كاتب الموضوع :
ام حمدة
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: يوم اللقا تاهت عناويني ( اماراتية ).... بقلمي \ ام حمدة
و في الجهة الأخرى وبالتحديد في المزرعة جلس صغيرين يندبون فرحة لم تتم، وسعادة لم يعيشوها بعد، وأمومة شعروا بها تفلت من بين أصابعهم، هل كتب عليهم اليتم من دفئ وحنان الأم؟؟.. هل خلت حياتهم من حضن ولمسة وابتسامة تشيعهم وعيون تضمهم؟؟.
التحف الحزن مآقيتهم، وتوسد الألم والبكاء بمقلتيهم، وملامح اكتساها الخسران.
أذرع تواسي بعضها، وحضن لن يكون سوى لهما فقط، فهما وجدا للآخر.
تشبثت حنان بشقيقها ودموعها تتساقط أنهارا وصوت نحيبها يصل لعنان السماء كأنها تطلب العون، كأنها تطلب الرأفة بحالها، والآخر يلف ذراعه الصغيرة بمواساة لشقيقته الصغرى وهو قد اكتنف الألم صفحة وجهه، وعيونه قد احمرت كجمرات نارية قد وصلت لحدها من الاشتعال، وتلك التي وجب أن ترحمه وتريحه لم تنهمر وإنما قد تجمدت بمكانها لتتحول لمرآة مصقولة تكاد ترى ملامحك من خلالها.
أي حزن هذا؟؟.. وأي ألم يكيل بهذين الصغيرين؟؟.
ناظرتهم الجدة بعجز ولسانها قد عجز عن اسكاتهما وادخال الطمأنينة لقلبيهما، فالعيون قد التقطت الصورة والمركز قد خزنها وتوقف شريطها عند تلك اللقطة فقط، عندما أخرسها الكون إجبارا، وسكون طغى على جسدها، فهل من بعد تلك الرؤية حديث آخر؟؟.
- يا يومه.. يا حبايبي.. العنود ما عليها إلا العافية، وبتجوفونها بعد شوي بخير وتضحك.
وجاوبتها شهقات مرتفعة، وأنين موجع للروح والقلب، فتابعت الجدة حديثها لعل وعسى تستطيع تهدئتهما:
- ما يصير جذا.... عبدالله.. حنان
قاطعتها حنان قائلة وبصوت بكائها الذي أتعب قلبها الصغير همست:
- لا... انت... انت... تجذبين علينا!!.... هي... والله ماتت!!... خلاص راحت.. أنا... أنا جفتها لما.... هي... هي.... تموت .
وعادت تنخرط ببكاء حاد يقطع نياط قلوب المحيطين حولها، ودفنت نفسها بحضن شقيقها الذي احتواها بتثاقل وضياع يشعر به ينخر صدره، وروحه تئن تحت وطأة فقد من فتحت له ذراعيها بحب دون أي مقابل.
ظلت عيناه تعانق الأرض الجرداء كما حياته التي عادت كسابقها، لا ابتسامه تخصه، ولا سؤال عن حاله وعما يريد وما يرغبه، لقد انتهت تلك الأيام وولت.
وقف الجميع ينظرون لهذين الصغيرين بعجز، فقد باءت محاولاتهم بالفشل لجعلهم يصدقون بأن عنود بخير .
- يومه.. أم سالم ولي يرحم والديج اتصلي بوليدي حمدان خليه يرمسهم، الأولاد بيروحون من بين ايدينا من كثر بجيهم، اتصلي... اتصلي بسرعة.
- إن شاالله يا الغالية
بحثت بجيب جلابيتها عن هاتفها فلم تجده، فوسط تلك المعمعة التي حدثت لم تجعل بهم أي عقل أو تفكير بحمل هواتفهم، فنطق أحد أبنائها عندما علم بأن والدته لا تملك هاتفها :
- أنا بتصل بحمدان يومه
أخرج هاتفه من جيب بنطاله وضغط على عدة أزرار وانتظر الاجابة إلى أن انقطع الخط، أعاد الاتصال وكان أن انقطع مرة أخرى وثالثة ونفس الشي.
