كاتب الموضوع :
نغم الغروب
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: الرحيل ...إليه
الفصل الخامس عشر اعتذار و انكسار
مر ذلك اليوم دون أن ترى ميسون عاصم و لو لمحة خاطفة فقد أخذتهم والدته إلى غرفة جانبية شبه منفصلة عن باقي البيت. و حتى عندما حان موعد الأكل ، لم تجتمع به فقد تناول الغداء هو و والده بعيدا عن النساء.
اعتذرت منهم قائلة : أنا آسفة لأني جمعتكم في هذه الغرفة و ضيقت عليكم و لكن لا تقلقوا فمن الغد صباحا سيغادر زوجي و ابني ليقيما عند عمته
أسقط في يد ميسون تماما فستظل على هذا الحال محرومة من رؤيته لمدة غير معلومة ، لاحظت المرأة وجومها فاستأنفت قائلة : لا تقلقي يا ابنتي ، فهما متعودان على هذا كل ما أقامت عندي إحدى صديقاتي أو قريباتي ثم إن بيت أخت زوجي ليس ببعيد عنا ، إنه ملاصق للبستان
ابتسمت لهم ابتسامة دافئة ثم خرجت لبعض شؤونها.
مضت الأيام طويلة و ميسون و عزة تعيشان أسوأ أوقاتهما، تكتفيان بسؤال عابر من حين لآخر عن حال الرجلين و لا تطمعان حتى في نظرة من بعيد. كانت عزة قد كشفت لميسون و مربيتها عن أمر خطبتها لجاسر. دخلت عليهما في إحدى المرات و تطلّعت إليهما بحرج ثم قالت وهي تختار كلماتها بصعوبة : أردت أن تعلما أني لم أعد مخطوبة لعاصم الآن فقد أصبحت مخطوبة لجاسر
ما إن تفوهت بآخر كلماتها حتى سألتها المرأة المسنة باستغراب : و كيف حدث ذلك يا بنيتي؟ و هل يخطب الرجال على خطبة بعضهم خاصة و هم أقارب؟
أجابت عزة و هي تكذب بطلاقتها المعهودة : لم يكن جاسر يعلم بذلك حين خطبني من عاصم و لم يشأ هذا الأخير أن يسوءه فآثره على نفسه
رددت ميسون وراءها بتهكم خفيف : آثره على نفسه ، يا لمروءته!
ثم سألتها و هي تمعن النظر في وجهها : و أنت يا عزة كيف وافقت على هذا الأمر؟
ردت الفتاة بامتعاض : هذا ما حصل
lرغما عنها شعرت ميسون بشيء من الحسد من عزة فهي حتى الآن لم تعرف ما كنه الشيء الذي يجمعها بعاصم. كانت تفكر طوال الوقت في حالها و حاله و لحسن حظها فإن تعدد مشاغلها خفف عنها و قلل من ضيقها و أساها.
كانت تقضي يومها و عزة في مساعدة والدة عاصم في القيام بمختلف شؤون البيت و رغم أن هذه الأخيرة ألحت عليهما مرارا بأن يلزما الراحة إلا أنهما أقنعتاها بأنهما ستستثقلان نفسيهما لو لم تفعلا.
بعد العصر كان الجميع يذهبون إلى منزل عمة عاصم فيقضون هناك جزءًا من المساء ما عدا الشابتان اللتان تظلان لوحدهما تجترعان آلام الشوق في صمت.
