كاتب الموضوع :
نغم الغروب
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: الرحيل ...إليه
الفصل التاسع العاشق
في اليوم التالي ، بدأت عزة تشعر بالارتياح قليلا و هي تقطف ثمار نجاح خطتها. فقد بدا واضحا أن عاصم و ميسون قد تغيرا على بعضهما البعض. لم يعودا بالطبع لما كان عليه من جفاء مصطنع و نفور زائف. غير أن كل منهما بدا كأنما يفضل تلآفي الآخر.
كانت ميسون قد شفيت تماما من إجهاد السفر غير أنها كانت مستاءة من ضيق العربة. فقد كان عليها أن تختار بين وضعين للنوم إما شبه جالسة أو ثانية ركبتيها. و رغم احتمالها و صبرها إلا أنها لم تكن لتطيق هذا الوضع لعشر ليال أخرى.
وصلوا المدينة التي كان ينتظره فيها رفاقه قبل أن ينتصف النهار بقليل. اتجه بهم عاصم إلى الخان الذي ينزل فيه أصحابه ، استقبله ثلاثة رجال يماثلونه حجما وبنية. تبادل معهم كلمات قصيرة ثم أسرع إلى غرفته ليسقط على الفراش شبه مغشي عليه بعد تعب سفر يوم كامل.
تأملت ميسون الرجال من وراء ستار النافذة، كان اثنان منهم قد تجاوزا الأربعين من العمر و ربما شارفا علي الخمسين بينما بدا الشاب الثالث أصغر من عاصم.
بعد قليل أتاهم أحد الرجلين الأكبر سنا و طلب منهم بلطف أن ينزلوا حتى يأخذهم إلى غرفتهم.
قال لهم باعتذار و هو يتقدمهم : لم أعلم أنكم خمسة أنفار لذلك استأجرت لكم غرفة واحدة
لكن لا تقلقوا ، سأتدبر الأمر حالا.
حالما استقرت ميسون في غرفتها أخرجت كيسا من المال و ناولته لمربيتها قائلة لها بلطف : أرجو منك يا خالة أن تذهبي للشاب الأصغر سنا و تطلبي منه شراء عربة جديدة لنا و كذلك بعض الأغطية و الفراش
بعد ساعة من الزمن كانت تتأمل العربة بارتياح . تفقدتها من الداخل و الخارج ثم التفتت للشاب و قالت له بابتسامة مهذبة : أرجو أن تتقبل شكرنا و تعذرنا لأننا أتعبناك معنا
أجابها و هو يتأملها بإعجاب واضح : رجائي أن تتعبيني كل يوم
ابتسمت رغما عنها و التفتت لتغادر لكنه استوقفها قائلا : بم أدعو سيدتي؟
قالت بهدوء : أدعى ميسون و أنت؟
ردد اسمها عدة مرات كأنه يتذوقه ثم قال : أدعى جاسر يا سيدتي ميسون و أنا اسم على مسمى
ابتسمت مرة أخرى ثم قالت مودعة : أشكرك مرة أخرى يا بن أبي جاسر
تمتم محدثا نفسه و هو يراقبها تبتعد : لأول مرة يا ابن عمتي تجيد اختيار رفقاء السفر. و يا له من اختيار!!
عندما علم عاصم بأمر العربة الجديدة، توجه إلى ميسون و عاتبها قائلا :
- لِم لم تنتظري حتى أستيقظ لكنت انتقيت لك واحدة أفضل وأمتن
أجابته دون تردد : لأنك كنت سترفض حتما أن أدفع لك ثمنها. و نحن و الحق يقال أصبحنا نستثقل أنفسنا، فأنت لا تدعنا نساهم معك لا بالكثير و لا بالقليل.
قال بصوت خفيض : لا تستثقلي نفسك معي أبدا يا ميسون ، وددت لو ظللت قائما عليكم أبد الدهر
اتسعت عيناها دهشة و لكنه ما لبث أن تمالك نفسه و واصل بهدوء : أنتم ضيوفي و من واجبي أكرمكم
............................................................ ............................................................ ................................