- يومه.. حمدان ما يرد على التيليفون .
- اتصل على أخوك سالم يا سعود
- إن شالله
أرقام أخرى ورنين ومر بعض الوقت ثم فتح الخط وأسرع يهتف:
- سالم.. وينك يا خوي؟؟.. قلوبنا طايحة، طمنا شو الأخبار؟؟.
سكت ينصت وجميع العيون انصبت عليه وقلوبهم تدعوا وترجف بخوف من الأخبار الغير السارة .
- انزين.. حمدان وينه؟؟.. خليه يكلمني أولاده ميتين من الصياح .
سكت يستمع وبعدها تحرك ناحية حنان وعبدالله وركع أمامهما وفتح مكبر الصوت وتابع :
- تكلم يا حمدان هم يسمعونك
- عبدالله... حنان
وعند سماع ابنته لصوت والدها انفجرت ببكاء حاد جعل الطرف الآخر يهلع وينتفض واقفا من مقعده وقلبه يبكي لحال أولاده وقد تذكرهم الآن من أنهم كانوا معه بنفس المكان وشاهدوا ما شاهده .
- حنان.. حبيبة أبوها، كفاية بجي، حبيبتي عنود بخير وما فيها شي، هذي هي جدامي بخير.
ولم يزد الأمر سوى المزيد من الدموع وأوتار قد بحت ونضب مخزونها.
مسح على وجهه واستغفر الله وناشده العون بهذه المصيبة، فهذا ما كان يخشاه، تعلقهم بامرأة حكم عليها بالرحيل ولو لبعد فترة .
- يا بابا كفاية خلاص، صدقيني عنود ما فيها شي، بس ايدها مكسورة وجسمها يعورها .
وجاءه همس خفيض كأنه اعتكف عن الحديث منذ دهور طويلة:
- خليها تكلمنا!!.
أغمض عينيه بتعب، وارهاق قد سرى بعضلات جسده، ووهن أفرغ فوق رأسه.
أفرج عن بؤبؤية وناظرها تتوسد فراش أبيض اللون يضاهي لون وجهها وذكرى أخرى تطفح من ألبوم ماضيه نفس الشكل ونفس الصورة، ولكن هناك اختلاف بردة الفعل بين الحادثتين.
- عبدالله حبيبي هي ما تقدر ألحين تتكلم لأنها نايمه.
- قول إنها ماتت وما يحتاي تكذب علينا .
فصرخ حمدان:
- لا يا عبدالله... لا هي ما ماتت
نفس عميق يهدئ من روع قلبه المنتفض من مجرد سماعه تلك الكلمة، ثم استطرد بهدوء:
- هي نايمه حبيبي، الدكتور عطاها منوم علشان ترتاح .
وظل المنوال على هذا الشكل إلى أن يئس الأب من اقناعهم فما كان منه سوى أن طلب من سعود احضارهم للمشفى ليروها ويرتاح بالهم .
وهذا ما كان، فقد انطلقت السيارة بهم وظلام الليل قد أسدل ستاره نائيا بتعب النهار ومناديا بالرحة، لكن ليس لمن عانقت أرواحهم ذلك الخط الرفيع من الخسارة؟؟.
بعد مرور وقت قصير وصلوا وترجل الصغيرين ممسكين ببعضهم البعض ووجوههم الباكية والحزينة تدعوا للتساؤل؟؟.. والقلوب رقت لحالهم وتساؤل بما حل بهم؟؟.. ودعاء بأن يرفق بحالهم.
تلقفهم والدهم بحضن حار وقبل لكل منهما وهمس بأن كل الأمور على ما يرام، ثم قادهم لغرفتها وهناك وجدوها نائمة كما قال والدهم، وهنا لم يستطع عبدالله سوى ذرفها واخراجها من حجزها، فلم يعد له طاقة بكبتها لفترة أطول، فأطلقها يعلن عما يجيش به صدره.
