كاتب الموضوع :
فيتامين سي
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر
رفعت حقيبة اليد الخاصة بالفستان وخرجت من ملحقها ساحبة
الباب خلفها متنهدة بابتسامة ... وأخيرا عشاء عمل ، لم تصدق
أذناها حين قال لها ذلك فهذه الأمسيات هي الجنة بالنسبة لها
فليست تهتم فيها بما يناقشونه من أعمال ومشاريع بل تستمتع
بالأكل الفخم في جو مميز وأحاديث مسلية وضحك حين يبتعدون
عن مجال عملهم قليلا ، زفرت بكآبة وهي تغلق الباب .. يا الهي
هل باتت مدعاة للشفقة لهذه الدرجة ؟ هي من كانت تعيش كإحدى
الأثرياء رغم محاصرة شقيقها لها وحرمانها من الخروج ما أن
تسقط الشمس خلف الأفق وكأنها خفاش ! حاولت مرارا أن
تقنع نفسها بالتحدث معه لكن كبرياءها منعها فهو رماها هنا
وعلى هذا الرجل وغادر ولا تستبعد أن يهينها ويجرح كرامتها
أيضا كما فعل عمه حين اتصلت به ، ثم تلك الحمقاء ابنته أخبرتها
أن سرهما سيكشف ... غبية وطفلة كان عليها أن لا تعتمد عليها
وأن لا تثق بها فما سيكون رد فعل مطر إن علم ؟ يا إلهي لا
يمكنها تخيل ذلك خاصة بعد الإمساك بذاك الرجل ، هي تعلم بأن
تلك الفتاة جبانة أغلب الأحيان لكنها موقنة أيضا من أنها تحفظ
الأسرار جيدا وتفي بالوعود كما أنها لا تكذب مطلقا وهنا تكمن
المشكلة أي إن وضعت بين خياري الصدق والكذب أمام والدها
فستختار الأول سريعا ودون تراجع لأنه لن يرضى بخيار ثالث
ولا إن كان الصمت .
انتبهت من أفكارها على انفتاح باب الشقة قربها وخروجه منها
ينظر لقفل الباب الذي يغلقه بالمفتاح فلوت شفتيها .. هذا الرجل
يشبه شقيقها لا يكبر في العمر أبدا ، أحيانا تشعر بأنه بجانبها
يكاد يكون في ذات سنها وليس يكبرها بستة عشر عاما تقريبا
وأن له ابن في السادسة والعشرون ومتزوج أيضا ! لا تتمنى أن
تلتقي ذاك الابن أبدا كي لا تكتشف بأنها تظهر أمامه وكأنها والدته .
ابتسمت ببرود ما أن نظر ناحيتها وكما توقعت جال بنظره على
فستانها أولا وكان بدون أكمام طويل لكنه مفتوح حتى الفخذ ،
أدارت حدقتيها الخضراء جانبا وتنهدت بضيق ما أن قال ما
تتوقعه جيدا
" كم مرة سأعيد ما قلته يا غيسانة ؟ "
مطت شفتيها وقالت ببرود ولازالت تدير حدقتيها بعيدا عنه
" أجل فأنت تخرج بي للعشاء كل ليلة "
" غيساااانة "
أشعلتها نبرته الحادة فورا فنظرت له وقالت بضيق
" ملابسي جميعها هكذا فمن أين سأحضر غيره الآن وبماذا ؟
ثم لا تنسى بأنك السيد كروس وبأني جيسي وبأننا انجليزيان حاليا
فهل تريد أن أرافقك بجلابيبكم السوداء السخيفة تلك كالغراب "
صرخ فيها فورا رافعا سبابته مهددا
" هذه آخر مرة تتحدثي فيها عن أمر يخص الإسلام أمامي أو قسما
أنا من سيجعلك تكرهينه وبشكل أبشع ، ثم أتعجبك حياتكن كالحيوانات
ترتعن في الشوارع عاريات وكل امرأة فيكن ملك لجميع الرجال "
فتحت فمها لتتحدث وعادت وأغلقته سريعا وقد شعرت بألم تلك
الصفعة عليه وكأنها الآن وتعلم بأن ذاك ما سيكون مصيرها إن
فعلتها وتحدثت عن زوجته تلك ، زمت شفتيها بحنق حين قال بضيق
