ماتت كاميليا
و لن تعود الحياة أبدا كما كانت
فمن المعروف أنه حينما تموت امرأة مثل كاميليا تتوقف الأشياء عن الحياة بنفس الطريقة التي كانت تحيا بها من قبل،
من سيسقي أصص الورود المختفية في الأركان،
من سيضحك مع أسماك الزينة الحزينة
و من سيغرد مع العصافير الصامتة
و الأهم من ذلك بالنسبة لرجل عملي مثله من سيهتم بعشرات الفواتير و من سيكلف نفسه الرد على جميع الرسائل التي تصله.
خطا داخل البيت و هو يشعر بثقل يجثم على صدره ، زاد من وطأته منظر ابنتهما الوحيدة و هي تركض باتجاه غرفتها لتكمل بين جدرانها بكاءها الذي لم ينقطع.
وقف قليلا بجانب المدفأة التقليدية التي أصرت كاميليا على إضافتها لديكور قاعة الاستقبال ،
كم كانت كلاسيكية الذوق و الطبع ،
تحدت الزمن و تغييراته التي حملتها السنوات و انصهر فيها الكثيرون لكنها كانت جبلا
نعم هذا أدق وصف لها ، جبل لم تهزه رياح التطور.
"لا أكل في غرف النوم ، الأكل في قاعة الطعام ،
لا هواتف وقت الأكل ،
لا نوم حتى الظهر ، لا سهر بعد منتصف الليل."
"الدنيا تغيرت يا كاميليا"
"الدنيا على حالها يا ماهر ، الناس هم الذين تغيروا "
"أساليب التربية القديمة لم تعد تنفع في أيامنا"
" الشيء الجيد ينفع لكل الأزمنة"
نظر إلى صورتها المستندة على حافة المدفأة ،
كم هي أنيقة في هذه الصورة و تستحق عن جدارة أن تكون من إحدى سيدات المجتمع المخملي.
و هذا ما كانت عليه ، إنسانة راقية ، من الداخل كما من الخارج ، كأنها من عالم آخر .
حتى حين غادرت هذه الدنيا غادرتها بكل أناقة .
اشترت باقة ورد من أجل عمتها العجوز المريضة و هي تبتسم ،
ألقت تحية لطيفة للبائع الأسمر و هي تبتسم
ثم انطلقت بخفتها المعتادة لتركب سيارتها و هي تبتسم.
و حتى عندما اعتلى الفزع وجوه الجميع كانت ما تزال تبتسم
كلهم رأوا الدراجة النارية التي جاءت تجري حاملة لها نداء الموت يختبئ بين ضجيج محركها،
كلهم رأوها ما عداها هي
توقفت حافلة الطلبة في تلك اللحظة بجانب محل بائع الزهور كأنما لتحجب عنها رؤية العربات القادمة من الناحية الأخرى ،
وهكذا خطت خطوة ، خطوتين و خطوة ثالثة أنهت بها سنوات عمرها الثمانية و الثلاثين.
عندما حصل الاصطدام تجمد كل شئ حولها ،
تجمدت الصرخات داخل الحلوق ،
تجمدت الإشارات ، النظرات ،
تجمد كل شيء ما عدا جسدها الذي طار مرتفعا في الهواء ثم هوى على الرصيف ،
حينها فقط عاد كل شيء إلى الحركة ما عدا ابتسامتها التي تجمدت فوق شفاهها.
و هكذا فارقت كاميليا الحياة : ملقاة على الطريق بدون أي جرح نازف ،
فلطالما كانت تخفي جراحها بداخلها
كان وجهها ما زال يحمل آثار ابتسامتها الميتة البعيدة و كان الشيء الوحيد الذي يدل أنها لم تمت منذ دهر هو باقة الورد المنتعشة التي لسبب ما لم تفلتها من يدها.