هرع والده ناحيته وأحاطه بذراعيه والصدمة بادية على ملامحه ليتشبث صغيره برقبته كما الغريق الذي وجد طوق نجاته وكانت هناك تتربع سريرها بنوم عميق ولم تغادر دنياهم كما تراء له.
تركه والده يفضي ما بداخله إلى أن هدأ وكفكف دمعاته الأبية وتطلع لابنته من فوق كتفه ليراها بحضن عمه تتمسك به هي الأخرى، ودموعها تهطل بسكون .
اطمأن الصغيرين عليها ثم غادر الجميع على وعد بالعودة غدا في الصباح الباكر وتكون قد استيقظت من نومها الإجباري .
*********************************
في صباح اليوم التالي الحياة تدب على شعيراتها الكثيفة التي تحيط بعينين قد غابت عن واقعها لتعيش بدنيا الأحلام قسرا، لكن لا أحلام ولا صور ولا شيء، فقط اللاشيء هو ما كانت تعيش عليه .
رمشت وبقوة واهية تحاول بها أن تفرج عن جفنيها الملتصقين بشكل قوي كأن غراء قد وضع بينهما.
عادت من جديد تلتمس قوتها بفتحهما لتظهر فرجة صغيرة، لكنهما عادتا للانغلاق كأن بتلك الحركة قد استنزفت كل طاقتها، ولكن لا مجال للاستسلام.
رمشة أخرى تبعتها غشاوة وضباب أحاط بمقلتيها، فعادت تغلقهما وهذه المرة من أجل أن تزيح ما اعتمل بهما .
الصورة تتضح، والرؤية تظهر سقف أبيض ورائحة تعرفها أزكمت أنفها، وارتجافه جرت بكامل جسدها.
أدارت رأسها ببطئ بسبب الألم الذي غزاها تحركه بكل اتجاه ليصدمها الخواء والسكون، هي لم تمت تعرف هذا فهي ليست بغبية لتقول عكس ذلك، لكن هذا الهدوء يقتلها، والهجر والوحدة عاد يعانقانها، وذكريات تركها وحيدة بالمشفى من قبل عادت تتغلغل بأعماقها، هي لا تريد هذا، تريد الصخب، تريد الشعور بالحياة، تريد الحب والدفء والحنان، تريد... وتريد، لكن هذا .......
هزت رأسها دون أن تأبه للألم ترفض ما يريد اجبارها على الاعتياد عليه، ودون ارادة ودون تحمل سكبتها وهدرتها فلم تعد بها طاقة للعودة بين براثن وحدتها.
شهقة تبعتها شهقة أخرى، ودمعة تبعتها شلالات من الدموع، وأنين خافت تحول لبكاء يرفض واقعه:
- لا... ما بي... والله خايفة!!.. لا... ما بي... ما بي... يا رب ليش تسوي فيني جذا؟؟.
ودخلت الممرضة وسمعت هذيانها فاقتربت منها على عجل وأخذت تمسح على رأسها وتحادثها لعلها تخرجها من الحالة التي هي بها، فذهبت أفعالها بأدراج الرياح، فهمهماتها قد ازدادت، وبكاءها قد تحول وتغير، ورأسها يرفض واقعه الأليم... لا تريد العودة.
وبدأت نوبتها تزداد ويداها تتلاطم بالهواء كأنها تحارب ما يريدون تذكيرها بما كانت عليه من قبل .
- اهدي يا بنتي... اهدي
ولم تستطع الممرضة أن تعيد لها وعيها وكأن مس ما قد أصابها، ابتعدت عنها قليلا وضغطت على أحد الأزرار ثم عادت تحاول أن تكبت نوبة انفعالها التي ازدادت عنفا وأخذت تطيح بكل ما حولها من المحلول الملحي، للأدوات التي كانت على الطاولة الجانبية، والابرة المغروسة بظاهر كفها قد بدأ يتسرب منها خيط رفيع من الدماء، ويدها المجبرة كانت تحط بها بكل مكان .