" أنا من سيشتري لك ملابسك وسترمي جميع ما لديك "
فتحت فمها لتتحدث فقال بحزم قبلها
" ووحدي ... "
ثم نزل السلالم وتركها فضربت الأرض بقدمها بحنق وتحركت
خلفه ولا يحق لها أن تعترض طبعا لأنها من وقع على تلك
البنود البائسة ، وصلت السيارة وركبت بجانبه ضاربة الباب
خلفها وانطلقا فورا فأشاحت بوجهها جهة نافذتها تتأفف كل
حين وليست تتخيل أن تسوء هذه الليلة أكثر من هذا ، لكن المفاجأة
كانت في انتظارها ما أن وقفا بالسيارة وقد نظرت بصدمة للمطعم
ذو الواجهة الخشبية قبل أن تنظر له قائلة باشمئزاز
" هنا سيكون اجتماع عشائكم ؟ "
نظر لها وقال ببرود
" أجل ألا يعجبك المكان ؟ ليس من أشهر مطاعم لندن طبعا لكنه
مطعم فخم بالنسبة للبسطاء و .... المعدومين "
شد على الكلمة الأخيرة متعمدا فزمت شفتيها تحاول كبت ألم إهانته
وهمست ببرود
" أنت المعدوم فأنا شقيقي رئيس بلاد بأكملها "
كانت تعلم بأنه سيسخر منها فهو أكثر من يعرف بأنه رماها
عليه وسافر لكنها حقيقة لا يمكنها نكرانها ، فتح باب السيارة
وقال بسخرية وهو ينزل منها
" أخشى أن هذا اللقب لن يدوم طويلا إلا إن كنت تجهلين من
يكون مطر شاهين "
فتحت بابها وتمتمت بحقد وهي تنزل
" أجل أعرفه يشبهك في كل شيء ... أحمقان وتافهان "
ضربت باب السيارة وسارت خلفه قائلة بضيق
" انتظر لندخل معا أتريدنا أن نكون سخرية للجميع هنا أيضا "
وقف والتفت لها وفاجأها حين لم يعلق أو يسخر منها بل ورفع
لها مرفقه فرفعت حاجبيها تنظر له باستغراب ثم تحركت ناحيته
وحضنت ذراعه بيدها ودخلا معا فلا بأس في هذا فهي ترى جيدا
نظرات النساء له ثم لها وهي تدخل خلفه ، كان المطعم كما أخبرها
عنه فخما من الداخل عكس مظهره الخارجي وعلمت أنها ليلة
حظها فالأطعمة ستكون رائعة بالتأكيد ، لكن سعادتها تلك ماتت
سريعا ولم تكن تتوقع أن تلك الليلة تحمل لها مصائب أكبر حتى
وقع نظرها على الجالسان عند إحدى الطاولات وكانا
( آرمان وباربرا )
فشعرت بأطرافها تجمدت فلم تخفى عليها أبدا تلك النظرة التي
رمقتها بها الفتاة ، نظرت للممسكة بذراعه بتوجس وتمنت لحظتها
أن لا يكون قد لاحظ وجودهما وستجد فيما بعد حلا لتلك الحمقاء
العاشقة ، لكن أملها مات سريعا حين وجدته ينظر لطاولتهما تحديدا
ثم سار بها هناك فشعرت بأن نهايتها المحتمة قد حانت وعليها
أن تتصرف ولا تتركه يطيل البقاء معهما ، وصلا عندهما فوقفا
لهما فورا وقال الواقف بجانبها مبتسما
" نعتذر على التأخير "
فنظرت له بصدمة كادت تفقد أنفاسها معها قبل أن تحرك حدقتيها
بتوجس جهة التي كانت تبتسم لها بسخرية فنظرت له مجددا وهمست
بعدم استيعاب
" أهذا هو عشاء العمل ؟ "
نظر لها وقال بملامح جامدة
" أجل هو عمل داخلي فقد اتفقت وآرمان اليوم أن ننهي العمل وقت
العشاء ولأني متفرغ الليلة عرضت عليه الأمر وحين علمت أنه
على موعد مع باربرا اعتذرت لكنه أصر "
زمت شفتيها ونظرت هذه المرة لذاك الأشقر الوسيم والذي أهداها
