كاتب الموضوع :
نغم الغروب
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: الرحيل ...إليه
الفصل الثاني عشر الحائر
في اليوم التالي لاحظت ميسون التغير الذي طرأ على جاسر فقد تجنب صحبتهم تماما و في المرات القليلة التي حاولت فيها سؤاله عن شأنه تحجج بأعذار واهية و ابتعد مسرعا.
- ما باله ياترى؟ تساءلت حائرة
كانت عزة واقفة بجانبها و لم يخف عليها هي الأخرى عزوف جاسر عن الكلام فقالت بأسف : المسكين ، يبدو أني حسدته
ابتسمت لها ميسون و حثتها قائلة : حاولي أن تسأليه أنت عن حاله ، فلربما كان مستاءًا مني ، ربما أكون أثقلت عليه بحديثي دون أن أدري
نظرت إليها عزة مستوثقة فلما رأت التشجيع في عينيها اتجهت إلى حيث كان جاسر يسقي جواده. عندما اقتربت منه ابتسم لها ابتسامة واهية ، و في عينيه نظرة تساؤل. ظلت صامتة و هي تنقل نظرها بين قدميه تارة و بين يديه تارة أخرى و أخيرا ركزت نظرها على الجواد . سألها جاسر بإشفاق و قد لاحظ ارتباكها : أتحتاجين شيئا يا عزة ، اعتبريني أخاك الأكبر و لا تخجلي
أجابته و هي تهز رأسها نافية : كلا كلا ، لا حاجة لي في شيء ، كنت فقط أود ، كنت أود أن ...
ثم سكتت عاجزة عن التعبير ، انتظرها جاسر قليلا ثم خاطبها بعطف : عزة ، أنت ...
لكنها قاطعته و هي تتكلم بسرعة كأنما تخشى أن تهرب منها الكلمات : لماذا أنت غاضب يا جاسر؟ البارحة كنت في أحسن حال معنا . هل أسأنا إليك ، هل تعتب علينا تصرفا ما ؟ ميسون أيضا تظن أنك غاضب منها.
تنهد عندما سمع اسم هذه الأخيرة و أجاب الفتاة يطمئنها : أنا لست غاضبا منكم أبدا يا عزة بل صدقيني حين أخبرك أنكم من أحسن رفقاء السفر الذين حظيت بهم على الإطلاق.
سألته بإلحاح : إذن ما خطبك؟؟
أجابها بصوت متعب : كل ما في الأمر أني مهموم بعض الشيء.
قالت رغما عنها : و لكن لا يحق لك أن تكون مهموما يا جاسر ، ليس أنت
رفع حاجبيه و هو يقول مندهشا : و لم لا يحق لي؟
قالت بارتباك : لأنك أنت الوحيد الذي يسري عنا ، أنا لا أعني أننا نلزمك بهذا ، و لكننا جميعا ، كما لا شك تعرف ، هاربون من هموم الماضي . جميعنا تحاصرنا الذكريات الحزينة ، ما عداك أنت يا جاسر فقد بدوت لي خاليا من الهموم ، مرتاح البال ، بادي المرح و الحبور
صمتت قليلا و أضافت بخجل : و لذلك نكره أن نراك حزينا
ظل جاسر ينظر باستغراب إلى وجهها الجميل الذي اعتراه شيء من البؤس. ثم قال لها برفق : هل تسمحون لي أن أختلي بنفسي هذا اليوم ، و من الغد إن شاء الله سأحاول أن أعود لسابق عهدي معكم.
قالت عزة محذرة : فقط هذا اليوم
نظر إليها باستغراب مرة أخرى ثم ابتسم رغما عنه ، أما هي فقد ابتسمت براحة لابتسامته و أسرعت مغادرة.
حدث نفسه بحيرة : من كان يظن أن الفتاة عزة قد تعبأ بأمر أحد إلا نفسها ؟!!
كان قد لاحظ منذ أن التقاها أن جل اهتمامها كان بنفسها و بشؤونها. فما أن يحل الظلام حتى كانت تهرول إلى العربة كأنما لتحتمي فيها ، غير مبالية بالآخرين أو هكذا كانت تبدو. على عكس ميسون التي كانت دائما آخرهم دخولا.
بدت له عزة كذلك و كأنها لا ترتاح في الحديث سوى مع عاصم أو مع السيدة المسنة. أما فيما عدا ذلك فلم تكن تنبس إلا بكلمات تعد على أصابع اليد الواحدة ، لم تضحك إلا فيما ندر ، أما ابتساماتها فكانت تختفي بمجرد أن ترتسم على شفتيها. و ما إن يطول صمتها حتى تبدو كتمثال معبر عن الحزن و الأسى.
