجدية
" وستكونين بخير يا زيزفون ؟ "
نظرت له من فورها وقالت بضيق
" لا تقلق فلن أؤذي أحدا ولن أقتل نفسي "
ضرب بابه مغلقا إياه وقال بضيق أكبر
" زيزفون لما لا تتوقفي عن اتهامي بأفكارك ؟ "
أبعدت نظرها ووجهها عنه مجددا وقالت ببرود
" مؤكد منزل عائلة ضرار السلطان محاط بحراسة مكثفة
وأنا أريد أن أكون خارجه وحدي لبعض الوقت ...
اتركوني أمارس حقوقي فيه ولو لمرة واحدة "
رمته بسيل عباراتها تلك قبل أن تبتعد عنه مغادرة حيث أرادت
فرفع نظره للسماء وتنفس بعمق ، كان يعلم بأنها على حق
وبأنه لا يحق له التدخل فيما تريد وهو حق لها هناك مثلهم
تماما وعليه تركها والابتعاد لكن قلبه ما كان ليطاوعه لفعلها
فمثلما قضت هي باقي ليلتها تلك تجلس وحيدة على حافة
النافورة الحجرية تسافر مع أفكارها وصمتها للبعيد قضى
هو ليلته تلك أيضا في شرفة جناحه المظلمة يراقبها بصمت
يرفض تركها هناك وحدها ولا لثانية واحدة يخشى عليها
حتى من نفسها ... من حرسهم .. من نجيب ..
من زوجة والده .. من جده ... وحتى من نفسه .
ورافق القمر ليلتهما تلك عينان بزرقة السماء التي غابت مع الشمس
من ساعات انسدلت فوقها تلك الأجفان الواسعة تراقب بحزن أناملها
البيضاء التي كانت تحرك بها المياه النقية تحتها تعبث بصورة ذاك
القمر فيها وكأنها تخبر الموجود هناك في الأعلى بأنه لا قمران في
ليلة واحدة ولا في مكان واحد وأن تلك الأحداق السوداء هناك لا
يمكنها جمعهما في صورة واحدة وعالم واحد ...
المرأة الرقيقة كنسائم ذاك الليل رغم سواد ماضيها وكآبة داواخلها
لازال ذاك الفستان الربيعي والتحفة الفنية الفريدة من نوعها يحتضن
ذاك الجسد النحيل المتناسق وذاك الشعر اللامع بشقرة خفيفة تحت
تلك الأضواء يتحرك حول كتفيها برفق بسبب ثقله وكثافته كستائر
ثقيلة تلتف حول نفسها فوق نافذة مفتوحة ، لوحة متكاملة وكأنها
وجدت هناك لتدمر ما تبقى من تلك المشاعر المسجونة خلف أسلاك
شائكة وقطبان حديدية وأسوار عالية واقف هناك يبنيها حول
قلبه من بين عذابه وضياعه بينها وبين نفسه لا يملك خيارا
غير ذلك فشقيقة القمر تلك هي الفاكهة المحرمة في عالمه ....
محرمة وقد يكون .... للأبد .... للأبد يا وقاص لا تنسى ذلك .
مرر أصابعه في شعره وأغمض عينيه يتنفس بعمق وكأنه يحاول
إخراج حتى الأنفاس العالقة في صدره تحمل عطرها تحتفض به هناك
في خلاياه ... يزفر ... ويزفر ... ويزفر .. وكأنه قرر إخراج روحه
مع كل شيء ليحرر نفسه من الحياة بأكملها فلا طريقة أمامه غيرها .
تراجع للوراء ببطء وجلس على أرض الشرفة مستندا بظهره على
جدار غرفته ناصبا إحدى ركبتيه وقد أراح ساعده عليها تراقب
نظراته ذات ذاك المشهد من بين أعمدة الشرفة الحجرية لتنحصر
الصورة أمامه في الجالسة هناك ومياه النافورة المتوقفة والقمر
المنعكس فيها وقد توقفت يدها عن محاربة صورته ورفعت قدميها
أيضا لحافة النافورة حيث تجلس نظرها على يديها في حجرها تحضن
كف إحداهما بالأخرى وشيء ما لامع في ذاك الكف تنظر له لا يعرف
ما يكون سوى بأنه من النقاء بحيث انعكست الأضواء عليه وقد
حدقت فيه لوقت طويل وكأنها تحفظ تفاصيله .. تتحدث معه ..