فورا ابتسامة ماكرة فأمسكت معدتها وقالت مغادرة
" لا أشعر أنني بخير وسأنتظرك في السيارة فلا تتأخر "
وغادرت المطعم من فورها تلعن آرمان وتلك البلهاء ونفسها أيضا ،
ليست تعلم لما لا تنجح مخططاتها أبدا وأي لعنة هذه التي تتبعها
حيثما ذهبت ؟
فتحت باب السيارة وجلست في كرسيها وأغلقته خلفها بقوة
ونظرها لم تزحه عن باب المطعم تقضم ظفرها وتحرك قدمها بتوتر ،
سيعلم منهما بالتأكيد ولن يتوانيا عن إخباره هذا إن لم يكن يعلم
أساسا ، شهقت بصدمة ما أن لامست تلك الفكرة عقلها فهل يكون
يعلم فعلا ومنذ التقى آرمان في مكتبه ولعب بها هذه اللعبة ؟ لا
لا لكان أخبرها وصرخ بها كالعادة فور عودتهما وما كان جلبها
هنا أساسا ! أمسكت رأسها بيدها متمتمة بأسى
" رباه كن معي أرجوك "
انتفضت في مكانها ما أن اغلق الباب بجانبها ونظرت بتوجس للذي
خرج من المطعم وفتح الباب وجلس ولم تشعر به ! راقبت ملامحه
المسترخية باستغراب فلا يبدوا أنه علم منهما لكن ما الذي أخرجه
سريعا ! بلعت ريقها وشعرت بارتياح نسبي ما أن تحرك بالسيارة
قائلا ببرود
" كيف هي معدتك الآن ؟ "
نظرت له بصدمة وتحكمت بها سريعا قائلة
" أفضل بقليل "
ورمشت بعينيها حين تابع طريقه دون أن يعلق أو أن ينظر
ناحيتها وابتسمت براحة فيبدوا أنهما أجبن من أن يخبراه أو أنهما
ظنا بأنه قد يصدقها ويكذبهما هما إن اختلقت أي حكاية غير الحقيقة .
وصلا لموقف السيارات ونزلت تتبعه في صمت لا تريد شيئا سوى
أن تصل لغرفتها فلم تعد ترغب بشيء ولا بالطعام ، ولم تسأله
حتى لماذا ألغى عشائه معهما رغم يقينها بأن مرضها المزعوم
لن يكون السبب ولا يملك هذا الرجل أي مشاعر ناحيتها ولا
حتى الشفقة .
لم تشعر بالراحة التامة إلا حين أصبحت في غرفتها فرمت حقيبتها
على السرير وضحكت بمرح ثم ارتمت عليه بجانبها تنظر
للسقف لتموت تلك الضحكة ما أن سمعت صوت رنين رسالة
وصلت هاتفها وخمنت فورا ممن ستكون فلا أحد غيره يملك
رقمها بل لا أحد لها غيره الآن بعدما جردوها من كل شيء ،
جلست وفتحت الحقيبة بتوتر وأخرجته منها ونظرت لرسالته
وعيناها تكادان تخرجان من مكانهما
( مخصوم من راتبك النصف ولثلاثة أشهر )
شهقت بصدمة وصرخت بغضب
" وفيما سيكفيني النصف ؟ "
وقفت مسرعة وبغضب وما أن تحركت من مكانها حتى رن هاتفها
معلنا وصول رسالة أخرى فرفعته بعنف وفتحتها وكان فيها
( أي اعتراض سيخصم نصف النصف الباقي )
رمت الهاتف على السرير بقوة شاتمة بحنق وتوجهت للحمام
تشتم فيه بكل ما استطاعت قوله
*
*
*
ضمت ذراعيها أكثر تتكئ بذقنها عليهما احتضنت مسند الأريكة
الجانبي تركيزها وانتباهها بعيدان جدا عما يعرض على شاشة
التلفاز أمامها والذي كان حوارا تلفزيونيا يضم مجموعة ناشطات
حقوقيات والنقاش محتد حول التغييرات الجديدة في القوانين الخاصة
بالمرأة ومحور الحديث هو الظهور الأخير لمطر شاهين في
ساعات الصباح الأولى مزلزلا الصحافة الداخلية والعربية بما أدلى
به بخصوص تلك القوانين والدعم الجديد والقوي لجمعية الغسق
