كاتب الموضوع :
شخابيط فتاة
المنتدى :
القصص المهجورة والغير مكتملة
رد: أنت مرآتي ...فهل أكسرها!!/بقلمي
الفصل الرابع: يالجدي..يالجدي..
هناك جبروت وقوة في نفس كل إنسان يعشق الحياة ..فماذا يحدث إذا تجرعنا طعم الألم والمـرض ؟؟. .
تنقلب موازين الدنيا في عقولنا . .' إذ بمجرد زيادة درجة حرارة أجسامنا درجة واحد . .' يبقى الإنسانُ طريح َ الفراش ِ . .' فلماذا كل هذا التكبر والخــيلاء فيك يا إنســان ؟
قبل شهرين من الآن ..أصيب جدي بجلطة دماغية... وهي عبارة عن انسداد شريان دماغي على إثر ارتفاعٍ لضغطه الدموي..
وتسببت له الجلطة بشلل في نصفه الأيسر...حيث يُحرّك أطرافه... ولكن لا يتحكم فيها..مع عدم الإحساس بها..
وكذلك تسببت له بضعف وتشتت في النظر وضعف في الذاكرة..إذ ينسى بسرعة ما فعل أو قال أو ما يُقال له.. ويعيد السؤال عن شيء ما مرارًا وتكراراً... ولكنه يتعرف على الأشخاص وأسمائهم والذكريات القديمة..والامور التي تؤثر بنفسيته وما شابه ذلك...
لم يعد يذهب الى الشركة ..وأعمامي احتاروا فيما يفعلونه بخصوصه..أرادوا اخراجه من المنزل ليبقى في منزلهم ولكنه رفض ذلك..
وبسبب هذه الضغوطات..تراجعت حالته النفسية: إذ يبكي في أحيان كثيرة حين يراني ويخبرني انه نادم لأنه تبرأ من أبي، أو حين أنْهَرُ ديما ان شاغبت ويخبرني أنها يتيمة وأن علي الصبر عليها..
في الحقيقة..وبالرغم من أنني كنت أكره جدي في صغري الا ان قلبي قد حن لحاله..
حقاً ما أضعف الانسان..ما الذي حل بجدي؟؟
أين ذاك الجبروت!!
بعد أن كنا نهابه ..هاهو ذا أمامي ضعيف لا يقوى على الحركة..ضعيف يبكي كطفل صغير..
لقد رأيت جانباً مختلفاً من جدي..لقد تسبب مرضه بقرب العلاقة بيننا وبدأت أشعر أخيراً أن لدي عائلة..
حسناً..أنا أعيش فراغاً كبيراً في حياتي منذ أن فقدت والداي..وقد كنت احاول ملأ فراغي باهتمامي بديما والآن أصبح اهتمامي بجدي يشعرني بالسعادة..خصوصاً حين أراه يدعو لي وأراه يبدي ندمه على ماحصل لأبي..
أنا أعلم كم حزن أبي لأن جدي غاضب عليه..ولكن لاتقلق يا أبي..أنا متأكد أن جدي أصبح يحبني لأنني ابنك..اسم حسن لم ولن يمحى من عائلة العالي مادمت حياً....
عدت من المدرسة مع ديما ولكنني فوجئت بوجود سيارة عمي حازم..
هذا غريب..ليس من عادته أن يزورنا ظهراً..
ذهبت ديما لغرفتها أما أنا فقد ذهبت لغرفة جدي لأسلم عليه ولكنني توقفت حين سمعت صراخ جدي:أخرج من هنا لا أريد رؤيتك...اغرب عن وجهي حالاً..
بعد وهلة ..فتح باب غرفة جدي فظهر عمي حازم من خلفه وعلامات الغضب بادية على وجهه..
اراد افراغ غضبه علي فقام بدفعي عن طريقه: ابتعد انت ..لست في مزاج جيد لرؤيتك...
قالها ثم نزل الدرج..وبعد ثوان سمعت صوت باب المنزل وهو يغلق بشدة..
دخلت غرفة جدي مصدوماً مما حدث..وجدت جدي يجلس على كرسيه المتحرك وهو يتنفس بصعوبة..
ركضت اليه بقلق: جدي ..هل أنت بخير..
نظر الي ثم همس بصعوبة: ماء..أعطني بعض الماء..
أومأت برأسي ثم ذهبت لجلب الماء له..
شرب جدي الكوب وبدأت انفاسه تنتظم...نظر الي ثم زفر:هؤلاء الأولاد..نقوم بتربيتهم ولكننا لانجني سوى الهموم..
هل تصدق..لقد طلب عمك حازم مني أن أقوم بتوكيل شامل لأملاكي كي يتحكم بها..يريد أن يرثني قبل موتي..