يسمعها وتفهمه .. بل وتثق به أكثر من البشر حولها .
نظرت له لوقت قبل تقبض أصابعها عليه ببطء وتباعا وقبل
أن ترفع يدها وترميه في مياه تلك النافورة الضخمة لحظة ارتفاع
صوت الأذان في صمت ذاك الليل ... فكرته التي اقترحها من أعوام
ووافقه جده عليها فورا وهي عبارة عن مايكرفونات متبثة حول
جدران قصرهم ذاك ليعلوا صوت الأذان حوله وداخله في كل
وقت صلاة .
ومع ختم ذاك الصوت الجهوري المرتفع الأذان بلا إله إلا الله
وقفت الجالسة هناك وغادرت .. نظرها على خطواتها البطيئة تلك
وكأنها قررت أخيرا أن ترحم غيرها قبل نفسها من العذاب المغلف
بالصامت المميت ودخلت لم يبقى من ليلتهما تلك سوى ذاك قمر
يغني مبتسما بحزن ( وداعا يا أميرتي الجميلة ) وظلام بدأ
بمغادرة ذاك الأفق بطيئا حاملا جميع تلك الأسرار معه .
دخلت غرفتها وكانت في استقبالها التي هرعت نحوها فورا
وأمسكت بيدها قائلة بقلق
" زيزفون أين كنت بنيتي لقد أقلقتني عليك ولم أجد ولا السيد
وقاص لأسأله أو ليبحث عنك ؟ "
انسحبت من أمامها مجتازة لها وتلك تترك يدها ببطء تراقبها
نظراتها الحزينة المحبة وهي تتوجه لسريرها الواسع وقد تكورت
نائمة فوقه وبالعرض وبفستانها فتوجهت نحوها ومسحت على
شعرها قائلة
" زيزفون هل ستنامي بفستانك هكذا ومن دون أدويتك ؟ "
خرج لها صوت همسها الضعيف من تحت ذاك الشعر الطويل
الذي غطى ملامحها
" سأنام قليلا فقط خالتي ، لا أريد تلك الادوية .. لا أريد ذاك
الظلام الذي ترميني فيه وكل تلك الألآم التي تسببها "
شهقت الوقفة فوقها بصمت وصدمة من طلبها الغريب ذاك وقالت
" لكنك تحتاجينه لتنامي من دون كوابيس وكي لا تأتيك تلك
الحالة مجددا فتلك وصايا الطبيب يا زيزفون ! "
وحين لم تسمع منها أي جواب أو تعليق مسحت على شعرها
مجددا تحاول ابعاده عن ملامحها قائلة
" زيزفون لم يبقى على وقت الصلاة سوى أقل من ساعة وعليك
تناول الدواء فأنتي لم تاخذيه بالأمس ولا البارحة ... زيزفون
لا تنامي بنيتي أرجوك "
وما أن تمكنت من إبعاد ذاك الشلال البني الفاتح عن ملامحها
وظهر لها ذاك الوجه الجميل والوجنتان المتوردتان بشدة والشفتان
الزهريتان المنفرجتان قليلا ليعبر منهما وحدهما الهواء لذاك الصدر
الذي كان يتحرك مع انفاسها بانتظام أدركت بأنها سافرت لعالم
النوم الذي طلبته فقبلت جبينها بحنان وجلست بقربها فلا يمكنها
تركها ولا للحظة واحدة حتى تستفيق .