كانت بلا شعور، فالألم الذي احتل روحها جعلها غير قادرة على ادراك كل ما حولها، وصوتها يعلوا ويعلوا بوجع استبد بكيان قد عاصر الحزن منذ دهور.
فتح الباب بغتة وبهت قليلا لما يراه ثم تحرك مسرعا دافعا بالممرضة بعيدا عنها ثم أمسك برسغيها المتطايرين بحزم ووضعهما على جانبيها ثم احتضنها بقوة بالقرب من صدره وهمس عند أذنيها بحنان:
- هدي.. هدي، انت بخير.
- لا... مابي... ماما أبي أروح عند ماما وعند مايد أخوي.
وأخذت تصرخ باسميهما بأوتار قد غادرتها حبالها من شدة صراخها وبكائها.
- أنا هنا يا عنود، جوفيني أنا هنا وما راح أتركج.
حاربته بعنف ليقاومها بقوة أكبر محيطا بها بعضلاته الفتاكة، وصوته ما يزال يحادثها ويحثها على الاستيقاظ من الكابوس الذي أدخلها بقوقعة نائيا بها بمكان قسي .
- بطلي عيونج يا عنود، أنا هنا وما راح أتركج، عنود....
اعتصرها يبثها حرارة جسده، وشفتيه توزع قبلها بكل مكان تطاله، وأنفاسه الساخنة تضرب صفحة وجهها كأنها تشاركه برغبتها بإخراجها من شرنقتها .
مر بعض الوقت وقد هدأت نوبتها قليلا فقط أنفاسها الهادرة ما تزال تخرج وتدخل لرئتيها بصعوبة، وعينيها مغلقتان، ووجهها محمر، ولؤلؤها الغالي ينسكب على وجنتيها حافرة اخدودا عليهما.
- هشششششش انت بخير.. انت بخير... هشششششش
كفه يتحرك على رأسها للأعلى ثم للأسفل وأصابعه تتخلل خصلات شعرها والأخرى حطت رحالها على ظهرها تربت عليه بحنان ورأسها يتوسط صدره ويدها السليمة متشبثة بقوة بدشداشته .
وقفت الممرضة تنظر للصورة المعبرة التي أمامها، صورة ستطبع بذاكرتها للأبد، صورة لزوج يجلس زوجته بحضنه ويهدئ من روعها فلم يكن هناك حل آخر سوى تلك الطريقة لتكبيل حركاتها الطائشة.
ظلا لدقائق على هيأتهما... هي مسترخية بالقرب من أضلاعه تكاد تخترقهما لتظل بهذا المكان للأبد، وهو يجلس على السرير وهي بحضنه وذراعيه تطوق جسدها وذقنه مستريحة على رأسها وعينيه مغمضتين مستلذة بهذا التلامس، لحظات لتهمس بضياع وشرود:
- لا تتركني... الله يخليك ما بي أكون بروحي!!.
وغرست نفسها بداخله واشتدت قبضتها على دشداشته التي تكرمشت اثر المعركة التي دارت بينهم .
تصلب لثوان من حديثها ثم هدأ وهمس لها بالمثل:
- أنا هنا لا تخافين، ما راح أتركج .
يعلم أنها تهذي فمن سابع المستحيلات أن تطلب هي بذات نفسها أن يكون بقربها، وبداخله شيء انتعش اثر طلبها ثم خبت بعد أن سمع حديث النفس،" فأي أمل ترجوه يا حمدان وأنت تسد كل الأبواب أمامك".
أفرجت عن عقيقها العشبي وتطلعت لوجهه بعيون غشيتها حرقة الهجر والحرمان وتأملته وغرقت بعسليتيه وغاصت ببحرها... كانت تناديها، تضمها بحنية لم ترها قط بحياتها، تاهت وضاعت وانسلت نبضة تلتها نبضة أخرى ليصدح دويها بأذنيها.
