كاتب الموضوع :
ام حمدة
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: يوم اللقا تاهت عناويني ( اماراتية ).... بقلمي \ ام حمدة
الفصل الثاني والعشرين........
تجبرنا الحياة أن نخوض غمارها مجبرين أو مطيعين فنلوذ لها خانعين.
نسير بغياهيبها على أمل النجاح، فمهما تكالبت علينا الأيام فالنور سيشع في طريقنا مهما طال به الوقت.
أكررها.. وأعود وأكررها.. ((إن بعد العسر يسرى))
عليك عدم فقد الأمل وعليك التمسك بكل قوتك بأنك ستنجح لا محال.
تقدم للأمام بأفق واسع، وإن كنت ضيق العقل والفكر والروح فحتما ستفشل!!.
دع ايمانك وتوكلك للذي خلقك فهو أدرى بما يخبئه لك، وثق بأن ما قيل هو الصحيح.. (( فعسى أن تكرهوا شيء هو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيء هو شر لكم)).
فآمن بأن الله معك مهما كانت المصائب التي تحيط بك، واعلم بأن خلفها حكمة نحن لا ندركها، علينا فقط السير قدما بحياتنا وأن نعتبر، وأن لا نلتفت للماضي، فما حدث قد حدث ولا يفيد الندم أو قول كلمة لو... .
فالشمس تشرق كل يوم، بمعنى أن الحياة في كل يوم تتغير ولا تعلم بما ينتظرك،
لكن هذا لا يعني أن نضع يدنا على خدنا وننتظر الفرج، عليك بالسعي خلفه وأن تثابر وتقاتل بسبيل العلو والنجاح.
سر بطريقك قدما، وضع هدفك نصب عينيك، وعليك بالنظر للأمام فمستقبلك ينتظرك، فقط عليك أن تفتح له المجال للعبور.
وأخيرا.. الأمنيات ليس من الصعب تحقيقها، فقط عليك أن تصبوا لتبلغ هدفك، وستنجح بإذن الله، وأن لا يأس مع الحياة .
*********************************
تسير بخطى واثقة وثابتة لن تتزحزح عن هدفها مهما جار عليها الزمن، فقد صممت ووضعت هدفها ولن تذود عنه.
رنين كعبها المنخفض يضرب بالأرض بصلابة يعلن عن قوة صاحبته، وعباءة سوداء تلتحف جسدها مخفية إياه عن العيون المفترسة، وشيلتها تلفها باحكام على رأسها مغطية تاجها من تلك الجمرات التي توعدها الله لمن تظهرها للجميع.
بين يديها شيء حلمت بحملها وها هي الآن تنام براحة على ذراعيها، وحقيبة متوسطة الحجم توسدت كتفها.
مشت إلى أن وصلت ووقفت تتطلع بالمكان إلى أن وجدت هدفها تلوح لها.
- عنود... عنود....
لوحت لها صديقتها شهد فسارت ناحيتها بابتسامة مشرقة، سلمت على الفتيات الباقيات ومن ثم جلست بمكانها تتسامر معهن إلى أن تبدأ ما جاءت لأجله، وما هي إلى ثوان حتى دخل أستاذ الحصة وبدأ محاضرته بعلم الأحياء، فعمى الهدوء المكان، والعيون انصبت للأمام، والأقلام تحركت مع كل كلمة يلقيها الأستاذ، ومر الوقت ما بين شرح وأسئلة وكتابة حتى انتهت الحصة وخرج تاركا خلفه طلابا قد اختزنت عقولهم العلوم الكثيرة.
فلعلع صوتها عاليا:
- حشى... ما بغينا يخلص، المادة صعبة وايد.
هتفت شهد وهي تغلق كراسها وتلتفت لصديقاتها، فأجابتها عنود بهدوء وهي أيضا ترفع أقلامها وكتبها لتضعهم في حقيبتها:
- نعم المادة صعبة شوي، بس مع المذاكرة بتكون سهلة إن شاءالله.
لتقاطعهم ميثة قائلة بتأفف هادئ:
- أف.. علينا بعد شوي محاضرة أبو عيون زايغة.
قهقهت الفتيات بمرح للقب الذي أطلقوه لاستاذ الرياضيات، فهو من النوع الذي يناظر الفتيات بوقاحة دون أي اعتبار للحشمة.
فقالت ميثة بصوت خفيض:
- الحمدالله إني مب حلوة وايد علشان يطالعني.
لتردد شهد أيضا نفس عبارة صديقتها:
- وأنا بعد الحمدالله، أنا حلوة وقمر وعسل بس مب ذاك الزود، مب مثل بعض الناس.
وأشارت ناحية صديقتها وأكملت:
- أم العيون الخضر، والشفايف الحمر، والجسم يلي مثل العود، و.... .
قاطعتها العنود بحواجب مرفوعة:
- أجوفج صرتي شاعرة وقاعدة تتغزلين؟؟.. أقول اسكتوا أحسن لكم وخلونا نطلع ونروح الكافتيريا، أنا يوعانة.
وخرجت الفتيات وسط المزاح والضحك إلى أن توقفوا بعد أن وقف أحدهم بطريقهم.
- السلام عليكم
- وعليكم السلام، شخبارك استاذ خليفة؟؟
أستاذ خليفة رجل وسيم بمعنى الكلمة، أسمراني، وعيونه بنية، وخشمة طويل، ولحية خفيفة ومحددة زادت من وسامته، جسمه معتدل الحجم يعني لا ضعيف ولا سمين يمارس الرياضة كل ما حصل وقت، عمره 29 سنة، مدرس بجامعة الطب.
جاوبها وعيونه تسترق النظر لمن سرقت النوم من عينيه من أول مرة شاهدها فيها:
- أنا الحمدالله بخير، إنتوا شخباركم؟؟.. واشلون الدراسة معاكم؟؟.