نظرت الى الأرض بدون أن أرد..حسناً ..أنا لا أفهم بهذه الأمور..ولكن اعتقد أن طلب عمي للتوكيل كي لا تتعطل أمور الشركة في غياب جدي ولكن جدي قد أصبح حساساً جداً بعد مرضه..
فتح باب الغرفة لتظهر ديما من خلفه وهي تهتف: دادي..
نظرت اليها بحدة كي لا تزعج جدي ولكن جدي نظر اليها مبتسماً :تعالي يا صغيرتي..
دخلت ديما الى الغرفة تمشي على استحياء..وهي تخبيء خلفها كتابها المدرسي..
أقتربت ديما من جدي وقامت بتقبيل رأسه كما علمتها أن تفعل..أمسك جدي بكفها الصغيرة وأخذ يحدثها بحنان: كيف هي أحوال المدرسة يا صغيرتي؟؟
أومأت ديما برأسها:بخير ولكن..لدي واجب صعب وأريد أن يساعدني دادي بحله..
ضحك جدي بهدوء:اريني اياه..
نظرت ديما الي بتردد فابتسمت لها مشجعاً..يسعدني أن أرى جدي يهتم بأمور ديما..
بقينا طوال ذلك اليوم مع جدي وقد كنت أحاول تجنب ازعاجه خصوصاً بعد غضبه على عمي حازم..
في الصباح التالي..ذهبت مع جدي لأصلي الفجر...اعتدت على اصطحابه معي باكراً فجدي يحب أن يكون في الصف الأول دائماً..
بعد انتهاء الصلاة..اتى الأمام ليسلم علينا..انه يعرفني جيداً فأنا أحضر اليه عصراً حين تقام حلقات التحفيظ بداخل المسجد..
تبادل أطراف الحديث مع جدي ثم اختتم كلامه وهو ينظر الي:عمار من أفضل الطلاب لدي..انه يملك صوتاً شجياً في القرآن..
نظر جدي الي بابتسامة:أنا أفخر به كثيراً..
خرجنا من المسجد وفي اثناء عودتنا الى المنزل هتف جدي: توقف عمار..ألم تطلب ديما منك أن تشتري لها الحلوى؟؟
اجبته بتردد: نعم.ولكن ليس الآن..سأشتري لها فيما بعد..
أخرج جدي بعض المال من جيبه: خذ يا بني..
ارتبكت من تصرفه كثيراً :كلا..أنا أملك المال حقاً..ولكن..
قام جدي بمقاطعتي: أنا أريد أن أشتري لها الحلوى هدية مني..
اجبته بارتباك: أوه..حسناً..
عدنا الى المنزل بعد شراء الحلوى...ثم جلسنا معاً للأفطار..اليوم يوم أجازة وقد أحببنا أن نفطر في الحديقة..
للصباح لذة لا يعرفها إلا من يستيقظ باكرا ويخرج للهواء الطلق... يشتم عبق الأرض التي تعج بالحياة.. يسمع تغريد وتسبيح الطيور المتوكلة على الله.. يملأ رئتيه بالهواء النقي المنعش..
كنا سعداء باجتماعنا الصغير وكانت ديما فرحة بالحلوى التي أعطاها لها جدي بعد أن أنهينا الفطور..
شعرنا بالبرد..فقد دخل فصل الشتاء لذلك قررنا الدخول الى المنزل..
جلست ديما على التلفاز أما جدي فقد نظر الي: عمار..
التفت اليه:نعم؟؟
زفر بعمق: أريد الذهاب الى غرفتي احتاجك بشيء..
أومأت برأسي ثم صعدت معه الى الغرفة..
ساعدته ليصل الى سريره وحين استلقى واستراح قليلاً نظر الي: اتصل على عمك حازم
نفذت طلبه وحين تحدث معه فهمت بأن جدي قد غير رأيه بأمر التوكيل..طلب من عمي أن يحضر حالاً ليقوم بتوقيع الأوراق..ولكنه بعد أن أقفل الخط..كان الضيق باد على ملامحه..
طلب مني أن أحضر له مصحفه ونظارته..ولكن..حين حاول القراءة..بدأت يده ترتجف ولم يتمكن من تثبيت النظارة..أردت مساعدته في ارتدائها ولكنه نظر الي:بني..لقد قال الامام أنك تملك صوتاً شجياً..اقرأ لي في هذه المرة..
نظرت اليه باستغراب ولكني لم أعترض..أخذت المصحف وبدأت القراءة..أغلق جدي عينه بهدوء وهو يستمع لي.
كان يتقلب بضيق في بادئ الأمر ولكن حركته سرعان ماسكنت..
رفعت بصري اليه..يبدو أنه قد نام..همست بهدوء كي لا أزعجه:هل أنت نائم جدي؟؟
لم يصلني أي رد..قررت الخروج من الغرفة ولكنني أمسكت ببطانيته لأقوم بتغطيته وحين لامست يدي جسده انتاب جسدي رجفة قوية..