شوق واقتراب ورغبة وانتشاء، وصدورهم تهدر بهم طاغية عما حولهم.
لهفة ولفحة ولمسة وتمازج، وشفاه غرقت ببعضها ومن البادئ بتلك القبلة غير معروف؟؟
رقة ولمسة حطت كالفراشة، تذوق وعدم اكتفاء، وتقارب ليصبحا شخص واحدا.
تمازجت الأنفس، وتلاحمت الرغبات، وطوق للمزيد.
تشابكت الأذرع، والتصقت الأجساد، ومعركة ما تزال تدور رحاها وهذه المرة تحولت وتغيرت إلى ما هو أشد، فهذه هي قبلة رجل يرغب بأنثى ويرغب بوسمها باسمه، فمن بين يديه هي زوجته، حلاله، فيحق له بها ما لا يحق لغيره.
ثارت أنفاسهما وقلوبهما ارتفع صداها ضاربا بصدورهم كما الرعود بليلة عاصفة شديدة الظلمة.
ابتعد عنها مجبرا غير راغب بتركها، فقد أدرك مكانه للتو بعد أن ارتطمت أصابعه بجبيرتها لتوقظه من تواهانه وأين هم وما الذي أوصلهم لهذا المكان.
أَنْت برفض لابتعاده فتأوه برغبة حارقة بالعودة إليها والسفر بين ثنايا جسدها الذي يناديه برحابة صدر .
عاد يلتقط شفتيها يتذوقها ويستلذ بطعم شهدها الشهي الذي يكاد لا يشبع منه، فما أن تجربه لمرة واحده ستدمنه للأبد.
ابتعد واتكأ جبهته بجبهتها وأنفاسهما تمازجت ليتنفس كل منهما الآخر عبق شذاهما، فهمس بصوت أجش محمل بعواطف مجنونة:
- هذا مب وقته يا عنود، المكان ما يسمح، وصحتج بعد ما تسمح .
مسدلة الرموش ومشاعرها تعصف بجسدها، وصدرها يرتفع وينخفض، وأحاسيس جميلة تسري بأوردتها كما الدواء المسكن للألم، أرادت المزيد من هذا المسكن، فآلامها مبرحة، وأوجاعها لا دواء لها، فهل يبخلون عليها بشيء يستطيع أن يسكن جراحها؟؟...
صوت من بعيد يناديها ويجبرها على الاصغاء إليه ويخبرها بأن الوقت غير مناسب .
التقى حاجبيها بتلامس متسائل... تعرف هذا الصوت جيدا، ولطالما تلاعب بعواطفها، فما كان منها سوى أن فتحتهما وناظرت من أمامها بتيه ثم عادت تنفضه وتستطلع الأمر، كان قريبا جدا منها، قريبا لدرجة بعده عنها لإنشات فقط.
رمشت عدة مرات ودخلت مرحلة الصدمة ثم مرحلة الهلع وبعدها الغضب، وبعدها:
- انت جنيت؟؟.. شو تسوي هنا؟؟
ذهول من ردة فعلها ثم انزوت ابتسامة مستهزئة على جانب شفتيه وهمس لنفسه :
- نعم.. هذي عنود يلي أعرفها .
وأجابها بمكر:
- بصراحة مثل ما تجوفين، انت نايمة بحضني، وماسكة فيني.
هزت رأسها رافضة لما يقوله وهز هو رأسه موافقا لما قاله وأشار لها لترى بنفسها، فأخفضت مقلتيها وشاهدت جسدها يتوسد حجره، وذراعيه تحتضنانها بحميميه، وتلفتت حولها بهلع ترى إن كان أحدهم يتلصص إليهم كما العادة، فتنهدت براحة بعد أن تأكدت بعدم وجود أحدهم، فحادثها يحاول اغاظتها ولا يعلم لما جاءه هذا الخاطر بمشاكستها:
- بصراحة كانت في ممرضة هنا قبل شوي بس ما عرف وين راحت ألحين؟؟.