لتتبرم شهد قائلة:
- الدراسة أرف والحمدالله، وبعد شوي علينا استاذ أبو عيون زايغة.
استغرب الاستاذ الاسم وقاطع تأمله والتفت سائلا تلك الفتاة المشاكسة، فشهد انسانة مرحة جدا وعفوية، ولسانها كما يقال متبرى منه، وميثة فتاة هادئة وخجولة، أما تلك الصامتة ذات الجمال الوحشي قد سلبت عقله منذ أن وقعت عيناه عليها، هي هادئة وصامتة مع الجميع، وتتحدث فقط إن كان ضروريا ويخص الدراسة، كان يعتقد بأنها هكذا دائما، لكنه اكتشف بالصدفة بأنها تختلف عما تبديه أمام الجميع، فهي تمتلك أجمل ضحكة سمعها بحياته، ولديها تلك الحركة بشفتيها جعلته يحلم بها في يقظته، فقناع البرودة لا ترتديه سوى أمام الكل وبغياب الجميع هي تتبدل وتتحول لتكون تلك الفتاة الفاتنة.
- مين هذا أبو عيون زايغة؟؟
- استاذ الماث في حد غيره.
ابتسم للتشبيه وسقطت عيناه على تلك الساكنة التي تقف بتململ واستطرد مجيبا شهد:
- عيب يا شهد تقولي هذا الكلام، الريال كبير بالعمر وبسن أبوج.
- أبوي ما يطالع البنات، وهو انسان محترم مب مثل ها الشايب يلي بينه وبين القبر شبر وبعده متأمل بخيرات رب العالمين.
هز رأسه دون أمل بتلك الفتاة وأجابها:
- ما عليه تحملوه شوي، أصلا وصلتنا شكاوي كثيرة عليه، والادارة تبحث بموضوع نقله.
عادت عيناه تتابع تلك الواقفة بجمود وشرود دون أن تبدي أي رأي مثل باقي زميلاتها، فأراد أن يستمع لصوتها، أن يسمع همسها، لكنها كانت الأسرع وقد بخلت عليه كما كل مرة بروي ضمأه.
- اسمحولي أنا بروح الكافتيريا قبل لا تبدأ المحاضرة الثانية.
وغادرت دون أن تنتظر اجابة أو أي حرف فتبعتها صديقتيها بقلة حيلة، ليتنهد بضيق من رحيلها دون أن يشبع ناظريه بجمالها الأخاذ، وأدار رأسه للخلف ليراها تسير بثقة وغرور يليق بملكة مثلها، وهمس لنفسه بصوت عالي:
- صدق يوم قالوا اسم على مسمى.
وأكمل الباقي بداخله:
- ما راح أيأس يا عنود، وإذا الله كتب راح تكوني لي.
وغادر باتجاه مكتبه والأمل بداخله يكبر ويتسع بأن تكون تلك الفتاة من نصيبه.
*******************************
- انت جنيتي يا عنود؟؟
هتفت بها شهد وهي تحاول اللحاق بصديقتها الغبية التي تفلت من يدها كنز لا يفوت، فكما تقول... الرجال أمثال الاستاذ خليفة قليلون، فهي تعرفه جيدا فهو يسكن مع أسرته بالمنطقة المجاورة لهم والجميع يمدح بأخلاقه والكل يريده زوجا لإحدى بناتهم.
توقفت عنود عن السير والتفتت تحدج صديقتها وسألتها:
- ليش؟؟... وأنا شو سويت علشان تقولي إني خبلة؟؟
- يعني الريال واقف عندج ويبي يكلمج وانت ولا حس ولا خبر!!... يعني أكيد مب واقف علشان سواد عيونا احنا الثنتين!!.
وأسبلت رمشيها تريها عيونها السود لتقهقه العنود وميثة لحركتها تلك، وبعدها قالت عنود بعد أن اتخذت الجدية بالحديث:
- شو كان المطلوب مني؟؟.. يعني أتكلم معاه وأضحك وأتغزل فيه؟؟.
فتحت شهد فمها فقاطعتها عنود متابعة:
- اسمحيلي يا شهد، إن كنتي تبين الصح من الغلط وقفتنا معاه جذا غلط، على أي أساس نوقف ونضحك معاه جذا؟؟.. هو مب من محارمنا علشان ناخذ راحتنا معاه، هو ريال غريب عنا، وهو مب من حقه يوقفنا ويكلمنا إلا إذا شي يخص الدروس وبس، غير جذا يعتبر حرام.
لتستأذن ميثة بالحديث قائلة:
- اسمحيلي يا عنود كلامج صحيح، وصح الصح، بس احنا عارفين هو ليش يوقفنا ويكلمنا، مب علشانا هذا علشانج انت، وكلنا عارفين انه معجب فيج، بس انت الله يهداج ميبسة راسج ورافضة الزواج.
اقتربت شهد من صديقتها وأحاطتها من كتفها هامسة لها بحنان، وتلك الأخرى تعلقت عيناها للأمام بشرود:
- حبيبتي عنود، انسي يلي راح وارميه بحر مثل ما يقولون، والريايل مب كلهم واحد، وفي مثل حشرتني فيه أمي علشان أتزوج إن "أصابعج مب مثل بعض".
تصلب جسدها لذكراه، وعيون تجمدت بمحجرها، والصور تعود وتتهافت بداخلها، والألم يعود ويزور خافقها، فنفضت رأسها غير راغبة بالغرق ببؤسها، وقالت ببرود ثلجي شعرت به صديقتيها:
- أنا عارفة إن الريايل مب كلهم واحد، بس أنا وحدة، ونفسي عافت هذا الصنف وما في ببالي غير دراستي وبس، وبإذن الله أنجح وأحقق حلمي، وغير جذا ما في مجال لأي شخص يدخل حياتي، وألحين ممكن نقفل على الموضوع.