لقد كان جسده في غاية البرودة..بالتأكيد قد شعر بالبرد كان علينا أن لا نخرج الى الحديقة في هذه الأجواء..
قمت بتغطية جسده جيداً بالباطانية..وهين هممت الخروج من الغرفة قامت ديما بفتحها وهي تهتف: لقد جاء عمي حازم..
نظرت الى ديما بحدة: اششششش ..جدي نائم..
لم أكد أنهي كلامي قبل أن يدخل عمي حازم خلف ديما وهو يحمل بيده بعض الأوراق..
نظرت اليه: عمي لقد نام جدي للتو..يبدو متعباً لنخرج الآن..
اجاب عمي بضجر: لدي عمل مهم الآن..يجب أن يقوم بتوقيع هذه الأوراق حالاً..
قالها ثم مشى باتجاه جدي بدون أن يأبه لاعتراضي..
بدأ يهزه برفق: أبي...أبي..
تغيرت ملامح عمي فجأة..أمسك بوجه جدي ثم ابتعد عنه وشهق بصدمة.
تلعثمت بكلامي حين رأيت ارتباكه: عمي..ما الأمر عمي...
لم يجب عمي حازم على كلامي كان يهز جدي بعنف وهو يهتف: أبي.انظر الي أبي..ألا تسمعني..
أبــــــــــــــــــــــــــي..
ركضت لاستدعاء الحارس فقمنا ثلاثتنا بحمل جدي لسيارة عمي حازم لنأخذه الى المشفى..
دخلنا الى قسم الطواريء ولكن..حين حضر الطبيب لرؤيته..نظر الينا ثم ألقى بذلك الخبر ليكون وقعه كالصاعقة:لن أتمكن من فعل شيء..انه ميت منذ مدة..
توقف الزمن وتجمدت الحياة في عروقي, بت مع عمي كالتماثيل الواقفة بلا أي روح..
مهلاً لحظة!!
هل مـــــ...ــ..ـــات؟!
هل مــــــــات جدي؟؟ .
ليخبرنى احد هل مــــــــات جدي..
احسست بشئ لا اعلم ما هو يشق قلبى .
مـــــــــــــــــــــــات جدي !! .
لا اعلم فى ماذا كنت أفكر ففى تلك اللحظات احسست بشلل فى تفكيرى .
لا استطيع ان افكر ماذا افعل ..
هل ماات ؟
بدأت ابكى وأنا أفكر ...ما معنى ماات هل انتهى امره ؟
لم يعد له وجود ؟ .
لن استطيع الجلوس معه وسماع صوته وهو يصدح بالقرآن؟؟
ما معنى ماات هل هى تلك الكلمة الصعبة التى اسمعها كثيراً؟؟
هل هو الفراق هل هو الوداع يا جدي.
مــــات ليذهب الى ربه ...يعنى لن اراه مجدداً .
جدى مـــــــــــــــــات .
حاولت التحرك من مكاني ولكن لم استطع..
قدماى.. جسدى..وكل مافي مشلول.. .
احسست انى متصلب متحجر في مكاني .
حاولت وجاهدت نفسي لكي أعود الى المنزل بسيارة أجرة فديما تجلس وحدها..
ذهبت الى منزلنا منزل جدي ولكن عند دخولى الشارع احسست بشعور قد يكون من المشاعر الغريبة التى احسست بها ...
احسست ان الشارع غريب عن ما كان عليه رغم أني أمشي بنفس الطريق دائماً..
ولكني أراه الان مختلف ..
المنزل مختلف ....الشارع مختلف... المدينة بأكملها مختلفة.. .
عند دخولى المنزل وجدت ديما تقف أمامي وهي تنظر الي بقلق..
جثوت على ركبتاي وقمت بتقبيل رأسها فبكيت قليلاً ولكني حاولت التماسك ..
وصلني صوت ديما الخائف:ما الذي حدث دادي..
همست بصوت متهدج:لاشيء صغيرتي..عودي لمشاهدة التلفاز..
قلتها ثم ذهبت الى غرفتي غير مصدق لما حدث..
جدي..جدي أنا قد مات..
لم يمر من الوقت كثيراً قبل أن تعلم عمتي هيا وعمتي فادية..قدمتا الى المنزل فأتت ديما الي فزعة وأخبرتني أنها رأتهما تبكيان..
نظرت اليها بحزن..ديما لاتزال صغيرة ولن تفهم الأمر..
