كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
كتفت ذراعيها لصدرها وأشاحت بوجهها جانبا فقال الجالس في
كرسيه أمامها وبضيق
" غسق لم أعرفك سابقا صاحبة قرارات طائشة متهورة ! "
تمتمت ببرود ولم تنظر ناحيته
" ها قد علمت "
شد قبضة يده التي كان يريحها على مقبض الكرسي وقال بضيق
أشد من سابقه
" اقسم أنك جننت ! ما هذا العقل الذي تفكرين به يا غسق ؟
ابنتك ما كانت لتفكر بطريقتك هذه لتفعليها أنتي ! "
فكت ذراعيها ونظرت له وقالت بضيق مماثل
" فليعتبره الجميع ما أراد لكنه قراري ولن أتراجع عنه وأعتقد
أننا تحدثنا عن هذا سابقا وبما فيه الكفاية "
كان سيتحدث والغضب هذه المرة قد اكتسى ملامحه لولا أوقفه
باب المنزل وقد انفتح لحظتها ودخل منه الذي اتصل به منذ
ساعة تقريبا وطلب منه أن يقطع طريق رحلته جهة الجنوب
ويمر بالعمران أولا ليرى معه حلا لهذه العنيدة قبل أن تنفذ
جنونها الذي تفكر فيه ، اقترب رعد منهما ونظره على رماح
مستغربا ملامحه الغاضبة المشدودة قائلا
" ما بكما ؟ "
نظرت غسق لرماح وقالت بضيق قبل أن يتحدث
" لما طلبت منه المجيء ؟ "
نظر لها وقال بحدة
" ليوقف جنونك طبعا فهو على الأقل بساقيه ويمكنه رميك من
أعلى طابق في جمعيتك لتستفيقي لنفسك "
وتابع وقد نقل نظره لرعد غير مبال بنظرتها الغاضبة قائلا
بضيق ومشيرا لها
" تعالى وانظر ما تريد شقيقتك فعله ، قررت تسليم إدارة الجمعية
بل وجميع ما يخص هذه المدينة .. لا بل وتسعى الآن لتحويل
ملكية أراضيها وعـقـاراتها جميعها للدولة ... أي استقالت بالعامية "
نظر لها رعد بصدمة وهي تشيح بنظرها عنهما كليهما ترسم
على وجهها ملامح جامدة خالية من أي تعبير فتحرك نحوها
وأمسك بذراعها وأدارها ناحيته جيدا وقال
" صحيح هذا يا غسق ؟ "
لم تجبه ولم تنظر له ليس بسببها بل لأن رماح لم يترك لها
الفرصة وهو يجيبه نيابة عنها وبضيق وحنق
" بلى وناقشت مع نائبتيها ذلك بالأمس ولولا رسالة جليلة لي
والتي لم أراها سوى فجر اليوم ما علمنا بذلك حتى قرأناه في
الصحف كغيرنا "
رفع يديه ثم قبضهما وأنزلهما وكأنه لم يعد يعرف ما يفعل كرد
فعل على صدمته تلك ثم قال بحدة
" لا أصدق يا غسق أن تتخلي عن الحلم الذي بنيتيه لأعوام في
لحظة هكذا وبسبب ماذا ... ؟ رجل !!! "
نظرت له وخرجت من صمتها قائلة بحدة مماثلة
" بل من أجل كرامة غسق وعزة نفس غسق ، وقسما لو علمت
منذ البداية بأنه الداعم الأساسي لنا ما أسستها من أساسه
ليأتي ويتبجح الآن بأنه صاحب الفضل وبأني فاشلة في عالم المال
وأن وجهي هو سلعتي "
تبادل ورماح نظرات مستغربة قبل أن ينظر لها قائلا بجدية
" أثبتي له عكس ذلك إذا ... حاربيه كما عرفناك قوية وعنيدة
فمن بنت كل هذا بأفكارها وحدها قبل أمواله لن تعجز عن إثبات
ذلك له "
أشاحت بوجهها عنه مجددا تشعر بأنه أصاب قلبها في مقتل
وهي تتذكر نتائج حفلهم بالأمس وقالت بسخرية تنطق مرارة