تحركت ثم توقفت وسألت شهد:
- أقول تعالي هنا، قاعدة تنصحيني بالزواج وإن الريايل مب مثل بعض وحضرتج رافضة تتزوجين!!.
لتجيبها :
- أولا.. أنا مب رافضة الزواج لأي سبب، أنا رافضة للرياييل يلي يجون ويخطبوني، يلعن شكلهم يعني مافي ولا واحد يتشاهد.
ثم أكملت بحالمية:
- لو يجيني واحد... جميل، وسيم، عليه جسم معضل يقدر يشيلني ويدور فيني مثل الأفلام الهندية، ويكون مثقف علشان يتغزل فيني ويكتب فيني أشعار.
وعادت تتخذ ملامحها الاشمئزاز:
- استغفر الله كلهم خلقة رب العالمين، لكن ولا واحد جا يخطبني ويكون حلو شكله، ولو جا واحد مثل الدكتور خليفة يتزوجني على طول أوافق وأبصم عليه بالعشرة بعد.
ضحكت الفتيات وتحركوا مغادرين إلى مطعم الجامعة.
مر الوقت سريعا وانتهت محاضراتها وانطلقت عائدة للمنزل بعد أن ودعت صديقتيها على وعد باللقاء غدا.
وقادت سيارتها نحو وجهتها، لكن عقلها عاد يدور بحلقات وحديث صديقتها يتردد صداه بداخلها، ناظرت الطريق فقاد بها للماضي حيث علمت بالطريقة الصعبة أن العالم ليس كل أيامه مرح وسعادة، وأن يوم لك وعشرة عليك، وقد جاء ذلك اليوم الذي يوقظها من حلمها الجميل الذي طال وقته، فسافرت لذلك اليوم الذي أنهى كل شيء، أي قبل ثلاثة أشهر مضت.....
كانت تجري تسابق الريح، كانت تركض تنقاد لقلبها، فحبها هناك ينتظرها لتهمس له بكلمات العشق والوله، لتقول له ما يجيش بصدرها من أحاسيس، ولكنها بوغتت بقنبلة لم تعلم بأنها ستنفجر بوجهها في يوم من الأيام....
- إزيك يا عنود؟؟.. وحشتيني وؤلت آجي وأزورك طالما انت معدتيش تزورينا، طبعا ما انت شوفتي نفسك فوق أوي وما عدتيش تبصي لتحت.
التفتت ببطء ناحية الصوت وهمست باسمها وقلبها قد انقبض وانكتم بإحساس فضيع بأن القادم سيكون القاسم بحياتها:
- ابتسام..
شهقت بتمثيل الصدمة وقالت وهي تتكتك بلسانها:
- تؤ..تؤ.. هو انت لحئتي تنسيني؟؟.. اخص عليك!!.. وده بينا عيش وملح، وتنسيني بالسرعة دي؟؟.
كتمت أنفاسها وقلبها يدوي بصدرها كدوي الرعود كأنه ينبئها بالعاصفة القادمة.
- وشتسوين هنا يا ابتسام؟؟
- لا.. لا كدا بنت الأصول تستأبل ضيوفها؟؟.. أنا لازمن أؤول لحسن جوزي على الاستئبال ده.
فتذكرت أنها قد تزوجت عمها لهذا أجابتها تريد الانتهاء من وجودها، فزيارتها شعرت بها تجثم على صدرها:
- عمي ما هو موجود، وأظن الأفضل إنج تروحين على بيتج وتتريه هناك أحسن.
فالتفتت عنود مغادرة ولم تنتبه لكمية الغل الذي ظهر على صفحة وجه عدوتها، وإلا لكانت قد نفذت بجلدها من مصيدتها التي أودت بسعادتها نهائيا.
فقالت ابتسام بسرعة توقفها قبل أن تغيب عدوتها وتضيع فرصتها بالانتقام:
- جوزك عارف انت ليه وافقتي على الجواز وانت عرفه انه كبير أوي عليك بالسن؟؟.
ونالت مبتغاها بعد أن توقفت غريمتها عن التقدم والتفتت ناحيتها باستغراب لهذا السؤال، ثم كتفت ذراعيها وقالت بسأم:
- ابتسام.. انت شو تبين بالضبط؟؟.
- ولا حاجة، بس حرام جوزك المسكين نايم على ودانه ومش عارف مراته هي تجوزته علشان.... فلوسه.
- هذا الموضوع انتهينا منه من زمان.
- يعني عاوزة تؤليلي إنك ما تجوزتهوش علشان فلوسه ؟؟.
تنهدت عنود بتعب وقالت:
- انت على وين تبين توصلين؟؟.
- طيب جاوبيني بالأول وبعدها حؤولك.
ولم تعرف ولم تراه وهو يقف خلفها والصدمة بادية عليه، فالخداع فن من فنون الحرب وإن لم تنتبه لظهرك فالطعنة ستأتيك من حيث لا تعلم، ولم تعلم بأنها نالت مبتغاها برؤية زوجها يسير ناحيتهم لتستغل الفرصة وتضرب عصفورين بحجر واحد.
- أيوه... أنا تزوجته علشان فلوسه، وانت عا.... .
أغمضت عيناها باعياء وكأن تلك الذكريات قد سلبتها كل طاقتها، ووجع شديد اعتصر فؤادها، وعندما أفرجت عن عقيقها الأخضر المشبوب بمشاعر شتى حتى أحست بالبلل على وجنتيها لتكتشف بأنها كانت تبكي.
تطلعت لما حولها وشاهدت نفسها وقد وصلت لوجهتها دون أن تشعر بذلك، وحمدت الله بأنها لم تتسبب بأي حادث تودي بأرواح أناس لا دخل لهم بما يحصل معها.