في اليوم العاشر بعد أن خرج الجميع فضلت عزة الخلود إلى النوم باكرا فخرجت ميسون للتنزه في البستان. عندما عادت إلى ساحة البيت سمعت خطوات في الممر فأسرعت لتلقي نظرة ، رأت عاصم يحمل كيسا و يسير متجها إلى الباب ، كان ما يزال يعرج عرجا خفيفا ، أحست بوخز خفيف في قلبها و دون أن تشعر سمعت صوتها يناديه بلهفة : عاصم
تصلب ظهره ثم التفت إليها و هو يبتسم لها بلطف ، قال بصوت هادئ : كيف أنت يا ميسون ؟ هل ينقصك شيء ما؟
أجابته بصوت شبه هامس : أنا بأتم عافية يا عاصم و لا ينقصني سوى الاطمئنان عليك
أجابها و نظراته تحتويها : أنا بخير الآن ، لا تشغلي نفسك بالقلق علي
لم يكن قد تحرك من مكانه فبادرت هي بالاقتراب منه فشوقها كان أقوى من أي تعقل. ظلا يتطلعان لبعضهما دون كلام ثم قطعت هي الصمت و هي تقول بعاطفة مشبوبة : عاصم أود أن أعتذر منك على كل ما بدر مني في حقك ، على غلظتي و جفائي و أي كلمة أسأت بها إليك. سامحني لأني صفعتك في ذلك اليوم ، أنا آسفة فليس من شيمي أن أصفع الرجال غير أني لم أحتمل أن يهان أبي في قبره.
ظل ينظر إليها في صمت للحظات ثم أمسك يدها اليمنى و سألها : أ هذه هي اليد التي صفعتني؟
هزت رأسها بالإيجاب فرفع راحة يدها الى شفتيه و طبع عليها قبلة دافئة و هو مغمض العينين.
كانت لمسة شفتيه على بشرتها كشرارة انبعثت لتغمرها بلهيب طاغ شعرت معه بغيابها عن هذا العالم و انطلاقها في دنيا غير الدنيا و لم تستيقظ إلا على صوته المظطرب و هو يقول لها : أنا لست غاضبا منك يا ميسون و الآن فلتسرعي إلى الداخل
عندما لم تتحرك أمرها برجاء : اذهبي للداخل يا ميسون ، الآن
غادرته على مضض تاركة قلبها بين يديه. غادرته و هي لم تحض بعد بجواب شاف عما يحصل بينهما.
في الغد ما إن استيقظت حتى توجهت إلى والدة عاصم و قالت لها مبتسمة : هل تستطيعين أن تنقلي رسالة مني إلى عاصم يا خالة؟
سألتها المرأة بفضول : خيرا يا ابنتي
- أود أن تطلبي منه أن يبحث لنا عن منزل لنقيم فيه حتى لا نثقل عليكم أكثر من هذا
قالت المرأة بصدق : أولا أنتما لا تثقلون علي يا حبيبتي و خاصة أنت و عزة فأنتما تذكرانني بابنتي قبل أن تتزوجا و ثانيا عاصم سافر هو و والده و سيغيبان عدة أيام
جاهدت ميسون بشدة كي تخفي صدمتها و ألمها و انسحبت و هي حائرة في أمره، قابلها الليلة الماضية و لم يخطر بباله أن يخبرها بسفره، لماذا يتصرف معها بهذه الطريقة ، هل يتعمد أن يزيد من انشغالها. كم تتمنى إذن لو ظلت خالية القلب.
………………………………………………………………………………………………………………..
أصبح من عادة الفتاتان أن تتوجها إلى منزل عمة عاصم كل مساء بعد سفر هذا الأخير برفقة أبيه. و لكن عزة كانت سرعان ما تشعر بالسأم فتغادرهم باكرا. في اليوم الثاني كانت عائدة من عندهم عندما برز لها جاسر فجأة من خلف إحدى الأشجار. رغم فزعها إلا أنها لم تستطع كتمان فرحتها.
سألته و هي غير قادرة على إخفاء لهفتها : كيف أنت يا جاسر
أجابها بهدوء : أفضل و الحمد لله و لكني لا أستطيع تحريك يدي كما في السابق
طمأنته بثقة : لا تخف ستتحسن بإذن الله
ظلت ترنو إليه بنظرات كلها اشتياق ، انتظرته عبثا ليتكلم لكن طال صمته و بدأ القلق ينتابها.
حين تكلم أخيرا قال لها بلطف زائد : عزة أود أن أخبرك شيئا ما و لكني أخشى أن تنزعجي
سكتت وهي تشعر بقلقها يتزايد ، أكمل مرتبكا : اسمعيني يا عزة كنت أتحدث مع عاصم و هو و هو…
استجمع أنفاسه ثم قال دفعة واحدة : الحق يا عزة أني لا أنوي الزواج الآن
اتسعت عيناها فزعا و سألته بصوت مرتجف : هل تريد مني أن أنتظر أكثر؟ أ هذا ما تقصده؟
رد و هو يتحاشى نظراتها : كلا يا عزة لا تنتظريني
لجأت الفتاة للصمت التام و تنفس جاسر الصعداء لأن الموقف مر على خير.