" وهذا ما فعلته لكني فشلت وبكل بساطة ، وبعد أن أصبحت
الدولة الداعم الأساسي لها فلا حاجة لهم بي وستقودها أي
عجوز من الشارع "
حرك رأسه بعدم تصديق هامسا
" اقسم لو علم ابن شاهين لكان أول من سيصفعك الآن فنحن
لا نستطيع فعلها "
نظرت له وقالت بغضب
" لم يبقى له شيء سوى أن يمد يده علي لأكسرها له وبقانونه
الجديد الذي يتبجح به ، ثم هو يعلم إن كان هذا ما ستفكر في فعله
ما أن تخرج من هنا .. بل وموافق عليه أيضا "
رفع حاجبيه بصدمة وقال
" موافق !! "
شدت قبضتيها بجانب جسدها وقالت بجمود
" أجل وطلب أن يجتمعوا لترشيح من تأخذ مكاني "
قال رماح باستغراب
" من أخبره ! "
نظرت له وقالت بسخرية
" التي أخبرتك طبعا .. هل يوجد غيرها ؟ "
قال من فوره وبضيق
" معها حق تفعل كل ذلك وأكثر لتعذلك عن قرارك المجنون هذا "
قال رعد الذي يبدوا بأنه أفاق من صدمته لكلامها الأخير للتو
" وتوافقين أن يرحب هكذا بالفكرة ! تستسلمين أمامه
وبكل بساطة ! "
لوحت بيدها قائلة بحدة
" لا يعنيني ما يفكر فيه وما يريده ، مكان بنيته وأفنيت عمري
في تأسيسه ولم يكن سوى أكذوبة فليس يعنيني أبدا ولست
أتشرف بأن أحمل اسمه ولا أن يحمل هو اسمي "
تبادلا النظرات الصامتة كل واحد منهما يعجز عن استيعاب
ما سمعه للتو فكلاهما يعلمان ما تعنيه تلك المدينة بأكملها لها
وكم سهرت وتعبت وعملت بجد لتوصلها لما هي عليه الآن !
كان بإمكان كل واحد منهما قراءة الصدمة والانكسار في عينيها
السوداء الواسعة مهما أخفت ذلك فكلاهما يدرك بأن ما مرت به
في حفل الأمس لم يكن بالأمر الهين أبدا فإن كانت البلاد لم تتخطى
صدمتها بتصريحاته بعد فكيف بها هي ؟ لكنها كالعادة تتمسك بالصبر
والصمود تمسك الجسد بالحياة وهذه هي غسق التي أعادها لهم
ابن شاهين قبل رحيله لم يروا ولا دموعها من أعوام طويلة
إلى يوم رجوع رماح وهي تترك لها العنان وأمامهم فجأة فحتى
خبر وفاة والدهم تلقته بجمود عجزوا جميعهم عن تفسيره سوى
بتحولها لمومياء محنطة كان ينتظر كل واحد منهم أن تنهار للأرض
في أي لحظة لكنها خانت توقعاتهم جميعا وتلقت الخبر الذي كانت
هي تجزم بأن يكون سبب موتها إن وصلها يوما ما وكأنها قتلت
مشاعرها وللأبد ناحية أي شيء وأي شخص أو أن ما حدث تلك
الليلة وسرا عنها حتى هي كان السبب !!
كسر رعد ذاك الجو المشحون قائلا بهدوء
" غسق لا تتهوري باتخاذ قرار لن يفيد الندم عليه لاحقا "
" لن أندم مطلقا "
قالتها مباشرة وبكل تصميم وعناد يعرفانه جيدا قبلها وبأنها
لن تتراجع عنه ومهما حدث فلن يشعر أحد بما تشعر به
ويدمرها تماما ، لن يعلموا معنى أن تبني صرحا عظيما
لأعوام وأعوام ثم تكتشف بأنك لم تكن سوى واجهة مزخرفة
له وصورة وقشور واهية ، أن يصفق لك الجميع وأنت تنظر
لهم بكل فخر ثم تكتشف بأنهم لا يصفقون لك أنت بل للواقف
ورائك .. ! فلا أبشع من الحقيقة القاسية سوى لاعتراف بها
وليس أقسى من البشاعة الخفية سوى اكتشافها متأخرا .