ترجلت من سيارتها بصعوبة وسارت بخطى طفل صغير قد تعلم للتو السير وخائف من التقدم للأمام والسقوط، ولم يكن هذا فقط ما يصيبها بالجزع فعندما تفتح البوم الصور فإنها لا تتوقف عند صورة معينة بل تتابع التقليب بين صفحاته لتعود وتنهال عليك أحداث قد أردت أن تطويها في ذاكرة النسيان، وتلك الكلمات التي قتلتها بدم بارد تعود لترن برأسها كأنها حدثت بالأمس فقط...
كان أن ناداها يسألها الحقيقة، ولكنه أغلق عيناه وأذنه عن سماعها، فقد اكتف فقط بما قيل ولم يستمع لها.
اقتربت منه تترجاه الانصات فرفض قربها، توسلته أن يتفهم موقفها، لكنه أبى إلا الاصغاء لما أراد سماعه وانتهى كل شي بلطمة أطاحت بها الأرض مكسورة وذليلة تحت قدميه، فظلت لثوان مصدومة تحت تأثير المفاجأة وبعدها عادت حواسها للعمل بعد أن تحرك مغادرا لتمسك بدشداشته .
- الله يخليك يا حمدان!!.. خلني أفهمك الموضوع وبعدين احكم.
فناظرها من عليائه وأجابها ببرود طغى على وجدانها:
- أفهم!!... شو يلي تبين تفهميني؟؟.. إنج يعني ما تزوجتيني علشان الفلوس؟؟.
نفض يدها وسار خطوتين وعاد يتوقف عندما تقدمت أمامه تمنعه الرحيل، وناظرت عيناه لعلها ترى من وقعت بهواه بداخلهما، لكن كل ما شاهدته هو عينان قد اجتاحها الجليد، وعندما عاد يسألها تجمدت عن الحركة وازدرت ريقها بصعوبة ولم تعرف ما تقوله لتدافع به عن نفسها، فزعق بها:
- جاوبيني... يعني يلي قالته خطأ؟؟... يعني انت ما تزوجتيني إلا علشان اللفلوس!!.
فحركت شفتيها دون أن تخرج صوتا وهي تهز رأسها رافضة ما يحدث:
- بـ.. أيوه..
أغمض عيناه بألم وحرقة تكوي به فؤاده فسارعت بعدما هالها منظره المعذب:
- الله يخليك اسمعني بالأول وخلني أقولك شو هي السالفة.
تركها بعد أن قذفها بأبشع نظرة شاهدتها بحياتها وهمس:
- ليش؟؟.. هو في شي ينقال بعد يلي انقال؟؟.
عضت شفتيها تدميها إلى أن شعرت بطعم دمائها وهمست تستعطفه:
- انت عارف كيف صار زواجنا......
فقاطعها وهو يمسك بكتفها يهزها بقوة دون أن يشعر، فما تملكه ليس لديه القدرة على احتماله، فالوجع يستحكمه يكويه ويصهره:
- وليش وافقتي علي؟؟.. إذا كان زواجي منج كان لهدف إن تشو كان هدفج؟؟.
ألجمت شفاهها عن الحركة، وانسحب لسانها منكفئا على نفسه
وآه من روح تلفظ أنفاسها الأخيرة على يد عاشقها.
وآه من قلب يبكي دموع الرحيل والحرمان من حب لم يكتمل
وتراجع للخلف عندما لم يجد منها أي اعتراض أو دفاع، فالحقيقة واضحة كوضوح الشمس.
وقبل أن يرتقي السلالم كان أن التفت وقال كلمته الأخيرة.... (طالق)
ختمت ماضيها عند تلك الكلمة، وارتقت المصعد باتجاه شقتها، دخلت وهي تستغفر الله وتناشده القوة والتحمل وسارت بقدمين ثقيلتين ناحية غرفتها بعد أن وضعت حقيبتها وكتبها على الطاولة بغرفة الجلوس.
خلعت عباءتها وشيلتها ومن ثم اتجهت ناحية الحمام لتستحم وتزيل كل ما تكالب عليها اليوم من ذكريات، ووجهت ناظريها للقبلة تناشد من خلقها أن يرحم حالها.
********************************
وفي مكان آخر....
جلست بتأفف وبملل وحنق وهي تنظر لزوجها الجالس باسترخاء دون أن يأبه لها، لتقول بعد فترة من الصمت المطبق عليها كما حال ذلك الرجل الذي يكتم على أنفاسها:
- حبيبي.. انت موركش شغل اليوم كمان؟؟
رفع رأسه من الأوراق التي كان يتطلع إليها وأجابها:
- بلى فيه وهذا أنا قاعد أتابع من البيت، والباقي الأولاد يتابعونه.
جزت على أسنانها بغضب مستعر بداخلها من الحكم الذي أوقعه عليها بالحبس بالمنزل والمبرر هو... راحتها، لقد وقعت بشر أعمالها.
- طيب يا حبيبي صار وقت الظهر ولازم تروح البيت علشان مراتك متتعصبش.
أجابها وعيناه تجري على الأوراق التي بيده دون أن ينتبه لما يجول بها من ضيق بوجوده معها:
- لا مب مشكلة، أنا قلت لهم إني بتأخر اليوم فلا تحاتين.
فزت من جلستها بكل قوة وهي تزمجر حتى التفت إليها سائلا إياها:
- وشفيج وقفتي جذا؟؟
انتبهت لنفسها لتجيبه بضحكة واهية:
- ولا حاجة يا حبيبي، كانت في حشرة على الفستان وخفت لتؤرصني فرحت نفضاها.
والتفتت مغادرة باتجاه غرفتها وأغلقت الباب جيدا خلفها وأمسكت هاتفها وضربت على الأزرار ليصلها صوتها عبر الأثير ولم تعطها الفرصة للاجابة وهدرت:
- لازم تيجي وتخرجيني من البلوة يلي وأعتيني فيها!!.