والضربة الموفقة كما سمينها لصالح المرأة في البلاد والتي
ستشكل رعبا حقيقيا للرجل فأن يقف القانون معها وبهذا الشكل
القوي فيما يخص العديد من القضايا وأهمها العنف الأسري
والزواج القسري وصولا لعمليات الاغتصاب بل وحتى محاولة
فعلها فمعناه لا استهانة أبدا بقوة حقوق المرأة في القضاء مستقبلا ،
وها هو مطر شاهين يتوج بلقب جديد لن يكون الأخير بالتأكيد وهو
( مناصر المرأة القوي )
تنهدت بأسى ووقفت مغادرة من هناك وتوجهت لممر مكتب
والدتها فهي لم تخرج منه اليوم تقريبا ولم تتحدث مع أحد
منهم وانغمست في ذاك المكان بين اتصالات وأوراق وملفات ،
وحتى ابنة خالتها جليلة زارتها هنا مع امرأة أخرى ودخلتا لها
للمكتب فور وصولهما ولم تغادرا إلا بعد ساعات وليست تفهم
ما هذا الذي يعملون عليه هنا ولما لم تذهب للجمعية ولمكتبها هناك
بل نقلت العمل بأكمله هنا !! حتى وقت العشاء خرجت وجلست
معهم تأكل في صمت ولم يستطع أحد شدها لأي موضوع مما
تحدثوا فيه .
وقفت أمام باب المكتب وأغمضت عينيها متنهدة بحزن فإن كانت
هي لم تستطع تخطي الصدمة حتى الآن ولا أن ترسم ابتسامة
وإن مجاملة بعد ما حدث فكيف بها هي وإن كابرت وتجلدت بالصبر
بل وحتى إن كانت تعلم بذلك مسبقا فأن يشهر ذلك وعلى العلن
ومع مكانتهما في البلاد ووضعه الحساس تكون كارثة على
جميع الأصعدة وأولهم مشاعرها كأنثى .
شدت قبضتيها بقوة تنظر للأرض تحتها تشعر بقلبها يتفتت ألما
عليها فليس لها أن تتخيل أن تكون زوجة لرجل تحبه وبشغف
ثم تكتشف بأنه ثمة امرأة أخرى في حياته ... خيانة ! وجرح ..
وألم ، وبدلا من أن يبرر موقفه ويبرئ نفسه وإن كاذبا يعترف
وبكل بساطة وأمام الجميع !! مسحت دمعة عانقت رموشها
ورفعت قبضتها للباب وطرقته بخفوت فوصلها فورا صوتها
من الداخل
" لا يمكننا التحدث الآن يا تيما "
فضمت قبضتها لصدرها ونزلت دموعها تباعا ، كانت تعلم
بأنها سترفض الحديث عن الأمر لكن .... هو حقا لم يكن لديه
حبيبة هناك ، هي متأكدة من ذلك ..... لكنه اعترف بنفسه ! قد
يكون لأن الأمر حدث في الماضي لكن جرحها مايزال نازفا كما
فهمت منها تلك الليلة والأسوأ من ذلك أن يكون الأمر لازال
موجودا وتلك المرأة لم تختفي من حياته بعد والأعظم أن تكون
والدتها تعلم بذلك ، أغلقت فمها بيدها تمسك عبراتها وليست
تفهم إن كان يحبها فلما سيخونها مع أخرى ؟
غادرت من هناك راكضة وصعدت السلالم وتوجهت لغرفتها
ولسريرها فورا ... للشيء الوحيد الذي لن يرفض احتضان
دموعها وألمها بل ولن يطردها أو يأمرها بالصمت .
بكت كثيرا ونيابة عن الجميع بل هي منذ أصبحت هنا لم تتوقف
عن البكاء ... تنام كل ليلة تحلم بعائلة متماسكة وبوالدين سعيدين
يكونا كليهما آخر من تراه ليلا وأول من تبدأ نهارها به وليسا
غريبان هكذا متباعدان ومجروحان ... تعلم أن والدها يتألم أيضا
وإن كان يخفي ذلك خلف الصمت والكبرياء لكنها وحدها من كان
يستطيع قراءة نظرته تلك حين قال ما قاله وأمام الملأ وخروجه
السريع بعدها .