علت أنفاسها القوية تدريجيا مما جعل التوجس يسكن قلبيهما
معا من أن ينفجر البركان الخامد ولأعوام تلك اللحظة لكنها
همست بعزم مهما أنهكته الفواجع المكبوتة
" لكن غسق شراع لن تنتهي كما يتخيل وستبني نفسها من جديد "
لم يعلق أي منهما على ما قالت لأن تلك الطرقات المتتالية على
باب المنزل لم تعطي لأي منهم المجال لقول المزيد وهم يتبادلون
نظرات الاستغراب فمن هذا الذي سيدخل ويطرق الباب دون أن
يعلمهم الحراس بوصوله ! رعد هنا والكاسر وتيما يملكان المفتاح
وغير هؤلاء لن يدخل الحراس أحدا دون أن يأخذوا الإذن من أحد
أفراد تلك العائلة ! وغفلوا فجأة عن أنه ثمة من سيملك الصلاحية
المطلقة لفعلها ليدخل دون استئذان ولم يكتشفوا ذلك إلا حين
فتحت الخادمة الباب الذي عاد الواقف في الخارج للطرق عليه
وبإصرار وكشف حينها عن الواقف أمامه ببنطلون أسود وقميص
ناصع البياض وربطة عنق رمادية وبدون سترة ، أكمام قميصه
مثنية لمرفقيه كما أن زره العلوي مفتوح مرخيا ربطة العنق
قليلا يبدوا التعب على ملامحه رغم تمسكها بالجمود والحدة
وكأنه قاد سيارته لأميال طويلة بل وكأنه قضى الليل فيها ولم
ينم لثانية واحدة ، وقد زادت النظرة المتجهمة والحاجبان
المعقودان ملامحه قسوة ، نظر تحديدا وفورا لرعد المحدق
به باستغراب وهو من اتصل به منذ قليل وسأله فقط عن مكان
وجوده دون أن يذكر السبب أو أي أمر آخر ! خطا للداخل خطوتين
وقال ناظرا لعينيه تحديدا " أين الفتاة الثنانية يا رعد ؟ "
كانت الصدمة أول رد فعل له شاركه فيها رماح الذي لطالما شك
بأمر شقيقه وإن جهل هوية تلك المرأة بينما نظرات الحيرة
والاستغراب كانت من نصيب الواقفة بجانبه وهي ترمق رعد
وكأنها تراه للمرة الأولى !! .
اقترب منه مطر وشد ياقة سترته وقال صارخا به
" أين هي يا رعد تكلم ؟ "
همس والصدمة لم تفارقه بعد
" ما بها آستريا ؟ "
ليتضح الأمر حينها للواقفة قربه وقد تبدلت نظراتها للصدمة
تغطي شفتيها بأطراف أناملها فهذا الاسم تعرفه جيدا كما تعلم
هي والجالس على كرسيه في الجانب الآخر بأنه احتجز في
الماضي لدى تلك القبائل لفترة ليست بقليلة .
شده مطر أكثر ينظر لعينيه بغضب وهزه بعنف صارخا
" تكلم أين هي يا رعد واتركنا ننهي الموضوع بأقل الخسائر
يا رجل ولا تجر نفسك وقبائلك للهلاك "
أبعد يده عنه بعنف قائلا بحدة
" ليست معي ولست أفهم عما تتحدث يا مطر ! "
أمسكه من ياقته مجددا وقال بذات غضبه
" كيف يا ابن شراع وثمة من رآها تهرب معك ؟
لم أعرفك تتصرف بجنون سابقا ! "
أبعد يده مجددا وصرخ هو هذه المرة
" لو أردت فعلها ما انتظرت كل هذه الأعوام وحرمت نفسي
منها ومن النوم والراحة فعن أي جنون تتحدث ؟ "
لوح بيده قائلا بحدة
" ليلة أمس هو حفل زواجها "
همس الواقف أمامه بصدمة
" ز.. ز.. زواجها ! "