*
*
*
دخل من باب المنزل مغلقا له بهدوء خلفه وما أن سار وسط
بهوه الواسع ناحية ممر غرفته وقف وقد شدته تلك الأصوات ناحية
المطبخ وميز ذاك الصوت سريعا بل وشده كالمغناطيس ليغير مسار
خطواته طوعا ، وما أن اقترب من ذاك المكان أكثر أصبح ذاك
الصوت الأنثوي الرقيق يصله بوضوح أكبر قائلة صاحبته بانجليزية
طلقة وصوت مبتسم
" the birds will leave the place before the evening"
ثم صوت خاله صقر قائلا بضحكة
" لا أنت تغلبت على والدك وجدك ... أنت متأكدة من أنك تحفظين
المصحف كاملا ! "
قالت مبتسمة تقطع اللحم برفق ونظرها على ما تفعل
" اختبرني بآية أو سورة لتتأكد "
دفع الخيار الذي قام بتقطيعه بواسطة السكين جانبا وقال مبتسما
" الأمر لا يحتاج لاختبار فوالدك يحفظه منذ كان فتيا ومؤكد لن
يفوته غرس هذا في أبنائه ، ورغم ذلك انجليزيتك متقنة بشكل فاق
معلميك رغم سنوات حياتهما هناك حتى أن والدك حين يتحدث أمامي
بالانجليزية مع أحدهم في الهاتف لا أستطيع فهم نصف ما يقوله
بسبب سرعته لكن اتقانك لمخارج الأحرف والاصوات فاقهما
وبوضوح "
قالت وهي ترتب قطع اللحم في الصينية الزجاجية
" هذا لأني عشت هناك منذ مولدي ومربيتي كانت انجليزية واحتكاكي
بها كان كبيرا رغم أن والدي حرص كثيرا على تعليمي العربية
ولهجة بلادي تحديدا لكن وقت وجودي معها كان أكبر "
وتابعت بحزن تضع قطع البطاطا حولها
" وبعد وفاتها أصبح جدي دجى هو من يهتم بتعليمي الكلمات التي
كنت أنطقها بطريقة خاطئة رغم قلة زياراته لي فقد تحول عالمي
للوحدة التامة بعد موتها فهي من كانت تسليني وإن لم تكن فردا
من عائلتي ، وضننت أن كل ذلك سيتغير حين نصبح هنا لكن .... "
وغاصت كلماتها في حلقها فقال الذي رفع نظره لها وبابتسامة جانبية
" في وجهي تقولينها يا ابنة مطر ! "
نظرت له بصدمة وما أن كانت ستتحدث موضحة له ضاعت
الأحرف منها وهي تنظر للواقف عند باب المطبخ ينظر لها
تحديدا يتكئ بكتفه على إطاره ويدس يديه في جيبي بنطلونه
فأسدلت جفناها الواسعان تنظر للصينية أمامها مجددا وقالت
" بل وجدت الكثير هنا عمي ... الفرح كما الحزن والسعادة كما
الجراح "
وتابعت بابتسامة ساخرة تزين ما فعلته سابقا بحبات الطماطم
الصغيرة كما تغرس الأشواك ببطء في جوف أحدهم
" قال لي خالي رعد مرة أن الرجال يعبرون عن مشاعرهم بطرق
غريبة ... وقاسية ، مشاعرهم جميعها و ..... حتى الكره "
ساد صمت مميت بعدها المكان لم يكسره سوى صوت السكين
الذي وضعه الواقف قربها والذي ما أن كان سيتحدث لفت
انتباهه الذي استقام في وقوفه هناك ولم ينتبه لوجوده سابقا
لانشغاله فقال مبتسما
" آها قاسم هذا أنت هنا ! مؤكد لم تتناول عشائك بعد "
وتابع ينظر بطرف عينيه للتي كانت تشغل نفسها بلف ورق القصدير
فوق الصينية
" ابنة مطر شاهين قررت اليوم أن تطهو هي الطعام بما أنه
لا خادمات هنا حتى الغد "
وتابع أيضا حين لم يعلق أي منهما ونظره هذه المرة على الخضار
التي بدأ بجمعها في طبق مسطح قائلا بابتسامة
" تيما أتعلمي أن ابن عمة والديك هذا عدو لطعام المطاعم
والخادمات وهو يعيش في لندن ومن دون زوجة ولا شقيقة ؟
لست أعلم حقا كيف ستجد له جوزاء زوجة يتأقلم معها بطباعه
الغريبة هذه حتى أنه فوضوي ويحب كل شيء مرتبا ! "
اشتدت أصابعها على القصدير حتى كادت تمزقه تحتها ويتلف
نهائيا ورفعت نظرها ببطء جهة الباب ووقع فورا على عينيه
المحدقة فيها بصمت قد وترها حتى في هدوئهما الغريب هذا !