سكتت تنصت إلى سؤالها لتجيبها بشيء من الحدة:
- يا ماما ده كاتم على نفسي ومش أدرة لا أخرج ولا أعمل أي حاجة.
وصلتها ضحكاتها الساخرة لتزيد من اشعال فتيل غضبها المنفلت بالأصل.
- انت بتتريئي علي؟؟.
سكتت لتقول بعدها بشيء من الهدوء:
- طيب أنا مستنياك، بليز يا ماما طلعيني من الورطة دي، دا أنا فكرت إني أطبق بزمارة رأبته وأخلص عليه وأرتاح أنا.
هدرت بها والدتها لتهمس:
- طيب.. طيب أنا مستنياكي، أوعي تتأخري.
وأغلقت الهاتف ورمته على السرير وما كادت أن تجلس حتى تحركت أكرة الباب وصوته يتهادى إليها:
- ابتسام افتحي الباب، ليش قفلتيه؟؟
ضربت الفراش بقبضات متوالية ومن ثم التقطت أنفاسها وتحركت ناحية الباب واستدعت ابتسامة مغتصبة لتزور شفتيها وفتحته .
- معليش يا حبيبي، أصلي تعودت إني أأفل الباب وراي، أصلي مبطمنش للخدم، انت عارف هما بيعملوا إيه.
دلف للداخل وأراح جسده على السرير وناداها لتجاوره فامتقع وجهها باشمئزاز وتبرمت لتقول وهي تسير ناحيته وقد اهتدت لفكره تمنعه مما يريد القيام به.
- آي.. أف... بطني بيوجعني.
نهض مسرعا ناحيتها.
- خير؟؟.. وشفيج؟؟.. وش يعورج؟؟.. أوديج المستشفى؟؟.
أضجعت جسدها على الفراش وأتقنت التمثيل بابداع.
- لا ماتخفش ده شوية مغص، يعني عادي بحلتي ديه، شوية راحة ويروح المغص.
- متأكدة؟؟
- أيوه
- طيب
وابتعد عنها للجهة الأخرى لتتنهد براحة واتخذت وضعية تريح بها جسدها حتى مر بعض الوقت ورن الجرس لتنهض بسرعة هاتفة:
- دي أكيد ماما جت تزورني.
فأوقفها بسرعة وهو ينظر لساعته باستغراب وتساءل:
- أمج!!.. ليشج ياية بهذا الوقت؟؟.
اختلجت عضلات وجهها بارتباك واضح، وكما قيل الهجوم خير دفاع.
- في إيه يا حسن؟؟.. ماما جاية تزورني، فيه حاجة دي؟؟.. وكمان هي بتيجي بأي وقت علشان هي عرفة إني وحدانية وعندي جوز ولا هو سائل عليا، فمكنش غيرها هي يلي أفضفضلها، ولا ده ممنوع كمان؟؟.
والتفتت تمسح دموع وهمية قد نجحت ببث الأسى لداخله على تقصيره معها، فنهض من مكانه وتقدم ناحيتها وأدارها باتجاهه وحادثها:
- أنا ما قصدي شي يا بنت الحلال، بس أنا استغربت ييتها بهذا الوقت، وما كان له داعي إنج تعصبين جذا، وأصلا الزعل مب زين للجنين.
وعندما همت بالاعتراض رن جرس الباب لتنطلق ناحيته فاتحة الباب لأمها، ودخلت وهي تقول:
- كل ده يا بنتي علشان تفتحي الباب؟؟
والتفتت دون أن تنتظر أي اذن لتتوقف بعدها كأنها متفاجأة :
- أبو سالم، ازيك يا بني، معلش مكنتش عرفة إنك هنا ولا مكنتش جيت.
اقترب منها وهو يحادثها ويطبع قبلة احترام على رأسها:
- لا ولا يهمج يا عمتي، البيت بيتج متى ما تحبي تعالي بأي وقت.
- متشكرة يبني ربنا يكرمك ويزيدك من نعيمه.
- طيب أنا أخليكم تاخذون راحتكم.
وتحرك باتجاه غرفة النوم لدقائق حتى خرج منها وقد ارتدى ملابسه.
- أنا رايح، تامرون على شي قبل لا أروح؟؟
- ليه يا بني تروح؟؟.. ولو علي أنا حمشي على طول.
- لا ياأم ابتسام شو تقولين، البيت بيتج، أنا بس كنت قاعد علشان ابتسام ما تكون لوحدها ودام إنج موجودة أنا راح أطمن عليها.
- لا يبني اطمن وحط ببطنك بطيخة صيفة، ابنك بعنيَّ.
هز رأسه موافقا ثم أعاد سؤاله:
- ما تبون شي؟؟
- متشكرة يبني مش عوزين غير سلامتك.
والتفت لزوجته وأعاد سؤاله:
- تبين شي قبل لا أروح؟؟.
- سلمتك.
- طيب انت ارتاحي ولا تتعبين نفسج وايد.
- حاضر
واتجه ناحية الباب مغادرا فلكزت أزهار ابنتها تنبهها لتلحق بزوجها، فامتعض وجهها، ولكنها سارت خلفه تودعه بابتسامة واهية وخرج لتغلق الباب خلفه وهي تهتف:
- ياه... دا كان كاتم على نفسي.
- بت اتأدبي دا جوزك وانت يلي اخترتيه.
تحركت لتجلس على احدى الآرئك وهي تجيب:
- هو أنا كنت عرفة إنه حيلزء كده؟؟.
جلست الأم بجانبها وتساءلت:
- سيبك من ده كله، انت ازيك وازي الحمل معاك؟؟.
- مؤرف يا ماما، ومتعب بشكل، مكنتش عارفه إن الحمل مرهق كده!!.
- معليش... هي الشهور الأولى كده وبعدين مش حتحسي بحاجة.