صرخ فيه مجددا
" أجل زواجها مكرهة بعدما افتضح أمركما ، لقد انطلقت إلى
هناك فور أن علمت بذلك لأوقف الأمر لكني وجدت تلك المدن
تغلي كالبركان بسبب هروب ابنة زعيمهم السابق وشقيقة الحالي
والشهود يتهمونك أنت .. وشقيقها ساجي يتوعد بهدر دمك في
أقرب وقت ورجال قبائلهم يطالبون بالحرب على صنوان ، هل ثمة
مجنون يفعلها في وضع البلاد الحالي يا رعد ؟ هل جننت ! "
صرخ نافضا يديه
" لست أعلم عما تتكلم يا مطر وكنت البارحة في حميراء وثمة
شهود على أني لم أغادرها إلا فجرا ولست أعلم عما تتحدث عنه "
صرخ فيه مطر من فوره
" أين هي إذا وكيف اختفت هكذا ولا أحد يمكنه الخروج من هناك
بسهولة ؟ ولما قال البعض أنهم رأوك ؟ "
صرخ من فوره
" كذب ... كاذبون "
أمسك بعدها برأسه وقال بضياع ناظرا لعينيه
" أين هي يا مطر ؟ أريد أن أفهم حالا "
تحركت الواقفة بجانبه وأمسكت بكم سترته جهة ذراعه وأدارته
جهتها وقالت بحدة
" أنا من تريد أن تفهم والآن حالا ما علاقتك بآستريا
وما حكايتكما ؟ "
نظر لها بضياع قبل أن يضرب صدره قائلا بحسرة
" هي ما أدفنه هنا من خمسة عشر عاما مضت ... ما أضعت عمري
من أجله وانتظرته دون يئس .. تضيع مني هكذا قبل أن أصل لها ! "
نظرت له بصدمة لم تستطع اجتيازها بسهولة وهمست ما أن
وجدت صوتها
" كنتما.... ؟ تعني .... ؟ "
مرر أصابعه في شعره شادا له للخلف وهمس بتشتت
" بلى تعاهدنا وليتنا لم نفعل "
خرجت حينها من صدمتها وهدوئها ومن كل ما حملته معنى كلمة
تعقل في قواميسها ولكمته بقبضتها في صدره صارخة
" سحقا لك من رجل يا رعد "
ولكمته الأخرى صارخة
" سحقا لكم جميعا ألا تكتفون من قتل النساء ؟ ما هذا الذي
ستجنونه من تعذيبهن لأعوام ؟ "
أشارت بعدها جهة رماح ونظراتها الغاضبة لازالت على عيني
الواقف أمامها وقالت بحدة
" تلقي باللوم عليه فيما فعل مع جهينة وأنت أسوأ منه ؟
من هذا الذي أخبركم أن قلب الأنثى لعبة في أيديكم ؟ أترونها
رجولة هذه وأنتم تشيعون جثمان الواحدة تلو الأخرى ؟ "
أنزل نظره للأرض ولم يعلق يشعر بأنه رمي في متاهة من الألم
لا نهاية لها فلكمت صدره مجددا صارخة
" لماذا فعلت ذلك إن لم تكن ندا له ؟ لما تعلقها لأعوام إن لم يكن
بإمكانك الإيفاء بالوعود ؟ لما تقترب منها أساسا إن كنت أجبن من
أن تكون رجلا يستطيع أخذها معه وإن للجحيم ؟ "
شد قبضتيه بقوة وكأنه يعتصر ألمه فيهما ولازال نظره للأرض
بينما أشاح الواقف خلفه بوجهه جانبا ممررا أصابع يده في شعره
وتنفس بضيق فهي تقصده معه لا محالة بل وثلاثتهم معا فلكل
واحد منهم حكاية مشابهة للآخر ، ولم يتأخر دوره كثيرا وهو
يواجه نظراتها الملتهبة وقد صرخت مشيرة له بسبابتها
" أنت سبب كل هذا "
نظر لها باستهجان بينما تحولت نظرات رعد ورماح المصدومة
له حين تابعت بذات صراخها الغاضب وكأنها تحرر ذاك الوحش