فتحت ذراعي لها فركضت باتجاهي وقفزت لحضني فبت أربت على ظهرها بحنان..أغلقت عيني وقد تذكرت يوم وفاة أبي..كنت طفلاً وقتها ولم أعي الأمر جيداً..وديما أيضاً لن تفهم..حاولت تبسيط الأمر لها وأنا أهمس: حبيبتي ديما..لقد كان جدي مريضاً..أما الآن..فقد ذهب لمكان أفضل..لن نتمكن من رؤيته مجدداً ولكن يجب أن لا نبكي كي يكون سعيداً بمكانه الجديد...
ابتعدت ديما عن حضني ونظرت الى عيني:هل ذهب الى حيث ذهب أبي وأمي؟؟
أومأت لها بحزن..كنت قد أخبرتها أن أمي وأبي قد ذهبا لمكان جميل ولا يريدان منا البكاء..
نعم..بالنسبة لي أمي قد ماتت ولن أسامحها على تركنا ما حييت..
أبقيت ديما بغرفتي أقرأ لها بعض القصص الى أن نامت فأنا لا أريدها أن ترى بكاءهم بالأسفل...
خرجت من غرفتي بعد نومها وفي تلك اللحظة..جاء عمي مع بقية الاقارب بجثمان جدي من المستشفى ..
كنت أسمع صوت شهقات الجميع حولي وأنا أقف بمكاني دون أن أتحرك..أقتربت منه ببطء و لم اشعر بأى شئ الا وانا اقبل جبينه..
تظاهرت بالتماسك قليلاً ثم تركته وقتها لكثرة الاشخاص فى الغرفة وكلى مرار على فراقه..
بعد دقائق أصبح المنزل خالياً الا من أعمامي ..جلست بجانب جدي حينها وكان الامر غريباً فأنا اتكلم ولا احد يجيبنى ..
اسأله واتحدث معه:جدي..أفتح عينك..من لي من بعدك؟؟
للاسف لم يرد احد ..
كان لدي امل بان شيئً سيحصل..ولكن للأسف..
مــات جدي..مات بالفعل..
ذهب الى ربه.. .
بدأت أتحدث معه فمن الممكن ان تكون المرة الاخيرة التى ارى فيها جسده امامي.. .
مر الوقت بسرعة رهيبة وأنا أجلس بجانبه..لم اكتفي من الجلوس معه بعد..أريد البقاء لفترة أطول...
كيف تتركنا الآن جدي..ما الذي سيحل بي مع ديما...كيف تتركنا جدي..لا اريد أن أعيش اليتم مجدداً..
قطع حديثى وبكائي عمي حازم..ولكني تجاهلته وعدت الى حديثى مسترسلاً فيما كنت اقول واحكى .
وفجأة انظر خلفي..
لقد وصل المغسل!!
هل هى النهاية ؟؟
هل هذه اللحظة الاخيرة التى اراه فيها ؟؟
هل سأستطيع تقبيله مرة اخرى ام انتهى الامر؟؟ .
فى هذه اللحظة توقف حوارى معه..امور كثيرة دارت بذهنى ..
تركت الغرفة وجلست بالخارج انتظر..رغم ان عمي أخبرني أن أساعدهم في الغسل ولكني لم أتمكن من احتمال الموقف..
بعد مرور بعض الوقت..خرج عمي من الغرفة.. لقد انتهوا.. .
دخلت لكى اراه فإذا به مغطى بكامله حتى انى لم استطع ان ارى وجهه..
كلا ..ليس الآن..لا تبعدوه الآن..
حملنا جسده وذهبنا الى المسجد لصلاة الظهر.. .
ومن ثم صلينا عليه وذهبنا الى المقابر ..
بدأ الرجل فى حث التراب عليه.. .فتذكرت قول فاطمة رضى الله عنها عندما قالت "أطابت أنفسكم أن تحثو التراب على وجه النبي؟"
فعند تذكرى لتلك الجملة احسست بزلزال فى جسدى ...
جدي..لطالما كان شامخاً يهابه كل الناس..
والآن.. اراه امامى نائماً وشخص يحث عليه التراب وانا اقف انظر فقط!! .
ياله من موقف !!
ولكن ايضاً تذكرت قول ربى سبحانه وتعالى : (( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ))
فقلت بصوت متهدج :إنا لله وإنا اليه راجعون ..اسأل الله العظيم ان يدخلك الجنة بدون حساب ولا سابقة عذاب وان يثبتك ويغفر لك وان يرحمك فهو ارحم الراحمين..
.
.
.
لا تَلُمْني في بُكائي
إنَّ مَن أرثيهِ جَدِّي
لا شك بأن الموت يفجع الروح ويفطر القلب...لا شيء يساوي ألم الرحيل والفراق عن هذه الحياة..تأثر فينا كل التأثير..تجعل الحياة لا طعم لها..ندخل في رحلة من الألم والحزن..المرارة تغص في الحلق ليل نهار..لا نستطيع أن نتعايش أو نعيش مع فكرة الفراق..أكثر المررارات فداحة هو الموت..فهو نهاية النهايات ..الاصطدام بهذه الحقيقة لا مفر منه..آه ياجدي كم آلمني موتك..ساعة موتك هي الساعة التي لا تنسى واللوعة اللتي لا تمحى..فهي كالنار تنهش الجسد وتشعل الأحشاء..ودموع حارقة للوجنات..