سكتوا قليلا ودققت ابتسام النظر لوالدتها لترى وجه مرهق ومتعب وسألتها بعيون ضيقة:
- وانت مالك؟؟.. حسه إن أحوالك مع عمو مش كويسة!!.
تنهدت الأخرى بقلق وقالت بحيرة :
- بصراحة مش عرفه!!.. حاسه إنه متغير أوي علي ومعدش زي الأول.
اعتدلت ابتسام بجلستها وسألتها باهتمام:
- ليه في إيه؟؟.
- مش عرفه يا بنتي، مش عرفه، حاسة في حاجة بتحصل من ورايا ومش أدرة أمسك فيها.
ضربت كفيها على وركيها الضخمين بقوة ليصدح الصوت عاليا وعادت تهمهم:
- أنا خيفة يا ابتسام !!.
تطلعت ابنتها لأضافرها وابتسامة تشدقت بها شفتيها وقالت:
- وخيفة ليه؟؟.. المفروض ما تخافيش وتحطي اديكي ورجليكي بمية بردة، لأن كل حاجة متسجلة باسمك، ويعني هو المفروض يخاف ويتحرس ميعملش حاجة وإلا حيكون مكانه الشارع.
تنهدت الأم براحة بعد كلام ابنتها وهي تتذكر بأنه قد كتب كل شيء باسمها بيع وشراء خوفا من يأتي ذلك اليوم وتأتي عنود وشقيقها ليطالبوا بما لهم بعد أن ينكشف سره.
ارتخت أساريرهم، وابتسمت شفاههم، وصفق الشيطان بحبور للشر الذي انطلق بأعماقهم.
فما أجمله من شعور وهو يرى بني آدم وهم يغوصون بآثامهم وذنوبهم، فكما وعد( لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك الصالحين) متناسين وجود الواحد الأحد، وأن لكل عمل جزاء إما الجنة أو النار، وبالتأكيد الجزاء من جنس العمل.
*************************************
تجلس على مكتبها وأمامها الحاسب الآلي وكتبها مفتوحة، وأوراق مبعثرة هنا وهناك، وتناظر أحد الكتب للحظات حتى تعود لحاسبها لتكتب به فعليها تقديم بحث عن عالم الجينات الوراثية.
أمسكت بأحد الكتب التي استعارتها من مكتبة الجامعة وأخذت تقرأ وتتعمق بالجينات والكروموسومات الوراثية التي تتناقل من الأب للأبناء وهكذا حتى سطرت أمامها مجموعة من الصور جعلت جسدها يرتجف بقشعريرة جعلتها تضم ذراعيها حول جسدها.
هل تعرف ذلك الشعور عندما تكتشف بأنك كنت تعيش بكذبة، وأن حياتك ما هي إلا كذبة حيكت بفن ومهارة تحت يد لاعب أتقن فن الخداع؟؟.
نعم... هي عاشت تلك الخدعة وقد كانت هي وشقيقها كلعبة الأرجوز يحركوهما كيفما شاؤوا، وهما كانا ينقادان بكل استسلام خلفهم موعزين بأنه والدهم وله حق البر به.
عيناها تناظر الكلمات التي تتراقص أمامها بحقيقة مرة جعلتها تتجرع العلقم والويلات طوال حياتها.
لقد خدعت وأهداها العالم أكبر صفعة تلقتها بحياتها، والدها لم يكن والدها، بل كان عمها شقيق والدها التوأم .
حاولت النهوض من على كرسيها والهرب من تلك الذكرى المؤلمة لروحها، فقد كانت تلك هي القاضية التي جعلتها تخسر شقيقها ونفسها وتركتها تترنح كما السكرى غير مستوعبة ما قاله لها بلحظة غضب، فأبت إلا أن تعود وتسحبها لذلك اليوم البائس الذي انهالت لها المصائب من كل صوب وحدب ...
فبعد أن توسلته وترجته أن يسمعها ولم ينصت بل أهداها هدية قبل مغادرته موليا إياها ظهره كما فعل العالم معها، توقفت بمكانها كما الجماد الذي لا يملك أي احساس أو أية ردة فعل لما يجول حوله.
وعقلها مازال غير قادر على هضم تلك الكلمات الثلاث التي قالها لها.
لقد سمعت تلك الكلمات كثيرا بالمسلسلات، وقرأتها بالكتب، وشاهدت ردة فعل المرأة بما وقع عليها، لكن أبدا لم تعتقد أو يدر بخلدها بأنها ستذوق من نفس الكأس، وكيف يكون شعور المرأة عندما يتخلى عنها زوجها.
تعلقت دمعتها بين رمشها وقد سكنت بمكانها لا تعلم هل تسقط لتريح صاحبتها أم تقف بمكانها كما توقفت الساعة عن التكتكة.
وما هي إلا لحظات حتى شعرت بشيء يسقط على وجهها خادشا بشرتها لتتطلع إليه بعيون غشاها الظلم والقهر لترى سواد قد توسد الأرض كما حياتها التي تحولت واصطبغت بهذا اللون أيضا، فرفعت رأسها ناحيته ونطق هو بكل برود:
- اطلعي من البيت وما بي أجوف ويهج مرة ثانية.
والتفت مغادرا ولم تعلم كيف انخفضت بذل تلتقط عباءتها ولا بكيف ارتدتها كما التحفت الانكسار، وتحركت مغادرة وقد سمعت تكسر قلبها لأشلاء عدة ويتتفتف ليتحول لبقايا مخلفا ندوب تعرف وتعلم بأنها لن تشفى أبدا.
وانطلقت لمصير آخر لم تعلم بأنه ينتظرها بخنجره ليعمق من جروحها النازفة جاعلا إياه يتقيح غير قادر أي طبيب مداواته.
- عنود.... إلي جابك دلوأتي؟؟.