و لكن الفتاة ما لبثت أن قالت و نظراتها تزداد قتامة : إذن أنت تكلمت مع عاصم ثم قررت أن لا تمضي في هذا الزواج ، إذن فقد أخبرك عاصم بكل شيء
- كلا يا عزة ليس هكذا تماما ، بدأ يشرح لها
إلا أنها لم تبدو على استعداد لأن تسمع و استمرت تقول بصوت متهدج : و أنت طبعا لا تريد الزواج من فتاة فاقدة الشرف ، أليس كذلك ؟ أليس كذلك؟
نظرت له بحدة و واصلت بصوت جاف : و لكنك أخطأت في الحكم علي. نعم أخطأت فأنا لم أسمح له بلمسي أبدا
ثم فجأة انهارت تماما و أخذت تهز رأسها بعنف و الدموع تغرق وجهها و هي تقول : لم يلمسني أبدا ، لم يلمسني ، لم أسمح له بلمس شعرة مني ، رغم أنه حاول مرارا و رغم أنه عرض علي المال و الحلي إلا أني رفضت و لم ينل مني أي شيء ، كنت كل يوم أنسحب قبل الجميع إلى غرفتي ، كل يوم أقفل على نفسي و أظل أترقب في خوف. كل هذا العذاب لتأتي أنت الآن و ترفض الزواج مني لأنك تشك في أمري
سألها مستغربا : عمن تتحدثين يا عزة؟
أجابته بحدة : عمن تظنني أتحدث ؟ عن ذلك السافل الخسيس زوج خالتي
صمت جاسر ليستوعب حديثها ثم قال محاولا تهدئتها : اسمعي يا عزة لم يحدثني عاصم بأي شيء مما أخبرتني إياه. الأمر و ما فيه أني كنت أمازحه بشأن خطبتي لك و هو تسرع و أخبرك
نظرت له و هي تشعر بتبلد ذهنها : أتقصد أنك لم تكن تعرف ؟ !
عضت على شفتيها بغيظ من تسرعها ثم أضافت مستفسرة : و أنت كنت تمزح حين طلبت الزواج مني ؟!
أجابها متوسلا : أرجوك لا تغضبي مني يا عزة
نظرت له بانكسار و قالت بصوت حزين : حتى لو أردت أن أغضب منك يا جاسر فلن أستطيع
ثم مضت مبتعدة بخطوات ثقيلة بينما ظل جاسر ينظر إليها و بداخله شعور جارف بالشفقة ، لقد كسر خاطر الفتاة المسكينة ، يا له من نذل.
ما إن وصلت عزة إلى البيت حتى دخلت غرفتها ورمت نفسها على الفراش ثم بدأت في النحيب. دخلت عليها ميسون و علامات القلق على وجهها و سألتها و هي تربت على ظهرها بحنان : ما بالك يا عزة ، هيا أخبريني و لا تخافي فلن أفشي لك سرا
حاولت عزة أن تتمالك نفسها و لكنها عجزت و بين أناتها و شهقاتها حدثتها بما كان . ظلت ميسون صامتة وهي تشعر بغيظها يزداد من رجال هذه العائلة الذين يعلقون النساء بحبهم ثم يتراجعون ، فعاصم يبدو أنه ينتظر قيام الساعة حتى يطلب الزواج منها بينما ابن خاله يعلق الفتاة بحبال الوهم ثم يتخلى عنها.
- هوني عليك يا عزة ، هوني عليك فهو لا يستحق دموعك
حاولت الفتاة أن ترد و لكن صوت شهقاتها منعها . أضافت ميسون و هي تضمها إليها : كفي عن البكاء يا عزة و لا تفكري فيه أبدا بعد الآن ، انسيه تماما ، تجاهليه هل تفهمين تجاهليه
رنت إليها عزة بحزن و قالت : و هل تعتقدين أني سأقدر
أجابتها و هي تدعي الثقة : ستقدرين صدقيني
كفكفت الفتاة دموعها و قالت بكآبة : سأحاول
............................................................ ............................................................ ....................