المدفون داخلها لأعوام
" بل وجميع ما أصاب عائلة شراع صنوان بسببك أنت .. بسببك
عشت بلا هوية وعائلة ودخلت أراضيك ودخل رعد هناك وبسببك
مات الكاسر ودون حتى أن أراه ، بسبب صلتك بوالدي الأعوام
الأخيرة قتل وبسببك حدث ما حدث لرماح ، بسببك فقدت ابنتي وحلمي
الذي بنيته بتعبي لأعوام ، حتى هجران جبران لنا جميعا بسببك أيضا
يا رجل العدالة "
" غسققق "
صرخة رماح تلك بها لم تؤثر بها شيئا بل ولم تخترق سمعها المشوش
بسبب تراكمات الماضي و ألم الحاضر حتى أنها انفصلت عن جميع ما
حولها عداه وقد لوحت بيدها صارخة فيه بعنف أكبر
" أنت من دمر عائلتي بأكملها ودمرني قبلهم فاخرج من حياتنا لأنك
لم تبقي شيء آخر تمارس غطرستك عليه ... أخرج الآن "
كان يقابل كل اتهاماتها وصراخها ذاك بالصمت التام محدقا بعينيها
بجمود دون أن يدافع عن نفسه ولا حتى أن يوقفها فأشارت للباب
الذي تركه مفتوحا بعد دخوله وصرخت بغضب
" واخرج من منزلي فورا "
لم يستطيعا الموجودان خلفها أن يخفيا آثار الصدمة على وجهيهما
بينما اكتفى الواقف أمامها بالصمت محدقا بعينيها الغاضبة حد الألم
قبل أن يستدير مغادرا بخطوات واسعة وثابتة حتى اجتاز الباب
الذي دخل منه منذ قليل ضاربا بابه خلفه وهي تلحقه إلى هناك
بخطوات غاضبة وكأنه ما يزال موجودا صارخة دون توقف
" اخرج من حياتنا ... اخرج ... اخرج "
حتى وصلت لذاك الباب المغلق وضربته براحة يدها صارخة ببكاء
تحرر من أضلعها أخيرا
" اخرج من حياتي فورا ... اخرج ... اخرج الآن "
شد رعد قبضتيه بقوة وألم يراقبها وهي تلتصق بالباب وقد اتكأت
عليه بجبينها باكية وحال رماح لم يكن أفضل منها فها هي أخيرا
حررت ألم وبكاء أربعة عشرة عاما مضت ، ها قد أخرجت ألمها
المكبوت بسبب ذاك الرجل لأعوام فكلاهما كان يتوقع أن ما حدث
بالأمس لن تصمد بعده طويلا ، تحركا ناحيتها في وقت واحد وإن
كان أحدهما واقفا والآخر جالسا يقوده ذاك الكرسي فقط ، وما أن
وصلا عندها أمسك رعد بكتفيها وأدارها ناحيته ودفنها في حضنه ،
يعلم أن ما مرت به طوال فترة حياتها لم يكن بالهين أبدا .. معاملة
والدتهم القاسية لها منذ كانت طفلة ثم اكتشافها حقيقة أنها ليست
ابنتهم ونظرات الشك في عيني ممن حولها .. ضغط جبران عليها
لتتزوجه وهي لا تراه سوى شقيقا لها .. دخولها أراضي الحالك
ووقوعها أسيرة لدى ذاك الرجل وحياة عاشتها بينهم هناك لا يعلمون
ما مرت به فيها .. موت الكاسر المفاجئ ودون أن تراه ..
رحيل ذاك الرجل آخذا ابنتها معه .. موت والدها الذي رباها ثم
اكتشافها بأن تلك العائلة التي عاملتها كغريبة عنها لم تكن سوى
عائلتها الحقيقية ، من يستطيع تحمل كل ذلك ؟ بأي قلب تعيش حتى
الآن ؟ ليس يستغرب انهيارها تلك اللحظة بل أن يتأخر كل هذه الأعوام .