لم تجبها بل سارت بجمود ناحية طريق تعرفه جيدا فقد فرش لها بأشواك حادة قد خطت به مرارا وتكرارا، هي فقط أعطيت فترة استراحة وها هي قد عادت إليه.
ذهلت أزهار لرؤية عنود بهذه الحال فأبدا لم ترها هكذا قط حتى عندما يكال عليها بالويل والثبور فهي تظل رافعة الرأس والأنف.
فسارعت لزوجها تناديه ليأتي مسرعا ناظرا لحال ابنته فسألها باستغراب:
- عنود... شو يلي جابج بهذا الوقت؟؟
توقفت ولم تجبه، فاقترب منها وأدارها ناحيته ليرى طبعة أصابع على وجهها ليقول بتهكم:
- لا تقولين انج زعلانه من ريلج لأنه عطاج كف وياية زعلانه منه؟؟... تراه عادي وما فيها شي، ريال ويأدب حرمته، وألحين... يلا ارجعي بيت ريلج وتأسفي منه، أكيد غلطي عليه أنا عرفج زين ما زين، راسج يابس وما تسمعين الكلام.
هل يوجد ما هو أوجع من الوجع؟؟.. تظن أنها قد اختبرت كل أنواع العذاب ولم يبقى شيء إلا وقد وصمت به، لكن هذا!!.
أتظنون أن هناك ما بقي بداخلها شيء ليتحطم؟؟... لا.. فهي لم تختبر بعد الضربة الأقوى.
تشعر بنفسها بأنها غدت باقايا أنثى سحقتها الرياح بكل قوتها لتهوي بها لعمق سحيق لا قرار له، فقط هي تشعر بأنها تسقط وتسقط ولا نهاية لانحدارها .
وتساءلت.. وقد كثرت تساؤلاتها.. هل هي الوحيدة بهذه الدنيا لينهال كل شيء على رأسها؟؟.
لتئن أضلاعها صارخة بها، وبروح تهدر بها.....
آه.. وآه من ألم يتخذك وسادته لتنام على دمعة منحدرة وتستيقظ على وجعه.
وآه من مرارة تتجرعها من كأس كان من المفترض أن يكون سندك بالحياة، وأمان تجده متى ما احتجته، وحضن دافئ يحتويك بعز شتاءك القارص البرودة عندما ينخر عضامك.
صفير الرياح تعلن عن الخواء من حولها، وظلام موحش يحيط بها، وهجر صار صديقها الجديد، ووحدة قد تلبستها لتغدوا جزء لا يتجزأ من حياتها.
جمود طغى على كيانها، وبرودة سرت بوجدانها، وصقيع تغلغل بشراييينها، وعيون قد كساها الجليد ليلمع عقيقها وقد بهت اخضراره بسبب الهجوم المباغت لروح قد اكتفت من صدمات الحياة لها.
ناظرت والدها ولم تحد عنه وهمست لنفسها:
- لما يا والدي تكسرني؟؟.. لما تزيد من أوجاعي؟؟.. ألست بابنتك؟؟.. ألست قطعة من جسدك؟؟.. فليما النبذ؟؟.. ولما البعد؟؟.. أولم ترى بي ما تريد؟؟.. أحطمت أحلامك دون أن أعلم؟؟.. آه يا ولدي لو تعلم كم الندوب والآهات التي تحتبس بداخلي!!.. فلو علمت لرأيت طوفانا جارفا من العذاب... آه يا والدٍ كنت لتكون مصدر أماني، لكن أرى بك قاتلي. آه يامن كنت لتكون لي صدرا يدفن صرخاتي، لكن أرى بك سرابا لا يروي ضمأي، فتهت وضعت وما عدت أعرف طريقي، لكن ثق بأنني لم أعد أبالي.
ومن ثم رفعت صوتا خرج بارد مشبع بعواصف رعدية توشك على السقوط على رؤوسهم:
- ليش تسوي فيني جذا؟؟.. ليش تذبحني بايدك؟؟.. ودي أعرف أنا وش سويت علشان تعاملني بهذي الطريقة؟؟..
أشاحت بيدها بعشوائية وتابعت بنفس الجمود:
- انت حتى تعامل بنت حرمتك أحسن مني، وأنا يلي هي بنتك من لحمك ودمك.....
سكتت قليلا تجترح هواء مؤلما لصدرها، لكنها تحتاجه ولو لوقت قليل وبعدها لا يهم إن انقطع أم لاء ومن ثم صرخت:
- ليش؟؟... ليش؟؟... ودي أعرف!!.
ليهتف بها زاعقا:
- اسكتي يا قليلة الحيا!!.. قاعدة تعلين صوتج على أبوج؟؟.. صدق انها طالت وشمخت!!.. أقول روحي على بيت ريلج، يلا.. بلا ليش بلا زفت، يلا روحي ولا عاد تجين مرة ثانية، هذا البيت يتعذرج.
رمشت عدة مرات كأنها تريد أن تعرف أن ما هو أمامها هو حقيقة أم من نسج خيالها المرهق، لكن هيأته متجسدة أمامها، إذا.. هو حقيقة!!.. فما لبثت أن اتسع فمها بابتسامة، وبعدها بدأت بالضحك إلى أن تحولت ضحكاتها إلى قهقهات عالية حتى ظنوا أنها قد جنت.
ضحكت إلى أن آلمتها معدتها، قهقهت حتى أدمعت عيناها، وآه من دموع اليتم عندما يطغى على روح لم ترى سوى القهر والذل.
- انت جنيتي ولا شو؟؟.. روحي واطلعي من البيت انت وجنونج، هذا يلي ناقصني بعد، وحدة خبلة، أنا ماصدقت افتكيت من واحد تطلعيلي انتي بعد!!.