عادت بنظرها للأسفل واستمرت في اتباع نصائح معلمها الواقف
خلف الصورة والمدعو رعد طبعا قائلة بلامبالاة وإن كان قلبها
يحترق ألما
" مؤكد ستجد له واحدة مناسبة كما فعلت مع ابنيها "
وسحبت نفسا عميقا قبل أن تحرره ببطء ما أن سمعت خطواته
مغادرا والغريب أنه لم يتحدث ولم يعلق ولم يستغل الفرص لجرحها
كما فعل سابقا ، إن كان غضبه واستيائه لا تفهمهما ولا يمكنها
احتوائهما فكيف بهدوئه المريب هكذا ! هي حقا رمت نفسها
للهلاك بيديها .
وضعت الصينية في الفرن وجلست أمامه تنظر للفراغ بشرود
حزين ، إن كان هذا هو الحب فقد أوقعت نفسها في حفرة عميقة
سوداء مظلمة ومخيفة ... ألم تجد رجلا غيره في الوجود !
لما كان اختيارا قاسيا وقرارا مجحفا هكذا ؟
" هيييه تيما !! "
أجفلت فجأة ورفعت نظرها للذي قال مشيرا بيده لأعلى الفرن
" ستحترق شرائح اللحم في الأعلى فأنتي لم تقلبيها مطلقا "
قفزت حينها واقفة وقلبتهم بيدها مسرعة متجاهلة ألمها وكادت
تحرقهم فعلا بغبائها فهي انشغلت مع صينية لحم الدجاج مطمئنة
بأن النار كانت منخفضة تحتهم حتى نسيتهم تماما والسبب
ذاك الزائر الغريب طبعا ... لا بل غبائها هي وقلبها الأحمق .
قبضت أصابعها بقوة ودست يدها في خصرها بملامح متألمة
فهي لم تشعر بالألم فيهم هكذا إلا الآن ، توجه صقر نحوها قائلا
" ما بها يدك أرني إياها "
قالت متوجهة جهة البراد
" لا شيء عمي مجرد لسعة خفيفة وستذهب بالثلج "
وفتحت أحد بابيها ورفعت جسدها على رؤوس أصابعها وأنزلت
الآنية الزجاجية المليئة بالثلج ووضعت أطراف أصابعها فيه
تغمض عينيها بقوة وتنفست بارتياح ما أن شعرت بالألم قد زال
تماما وكررت ذلك عدة مرات تدخلهم وتخرجهم حتى شعرت
بها ستتجمد تراقب مبتسمة الذي بدأ بتوزيع السلطة في الصحن
وأخرج صحنا واسعا للأرز فأعادت الإناء مكانه وأغلقت باب
الثلاجة وتوجهت ناحية الفرن وتفقدت صينية الدجاج الزجاجية
من الخارج ثم أغلقته مجددا ووقفت على طولها وبدأت بوضع
شرائح اللحم الناضجة من المقلاة في طبق آخر وزينت حوافه
بشرائح الطماطم تستمع مبتسمة لحديث معاونها المسلي والذي
لم تحتج إلا أن تشاركه بالقليل من الكلمات حتى انتهيا تماما من
اعداد الأطباق وأخرجت صينية لحم الدجاج وتركتها له ليسكبه
في طبقه الخاص وخرجت متوجهة لغرفة الطعام وبدأت بترتيب
الأطباق على الطاولة فيها حسب عددهم ووزعت الملاعق والشوك
وكوؤس العصير فسمعت حركة ما خلفها قبل أن يمر جدها بقربها
وسحب كرسيا وجلس عليه قائلا
" ماذا أعددتما لنا ؟ أشك أننا سننام جياعا الليلة "
نظرت له مبتسمة بحنان فهو رغم تجهمه والضيق الذي لازال
واضحا على ملامحه لم يفقد روحه المرحة وتشتاق فعلا لجدها