ما اضعف الانسان... وما اقصر اعمارنا... .
اليوم اكتشفت كم نحن ضعفاء وكم نأخذ حياتنا وامورها بسطحية ... نعتقد اننا نعيش ابدا... ولكن الحقيقة اننا من اضعف خلق الله... اذا اصابتنا حمى بسيطه سقطنا ولم نستطع المقاومة... ونحتاج لمن يساعدنا في ابسط امور الحياة... اذا أُصبنا بألم بسيط في الرأس (صداع) توقفنا ولم نستطع العمل والانتاج .. .
نعتقد ان العمر امامنا طويل... ولكن قد نستيقظ يوما على حقيقة ان ما تبقى من عمرنا ليس بكثير... .
كم رسمنا من مخططات للمستقبل... وكم بنينا من الامال على الغدِ...معتقدين ان الغد قادم ... ولكن الغد قد لا يأتي ابدا.... .
مرت ايام العزاء برتابة...لقد بقيت عمتي فادية وعمتي هيا في منزلنا طوال الثلاثة ايام...اما عمي حازم فيأتي للزيارة يوميا...
اليوم هو اول يوم بعد انتهاء العزاء ولا اعلم كيف سأكمل حياتي مع ديما...اعمامي مجتمعون للحديث عن امور الورث والتركة..
ياااه ما احقر الدنيا..مهما بلغ قرب الناس لك لن يذكرك احد بعد موتك وكل ماجمعته من مال يتقاسمونه بينهم..
طرق باب غرفتي ثم اطلت ديما برأسها:دادي.يقول عمي تعال لتناول العشاء..
اجبتها بضيق:لا اشتهي الاكل....
دخلت ديما الى الغرفة وامسكت يدي ثم نظرت الي بترج:انا جائعة ولكن لا اريد ان اكون وحدي بينهم ارجوك تعال معي..
زفرت بعمق:حسنا..
قلتها ثم خرجت من غرفتي وانا امسك بيد ديما..حين اقتربنا من غرفة الطعام ..سمعت صوت عمتي فادية..
-كلا ..انا سأتنازل عن حقي في هذا المنزل...ان قمنا ببيعه فما الذي سيحل بأبناء حسن؟؟
ردت عمتي هيا:ان كنت تريدين التنازل فأنا لا اريد..اريد الحصول على حقي من الميراث..كلا ياحازم..لا تهتم لها..سنقوم ببيع المنزل..
اجاب عمي حازم:ولكن فادية محقة ما الذي سيحل بابناء حسن؟؟
اجابت عمتي هيا بضجر:وهل نترك هذا المنزل بوسعه لهم؟؟
سيعيشون معك..انت عمهم وانت ولي امرهم الان..فلتسكنهم بمنزلك ولكن انا لن اتنازل عن حقي بهذا المنزل ابدا..
ايقظني من صدمتي يد ديما الصغيرة وهي تجر قميصي:دادي...الن ندخل؟؟
نظرت اليها بوجوم..ان قاموا بييع المنزل..فأين سنعيش..
دخلت الى غرفة الطعام مع ديما فتوقف اعمامي عن متابعة الحديث..
بدأت ديما الاكل..اما انا..فقد كنت اتظاهر بأني اكل...لقد سدت شهيتي..يا الهي رحماك..ارفق بحالي مع اختي..
.
.
.
خطوت بهدوء نحو النافذة حين سمعت صوت المطر يطرق زجاجها..
مسحت بخار الماء ونظرت لارى انعكاس واقعي في الطبيعة..
غيوم داكنة مظلمة...
أشجار تأرجحها الريح يمنة ويسرة..
دفعني المشهد للتذكر.. وكم من مشهد في الواقع يحيي الكثير من ذكريات الماضي..
لقد خيل لي. انني ارى طفلا يركض تحت المطر وهو يصرخ بحثا عن امه..يتعثر..فيبكي ويتسخ وجهه بالطين ولكن لا احد يرأف بحاله..
نزلت دمعة من عيني من تلك الذكرى..بعد رحيلك جدي شعرت بالشتات مجددا..وديما..لقد عاشت طفولتها في هذا المنزل..كيف ستتقبل أمر بيعه؟؟
طرق باب غرفتي ثم وصلني صوت ديما فمسحت دموعي كي لا تراها..
فتحت الباب ثم نظرت الى عيني بعينين دامعتين:دادي..هل استطيع النوم في غرفتك الليلة..