في اليوم التالي ، وفدت عليهم والدة جاسر فقد كانت والدة عاصم قد زارتها مرتين لتطمئن على ابن أخيها. عندما رأت الفاتان و تكلمت معهما قليلا ، التفتت إلى المرأة الأخرى و قالت لها ضاحكة : أنا أستغرب من ابني كيف رافق شابتان جميلتان مثلهما و لم يعرض الزواج على إحداهما مع ما تعرفينه عنه من عشق للجمال
ما إن سمعت عزة كلماتها حتى تلألأت الدموع في عينيها و استأذنت منهما و خرجت مسرعة. التفتت ميسون إليهما و اعتذرت نيابة عنها قائلة : إن عزة شديدة الحياء أرجو أن تعذراها
ابتسمت المرأتان ثم واصلتا الحديث ، شاركتهما ميسون لبعض الوقت ثم استأذنت منهما بلطف. ذهبت مباشرة لتطمئن على عزة فوجدتها تبكي في صمت. ما إن لمحتها حتى بادرتها قائلة بحزن : عرفت الآن لماذا صارحني البارحة بالأمر، خشي أن أخبر أمه و يجد نفسه مضطرا للزواج مني
لم تجد ميسون ما تقوله فاكتفت بأن تربت على ظهرها برفق و لم تتركها حتى كفت عن البكاء.
في الأيام التي تلت بدأت نساء أخريات يتوافدن على البيت و يسألن عن الشابتين القادمتين من ديار بعيدة. يبدو أن والدة جاسر نسجت أساطير عن جمالهما و حيائهما فبدأت كل من لها ابن أعزب أو حتى متزوج تأتي عسى أن تحظى بإحداهما. كثرت أسئلتهما و استجوابهما حتى شعرت ميسون كأنها سلعة تباع و تشترى ، كل هذا لأن عاصم لم يخطبها لنفسه ، لكان وفر عليها كل هذا السخف.
من حسن حظها أن والدته كانت قد أخبرتهم أن ميسون من أقاربهم البعيدين و أنها أتت لتقيم عندهم بعد وفاة والديها و إلا لكانت كل هؤلاء النسوة أقمن عليها حفلة من الأسئلة.
…………………………………………………………………………………………………………………
في أحد الأيام كانت عزة تسير ببطء و هي تفكر في حالها تماما كمثل ذلك اليوم الذي التقت فيه عاصم. و تماما كما في ذلك اليوم سمعت من يناديها ، التفتت لتجد جاسر أمامها و رغما عنها خفق قلبها بعنف ، تطلعت إليه في صمت فقال لها بارتباك : كيف حالك يا عزة ؟
- بأفضل حال و الحمد لله ، ردت بصوت هادئ
فهي إن لم تنل حبه فلا تريد شفقته.
- ألست بغاضبة مني ، تساءل بصوت لين
ابتسمت برقة و هي تجيبه : اطمإن يا جاسر فأنا سامحتك تماما ، سكتت قليلا ثم أضافت : ثم لا تقلق بشأني كثيرا فقد تمت خطبتي ثانية
سألها بفضول : و هل وافقت ؟
- طلبت مهلة للتفكير في الأمر
تأملها و هو يضيق عينيه ثم قال بغموض : و لكنك وافقت فورا حين خطبك عاصم لي
قالت و هي تهز كتفيها : حينها بدا لي أن أوافق
- و الآن بدا لك أن تفكري؟
نظرت إليه بعتاب و لم تدر كيف واتتها الجرأة لتقول له بثبات : أردت أن أتأكد أنه لم يكن يمزح حين خطبني
ظل ينظر إليها و عيناه متسعتان دهشة بينما أسرعت تغادره ، سمعت صوته يناديها و همت بأن تلتفت له لكن في تلك اللحظة رن صوت ميسون داخل رأسها و هي تأمرها قائلة : تجاهليه ، تجاهليه
|