قبل وصول رجال الإسعاف بوقت طويل كان ملك الموت قد أتم مهمته و قبض روحها تاركا جسدها البارد ليتكفل به أهل الدنيا ،
أغمضوا عينيها و طرحوا عليها الملاءة البيضاء ،
لم يعترض منها سوى حذاؤها
جميلا ، أنيقا و مثل كل شيئ ترتديه كان يبدو كأنه صنع خصيصا من أجلها .
ظل بارزا كأنما يتوق لنظرات إعجاب أخيرة قبل أن يرمى في ركن مظلم ،
ثم انطلقت الصافرات
بأعلى صوتها
تنعي بطريقتها
رحيل امرأة مثل كاميليا عن هذا العالم.
…………………………………………………………………………………….
……………………………………………….
……………………………
أسبوع فقط بل أسبوع كامل انقضى على رحيل كاميليا.
سبعة أيام بالكاد تمكن فيها من استيعاب غيابها عن حياتهم التي كانت حياتها و وجد نفسه مجبرا أن يفكر فيمن قد يعوضها .
لم يكن همه بشأن أمور البيت فمدبرة المنزل القديرة ستعرف كيف تأخذ المشعل و تحافظ على نفس نظامه السابق ،
المشكلة الآن فيمن يستطيع القيام بدور كاميليا ليس فقط كزوجة ،فهي كانت تساعده في كل شيء ،
تكتب رسائله ، ترد على بريده ، تحجز له تذاكره ، تترجم له الوثائق.
كانت تساعده في كل شيء و أي شيء.
بالطبع كانت معها تلك الفتاة ، مساعدتها الشخصية منذ سبع سنوات.
لكن كانت هي من تنظم و تنسق ، كانت هي من تتولى قيادة سفينة حياتهم.
تأمل الأوراق الموضوعة بترتيب على الطاولة خلف مكتبه الضخم و رغما عنه بدأت عيناه في التجول بين حروف الورقة التي في القمة متوقعا أن يجد رسائل عملية و مقالات و أشياء أخرى رسمية .
"سنكون هناك معك من البداية إلى النهاية، وتأكد أن التجربة سوف تكون ممتعة "
رفع حاجبيه بدهشة و عيناه تواصلان التنقل بسرعة بين الكلمات الأخرى
"هدفنا هو توفير خبرة لا تنسى ورحلة مثيرة متميزة وخاصة"
لم يتنهد بارتياح إلا حين قرأ السطور التالية
"نحن نتفهم أن الأحداث ليست مجرد لحظة خاصة، ولكنها أيضا ذكرى تستمر مدى الحياة"
"نحن نهتم بأدق التفاصيل، ونفهم أهمية التخطيط، ونحترم قدسية المواعيد"
"نحن بارعون في تنظيم الأحداث الصغيرة والحميمية كما الأحداث الكبرى والضخمة"
"نؤمن بأن التصميم المتميز ليس له بطاقة سعر"
"نؤمن بأن التنظيم للمناسبة والحدث لا بد أن يكون مليئًا بالشغف والمتعة والمرح"
"نؤمن بالسحر..."
- يا عزيزي كلنا نؤمن بالسحر ، قال ساخرا ، لكن السحر الوحيد الذي تؤمنون به هو سحر الدولارات التي تقبضون بها
كانت الكلمات مجرد عبارات دعائية من شركة متعهدة للحفلات ، قطب جبينه وهو يعيد قراءة الاسم أسفل الورقة ، رغم عدم اهتمامه كثيرا بهذه الشركات إلا أن هذه التي يقرأ اسمها الآن هي واحدة من أفضل الشركات المختصة في التخطيط للأحداث الفاخرة في المنطقة و التي تراعي أعلى المعايير والخدمات من حيث الجودة لعملائها.
لن تتعامل كاميليا مع شركة باهظة كهذه فقط من أجل تنظيم حفلة عشاء عمل أو حتى من أجل حفل عيد ميلاد ابنتهما العاشر.
ترى ما الذي كنت تخططين له يا كاميليا ، أية حفلة فخمة هذه التي كنت تعدين لها فحظيت بدلا منها بجنازة مهيبة.