كانت جميلة ، لا أحد يستطيع الإنكار ، بل و شديدة الحسن أيضا. و لكنها كانت تبدو في كثير من الأحيان جامدة ، خالية من الروح.
أما ميسون ، ميسون فكانت تفيض بالحياة حتى و هي صامتة . خلبت لبه منذ أول نظرة من عينيها العسليتين و علم منذ اللحظات الأولى أنها نشأت في بيت عز. كانت طريقتها في الحديث ، التفاتاتها ، و جميع حركاتها تدل على رقيها ، و لكنها رغم ذلك لم تكن تأنف من فعل أي شيء.
و لشد ما أسرت فؤاده حين انحنت مرة على أوراقها لترسم شيئا ما. عقدت حاجبيها الرقيقين و أسبلت جفنيها و اكتسب وجهها تعبيرا أخاذا حتى غدت هي نفسها لوحة ناطقة ، لوحة ساحرة خلابة ود لو يمضي عمره يتأملها و يحافظ عليها و يخبئها عن جميع الأعين.
لكن يشاء سوء حظه أن المرأة التي شغف بها هي نفس المرأة التي اختارها قلب عاصم.
زفر قائلا بغيظ : لو كان رجلا غيرك يا عاصم لما أقمت له وزنا و لما اكترثت و لكنك أنت يا عاصم ، أنت!
نعم كان غريمه فيها هو عاصم. عاصم ابن عمته و معلمه و قدوته و أعز صحبه . عاصم الذين يئسوا جميعا من فكرة اقترانه بامرأة أخرى بعد ما كان من زوجته الأولى.
كان هو أكثر من رأى معاناته و بؤسه بعد ما حصل.
كان معه عندما غادرا في تلك الرحلة المشؤومة ليلحق امرأته و ابنته. رآه في أشد حالاته بؤسا و هوانا. كان لا يكاد ينام الليل و لا يبتلع من الطعام إلا ما يسد رمقه و يجعله يقيم أوده.
رأى القهر في عينيه و قسماته عندما منع عن ابنته ، لكنه لم يشتك أبدا حتى له. كتم ألمه بداخله حتى كاد يهلك. تذكر جاسر تلك الليلة عندما قام من الليل على صوت هذيان ابن عمته ، كان محموما كأنه قدر تغلي و كان يردد عبارات غامضة لم يفهم منها إلا اسمي زوجته و ابنته.
تعهده برعايته حتى زالت عنه الحمى و مع زوالها اختفت أشياء كثيرة لدى عاصم ، اختفتت بشاشته و مرحه و خبت لمعة عينيه و أصبح كأنما هو جسد بلا روح.
و حتى حين بدأ يعود لسابق عهده لم يعد أبدا كما كان. و أكثر ما طرأ عليه هو كرهه للنساء و بغضه لكل ما يتعلق بهن. لكن هاته الأخيرات لم يتركنه و شأنه. فعندما عرف عنه عزوفه عن الزواج ، حاولت الكثيرات أن يداوين جراح قلبه و روحه و لكن هيهات فهو لم يسمح لهن حتى بالاقتراب أو الدنو، و صدهن صدا غليظا قاسيا.
و الآن و لشدة استغرابه ، لان قلب عاصم أخيرا و هوى و هام بامرأة و أي امرأة. ميسون التي شغفت قلبه هو الآخر برقتهآ و عذوبتها ، ميسون الحلوة التي تبدو كفاكهة تؤكل بعد الشبع .
تنهد مرة أخرى و خاطب نفسه بتصميم : " مادام عاصم اختارها فلا شأن لك بها أبدا ، يجب عليك أن تنساها. أنت لم تعرفها إلا قريبا أما عاصم فتعرفه طوال عمرك "
ظل يحدث نفسه بهذا الكلام طوال اليوم خاصة و قد بدأ يلاحظ ما كان خفي عليه من قبل ، من نظرات متبادلة بين العاشقين و من كلام يحمل أكثر من معنى.
عندما أفاق في اليوم التالي قبل أن ينتصف النهار بقليل كان ما يزال يشعر بتعكر مزاجه و لكنه ما إن رأى عاصم قادما إليه حتى رسم ابتسامة مصطنعة على وجهه ، ابتسامة ما لبثت أن اختفت حين سمع هذا الأخير يقول له بحماس : أبشر يا جاسر فقد حدثت عزة بشأن رغبتك في خطبتها و وافقت...
|