نظرت اليها باستغراب:لماذا تبكين؟؟
اجابت بصوت مرتجف:لقد قالت عمتي هيا انني يجب ان انام والا ستهاجمني الشياطين..
تقوس فمها:انا لا استطيع النوم ..انا خائفة..
قالتها ثم انفجرت بالبكاء...
ذهبت اليها واحتضنتها..سامحك الله يا عمتي..تحب ان ترعب الاطفال دائما..لازلت اذكر رعبي حين اخبرتني انها سترسل قبيلة من الشياطين علي.
لابد انها قالت هذا لديما كي لاتزعجها ..فلازالوا مجتمعين للتفاهم في موضوع التركة..
وضعت ديما على السرير وجلست بجانبها واخذت اردد اذكار النوم معها..
بعد ان انتهينا..نظرت ديما الي:دادي..غني لي...
ابتسمت:حسنا..ولكن اغلقي عينيك اولا..
اغلقت ديما عينها فبدأت اغني:
طفلتي..صغيرتي..نامي ..بأمان..
وانعمي..حبيبتي..بأحلى الأحلام..
نامت صغيرتي ديما..اما انا..فلم استطع ذلك..ارهقني التفكير كثيرا...
في تلك الليلة..غادر اعمامي المنزل فكانت اول ليلة لنا وحدنا..انا وديما فقط..
وحدنا بدون جدي..
.
.
.
في الصباح التالي..ايقظت ديما للمدرسة بعد ان صليت الفجر..وبعد ان تناولنا افطارنا..
هممنا بالخروج..ولكنني فوجئت بعمي امام الباب...لقد قدم مع زوجته وابنتيه نهلة ونهى..!!
نظر الي قبل ان يدخل..يمكنك الذهاب يا عمار..سأصطحب ديما مع نهلة الى المدرسة..ولا تذهب اليها بعد انتهاء اليوم الدراسي..سأصطحبها انا ايضا..فمنذ الآن..سنعيش معا في نفس المنزل...
لقد كان قرار عمي بالسكن في منزل جدي معنا مفاجئ جدا..ولكنني فرحت كثيرا..هذا يعني انهم قد عدلوا عن فكرة بيع المنزل..ياااه...الحمد لله...
لقد شعرت ان ديما حزنت لان عمي سيصطحبها بعد الان..ولكن ماذا أفعل..ليس بيدي حيلة..
بعد انتهاء اليوم الدراسي..عدت من المدرسة..ولكن..حين اقتربت من المنزل..تصلبت بمكاني مصدوما مما رأيت!!
كتب أبي..ملقاة بخارج المنزل!!
ركضت اليها وبدأت افتش عن كتاب مذكرات ابي...عثرت عليه فرفعته واحتضنته ثم نظرت الى باب المنزل بصدمة..
وجدت ديما تركض باتجاهي والدموع تملأ عينيها..احتضنتني واخذت تردد بين دموعها:دادي..انهم يلقون بغرفتك لخارج المنزل..لا تتركني...ارجوك..
حملتها ثم وقفت وانا انظر للعمال وهم يحملون اثاث غرفة ابي التي اصبحت غرفتي فيما بعد..ظهر عمي من خلفهم وحين رآني انظر اليه بغضب حاول تلطيف الجو:لماذا تنظر الي هكذا..سينقلون غرفتك الى الملحق فحسب..انت تعلم..زوجتي بداخل المنزل..سيكون افضل لكليكما بقاءك في الملحق..
اشرت لكتب ابي وانا اصرخ بغضب:ولماذا قاموا بإلقاء كتب ابي هكذا..
نظر عمي اليها ثم اجاب ببرود:اوه..هذه الكتب سأتبرع بها..لافائدة منها على اي حال..
اجبته بحدة:كلا..انا اريد هذه الكتب..
نظر الي ثم اجاب بلا مبالاة:حسنا لا يحتاج الامر للصراخ..احملها للملحق ان كنت تريدها..
ابعدت نظري عنه ثم مشيت باتجاه الكتب لاقوم بحملها..ان بقيت امامه اكثر فلن احافظ على هدوئي اكثر..اشعر انني سأنفجر بأي لحظة..يأتي لمنزل جدي ويقوم بإلقاء اغراضي بكل وقاحة..
مهلا..ما الذي اقوله..لقد اصبح المنزل ملكا له على كل حال..يجب ان اكون شاكرا لأنه ابقانا بالمنزل ولم يقم ببيعه..نعم..لابأس ..المهم ان تبقى ديما في المنزل..لا اريدها ان تشعر بالضياع كما شعرت في طفولتي..
ساعدتني ديما بحمل الكتب الى الملحق..وقد قام الخدم بترتيب الغرفة من اجلي فأصبح شكلها مقبولا..حسنا..سأعتاد الوضع بالتأكيد..على الأقل سأشعر بالاستقلالية قليلا..