من أجل من كانت تلك الحفلة يا ترى ؟
مط شفتيه و هو يكمل تصفح الأوراق فلن يكون هذا هو السؤال الوحيد الذي لن يحظى بجوابه من كاميليا ، دائما ما كانت لديها أسرارها الصغيرة و لم تختلف و هي ميتة عما كانت عليه و هي حية.
هرب من أفكاره و هو يرغم نفسه على قراءة ورقة اختارها بعشوائية ،
ما جعله يهتم بقراءتها أكثر أنها مكتوبة بخط اليد ، فمن الذي ما زال يكتب بخط يده في وقتنا هذا.
كان خطا أنيقا مريحا يبدو مكتوبا من يد واثقة مما تفعل ، الحروف فيه منتظمة معتدلة تبدو كأنها تتهادى على صفحة الورقة الملساء ،
انظباط الزوايا و نعومة الانحناءات جعلت منه أكثر من مجرد كلام مكتوب ،
جعلت منه شيئا جميلا يستحق التأمل بإعجاب
و كونه رجلا يقدر قيمة العمل اليدوي بأنواعه فقد سرق بضع ثواني من الزمن ليستمتع بجمال هذا الخط.
كانت الكلمات على عكس الخط الدافئ باردة عملية عبارة عن تخطيط بالساعة و الدقيقة لمجموعة من المواعيد و الأعمال.
"مزيد من المعلومات عن استخراج أوراق ثبوتية لشخص أجنبي " كانت هذه هي الكلمات الوحيدة التي أثارت انتباهه.
أوراق ثبوتية لمن ؟
أكيد لأحد اللاجئين الذين وفدوا إلى بلادهم و الذين كانت كاميليا توليهم حيزا متناميا من وقتها و اهتمامها.
سيجعل أحد مساعديه يتكفل بكل هاته المواضيع ، و هو إن لم يكن وقته يسمح بتدخله الشخصي فلن يبخل ماديا
فلتكن صدقة جارية على روحك الطيبة الجميلة يا كاميليا.
طرقات هادئة على باب غرفة مكتبه عادت به إلى الواقع.
- ادخل ، أمر بصوت عال و هو مازال يقلب الأوراق بطريقة آلية
أطلت عليه مدبرة منزله بوجهها الذي لا يشي بسنوات عمرها التي قاربت الستين.
- سيد ماهر ، الآنسة ليلى وصلت و هي في الردهة الآن
- أدخليها من فضلك
كان في انتظارها ، طلب منها الحضور لأنه كان يشعر بعد كل تلك السنوات التي قضتها في خدمتهم ، بأنه نوعا ما مدين لها بمكافأة.
هذا بكل تأكيد ما كانت كاميليا لتتوقعه منه.
دخلت عليه ، لا يذكر أنه رآها وحدها من قبل و لا أنه رآها بهذا الشكل ،
كل شيء فيها ينطق بالحزن : نظراتها ، حركاتها ، لون ملابسها الذي أبرز شحوب وجهها.
كانت حزينة بالفعل ،
و لا عجب فقد كانت كاميليا بالنسبة لها أكثر من ربة عمل.
كانت صديقة كذلك ، ربما الوحيدة ، فكر و هو يومئ إلى المقعد أمام مكتبه و يشير لها أن تجلس ،
لم يعرف و لم يفهم أبدا سر تشبث كاميليا بها طوال تلك السنوات .
قلّبها بنظره يحاول اكتشاف ما المميز فيها.
لا شيء هذا ما قالته له عيناه ، فعلى ما يبدو هو لا يملك نظرة زوجته الثاقبة.
بالنسبة له هي مجرد فتاة عادية أخرى.
هادئة ، منكمشة في مقعدها ، تكاد تتكور على ذاتها .
كلا لم تبدو له مميزة بالمرة.
راقبها و هي تتفقد المكان من حولها .
كثيرا ما كانا يراهما تفعلان هذا الشيء أو ذاك ، هنا و هناك.
