بعد قليل كانت السيارة تنساب بهما في ثنايا الليل الهادئ .
و تماما كما فعل خلال رحلة الذهاب ، التزم الصمت.
صمت اضطرت لمشاركته معه هذه المرة بعد أن فضلت ميْ المبيت في بيت جديها .
- ماهر ، قطعت السكون أخيرا و هي تناديه بصوت متردد ربما لأنها تنطق اسمه أمامه لأول مرة.
- اُؤْمُرِيني
ضاعت حروفها و هي تحاول السيطرة على خفقان قلبها ، قلبها الذي دائما ينسى جميع ما لقنته إياه و يرمي نفسه بلهفة بين كفيه عند أول بادرة دفء ، عند أول لمحة حنان .
- ماهر ، أريد منك أن تتصل بأختك و تصالحها
- تريدين مني أنا أن أتصل بمهى ؟!
نظرت نحوه بقلق ، هل كلماتها أوجعت عجرفته ، هل سيعود لبروده معها الآن .
اختفت مخاوفها مع ظهور ابتسامة خفيفة على شفتيه و هو يقول :
- الآن فقط اكتشفت السر وراء صداقتك بكاميليا ، كلاكما مصابتان بنفس الداء : متلازمة مراعاة الآخرين
- أرجوك ، ماهر ، أنت لا تعرف معنى أن تبيت الفتاة مجروحة من أخيها
شجعها صمته فقالت بتلقائية
- أرجوك ، من أجلي ، صالحها
استمر في سكوته و بدأت تلوم نفسها على جرأتها في اختيار كلماتها حين فوجئت به يلتفت إليها لدى توقفهما عند الإشارة الحمراء .
لمس خدها برفق ثم قال لها و الدفء يغمر صوته و نظراته :
- من أجلك أنا مستعد لفعل أي شيء
سأتصل بها في الغد و لكني لن أصالحها إلا حين تصالحك أولا ، أكمل و هو يعاود الانطلاق ، انطلق و هو لا يعلم أن العالم كله قد توقف من حولها
أخرجت نفسها من حالة التوهان التي حبستها كلماته فيها و بدأت تتكلم ،
تقول أي شيء عن أي شيء.
و كما هو متوقع جاء كلامها نصفه بلا معنى و نصفه الآخر بلا طعم
و لكنها لم تبالي ، المهم كان هناك كلام .
دخلت البيت و هي مستمرة في ثرثرتها الفارغة .
سبقها بخطواته الواسعة و وقف يعلق سترته الخفيفة قرب بداية السلم .
- تصبحين على خير ، سمعته يقول مخرسا لها ، مذكرا إياها بوضعها معه.
كبحت سيل كلماتها فجأة و هي لا تريد أن تزعج الباشا أكثر ، لكنها لم تستطع هذه المرة أن تكبح دموعا هربت من مآقيها و ضببت مجال الرؤيا أمامها .
سارت بسرعة لتصعد السلم ، تريد أن تفر من أوهامها ، من جرح آخر لقلبها.
حين وصلت إلى حيث يقف ، رفعت عينيها إليه في نظرة وحيدة ،
نظرة حَمَّلت فيها استسلامها ، يأسها و كل تعبها منه قبل أن تهمس له تعاتبه ببقايا صوتها :
- تصبح على خير
سمعته يجذب نفسا عميقا ثم شهقت عندما وجدت نفسها فجأة في الثانية التالية بين ذراعيه ، يضمها إليه بقوة ، يضمها بعنف ، يضمها بلهفة.
يسمعها كلمات لم تجرأ حتى أن تحلم بها ، كلمات سافرت غير مبالية بحدود الزمان و المكان ، لتذيب قلبها و تغمر وجدانها :
- لا أستطيع أن أكابر أكثر ، لا أريد أن أكابر أكثر
أنت زوجتي يا ليلى ، لا أريد سواك
لا أستطيع أن أفكر في امرأة غيرك يا ليلى
لا أستطيع ، لا أستطيع
ثم لم يعد راغبا في مزيد من الكلام .
رفع وجهها إليه يمسح برقة دموعها الدافئة التي أغرقت وجهها ، يسترضي جفنيها المغمضتين .
ثم دفن وجهها في صدره يسكت شهقاتها قرب قلبه كما تمنى مرارا أن يفعل ، كما فكر مرارا أن يفعل ، كما تاق مرارا أن يفعل منذ أن رآها تبكي بسببه تلك المرة ، ذلك الصباح ، تلك اللحظة التي دخلت فيها إلى أفكاره و رفضت أن تغادرها .
أخيرا ابتعد عنها يتأملها ، يحاول أن يفكر بعقلانية في ما يفعله الآن و عواقب ما سيفعله.
و لكن أي عقلانية و هي بقربه أخيرا.
أي عقلانية و هو يشعر بها ترتجف ثم تهدأ و تستكين كأنه مسكنها الذي وجدته بعد ترحال طويل.
ضمها إليه أكثر و أقوى يحاول أن يسحق الشوق الذي سيطر عليه كما لم يسيطر عليه أبدا من قبل ، أبدا ، حتى مع ....
كلا لا يجب أن يفكر بها الآن ، ليس في هذه اللحظة
الآن من حقه أن يكون نذلا ، من حقه أن يركز على هذه المرأة التي معه في هذه اللحظة.
حاول أن يخنق ضميره و هو ينحني ليهمس ثانية في أذنها .
فتحت عينيها فجأة و هي تسمعه يقول لها كلمة أخرى لم تنتظر أن يقولها لها ، لم تتوقعها في هذه اللحظة :
- و أخيرا يا كاميليا ، و أخيرا
............................................................ .......................
.............................................
......................