أمضوا ليلتين في الخان ، استراحوا فيهما من وعثاء السفر و تزودوا للمدة الباقية فلن تعترضهم بعد الآن أي مدن أخرى حتى يصلوا وجهتهم.
في الأيام الثلاثة التالية عرفت ميسون أكثر عن رفاق سفرهم الجدد. كان جاسر رغم قوة بنيته أبعد ما يكون عن الشدة و الصلابة في الطبع. كان طيبا متسامحا ، حاضر البديهة ، دائم الدعابة لا يترك أحدا في شأنه. لذلك لم تستغرب حين رأت الطفلين يولعان به أكثر من أي أحد آخر.
أما الرجلان الآخران فكانا في غاية الدماثة و غاية العزلة عنهم في نفس الوقت. لم تكن تراهما إلا مبتسمين، مستبشرين غير أنهما لا يتكلمان إلا قليلا. كان أحدهما يقضي اليوم و هو يتشمم الجو بأنفه القوي حتى أنها أطلقت عليه لقب "المتشمم" بينما كان الآخر أوفر الرجال نشاطا فكان ينظف الخيل و يسقيها و يطعمها و يجمع لهم الحطب.
أُعجبت بهم جميعا فقد بدوا جد مختلفين عن رجال مدينتها الذين كان معظمهم خاويي العقل ، فاسدي الطوية ، لا يكادون يطيقون أي مشقة.
أيقظها صوت جاسر من تأملاتها. كان يلعن سوء حظه ، التفتت إليه متسائلة فوجدت إحدى قدميه حافية و هو يحمل في يده أحد نعليه. ارتسم على وجهه تعبير آس أضحكها رغما عنها.
قالت له بين ضحكاتها : هاته و سأصحله لك قبل أن تبدأ بالبكاء
نظر إليها باستغراب : حقا ستصلحين لي نعلي، كلا، كلا فهذا لا يليق بمقامك. ناوليني الأدوات و سأقوم بخياطته بنفسي
سألته بشك : و هل تجيد ذلك؟
أجابها متأسفا :ليس فعلا و لكني لن أدع أناملك الرقيقة تلمس نعلي الأعفر الأغبر
قالت و هي تفتعل نفاذ الصبر : هات النعل حالا يا ابن أبي جاسر فشكلك مضحك و أنت حافي القدم.
ناولها إياه باستسلام و ظل يراقبها بنظرة عميقة و هي تبتعد.
............................................................ ............................................................ ..........................
بمرور الأيام ، ازداد تقرب جاسر منهم ، كان يأتيهم يوميا فيجتمعون كلهم باستثناء عاصم و الرجلين الآخرين. و يقضون بعض الوقت في قص الطرائف و ما يتذكرونه من نوادر. كان جاسر يستأثر بمعظم الحديث بينما كانت ميسون أحيانا تحكي لهم عن بعض الغرائب التي رأتها أثناء أسفارها.
كانت شديدة الحيرة في أمر عاصم فهو لم يحاول مرة أن يشاركهم أحاديثهم و مع ذلك كان دائما يظل غير بعيد عنهم. و لم يخف عليها اكفهرار وجهه و قسوة نظراته إليها كلما رآها تتبسط في الحديث مع جاسر. كانت قد لاحظت أن هذا الأخير دائم التودد إليها إلا أنها لم تقل له كلمة تشجيع واحدة بل كانت تتجاهل تلميحاته و تصريحاته. و صعب عليها أن تصده بغلظة لطيبته الشديدة معهم جميعا.
" ما الذي يتوقعه مني عاصم ، أن أجلس مثله منزوية عن الجميع ، لا أشارك في حديث و لا أضحك على دعابة، ما الذي يريده مني " أفاقت من تساؤلاتها على صوت قهقهة عزة و هي تضحك على إحدى فكاهات جاسر. نظرت إليها باستغراب شديد فليست الفتاة بالتي تطلق العنان لضحكاتها. أما عزة فقد وضعت كفها على فمها كأنما أحست بالندم.