الذي عرفته كل حياتها ولا يشبه هذا بتاتا بل نسخة عن الذي تركته
خلفها في المطبخ ، قالت مبتسمة وهي تضع له منديلا وكأسا أمامه
" أعددنا سلطة الأفوكادو وقطع السمك كاجون المقلي من أجلك
لأنك تحبها وشرائح اللحم الضأن المشوية من أجل والدي
وصينية الدجاج في الفرن وهو طبق عمي صقر المفضل
والارز بالبازلاء وكبد الدجاج من أجلي .. وبذلك نرضي
جميع الأذواق "
قال بابتسامة مائلة ينظر خلفها
" إذا لا شيء من أجل قاسم ...؟ أغاضبة منه أم ماذا ! "
تصلب جسدها تماما وقد شعرت حينها بحركة من كان يقف خلفها
ولم تشعر به ويبدوا بأنه دخل خلف جدها ولكنه فضل الوقوف
بعيدا ، ضمت يديها وقالت بصوت منخفض تنظر للأسفل
" لم أكن أعلم ما طبقه المفضل وهو لم يكن موجودا هنا "
وأغمضت عينيها متنهدة بقوة ما أن شعرت به يسحب الكرسي
قربها وجلس دون أن يقول شيئا ولا أن يعلق فغادرت من هناك
فورا قبل أن تحاصرها رائحته أكثر فهي باتت تخشى صمته
الغامض ذاك أكثر من كلماته الجارحة ، دخلت المطبخ وساعدت
صقر في أخذ أطباق الطعام وقد رفع هو صينية الدجاج بيد والأرز
بالإخرى لأنهما الأكبر والأثقل بينما حملت هي صينية السلطة
فهي خفيفة مهما كان حجمها وصينية شرائح اللحم في اليد الآخرى
وخرجا متوجهان هناك والتحقا بالبقية ، وضع صقر طبق لحم
الدجاج جهة كرسيه وجلس قائلا بابتسامة " طبعا كل واحد يأكل
من طبقه "
شخر دجى بسخرية بينما جاء التعليق من الذي خرج عن صمته
ولأول مرة قائلا ببرود
" وقل قاسم ينام من دون عشاء .. لما تتعب نفسك بكل ذلك ؟ "
فضحك من فوره قائلا
" ها هو خالك بجانبك كل السلطة معه "
قالت التي وضعت صينية الأرز وسط الطاولة
" الأرز للجميع إذا "
لحظة دخول الذي ألقى السلام هامسا بجمود فنظرت له مبتسمة
بحزن قبل أن تتوجه نحوه وقبلت كتفه قائلة
" مرحبا أبي "
فهي لم تراه اليوم لأنها غادرت لغرفتها وقت دخوله صباحا
ثم خرج ولم يرجع إلا الآن وها هو يبدوا مستاءً وأكثر من
جدها أيضا ، مسحت يده على رأسها وقال بشبه ابتسامة صغيرة
ناظرا لعينيها
" كيف أنتي يا تيما ؟ "
قالت مبتسمة بحنان
" بخير مادمت أنت بخير "
قبل جبينها وسار بها ذراعه على كتفيها حتى جلس وجلست
بقربه ونظرت فورا للذي ازدادت ملامحه عبوسا وتجهما وتنهدت
بأسى قبل أن تقول له مبتسمة
" جدي هل أسكب لك من الأرز ؟ "
رفع نظره لها قبل أن يرمق بطرف عينيه الجالس على يمينه
قائلا ببرود " ولحم الدجاج أيضا "
خرجت منها ضحكة صغيرة ووقفت ودارت ناحيته ورفعت طبقه
وغرفت له من الأرز ووضعته فيه وأضافت له قطعة لحم دجاج
كبيرة متجاهلة نظرات صقر التهديدية تمسك ضحكتها وقد وضعت
له الطبق أمامه فقال صقر متنهدا بضيق
" من أين لي بحفيدة تدللني "
فضحكت من فورها وتوجهت نحوه وحضنته من ظهره قائلة بابتسامة
