من الغريب أنه بكلمة واحدة ينهار عالم بأكمله من السعادة و الأحلام ، لكن كان عليها أن تعرف أكثر.
الآن فقط شعرت بأنها تفهم كل شيء ، إصراره الغريب على تناولها لتلك الحبوب و تذكيره الدائم لها بها ، عدم نطقه لكلمة حبيبتي و لو بالخطأ ، كان يناديها حياتي ، روحي لكن أبدا يا حبيبتي.
لم يكن لديها شك في أنه يستمتع بوجودها في حياته ، لكن كلامه و تصرفه معها الآن يدل على أنه لم يفسح لها مكانا في قلبه.
لأنه لا يمكن أن يحب إنسان إنسانا آخر ثم يتعمد جرحه بكل هذه القسوة و بكل هذا الإصرار.
نقلت نظراتها بين حقيبتها الفارغة و دولابها المليء .
ابتسمت لنفسها في المرآة التي تتوسطه ، ابتسامة تسخر فيها من نفسها.
لأنها بالطبع لن تأخذ شيئا .
ما الذي من الممكن أن تأخذه و يعوضها بعد أن أعطت ما لن تستطيع أبدا استرجاعه : باكورة مشاعرها ، رحيق أنوثتها و جزءًا من روحها .
نزعت خاتمها ببطء و هي تتذكر تلك اللحظة التي ألبسها إياه ، لحظة ظلت تعيش على ذكراها طويلا ، لحظة قصيرة نسجت منها ساعات طويلة من الأحلام .
نعم كان عليها أن تعرف أكثر ، ما عاشته معه هو حلم و كل الأحلام إلى نهاية ، إلى زوال .
التفتت لمرة أخيرة تتأمل الغرفة التي ضمت أجمل لحظاتها معه ، تأملت بسكون الحقيبة المفتوحة الفارغة التي تتوسط الفراش و لم تحاول إعادتها إلى مكانها أو حتى إقفالها لأنها تذكرها بنفسها و هي تغادر خاوية خائبة ، مكشوفة أمام الجميع ، الأعداء قبل الأصدقاء.
……………………………………………..
لم تستطع البقاء حتى انتهاء دوامها ، استأذنت بعد فسحة الغذاء و توجهت مباشرة إلى مقر شركة والدها البسيطة .
وجدته كعادته غائبا عن مكتبه ، يتابع كل كبيرة و صغيرة مع العمال.
سامحني يا بابا طوال عمرك تتحمل الكثير من أجلنا و أنا الآن سأثقل ظهرك أكثر ، سامحني يا أبي لكني لا أستطيع العيش و أنا مهانة.
لا تدري كم مر عليها من الوقت جالسة تنتظره في غرفة مكتبه الصغيرة حتى أيقظها القلق في صوته من غفوتها.
- خيرا يا ليلى ؟
- خيرا إن شاء الله
تبادلا النظرات الصامتة للحظات ثم قالت و هي تخفض عينيها :
- سؤال واحد أريد أن أسألك إياه يا بابا ، سؤال كان المفروض أن أسأله إياك منذ زمن ،
أنا أم الناس يا بابا ؟
كرامتي أم رأي الناس يا بابا ؟
أغمض والدها عينيه وهو يثقل قلبها بهزّتين هادئتين من رأسه كعادته دائما.
أخيرا رأته من خلال دموعها ينظر إليها و سمعته يقول لها ببطء :
- هل يجب أن أتدخل يا ابنتي ؟
الغصة في حلقها منعتها من الكلام لذلك اكتفت بتقليده و هزت رأسها نفيا.
- بابا ، استطاعت أن تتكلم أخيرا و هي في طريقها معه إلى البيت ، أفهم أمي أني لست مستعدة للكلام الآن
مرة أخرى هز رأسه بصمت و هو يركز نظره على الطريق .
…………………………..
أخيرا و بعد أن أخذت كفايتها من النوم الذي لم تنله منذ طعنها بكلماته و غادر ، أخيرا تجرأت و فتحت هاتفها.
انهالت عليها التنبيهات ، كلها تقريبا من اسمه و رقمه .