شهقت بصوت عالي وعادت تحرك رأسها يمنه ويسرا وعندها علمت بأنه يكذب فطالعته من طرف عينها وقالت وحدقتيها تضيقان:
- جذاب !!.
ووازت قولها برفع قبضتها اليمنى وضربه على كتفه، فتأوه يمثل الألم وأمسك مكان الضربة :
- حاشا مب ايد هذي يلي عليج، عيل لو كنت بخير شو بيصير فيني؟؟.
فقهقهت لقوله وتناست مكانها وأين تجلس وأجابته بصدر منفوخ:
- كنت اترقدت بالمستشفى
- الله!!.. المستشفى مرة وحدة؟؟.. خلاص وأقول لهم يحطون سريري بجنب سريرج ونونس بعض طول الليل .
وغمز لها بعينيه فاحمرت خجلا وأشاحت بوجهها بعيدا بارتباك وهنا شعرت بنفسها، فتحركت مبتعده عنه وبتحركها شعرت بالألم وبوخزات على ظهرها عندما اتكأت على الوسادة خلفها، فارتدت جالسة وعاتبها بهدوء:
- بشويش.. لا تعقين جسمج كذا!!.. جرحج بعده طري ويمكن الخيوط تتبطل.
أمسكها برويه وأعاد جسدها للخلف، لكن بوضعية مختلفة، فقد أنامها على جنبها الأيمن بما أن ذراعها اليسرى مصابة وظهرها أيضا بتلك الجهة مخاط فالأفضل هكذا، ونزل من على السرير وارتجف جسده بقشعريرة خواء وهربت عيناه عنها، لكن بداخلها لمعة برقت بغموض ثم اختفت عندما عاد يناظرها ليراها هي الأخرى تنظر إليه بعجب وسألته ببراءة أسرت عيناه:
- شو صار فيني؟؟.
- ما تذكرين شو صار ؟؟.
- بلى.. كنا راكبين الخيل وبعدين ما عرف شو استوى .
تنهد ومن ثم سحب كرسي وجلس يقابلها وأجابها وهو يحدق بها بقوة :
- انت طحتي من الخيل
اعتصرت عقلها بتفكير فتهافتت لها الصور دفعة واحدة، رحلتهما معا على ظهر الفرس، ثم تركها لوحدها تعاني الحرمان، وبعدها حصل كل شيء بسرعة، وظهر عتابها بقلتيها بأنه تركها لوحدها وما كادت تنطق بها حتى طرق الباب ودخل الطبيب والممرضة التي كانت متواجدة وعلى ملامحها المكر وبعض من الخجل، فقد كانت شاهدة على تلاحمهما، لم يعرها حمدان أي اهتمام والتفت للطبيب محدثا اياه:
- ها دكتور.. طمني، أقدر آخذها معاي البيت؟؟.
- إن شاء الله يا أخوي، بس بالأول تفحص الممرضة الجرح يلي بظهرها، وفحوصات ثانية لازم نسويها ونطمن وبعدين يتحدد كل شي .
هز حمدان رأسه موافقا وتابع الطبيب موجها حديثه هذه المرة لعنود:
- شخبارج مدام؟؟.. شو تحسين ألحين؟؟.
- الحمدالله دكتور أنا بخير، وبصراحة ما أحس بشي غير وجع بسيط بظهري .
- هذا شي طبيعي لأن المخدر بعده موجود بجسمج، بس لما يختفي راح تحسي بالوجع وراح أكتب لج مسكنات ومراهم.
- إن شاء الله
وتابع قائلا:
- راح أسألج كذا سؤال وجاوبيني عليها!!.
وطفق يسألها وهي تجيبه ليتأكد من صحة عقلها وذاكرتها ثم استأذن خارجا لدقائق ثم سيعود بعد فحص الممرضة لها وما أن أغلق الباب خلفه حتى اقتربت منها الممرضة وأزاحت لباس المستشفى ليظهر كتفها القشدي المخضب بكدمات حملت كل ألوان قوس المطر.