نظر إليها جاسر بتسلية ثم قال متهكما منها برفق : لا تخشي من الضحك يا عزة فلو كان يودي بحياة المرء لكنت ميتا منذ زمن.
ابتسمت له عزة في تسامح ثم خفضت عينيها في خجل.
............................................................ ............................................................ .....................
في الليلة الخامسة ، أرقت ميسون من نومها ، أغمضت عينيها و حاولت العودة للنوم و لكن بدون جدوى فقد جافاها النعاس تماما. كان الرجال قد اختاروا أن يبيتوا ليلتهم في العراء كي يستريحوا قليلا من عناء السفر. نزلت ميسون من العربة بعدما لفت نفسها جيدا في عباءتها الواسعة، أصاخت السمع قليلا فلم تسمع أي صوت فمضت تتجول في الأنحاء بتمهل عسى أن يعاودها النوم.
سمعت صوت خطى ورائها و ما إن التفتت حتى وجدت جسما قويا طويلا يسد الطريق أمامها ، خفق قلبها بشدة لكن سرعان ما شعرت بخيبة الأمل حين رفعت رأسها و رأت جاسر.
كان ينظر إليها بطريقة غريبة، بدا مشوشا و حائرا. سألته بقلق :
ما بالك يا جاسر، أتشتكي من شيء؟ هل أدعو أحد الرجال؟
أجابها كأنه يلومها : تسألينني مم أشكو يا سيدتي ميسون ، تسألينني و أنت سبب ما أنا فيه؟
قالت له مستنكرة : ويحك يا ابن أبي جاسر و كيف أسأت إليك؟!!
قال لها بصوت ملتهب : آذاني جمالك و جرحتني رموشك و طعنتني نظراتك في صدري أما صوتك ف...
قاطعته و هي لا تكاد تصدق ما تسمع : كفى يا جاسر لم أعهدك بهذه الجراءة. و إني لأتساءل أي شيء بدر مني و هيأ لك أني قد أستعذب مثل هذا الحديث.
رسم تعبيرا مضحكا على وجهه و قال بصوت فيه نبرة أسى : يا لسوء حظك يا جاسر، المرأة الوحيدة التي مال لها فؤادك لا تكاد تطيقك.
حاولت جهدها أن تحافظ على تعبير الحزم الذي يعتلي قسماتها و لكنها فشلت و غالبها الابتسام. فهم جاسر انبساط وجهها على أنه تشجيع منها فصارحها قائلا : اعتقدت أني أستطيع الانتظار حتى الصباح و لكن رؤيتي لوجهك الساحر الجميل الآن أذهبت كل ذرة صبر باقية.
واصل بصوت مظطرب : سيدتي ميسون أتمنى لو تسعدي قلبي وتقبلي أن تكوني زوجتي
شهقت ميسون و هي لا تكاد تصدق أذنيها و قالت في نفسها " حتى أنت يا جاسر و أنا التي عاملتك و كأنك أخ لي؟!" و استدارت لتنصرف من أمامه مسرعة.
لكنه ما لبث أن تبعها و هو يعيد السؤال بلهفة : أرجو أن تحققي مقصدي و تطفئي النار المتوقدة بداخلي.
أجابته بصوت حازم : ليس الآن يا ابن أبي جاسر ، فيما بعد ، فيما بعد
وقف أمامها فقالت له بجدية : أرجوك دعني أذهب الآن
عندما ابتعد جانبا أكملت طريقها و هي تهز رأسها بتعجب " ياللأحمق" ، حدثت نفسها ، فجأة سد الطريق أمامها مرة أخرى أو هذا ما ظنته لأول وهلة حتى رفعت نظراتها فرأت وجه عاصم.
|