ابتعدت عنه ومسحت عيناها بعنف قبل أن تصرخ به
" ما الذي يبقيك واقف هنا حتى الآن ؟ اذهب وابحث عن الفتاة
قبل أن تفقد حياتها أو نفسها بسببك "
تحرك من فوره وكأنه استفاق لحظتها فقط لما حدث والذي لم
يستوعبه حتى اللحظة لكن يد رماح منعته وهو يمسك رسغه بقوة
موقفا له وقال بحزم رافعا رأسه للأعلى ومحدقا بعينه
" انتظر يا رعد ، ألم تسمع ما قاله وبأن شقيقها يريد قتلك ويبحث
عنك ؟ يمكنك البحث عنها من مكانك هنا فلا تتهور وكن تحت
الحراسة والحماية ولا تستهن بالثنانيين فهم منتشرون حولنا
دون أن نعلم ويتحولون لآكلي لحوم البشر إن تعلق الأمر
بمعتقداتهم وقوانينهم "
حدق فيه بضياع وكأن عقله توقف عن التفكير تماما درجة أن فقد
القدرة على اتخاذ أي قرار وبات الجميع يدفعه ويوقفه ! لكن ما نفع
بقائه أيضا ؟ وما يفعل مع الذي يئن وجعا وشوقا بين أضلعه الآن ؟
نقل نظراته التائهة منه للتي أمسكت برسغيهما وفكت يده منه
بالقوة قائلة بحدة
" اتركه يذهب فموته أشرف له ألف مرة من أن يحيا ويتركها تموت "
فتحرك حينها وكأنها أدارت مفتاح التشغيل في أطرافه وهو يتخيل فقط
فكرة موتها وتركه وحيدا بدون ولا أمل يعيش عليه ، فتح الباب وخرج
منه مسرعا فنظرت هي للجالس أمامها أنفاسها تتلاحق وتتصاعد بقوة
لازالت الدموع تسقي رموشها وتملأ محاجرها فقال ببعض الهدوء
محدقا بها
" غسق اهدئي و ... "
قاطعته بغضب مشيرة له بسبابتها
" وأنت متى ستتحرك يا أحمق ويتحرك ذاك الصوان الموجود وسط
أضلعك ؟ "
نظر لها بصدمة وقال
" غسق ما بك أ.... "
قاطعته صارخة مجددا
" متى ستقرر أن ترحم تلك المسكينة من جبروتك أيضا ؟ ألا يكفي
الأعوام التي ضيعتها منكما ومن عمرها ؟ متى ستشعر بها وهي
تسأل عنك طوال الوقت بلهفة بينما تكرر أنت عباراتك
البلهاء كالببغاء ؟ "
تراجع بكرسيه للخلف قليلا قائلا
" حسنا غسق اهدئي "
لوحت بيدها قائلة بغضب من حديثه معها وكأنها معلولة نفسيا
" لن أهدأ واعتبرني مجنونة إن أردت "
وتابعت رافعة سبابتها أمام وجهها بتهديد صريح
" قسما يا رماح لست شقيقتك ولن يخاطب لساني لسانك بعد اليوم
ما لم تجد حلا لوضعكما وسريعا "
نظر لها بصدمة لم تعرها أي اهتمام وهي تجتازه قائلة
" وشقيقك ذاك أيضا "
تبعها بنظراته المصدومة وهي تصعد السلالم قائلة بحنق
" لست أفهم لما يسكت القانون عنكم وعن أمثالكم ؟ يفترض أن
تسجنوا بعدد الأعوام التي تستنزفوها من أعمار النساء يا جلامدة "
وتابعت صعودها تشتم دون توقف فتنهد وتراجع بكرسيه متمتما
بضيق
" مطر شاهين ... هل سندفع ثمن أفعالك معها دائما "
*
*
*
وقفت أمام المرآة الطويلة في غرفة تبديل الملابس تدير جسدها
وتشد البدلة الضاغطة حوله بإحكام فعليها ارتدائها لوقت بعد
العمليات التي خضعت لها قبل أن تنتقل للجزء الآخر منها ،
لا تصدق أنها تخلصت من كل تلك الترهلات وإن كانت لم تخسر
الكثير من وزنها بعد فقد أجروا لها عملية ربط للمعدة من وقت
قريب وبدأت تلاحظ سرعة فقدانها لبعض الباوندات كما أن جسدها
كان بحاجة لعمليات شد الجلد التي اجريت لها بسبب مخلفات
الحميات الغدائية التي كانت تتبعها دون انتظام ولا مراقبة طبيب
أو ممارسة رياضة ، مررت كفيها على صدرها البارز قليلا من
السترة الخاصة وابتسمت بنشوة فلم تكن تتخيل أن يصبح ثدياها
مشدودان هكذا بعد الترهل المريب الذي أصابهما ! فجسدها
كمثري الشكل تتركز الدهون في الجزء السفلي منه ومع تلك
الحميات الفاشلة لم تنقص تلك الشحوم المتراكمة بشكل منتظم
بل اختفت قليلا من الجزء السفلي بينما نحف الجزء العلوي أكثر
وأصبحت بشعة من الأعلى والأسفل وتهدم ثدياها وترهلا بشكل
بشع وبعد العام الأول من زواجهما لم تلبس قميص نوم قط
بل تدهورت نفسيتها وكرهت النظر لجسدها حتى في المرآة وكانت
تصر على أن يناما في الظلام التام بينما كان يكره وقاص ذلك ،
وخلال السنة الأخير لم يعد يطلب العلاقة الجسدية معها أبدا ..