وانخرست تماما كأنها لم تكن تضحك للتو، وسكنت ذرات الهواء من حولها كأن ما قيل قد اخترق قانون اللامنطقي، وبعد صمت لم يدم سوى الثواني حتى قالت وهي تهز رأسها بعدم تصديق:
- يستحيل انك تكون أبو!!.. لأن ما عندك قلب، يستحيل تكون انسان طبيعي!!.. لأن ما عندك احساس.
تحدثت وتحدثت دون أن تشعر، وطفقت تتكلم عن كل ما يعتمل صدرها الحبيس سجنه، وهدرت بجملة ظلت تتردد برأسها ولم تعلم بأنها أسرتها لهم:
- أنت مب أبو، انت ما تستحق تكون أبو.
فاستعر الغضب بداخله مما قالته، وما هدرته عليه من لوم وتقصير بحقوقهما حتى رمى بقنبلته.
- هيه أنا مب أبوج، كلامج صح ويخسي انج أصلا تكونين بنتي!!.. انت المفروض تحمدين ربج على إني متحملنج طول هذي السنين انت وأخوج العلة، وهذا الحمدالله افتكينا منه بس باقي انت، متى تموتين وأرتاح منج!!.
صدمة و ذهول وعدم تصديق، وفم مفتوح يبغي الاستفسار عما قيل للتو ولم يخرج لا صوت ولا حرف، لكن أفعاله أكدت لها أن ما قيل حقيقة، فقد اقترب منها وأخذ يدفعها لتخرج من منزله، دفعة واحدة ومن ثم سألت بهدوء غريب كان من المفترض أن يكون زعيقا:
- إذا كنت مب أبوي عيل وين هو؟؟
ليجيبها دون أي رحمة:
- أبوج مات من زمان لما كنتوا صغار بعد ما ماتت أمج بشوي، واتصلوا فيني علشان أنا أخوه الوحيد، ولما جيت لهنا ناديتيني بأبوي لأن احنا نتشابه .
- طيب ليش سويت فينا جذا واحنا عيال أخوك؟؟.
تغيرت ملامحه، وصار شيطان بهيأة البشر، وهمس:
- لأني كنت أكره أخوي، كان هو الكل فالكل عند أمي وأبوي، وكان هو الناجح وأنا الكسول، أمي وأبوي كانوا يفضلونه علي، وأبوي لما يتكلم كان ما غير على السانه غير ( حمد ) سوى كذا، وحمد اشتغل بالمكان اللفلاني، وأنا ولا شي كأني مب موجود، فطلعت من البيت بعد ما أبوي طردني من البيت لأني مثل ما قال وطيت راسه بالأرض علشان دخلت السجن، ولما عرفت انه مات كنت ما بعطي أي سالفة، لكن لما عرفت العز يلي كان فيه قلت وش عليه أستانس وأعيش من خيره كأنه يعوضني يلي سواه فيني لما كنا صغار، وألحين ياله أعطيني مقفاج ولا عاد أجوفج هنا.
وانقطع حبل الشريط السينمائي اثر طرقات على الباب، ظنت بالبداية أنها تتوهم الطرقات، لكنها عادت تدق، فناظرت رسغها لترى بأن الساعة قد شارفت على الرابعة والنصف وهذا وقت قدوم ضيوفها.
نفضت ما أجاش بها من مشاعر سلبية فقد عاهدت نفسها أن تكون قوية ومقدامة، وستقف بوجه كل من يريد التعدي عليها ولن تأبه سوى بنفسها ومستقبلها، ولن تنظر للماضي، فالمستقبل هو كل ما يهم الآن، والماضي قد ولا وانتهى.
نهضت بسرعة واتجهت ناحية الباب، نظرت من العدسة لرؤية من هو زائرها لتبتسم بسعادة لمعرفتها من يكونون، وفتحته على وسعه تستقبل من كان لها العون والدفئ والحنان، كانوا كما قالوا بأنهم لن يتركوها لوحدها فقد غدت واحدة منهم وفيهم، كانوا لها العائلة التي لم تحصل عليها أبدا، وكما كل مرة إن الله لم يتخلى عنها وأرسلهم لها ليكونوا الجدار الذي تبحث عنه.
باتصال واحد بعتمة الليل الموحش بعد أن ساقتها قدماها إلى أللا مكان، وسارت دون هوادة ودون أي وجهه، وقد اسودت الدنيا أمامها بعد أن أغلقت جميع الأبواب ما عدى باب واحد كان مواريا حتى دفعته بكل قوتها واستدعت الفرسان خلفه ليهبوا لنجدتها.
فتحوا لها أذرعتهم بالترحاب، واستقبلوها بالحب والأحضان والعتاب، وبكت على صدورهم بكاء أدمى عيونهم عليها.
- يا بنتي يا عنود إن ما وسعتج الأرض عيونا توسع لج، انت بنتي يا عنود وأنا عيالي ما أتخلى عنهم شو ما صار.
وعندما حاولت أعادتها لمنزلهم رفضت فكان أن أحضرتها إلى هنا البناء الذي سكنت به من قبل، وقد احترموا رغبتها بعدم إعلام أي شخص بمكانها، ولم يبخلوا عليها بأي شيء.
- هلا وغلا بيدتي وعمتي.
- يا مرحبا بابنيتي.
احتضنوا بعضهم ورحبت بهم للداخل وسؤال واهتمام ورعاية بكيف هي دراستها وصحتها حتى تهادت الطرقات على الباب من جديد حتى قالت:
- هذا أكيد محل الكيك، خبرته إنه ييب حلويات بهذا الوقت، ما كان عندي وقت علشان أطبخ.
لتعاتبها عمتها بحنان:
- ما كان له داعي حبيبتي.
- أفا.. ما يصير، وأصلا أنا خاطري بالحلويات.
ارتدت شيلتها وحملت محفظة نقودها وفتحت الباب ورفعت عيناها حتى شهقت وتراجعت للخلف خطوة واحدة وهمست كأنها ترى شبحا من ماضيها:
- حمدان...
|