غادرت السرير تمسح دموعها ودخلت حمام الغرفة واستحمت
مطولا رغم أن آخر ما كانت قد تفكر فيه هو الاستحمام والنوم
في المياه الدافئة مغمضة العينين تحاول نسيان كل شيء وأن
لا تفكر في كل ما حدث ، كم تحتاج لجدها دجى الآن ... تشعر
بأنها حزينة وضائعة ووحيدة .. كان هو داعمها القوي دائما ..
كان يفهمها ويشعر بها دون أن تتحدث .. يمسح دموعها قبل أن
تنزل ويشعرها بأنه ثمة حلول لجميع مشاكلها مهما ازدادت تعقيدا .
خرجت من المياه الدافئة ولفت جسدها بمنشفة الحمام وخرجت
للغرفة لبست ملابس النوم وجففت شعرها سريعا واندست في
أغطية سريرها بعدما أطفأت جميع أضواء الغرفة لتسبح في ظلام
دامس ساكن جعل دمعتها تنزلق مجددا ، رفعت يدها ومسحتها
سريعا حين انفتح باب الغرفة ببطء وتسلل النور منه طويلا
مستقيما فأغمضت جفنيها مسدلة رموشها المبللة بالدموع
على تلك الأحداق الزرقاء الواسعة تشعر بضربات قلبها تئن
مع تلك الخطوات التي تقترب منها بهدوء حتى شعرت بتلك
الأصابع الباردة تمسح الدموع من رموشها ثم تلك الشفاه الناعمة
تقبل جبينها ببطء فانزلقت دموعها رغما عنها وهي تسمع
همسها الخافت
" سامحيني بنيتي "
قبضت أصابعها على قماش اللحاف الناعم وهي تشعر بيدها
تبتعد عن شعرها برفق ثم تلك الخطوات تغادر كما دخلت ففتحت
عينيها الدامعة تراقب ذاك النور الذي بدأ ينحصر في مجال ضيق
حتى اختفى نهائيا حين أغلقت الباب خلفها فحضنت الوسادة
ودست وجهها فيها تبكي بصمت ، كم تمنت أن فتحت عينيها
وجلست لتعلم بأنها مستيقظة وأن تحدثتا معا وتشاركتا الهموم لكن
ذلك مستحيل ... أجل هي تعلم بأنه مستحيل فكل واحدة منهما ترفض
إخراج ما في قلبها كي لا تجرح الأخرى وتصدمها وفهمت الآن
لما كانت ترفض أن تشرح لها سبب رفضها العودة لوالدها .
جلست مفزوعة بسبب صوت الرسالة التي وصلت لهاتفها
ووضعت يدها على قلبها فهذا الصوت بات يفزعها في أي وقت
وبسبب أو بدونه ، رفعته بتوجس وعضت طرف شفتها ما أن
فتحتها وقرأت ما فيها
( لازلت مستيقظة ؟ )
ترددت كثيرا قبل أن ترسل له
( أجل )
ولم تستطع كتم شهقتها حين ظهر رقمه على الشاشة فمررت
أصابع يدها الأخرى في غرتها للخلف لتتحرر متناثرة مجددا
على جبينها وأطراف وجهها ، أغمضت عينيها وتنفست بقوة
لتهدئ من ضربات قلبها المتلاحقة وكأنها خيل تعدوا مع الريح
ثم فتحت الخط ووضعته على أذنها فوصلها صوته الرجولي
العميق فورا
" ثمة خبر قد يعجبك "
زمت شفتيها وغضنت جبينها مقربة حاجبيها الرقيقان وقالت
ببحة وأسى
" إن كان بخصوص ذاك الرجل فلا تقله رجاء "
وصلها صوته المستغرب مباشرة
" ما به صوتك هكذا ! هل أنتي مريضة ؟ "
مررت أصابعها على نحرها نزولا لصدرها وهمست بإحراج
" لا ... أنا بخير "
ساد الصمت من طرفه للحظات قبل أن يقول
" أكنت تبكي يا تيما ؟ "
عضت شفتها ولم تستطع قول شيء لا الكذب ولا الاعتراف
بالحقيقة فوصلها صوته جادا هذه المرة
" لن يغير بكائك شيئا في واقعك ، أنتي تضرين نفسك فقط بهذا "