فقط إن هي تقربت منه وأرادت ذلك أما من ناحيته فباتت
والوسادة بجانبه سواء ، وهي السبب .. أجل لا تنكر بأنها السبب
في كل ذلك فهي دفعت علاقتهما للهاوية وباتت تعاقبه هو على
عيوبها النفسية قبل الجسدية تتخذ أسلوبا هجوميا مريضا كي
لا تكون هي ضحية هجومه لها فكانت تخشى أن تسمع عباراته
الساخرة من شكلها وجسدها وباتت تحاربها من قبل أن توجد بل
وتعترف بها وتتذمر منها أمامه كي لا تسمعها منه ، لم تفهم
وقاص يوما رغم أنه كان من أكثر الرجال وضوحا حتى أن لينه
ورقته وسلوكه الراقي معها كانا يشعرانها بالخوف من فقدانه ..
خوف تحول لهوس ثم لهجوم شرس ضده هو تحديدا ، يخال لها
أحيانا بأنه إن كان رجلا عصبيا حاد طباع لما كانت تصرفت معه
بذاك الأسلوب الفض ولكان علمها أن تخاف منه على الأقل ، لكن
ما ذنبها هي ؟ هي لم تختر لنفسها كل ذلك فسبق وأعلنت رفضها
له حين علمت كيف يكون ذاك الزوج من قبل أن تراه لكن أحدا لم
يعر رأيها بالا ، ثم وبعد أن أصبحت زوجته ورأته أمامها أعلنت
لعائلتها وعلنا بأن حياتها مع ذاك الرجل لن تنجح أبدا وبأنها تريد
الانفصال عنه بما أنها لم تتعلق به بعد لكن كلامها ذاك ووجه
ليس بالرفض فقط بل وبهجوم شرس ومن قبل الجميع وأولهم
والدها الصديق المقرب لضرار سلطان ومن لم يصدق أذناه حين
أخبره بأنه يريد أن يزوج حفيده الأكبر بل والمفضل من بين أحفاده
من ابنته فرموها جميعا في ذاك الجحيم وحيدة تعيش اهتزازا مريعا
في شخصيتها وثقتها في ذاتها فلم يعد الأمر يقتصر على جسد تخفيه
الملابس مثلما حين كانت فتاة بل أصبح ذاك الجسد ملك لشخص
آخر يراه كما تراه هي وهذه أكثر فكرة كانت تدمرها تماما ، فكانت
تتعذب نفسيا كلما رأته خارجا من الحمام وذاك الجسد والعضلات
المشدودة لا يلبس سوى بنطلون قصير يجفف شعره المبلل بمنشفته
الخاصة درجة أنها كرهت تلك العلاقة الحميمة بينهما وسببت له
النفور منها تدريجيا ، لكنها الآن تشعر بأنها بدأت تتحول لامرأة
أخرى وثقتها في نفسها ترتفع صعودا كلما تقدمت في هذا البرنامج
المتكامل ولن تتوقف حتى تصبح ما تريد هي وكما تمنت .