" وأين ذهبت تيما ؟ "
قال ضاحكا يبعدها عنه
" أجل احتالي علي بألاعيبكن أنتن النساء "
قالت مبتسمة
" الحق علي "
ومدت يدها بعد تردد لطبق الجالس بجانبه لازال فارغا ورفعته
دون أن تسأله كي لا يرفض ويخجلها وسكبت له من الأرز أيضا
وقالت تشغل نفسها عن النظر له بما تفعل وهي تسأله
" أي أنواع اللحم تريد ؟ "
وبالكاد وصلها همسه حين قال
" بل وحده "
وضعت له طبقه أمامه وابتعدت فورا حامدة الله أن انتهت مهمتها
أخيرا ولم يبقى سوى والدها الذي قال قبل أن تسأله
" سأكتفي باللحم شكرا لك يا تيما "
فجلست مكانها على صوت صقر قائلا بابتسامة
" بعد عشاء الليلة إما أن يستغنوا عن الخادمات نهائيا يا تيما
وستكونين أوقعت نفسك في مشكلة حينها أو لن يسمح لك أحد
بدخول المطبخ مجددا "
ضحكت وقالت ترفع الملعقة لفمها
" من يسمعك يظن بأنني طهوت كل شيء وليس الارز فقط تقريبا "
ضحك وقال
" كنت أود اظهارك سيدة منزل ممتازة لكنك لا تستحقين "
وتابع ناظرا لها بمكر بينما وجه حديثه للجالس عند رأس الطاولة
" مطر بالله عليك زوجها لرجل لا يعترف بوجود الخادمات ليؤدبها "
نظرت له بصدمة وانطلقت ضحكته هو مرتفعة بينما كان التعليق
من دجى الذي قال ببرود
" أمامها من العمر الكثير لتتعلم قبل أن يزوجها "
فعم الصمت المكان فورا يعلم كل واحد منهم لما قال ذلك ومن المعني
بكلامه والذي لم يتأخر تعليقه أكثر من ذلك أيضا حين قال بجمود
ونظره على طبقه
" عليه أن يرضى بها كيفما هي وفي أي سن كانت "
لتصفع كلماته الجميع وأولهم التي وقع نظرها على جدها
والذي نظر لها فورا وبضيق فهمست له بشفتيها فقط وبرجاء حزين
" جدي أرجوك "
فتأفف وعاد لطعامه ولم يعلق ونظرت هي أيضا لطبقها بحزن وتجنبت
النظر ناحية الذي تعلم جيدا كيف قد يستغل الموقف ويذكرها مجددا
بأنها سبب شجارهما وكل هذا الجو المشحون ، قال صقر مبتسما
ومحاولا التغيير من ذاك الجو المضطرب ونظره على طبق الجالس
على يمينه
" قاسم ما علمته عنك سابقا أنك لا تفضل الأرز وأراك تجتهد في
تغيير عاداتك الآن ! "
فرفعت الجالسة أمامهم نظرها له فورا وغرست أسنانها في طرف
شفتها لا شعوريا تراقبه ونظره على طبقه والملعقة فيه وقد
تمتم ببرود
" قررت تغيير نمط حياتي ... أثمة مانع لديك ؟ "
ضحك صقر وقال
" لا بالطبع أنا فقط ظننتك تجنبت احراجها حين سكبته لك ،
الله أكبر عائلة لا يستطيع أحد قول شيء لأحدكم ... حمدا لله
أنه ثمة فتاة رقيقة جميلة ضمن أفرادها "
أنزلت نظرها حينها لطبقها وضربات قلبها ترتفع بشكل مخيف حتى
شعرت بأنهم يسمعونها جميعهم فها هو وللمرة الثانية يأكل شيئا
لا يحبه من أجلها ! لو أنها تفهم هذا الشاب وكيف يفكر ولو لمرة
واحدة ؟!