اقترب حمدان منها ليتطلع للجرح عن قرب فكادت أن تصرخ به بأن يغض بصره، لكن شيء ما ألجم لسانها عن قول حرف واحد، وما هي إلا ثوان حتى أعادت الممرضة لباسها تغطيها وسألها حمدان باهتمام:
- ها.. بشريني الجرح أوكيه؟؟.
- نعم يا فندم، كله تمام التمام، وأظن إن الدكتور حيكتب لها خروج النهردة بإذن الله.
- مشكورة
- العفو.. على ايه، دا شغلي يا فندم، دنا كمان حاولت أأخر الدكتور علشان أسيبكم شوي مع بعض تخدوا راحتكوا يعني.
شهقت عنود واتسعت مقلتيها، وفرك حمدان لحيته وابتسامة تشدقت بها شفتيه وقال وهو يخرج محفظته ويخرج منها أوراق نقدية:
- مشكورة ويعطيج العافية
أخذتها بسعادة وتكاد دموعها أن تظفر من مقلتيها، فالرزق قد جاءها من غير لا تحتسب، فقد كانت بضائقة وتتفكر بأين ستحصل على المال ليفك كربتها؟؟.. وها هي الآن تمتلك أوراق ذا فئة كبيرة، فهمست دون أن تتمالك نفسها:
- ربنا يخليك وجيزيك من كل خير ويحميك وينصرك، ربنا يرزقك من فضله ويبعد عنك أولاد الحرام، ربنا يكرمك يا فندم ويحميك ويحفضلك المدام ويسعدكم مع بعض .
حضر الطبيب وقرأ الكشف ثم وقع على خروجها، ارتدت الملابس التي أحضرها حمدان معه بمساعدة الممرضة ريثما يذهب هو لصرف الدواء، ثم عاد ومعه كرسي متحرك فماتزال صحتها واهنة على السير لوحدها.
اعترضت في البداية الجلوس عليه، لكن مع اصراره خضعت له وتحركا ناحية سيارته ساعدها بالجلوس وأعاد الكرسي ثم انطلق بها للمزرعة ولعائلته التي تنتظرها بشوق بعد تلقيهم مكالمة حمدان بعدم قدومهم لزيارتها فهي قادمة إليهم.
مر على وقوعها من الخيل ثلاثة أيام استقبلتها عائلة حمدان بترحاب وبالأحضان، شعرت بينهم بالانتماء وبروح العائلة، وأنها ليست بغريبة بينهم، والصغيرين التصقا بها بشكل غريب لم تنزعج منهما بل أحبت وجودهما بقربها فبهما تشعر بوجود شقيقها كأن الله قد عوضه بهما،
لكن ما كان يزعجها هو وجوده هو بجانبها يكاد لا يفارقها أبدا سوى لسويعات أو عندما تكون نائمة، يساعدها ويجالسها ويسامرها، وبوقت العلاج يكون هو من يداويها.
فتتذكر اللحظة الأولى عندما جاء وبيده علبة المرهم ويقترب منها ويحاول فك أزرار قميصها الخفيف .
- انت جنيت شو؟؟.
رفع حاجبيه للأعلى يمثل الصدمة لقولها فهو يعرف ما ترمي إليه، لكن حبه الغريب لمشاكستها أعجبه:
- لا بعدني ما جنيت، وأظن بهذا العمر يلي أنا فيه يعتبر بعدني شباب.
رمقته بنظرات حانقة وحادثته بغضب:
- تستهبل حضرتك؟؟.. انت فاهم عن شو أتكلم!!.
جلس بجانبها على السرير، وحادثها بهدوء:
- جوفي يا عنود، أنا زوجج صح ؟؟.
تبرمت من الاجابة لكنها وافقته مجبرة فتابع :
- يعني تخيلي أطلب من حرمة عمي أو الخدامة هي يلي تحط المرهم، تتوقعين شوبيقولون علينا ؟؟.