لبست ملابسها وخرجت للغرفة لحظة أن انفتح بابها ودخلت منه
شقيقتها جيهان فابتسمت لها بحبور فقالت تلك بابتسامة واسعة
تتقدم نحوها فاردة ذراعيها
" رائع ... أرى أنك بمزاج أفضل اليوم "
اقتربت منها وقبلتا خدا بعضهما وقالت جمانة بسعادة ناظرة
لعيني شقيقتها
" في كل يوم ينقص وزني أكثر ... كلما وقفت على جهاز قياس
الوزن واكتشفت بأن وزني نقص عن اليوم الذي سبقه أشعر
بالنشوة وسعادة لا توصف "
أمسكت يديها مبتسمة وقالت
" سبق وأخبرتك أن الأمر يحتاج لبعض الوقت فقط وستري النتيجة
كيف ستكون "
توجهت جهة مرآة التزيين جلست أمامها وفكت شعرها الأسود
الناعم لينسدل على كتفيها وقالت مبتسمة تمشطه بأصابعها
ونظرها على ملامحها
" الطبيب آندي أخبرني أنهم يجرون جراحات تجميلية للوجه أيضا
وتحسن من مظهر الملامح كثيرا وشرح لي الكثير عن ذلك "
نظرت لها الواقفة هناك بصدمة وقالت
" جراحة تجميلية للوجه !! "
قالت بسعادة تضم يديها لصدرها
" أجل قال بأنه يمكن أن تصبح شفتي العلوية بذات حجم السفلى
وأن أنفي سيصبح أفضل إن تم إزالة العظمه البارزة فيه قليلا
وأن حاجباي يمكن رفعهما فلا يصبحا مقوسان هكذا ... سيغيرني
ذلك تماما "
اقتربت منها التي لم تجتاز صدمتها بعد هامسة بعدم تصديق
" جمانة أتعي معنى أن تفعلي ذلك ؟ سيغضب زوجك أكثر ثم
والدي لن يوافق هذا "
التفتت لها وقالت بجدية
" أخبرتك أنتي فقط بذلك ولن يعلم أحد حتى اجري العملية فالطبيب
قال بأنه يمكن إجرائهم جميعا في مرة واحدة ، أما وقاص فهو
غاضب في جميع الأحوال وسأتفاهم معه بطريقتي فيما بعد فأنا
أعرفه قلبه طيب ولا يحقد أبدا "
حركت رأسها بيأس منها وقالت
" هل اشتريت فستانا من أجل الحفل ؟ "
وقفت وقالت
" لن أذهب .. قلت بأني لن أزور ذاك المنزل حتى أكون جمانة
التي أريدها أنا "
ثم توجهت جهة هاتفها الذي علا صوت رنينه ورفعته ونظرت
للرقم مبتسمة ثم أجابت من فورها تنظر لشقيقتها التي غادرت
الغرفة مغلقة الباب خلفها
" مرحبا جدي "
وصلها صوته الجاد فورا
" مرحبا جمانة كيف أنتي الآن ؟ "
اتسعت ابتسامتها وقالت فورا
" بأفضل حال .. كيف حالك أنت ؟ "
" بخير ... هل تحدث معك وقاص ؟ "
ماتت ابتسامتها فورا وجلست على السرير قائلة
" لا لم يتصل "
سمعت تنهيدته المتضايقة بوضوح فقالت ممررة أصابعها في شعرها
بتوتر حتى من سماع صوت هذا الرجل
" سيلين قلبه بالتأكيد ونسوي الأمور فيما بيننا فلا تتشاجر معه
بسببي جدي أرجوك "
كانت تعلم بأن تعقد علاقته مع جده بسببها لن يكون في صالحها
أبدا فيكفي ما حدث حتى الآن ، وصلها صوته الجاد مجددا
" اتصلت بوالدك من أجل حفل الغد وأردت أن أتصل بك خصيصا
لأدعوك لتكوني فيه "
عضت طرف شفتها ولم تعرف ما تقول فهي لم تتوقع أن يتصل
لدعوتها شخصيا بعدما أرسل دعوى عامة لهم واتصل بوالدها ،
حمحمت قليلا وقالت
" أشكر اهتمامك جدي لكني متعبة قليلا والطبيب طلب فترة راحة
بين العمليتين ، كنت سأكون سعيدة جدا للاحتفال مع رواح والعائلة
لو كانت الظروف أفضل "
وصلها صوته فورا
" حسنا كما تريدين ... عمت مساء "
أبعدت الهاتف عن أذنها ونظرت له باستغراب قبل أن ترميه بعيدا
متمتمة
" لم يكلف نفسه ولا عناء أن يلح عليا لأكون معهم "
*
*
*
|