رفعت نظرها بالذي وقف مجيبا على هاتفه ومغادرا من هناك قائلا
" أجل يا رعد ماذا حدث معك ؟ "
وتبعته نظراتها المتوجسة وهو يبتعد قائلا بضيق
" ألمهم أنها فتحت الباب وخرحت إن كان السبب موعد رماح أم غيره
ولا تتركوها تسجن نفسها مجددا ، حذرتك سابقا من أن ..... "
واختفت كلماته مع اختفائه خلف الباب الذي أغلقه ورائه فنقلت
حينها نظراتها المتوجسة للذي وقف ورمى ملعقته بقوة وغادر
أيضا مستغفرا الله بصوت مسموع غاضب ولم يكن سوى جدها
وقد غادر ضاربا الباب وهو يفتحه وتركه بعده مفتوحا وما أن
همت بالوقوف خلفهما أوقفها صوت صقر الذي قال وهو يرفع
قطعة فخذ دجاج أخرى
" اجلسي وأنهي طعامك يا تيما فلن ينفعك أيا منهما حين ستنامين
جائعة ، ولا تقحمي نفسك في مشاكل ستجعلي من نفسك الطرف
الخاسر فيها لأن حلها ليس لديك "
نظرت له بعبوس هامسة
" كنت أود الاطمئنان إن كانت والدتي بخير فقط "
نظر لها من فوره وقال
" والنتيجة يا تيما ؟ عليك أن تتعلمي أن لا تتحدثي معها حين تكون
غاضبة من والدك ، اتركي مشاكلهما لهما ولا تقفي في صف أحدهما
ضد الآخر ولا بين جدك ووالدك حتى إن كان الموضوع يخصك "
نظرت لطبقها بحزن ولم تعلق فهي تراه على حق لأنها تصبح دائما
الطرف الثالث والمتضرر في أي مشكلة تحاول وإن إبداء الرأي فيها
ولم تقم يوما بحل إحداها أو المساعدة فيه ، حركت الملعقة في طبقها
ببطء وقد فقدت الشهية في أكل أي ملعقة أخرى منه رغم حبها الشديد
لهذا الطبق والوحيد الذي تتقنه تقريبا وهي لم تأكله منذ عودتهم هنا
وكانت تتوقع أن تأكل كل ذاك الطبق الكبير الممتلئ ، تود بالفعل أن
تذهب لجدها وتخفف قليلا من ضيقه لكنها تعلم جيدا بأن الأمر لن ينجح
وسيلقي باللوم عليها فيما يخص زواجها الذي كرهته من قبل أن يحدث
بسبب رفض الجميع له وتحميلها مسؤلية الصمت عن قراره نيابة عنها
، وتود أن تتصل بوالدتها لتطمئن إن كانت بخير وتخشى بل وتعلم بأن
النتيجة ستكون كسابقاتها ، كما أنها إن فكرت في الذهاب لوالدها وفهم
ما يجري منه فلن تخرج بشيء سوى عبارته الدائمة تلك
( لا تقحمي نفسك في مشاكلنا يا تيما )
والنتيجة سيتهمها الطرف الأخير في الحكاية بأنها شخصية
مهزوزة وأنها سبب مشاكل جميع المحيطين بها .
وضع صقر العظم من يده وقال رافعا يديه
" كنت أود أن نجد من نرمي عليه مهمة تنظيف المطبخ "
وتابع يرمق الجالس بجانبه بطرف عينه
" لكن يبدوا لي أن الأغلبية فروا من هنا أم أن كل واحد يغسل
أطباقه بنفسه يا ترى ؟ "
قال الذي وضع ملعقته في طبقه
" سأقوم أنا بذلك شرط أن تبتعد بإزعاجاتك عني "
وقف صقر من فوره قائلا بابتسامة
" وأنا موافق "
ونظر للتي كانت تنقل نظرها بينهما بصدمة ثم غمز لها وقال
" أخبرتك أن شجرة الزيتون يمكن الاعتماد عليها فهيا غادري قبل
أن يغير رأيه "
وغادر من هناك من فوره ونقلت هي نظراتها منه للذي وقف وقد بدأ
بجمع الاطباق قربه فوقفت أيضا وما أن رفعت طبقها قال وهو يغادر
بما جمعه منهم
" يمكنني القيام بذلك وحدي شكرا لك "
فنظرت له بعبوس حتى خرج ، الحق عليها كانت تريد مساعدته لكنه
ناكر للجميل ، ورغم أنه قال ذلك بنبرة عادية ليست تلك النبرة الباردة
ولا القاسية المعتادة منه إلا أنها شعرت بكلماته جرحتها فهو بشكل أو
بآخر رفض أن يكونا معا ، وما ستتوقع منه مثلا وهي من أعلنت
الحرب عليه اليوم مرارا .
حركت كتفيها بلامبالاة وغادرت من هناك وتوجهت لغرفتها فعليها
أن تستحم وتصلي العشاء .
*
*
*
|