لم تستطع السيطرة على دموعها التي انسابت على وجنتيها ببطء
وقالت ببحة بكاء
" لماذا قال ذلك ؟ هو يحبها أقسم لك فلما فعل ما فعله ؟ كيف
يخون الرجل امرأة يحبها ؟ اشرحها لي ! "
وصلها صوته فورا
" لا أحد يملك جواب هذا السؤال غيره يا تيما ولا يمكننا الحكم
لا على أسبابه ولا أسباب والدتك فماضيهما وحدهما من يعرفانه "
غطت عينيها الباكية بكفها ولم تعلق فوصلها صوته قائلا
" هيا توقفي عن البكاء لتسمعي ما سأخبرك به "
رفعت رأسها وقالت بضيق من بين شهقاتها
" لا أريد أن أعرف عنه شيئا "
ضحك ضحكته قصيرة منخفضة وقال
" ضننت أننا اتفقنا أن لا نتحدث عن الأمر ؟ "
وتابع من فوره
" تيما لما لا تنظري للأمر من ناحيته الإيجابية بدلا من
البكاء هكذا ؟ "
حركت يدها قائلة بضيق
" أي ناحية إيجابية في انفصال والديك واتساع الفجوة بينهما ؟
أنت لن تشعر بما أشعر به أبدا "
أغلقت فمها بيدها مصدومة حين استفاقت لنفسها ولما قالت
فهمست بإحراج
" آسفة ... أنا حقا آسفة لا أعلم كيف قلت ذلك أ ..."
قاطعها بهدوء
" لا بأس لم أغضب منك فأنا لست أفكر في وضعي مثلك لأني
أنظر للأسوأ مني دائما "
أخفضت كتفيها قائلة بأسى
" آه قاسم بربك ما الأسوأ من فقدانك لوالديك ، لست أتخيل إن
فقدتهما أين سأجد الأسوأ مني ؟ "
قال مباشرة
" بلى إنه أقرب لك مما تتصورين "
همست بصوت مصدوم
" أقرب لي مما أتصور ! "
" أجل ... الكاسر "
قالها دفعة واحدة كصفعة قاسية ومباشرة فأمسكت قلبها وقالت
بضياع
" الكاسر شقيقي ؟ "
قال بجدية
" أجل فلما لا تنظري لوضعه أمامك ؟ هو فقد والديه من قبل
أن يراهما والآن إن تحقق ما تحلمين أنتي به فسيفقد من أخذت
مكانهما في حياته "
شعرت بقلبها انقبض بقوة وتقاطرت دموعها مجددا وقد همست بعبرة
" لا والدتي لن تتخلى عنه أبدا "
" بلى ذاك ما سيحدث فهل برأيك سيرضى بأن يعيش معها في
منزل والدك ؟ وماذا عن رماح ووضعه وماذا عن عمتهم ؟
منزل والدتك هو الذي يجمع أبناء شراع مهما تفرقوا يا تيما ؟ "
حركت رأسها برفض تغرس أسنانها في شفتها السفلى بقوة
تنظر للأعلى والدموع تتقاطر من جفنيها الواسعين تحاول كبت
عبراتها التي فقدت سيطرتها عليها سريعا وبدأت بالبكاء وقد
ارتمت على السرير وانزلق الهاتف من يدها وبعيدا عنها ،
هي لم تفكر هكذا ! لم تفكر فيهم أبدا وخصوصا شقيقها الكاسر
فهو بالفعل يرى فيها أبويه اللذان فقدهما رضيعا بل هي تعني
له أكثر من ذلك بكثر فحديثه عنها لا يتوقف أبدا ، ذكريات
طفولته جميعها مرتبطة بها كما أحلام مستقبله ، ورغم يقينه
من أن مطر شاهين الشخص الوحيد الذي قد يجعله يفقدها كان
متحمسا لرؤيته ويتحدث بفخر عن كل ما يفعله بل ويواسيها
ويمسح دموعها كلما تحدثت معه عنهما ويؤكد لها دائما بأن
والدتها سترجع له وبأنهم سيكونون عائلة مجددا ، كان في كل
مرة يواسي جرحها برش الملح على جرحه .. تبث له وجعها
متناسية أوجاعه الأقسى من أوجاعها .