كانت تتسلى بمحوها حين ظهرت صورته على شاشتها.
- أين أنت الآن يا ليلى و لماذا أغلقت الزفت هاتفك ؟ هكذا أصبح أسلوبه في الكلام معها : دون سلام و لا كلام و لا احترام.
هل كان ليتكلم هكذامع كاميليا أو مع أي امرأة يراها من مستواه ،
الآن فقط عرفت أنها لم تتجاوز كونها "البنت" ليلى بالنسبة له .
- أنا في بيت أبي الآن ، أجابته بخواء
ساد صمت مشحون قبل أن تسمعه يقول بتوتر :
- لماذا غادرت المنزل بتلك الطريقة ؟
- بأي طريقة المفروض أن أغادره .
أجاب سؤالها بسؤال آخر :
- هل هذا هو ما تفعله بنات الأصول ؟
- ليست لدي أي فكرة لكن أعدك أني عندما أقابل واحدة منهن سأسألها.
أغلق المكالمة في وجهها و هو يترحم على أيام زمان و هواتف زمان ، عندما كان الرجل يقفل الخط ثم يمسك السماعة ، يدُقَّها في مكانها عدة مرات حتى يهشمها .
هذه الهواتف لم تخلق من أجلنا يا جنتلمان ، تمتم و هو يكاد يسحق السجادة تحت أقدامه .
في غرفتها ، كانت ليلى مترددة بين إغلاق هاتفها أو انتظار مكالمته الثانية حين انطلق الرنين ثانية .
- هل نقول الحمد لله على السلامة ؟
- على ماذا بالضبط ؟ سألته و هي تعقد ما بين حاجبيها
- على عودة عقلك ، هذا إذا كان قد عاد
كادت تبتسم لولا أن آثار صفعته على قلبها قبل خدها منعتها. لكن إن كان الباشا يريد أن يقلبها مزاحا فهي لها ، هي من تعودت على الضحك في عز نزيف قلبها .
- لا أعرف لم يتعود أن يستأذنني و هو يدخل و يخرج
ساد نفس الصمت المشحون ثانية قبل أن تستمع إلى صوته أكثر تحكما و هو يقول :
- سأسألك للمرة الأخيرة يا ليلى : لماذا غادرت ؟
- على ما أذكر حضرتك كنت معي في نفس الغرفة عندما أخبرتني أنك لم تكن تنوي أن تحتفظ بي
، كل ما فعلته أنا هو أني وفرت عليك التعب و الإحراج .
- تعرفين جيدا يا ليلى أني لم أقصد ما قلته
قالها بعمق أثر فيها رغما عنها .
- لكنك قلته ، أجابته بهدوء
- نعم قلته بعد استفزازك لي يا ليلى
- و صفعك لوجهي ، لم تقصده كذلك ؟
- تلك الصفعة كانت جزاءًا على تكلمك معي بتلك الطريقة و استعدي لصفعات غيرها كلما نسيت نفسك معي.
- و أنت تتصل بي الآن لتبشرني بمزيد من الصفعات ؟
سمعته يزفر بغضب قبل أن يقول ببطء :
- أنا أتصل بك لأنصحك أن تستمعي إلى صوت العقل ، صمت قليلا ثم واصل بتردد ، خاصة أنك من الممكن أن تكوني حاملا
- لست حاملا ، أكدت له و الخواء يغادر صوتها ليسكن بداخلها
- توقعت ذلك
- ما دمت تعرفني إلى هذه الدرجة فلا شك أنك تعرف في أعماقك أني لن أعود
لذلك أرجوك أن تنساني كما سأنساك ، انساني كأني لا أهمك في شيء و لا أظنك ستبذل مجهودا في هذا
- و الناس ؟ سألها بتهكم لاذع ، الناس الذين فعلت من أجلهم كل هذا ألم يعودوا يهمونك ؟
- طوال عمري أفعل كل شيء من أجل الآخرين ، هذه المرة سأفعل ما أفعله من أجل نفسي ، قالتها و مع آخر حرف ضغطت بإصبعها تنهي الاتصال .
…………………………….