لم تدخل ديما الى المنزل طوال اليوم..لقد بقيت معي بغرفتي..كما انها رفضت تناول الوجبات معهم..اسعدني هذا الأمر فبقاء ديما معي ابعد شعور الوحدة عني..
حل الظلام واردت ان تذهب ديما للنوم ولكنها كانت تغير الموضوع..احسست انها لاتريد الذهاب لغرفتها بتاتا..
نظرت اليها بجدية حبن لاحظت تهربها: ديما اذهبي للنوم حالاً..لقد سمحت لك بالنوم في غرفتي بالأمس لأن المنزل كان خالياً..أما الآن فلست وحيدة..نهلة معك ولا يوجد مايدعو للخوف..
تصلبت بمكانها حين قلت هذا..تزاحمت الدموع في عينها ثم أجابت:لا أريد..اخاف ان تنساني ان ابتعدت عنك..
اجبتها باستغراب:انساك!!
مسحت دمعة نزلت من عينها ثم أكملت بشفتين مرتجفتين:قالت نهلة..انك ستنساني لأنك أصبحت تعيش خارج المنزل..أنا لا أريد أن تنساني دادي..أريدك أن تبقى معي كالسابق..أريد أن نأكل معاً ونلعب معاً ..
اريد أن تصطحبني من المدرسة ثم نذهب لشراء البوظة.. .
قالتها ثم انفجرت بالبكاء..
افف هذه النهلة..لا أعلم متى ستتوقف عن أزعاج ديما..كيف اقنعها بحديثي الآن..سمعت صوت تساقط المطر فحاولت اخراج ديما من نوبة بكائها..
نظرت اليها ثم هتفت: ما رأيك أن نلعب بالمطر؟؟
ابعدت ديما يدها عن وجهها ولكن مازالت الدموع تبلل رمشها..كما أن أنفها قد احمر من شدة بكائها..
امسكت المناديل لأمسح دموعها ثم حملتها وخرجنا الى الحديقة معاً تحت المطر..
همست لها بهدوء:اغلقي عينيك ديما..
أغلقت ديما عينها مثلما قلت..رفعت رأسي الى الأعلى لأشعر بقطرات المطر تضرب وجهي برقة ثم تابعت حديثي: والآن ..ارفعي رأسك واشعري بقطرات المطر على وجهك..دعي قطرات المطر تتسلل داخل جسدك.ماء المطر..يغسل أحزان القلب ..
بقيت مغمض العينين لفترة..فتحت عيني بعدها ثم نظرت الى ديما..كانت مغلقة العينن..ابتسامة عذبة مرتسمة على شفتيها وقطرات المطر تتساقط على وجهها..
ابتسمت :هل تعلمين ماذا يعني اسمك ديما..
فتحت ديما عينها ثم نظرت الي باستغراب..
تابعت حديثي: ديما يعني المطر الشديد..لقد ولدت في ليلة ماطرة لذلك أسميتك ديما..
عقدت ديما حاجبيها: حقاًً؟؟
أومأت برأسي: نعم..ولأجيب على سؤالك ان كنت سأنساك يوماً..فاعلمي ان نسيانك أمر مستحيل...صغيرتي..سيأتي يوم نفترق به ..وهذا هو حال الدنيا..ستكبرين وتتزوجين..وسأكبر أنا وأتزوج وسأنشغل بعملي وبيتي..ولكن.,.اعلمي جيداً ..مهما بعدت المسافة بيننا فلن انساك ابداً..وان حدث يوماً ونسيتك..فستذكرني بك قطرات المطر..
تلفتت ديما حولها باستغراب:كيف تذكرك قطرات المطر بي؟؟
ضحكت على براءتها..ولكنني اجبتها لمجاراتها:سأغلق عيني..وأدع المطر يتساقط على وجهي..وحينها سأسمع صوت تلك القطرات تتساقط وهي تردد: ديما..ديما..لا تنس ديما..
ضحكت ديما:دادي انت تكذب ..المطر لا يقول ديما!!
ضحكت بدون أن أرد..
هتفت ديما:دادي..أنزلني ..أريد أن ألعب تحت المطر..
انزلتها على الأرض فركضت ديما تحت المطر..
تهرول خجلاً . . .فتركض فرحـاً..ترقص كالمطر
ديما مثلي تماما..أنها تعشق المطر..
فالمطر صفاء . . . و هي نقية
و المطر رحمة . . . و هي حنان
كانت ديما...غارقة بسعادتها ...حافية القدمين...و لباسها المطر
جميلةً فزادها المطر جمالاً حين ابتل شعرها..
تضحك . . . تُغمِضُ عيناها..فمها مفتوحٌ
والمطر يتساقط على وجهها قطرة قطرة..