قبضت على اللحاف تجمع ذراعيها فوق رأسها تدفن عبراتها
فيه ولم تعد تعلم أفصل الخط أم تحطم هاتفها على الأرض التي
انزلق من السرير إليها فلم تسمع رنينيه بعدها حتى نامت وهي
على حالتها تلك دموعها تسقي تلك الأغطية البيضاء .
*
*
*
جلست أمامها وقالت بضيق تمسح دموعها بالمنديل الذي تلطخ
بسواد كحل عينيها مرارا وتكرارا
" آستريا توقفي عن البكاء ، أنتي ستؤكدين ما قيل إن رآك
الجميع هكذا في الحفل "
أبعدت يدها عنها وقالت ببكاء
" لا أريد أن أتزوج .. لما يكون الأمر بالإكراه ؟ كيف نسيتم أن
والدي وعدني ومنذ صغري أن أختار أنا من أتزوجه ومتى
سأتزوج ولم يجبرني في حياته أبدا ولم يسألني حتى لما "
تنهدت الجالسة أمامها بقوة وقالت
" لأنه ليس في صالحك آستريا فلم تنسي بالتأكيد ما قاله ساجي
وهو سينفذ قسمه ويعاقبك بالصلب في ساحة البلدة حتى تموتي
جوعا فأنتي تعرفيه جيدا يفعلها دون تراجع "
ضربت بقبضتها على صدرها وقالت بنحيب
" راضية وقلتها له مرارا فليقتلني بالطريقة التي يشاء لكن لا
يزوجني به ، ثم أنا مسلمة ولا أتزوج من غير المسلم "
أغلقت لها فمها بيدها وقالت بحدة
" أصمتي يا غبية أتريدين أن يسمعك أحد ؟ لن تنجي من هذا
الزواج بهذه الطريقة ولا تعتقدي بأنه حلك للأمر "
دفنت وجهها في كفيها تبكي بألم وحسرة فشعرت بيدي شقيقتها
الوحيدة على كتفيها ووصلها صوتها الحزين قائلة
" ارحمي نفسك آستريا أرجوك فهو لا يستحق كل هذا وقد تزوج
ولم يفكر بك "
رفعت رأسها ونظرت لها وقالت ببكاء
" لا لن يفعلها .. اقسم لن يفعلها وهو سبق ووعدني "
قالت الجالسة أمامها بضيق
" ساجي خرج للعاصمة أي أنه علم بذلك وهي الحقيقة آستي
عليك تصديقها "
صرخت من فورها
" كاذب ... هو أخبرني بأنه سيعيش على أمل لقائنا حتى يموت ...
رعد لا يكذب أبدا بينما ساجي بلى "
أغلقت لها فمها مجددا قائلة بحدة
" اقسم أنك تحفرين قبرك بيديك يا حمقاء وإن سمعك أحد وعلم
دونسوا بما تقوليه فستعيشين حياة مأساوية معه "
أبعدت يدها عنها وقالت ببكاء
" لن أعيش معه ولا أريده لما لا يفهمون هذا ؟ "
وتابعت بعبرات تفتت الحجر وقد أمسكت بيديها برجاء
" أشعروا بي لما لا يرحمني أحد ؟ أنا أتعذب شقيقتي واقسم
بأني سأموت إن عشت مع رجل غيره ، لا حياة لي مع سواه
لما لا تفهمون هذا ؟"
ضمتها لحضنها فورا تنسكب دموعها مع عبراتها ولا حل في
يديها تقدمه لها ولا تريد أن يؤذيها شقيقها فهي تعرفه جيدا
فما أن علم بما يشاع عنها جن جنونه وكاد أن يقتلها لولا سنمار
منعه من ذلك ونقلها لمنزله منذ ذاك اليوم خوفا عليها من غضب
ساجي الذي كان يتوعدها طوال الوقت فقرر سنمار تزويجها
لينقذها من الموت على يدي ذاك المتهور فهو يعلم بأنه سيفعلها
ودون تردد ، ولم يخبروها بالأمر إلا اليوم وها هي منذ الصباح
على هذه الحالة ، كم تمنت سابقا رؤيتها هكذا عروس وبثوب
زفاف قبائل ثنان كما تمنت والدتهما ذلك قبلهما لكنها كانت
ترفض وتتهرب وكان والدها يساندها في ذلك كلما رفضت خاطبا
تقدم لها ووقف في وجه أبنائه الثلاثة مانعا إياهم من إجبارها
لكن والدهم اختفى الآن ولا أحد يمكنه ردعهم عنها .