أعاد النظر إلى الفتاة فوجدها تعض على شفتيها تحاول أن تمنع ما لا يُمنع :
- أنا آسفة ، قالتها قبل أن يحصل ما كان يخشاه و يراها تنهار أمامه
أنا آسفة ، آسفة ، همست و هي مغمضة العينين تاركة لدموعها العنان ، لا أستطيع أن أصدق أنها لم تعد موجودة
أشاح بنظره بعيدا عنها ليترك لها الفرصة لتتمالك نفسها قليلا قبل أن يسمعها تقول كأنها تحدث نفسها :
- كان من المفروض أن أكون أنا مكانها ، كان اقتناء الزهور من مهامي لكني كنت في إجازتي ، ليتني كنت أجّلتُها ، ليتني كنت أجّلتُها
التفت ليقلّبها ثانية بنظراته قبل أن يقول بجفاء :
- الذي حصل قد حصل آنسة ليلى ، أسفي أو أسفك أو أسف أي حد لن يغير من واقع أن أجلها قد حان ، هل هذا ما سنفعله الآن ؟ نعترض على قدر الله ؟
هزت رأسها نافية و هي تخفض نظراتها إلى الأرض .
ضمّ شفتيه و هو يُذكِّر نفسه ما الذي كانت تعنيه زوجته لها ، لم تكن فقط صديقة بل كانت كذلك تمثل لها الأمان المادي و ربما المعنوي كذلك ، قال لها بهدوء عملي :
- آنسة ليلى ما هي خططك للمستقبل ؟
- خططي للمستقبل ؟ رددت بعدم فهم قبل أن تهز رأسها نافية عدة مرات كأنها تبعد عنها تهمة ما ، كل شيء على ما يرام سيد ماهر ، أرجوك لا تشغل نفسك بأمري
يشغل نفسه بأمرها ! لا ينقصه إلا هي حتى يشغل نفسه بها.
المسكينة لا تعرف أنه سينسى كل شيء عنها مع انغلاق الباب خلفها.
ربما كان من الأفضل أن يجعل أي اقتراح من أجل مساعدتها ماديا عن طريق شخص آخر أو في رسالة خاصة حتى لا يشعرها بالحرج.
التفت إليها فوجدها تنظر إليه مباشرة لأول مرة ، أدهشه ذلك التعبير المرتبك المتردد في عينيها :
- هل هذا كل شيء يا سيد ماهر ؟
قطب جبينه قليلا و هو يتأملها بنظرات متفحصة ثم سألها بطريقة مباشرة :
- لماذا ؟ هل هناك شيء معين كنت تتوقعين أن أطلبه منك ؟ شيء يتعلق بكاميليا ؟
تحاشت نظراته و هي تجيب بصوت خفيض تحاول إخفاء تلعثمها :
- فقط ظننت أن حضرتك ربما كنت تحتاج أن ، أن تسألني عن شيء يتعلق بعملي أقصد بعملك
تنفست بعمق و هي تضيف بصوت أكثر اتزانا :
- ما أقصده هو أنه إذا طرأ أي أمر أستطيع أن أساعد فيه بطريقة ما ، تأكد حضرتك أنه سيسرني أن أفعل .
صمتت قليلا قبل أن تضيف بسرعة :
- دون مقابل طبعا ، فقط من أجل خاطر كاميليا
- سأتذكر عرضك ، قالها و هو يهز رأسه باقتضاب
راقبها ترحل و هو يتمنى لو لم يستدعيها.
كل ما فعلته هو أنها جعلت ضيقه أكبر.
كلماتها و التعبيرات التي صاحبتها كانت غير متوقعة كأنها كانت شبه متأكدة أنه سوف يحتاج إليها.
فكرة مقبضة خطرت له و هو يغلق الباب خلفه.
هل من الممكن أن هذه الفتاة التي كان بالكاد يلحظها تعرف عن زوجته أكثر مما يعرف؟
ابتسامة مريرة سرقت طريقها إلى شفتيه و هو يسأل نفسه :
ترى ماذا
و كم
كنت تخبئين عني يا كاميليا؟