كنت سعيداً وأنا أراقب ديما هكذا..منظر ديما تحت المطر..اعتقد انني لن انسى هذا المنظر في حياتي...
في اليوم التالي..ذهبت الى البقالة كي اشتري البوظة لديما..لا اريدها ان تحزن لأنني لم أعد اصطحبها من المدرسة..
وصلت الى غرفتي الجديدة في الملحق فوجدت ديما تجلس أمامها منتظرة عودتي..هتفت بابتسامة: لقد عدت..
وقفت ديما بحماس حين رأتني..
اخرجت المفتاح من جيبي لأفتح الغرفة: كان عليك ان تنتظريني في داخل المنزل يا صغيرتي..الجو بارد وقد قمت بشراء البوظة من أجلك..أخاف أن تمرضي..
هتفت ديما بفرح: كلا أنا أريد البوظة ..لن أمرض أرجوك أعطيني أياها..
أخرجت البوظة من الكيس وبدأنا بأكلها معاً..شعرت بالعطش بعد أن انتهينا من الأكل..
أفف..لقد نسيت شراء الماء لغرفتي..نظرت الى ديما: ديما هل هناك أحد بداخل المنزل؟؟
أومأت ديما برأسها:عمتي هيا موجودة بالداخل..
عقدت حاجبي باستغراب..مالذي تريده عمتي هيا في هذا الوقت ياترى؟؟
.
.
.
ذهبت الى منزل ابي وانا استشيط غضبا..لا اكاد اصدق هذا..اخبرني زوجي ان حازم قد انتقل للعيش بمنزل ابي..
ان كان يعتقد انني سأصمت عن امر الورث فهو مخطئ تماما..من المستحيل ان اتنازل عن حقي..سيباع هذا المنزل وسأحصل على نصيبي كما اتفقنا بالأمس..
دخلت الى المنزل فاستقبلني اخي بالصالة ..جلس معي وهو في قمة بروده وكأنه لم يفعل شيئا.استفزني الامر كثيرا..
نظرت اليه بحدة:ما الذي تخطط لفعله..الم نتفق على بيع المنزل؟؟
اراك قد انتقلت اليه مع عائلتك. .ان كنت قد نسيت فسأعود لتذكيرك يا سيد..انا لن اتنازل عن نصيبي من التركة ابدا..
رد حازم ببرود:ليس لديك اي حق في هذا المنزل..هذا المنزل..ليس ملكا لأبي اصلا..
ضحكت باستهزاء:ما الذي تقصده؟؟
رد موضحا:لقد قام بنقل ملكية المنزل لشخص آخر .
رفعت حاجبي:هل تريد اقناعي بأنه نقل ملكية المنزل لك..انا لست غبية لأصدق هذا..حتى لو كان الامر صحيحا فهذه الهبة باطلة لأنك لم تمتلك المنزل في حياته..اما ان كنت تقصد انه اوصى بالمنزل لك فالوصية باطلة ..حيث لا وصية لوارث .
نظر حازم الي:لم اقل انه اصبح ملكي..
عقدت حاجبي باستغراب:ملك من اذا؟؟
وقف حازم:انتظري قليلا..
قالها ثم صعد الدرج..عاد بعد وهلة وهو يحمل ورقة بيده..وضعها بيدي..فأمسكت بها بيد مرتجفة..
بدأت اقرأها وانا لا اكاد اصدق ماتراه عيناي..
ايقظني من صدمتي صوت حازم:هذا الأمر سر بيننا..سأعطيك جزءً من نصيبي في الورث في مقابل سكوتك..
نظرت اليه ثم سألته بصوت مرتجف:وهل صك الملكية هذا معتمد؟؟..اي..هل المنزل ملك له الان؟؟
اومأ برأسه:بما انه ليس من الورثة..وبما ان ثمن المنزل لا يتجاوز ثلث التركة..فالمنزل ملك له شرعا وقانونا..
انتفضت فزعة حين سمعت صوت عمار:هل يوجد احد؟؟
قمت بوضع الورقة خلف ظهري وانا انظر اليه بارتباك..
كان عمار يمسك بيد ديما وهو ينظر الى حازم بتردد:اعتذر على دخولي عمي..ولكني اريد بعض الماء لأضعه بغرفتي...
اومأ حازم برأسه:لا بأس..ولكن..في المرة القادمة استأذن قبل الدخول..قد تكون زوجتي في الصالة ..
ذهب عمار الى المطبخ ..اما انا..فقد اعدت نظري لصك الملكية وانا في قمة صدمتي..
اعدت قراءة اسم المالك مجددا املا في ان اكون قد اخطأت في قراءته..ولكن لا..لم اكن مخطئة..ذاك هو الاسم المكتوب حقا:
عمار حسن العالي...
.
.
💖نهاية الفصل💖
|