مسحت على شعرها البني الطويل قائلة بحزن
" كان عليك أن لا تقطعي عهدا آستي فالنساء لا يمكنهن الوفاء
بالعهد كالرجال "
وحين لم تعلق على ما قالت وقفت مبتعدة عنها وغادرت المكان
الذي يخصصونه لتزيين العروس وتركتها مع دموعها وبكائها
تقبض يداها بقوة على قماش ذاك الفستان تنظر له على جسدها
وكأنه كفن موتها تتقاطر دموعها عليه تسقيه ألما وحسرة وقد
تدلت خصلات شعرها الطويل المموج تنزلق على بشرة ذراعيها
الثلجية وتداعب أزهاره الجميلة ترسم معهم لوحة فنية شديدة
الجمال لا يشوهها سوى تلك الدموع المتناثرة كحبات ألماس
تلمع في النور الخفيف تحكي مأساة حب ونهاية عشق وبداية
ألم قد لا ينتهي أبدا .
لم تندم يوما على اعتناقها الإسلام إلا الآن فقد تمنت لحظتها أنها
على ديانة ثنان لكانت قتلت نفسها دون تردد .. لاختارت الموت
على أن تكون لرجل غيره ، أمسكت فمها بيدها وازداد بكائها
وعبراتها وهي تتذكر كلماته ووعوده تلك وكأنها اليوم لم
تنساها لحظة
( لن تأخذ امرأة غيرك مكانك في قلبي آستريا فإما أن نكون
معا أو أعيش وحيدا ما حييت )
) إن تزوجت يوما مرغمة من غيري فلا تحاولي إخباري آستريا
لأني لن أكون لامرأة أخرى في جميع الأحوال)
( إذا آستريا لرعد يوما ما (
وقفت على طولها ونظرت حولها تمسح دموعها بعنف ،
عليها أن توقف هذا الزواج وبأي طريقة كانت ، هي تفضل
الموت على النوم في حضن رجل غيره وستفعل أي شيء
وإن قتلت نفسها ، توجهت لباب الخيمة وفتحته ثم سرعان
ما عادت وأغلقته مجددا وهي ترى الموجودات هناك ولن
يفارقن الباب حتى وقت خروجها بالتأكيد فتلك عاداتهم ، نظرت
حولها ورفعت السكين الذي كان قرب صينية الفاكهة التي
أحضرتها لها شقيقتها ورفعته أمام وجهها فها هو خلاصها
بين يديها ، ركضت للجهة الخلفية للخيمة وشقتها بالطول
بصعوبة بسبب سماكة القماش الذي يستخدم في صنعها ، أبعدت
طرفي الشق بيديها قليلا ونظرت للمكان فكان خال تماما رغم
أضواء الزينة فيه ، أغلقت الشق ونظرت خلفها ثم فتحته على
اتساعه وخرجت منه بصعوبة وغادرت الخيمة وركضت مسرعة
ترفع فستانها الطويل بيديها وكل ما تفعله هو الركض .. الركض
ودون توقف أو التفات رغم يقينها من أن الفرار من هناك مستحيل
لكن لا حل غيره أمامها فإما أن تنفذ بجلدها من ذاك الزواج أو
تقتل وتختفي من الوجود للأبد لذلك لم يكن أمامها سوى أن تركض
وتركض فقط مبتعدة عن كل ما تركته خلفها من ضجيج وموسيقى
غافلة عن العينين التي كانت تراقبها بصمت وتلك الابتسامة
الساخرة ممن أخلت لها المكان عمدا قبل أن تهمس بمكر
" رائع .. فعلتها كما توقعت آستي وستري ما سيكون حجم
خسارتك الآن "
وغادرت من هناك ضاحكة
*
*
*
|