سكتت تقلب ما قاله برأسها ولم تستطع اجابته وقال وهو يلتفت لظهرها ويفك أزرار قميصها من الخلف:
- وثانيا.. على شو خايفة يعني على الاغراء مثلا؟؟.. اطمني ما في شي يغري، جسمج كله ملون جن ولد صغير صب كل الألوان عليج.
كادت أن تصرخ عندما همس بأول جملته.. هل عاد يتهمها؟؟.. لكن تكملة الجملة جعلت جسدها المشدود يسترخي، لكنه ما لبث أن عاد يشتد ويرتجف عندما صفعتها برودة المكيف، فهمس بالقرب من أذنيها لتلفحها أنفاسه الساخنة:
- أبند المكيف؟؟.. بردانه؟؟.
لم تجبه وهزت رأسها لا تعرف هل وافقت أم نفت الأمر، لكنه نهض وأغلق المكيف ثم عاد ليضع المرهم على جرحها.
أصابعه تلامس بشرتها بخفة ورقة كما الريشة، وهواء ساخن وحار يضربها بقوة على ظهرها، كانت لحظات عويصة عليها وكأن دهرا يمر عليها ريثما تنتهي.
عادت من تلك الرؤية التي قطعتها غير راغبة بالغوص بعواطفها الثائرة لتلك الثوان عندما تكون بين يديه، وتطلعت للنافذة التي تجلس بقربها تتطلع للأسفل للطفلين ووالدهم يلعبون كرة القدم، راقبته وناظرته وتأملت قامته الطويلة والضخمة، وبشرته السمراء، ووسامته، وهمس خفيض يسألها:
- جوفيج يا عنود؟؟... شو صار عليج؟؟.. هذا هو يلي ما تبيه؟؟.. هذا هو الريال يلي ذلج وأهانج؟؟.. شو يلي تغير؟؟.. تراه هو نفسه نفس الريال!!.
ليجيبها صوت آخر :
- ما عرف شو صار فيني؟؟.. صدقيني ما عرف!!.. لكن كل يلي أعرفه انه ما هو نفس الريال.
وكأنه استشعر من يراقبه فرفع رأسه للأعلى ولوح لها لتشيح بعينيها عنه وحطت على السرير الذي لم يكن باردا بل كان دافئا وحارا بوجود جسده ينام بقربها منذ أن حضروا إلى هنا، وازداد تشبثه بالبقاء بجانبها بعد اصابتها.
*********************************
- ماما عرفتي إلي حصل؟؟
تحدثت ابتسام وهي تدلف لغرفة الجلوس لتسألها الأم وعيناها تراقب شاشة التلفاز ويدها مشغولة بالتقاط المكسرات من الصحن الذي أمامها:
- حصل ايه يا بنتي؟؟
جلست ابنتها بالقرب منها وأجابتها:
- الزفت عنود وئعت من الخيل.
حركت الأم شفتيها يمنه ويسرة بسرعة عالية ونطقت بكل الغل الذي يعتمل صدرها :
- خيل... هي وصلت للخيل كمان؟؟.. كانت فين ووصلت لفين، وحنا الخايبين عئدين وايديني على خدنا، وهي عايشة متنغنغة بين العز والفلوس.
وأخذت تهمهم بعبارات التحقير والدعاء عليها بالموت، وهناك بالجانب الذي ليس ببعيد عنهم كانت تجلس وتستمع إليها دون المقدرة بالوقوف ضدها، فمهما كان هي والدتها وعليها واجب برها وطاعتها، وكل ما تستطيع فعله هو الدعاء لله بأن يحفظ شقيقتها.
فقالت ابتسام وعيونها شعت بانتصار وبمكر أنثى قد اقتربت من نيل مبتغاها:
- ولا يهمك يا ست الكل، مسيرنا حنكون هناك، ولما أتمكن حتشوفي حعملها ايه، بس سيبيه يقع وبعدها لكل حادث حديث.
|