الفصل السادس والخمسون
دخلت تمسك يد
عبير التي تشبثت بها ونظرها جهة العم صابر الذي وقف لها
ليقفن بناته بعده وزوجته , ووجدتُ نفسي لا إراديا أقف مثلهم ونظري لا يفارق
ملامحها , سحقا للشوق يا سراب أشعر أني لم أراك من عامين وليس شهرين
فقط , حتى أنك حرمتني من سماع صوتك ولو غاضبة أو معاتبة , كانت تلبس
عباءة سوداء حواف أكمامها وقبعتها محاطة بنقش فضي عريض وحجاب أبيض
وكانت أول مرة ترتدي هذا النوع من العباءات , وصلت عند العم صابر وقد
امتلأت عيناها العسلية الواسعة بالدموع , فقبّلت رأسه ويده وقالت بعبرة
" حمدا لله على سلامتك , ما أروعه من يوم لم تشرق الشمس على مثله "
مسح بيده على رأسها وقال مبتسما " بارك الله في أصلك يا ابنتي
وأكثر من أمثالك "
توجهت بعدها لبناته وسلمت عليهن تباعا بالواحدة وكل من حضنتها بكت معها
واختلط بكائهن بالضحك حتى وصلت لعمتي سعاد الواقفة بجانبي وضمتها بقوة
عناقا طويلا لا شيء فيه سوا بكائهما ثم قالت بعبرة " حمدا لله على سلامته
عمتي , وكأني رأيت والدي أمامي تعافى من مرضه "
ضمتها أكثر وقالت " سلمك الله يا ابنتي ورحم والدك وأسكنه فسيح جناته "
ابتعدت عنها تمسح دموعها هامسة " آمين "
ولم يبقى طبعا أحد غيري هنا لم يحضا بشيء من كل ذلك العناق والدموع والفرح
نظرتْ جهتي ورأسها للأسفل ومدت يدها لي وقالت بهمس " حمدا لله على سلامتكما "
نظرتُ ليدها التي لا يخرج إلا نصفها من كم العباءة الدائري الطويل بفتحته الواسعة
ومددت يدي لها لكن لم تكن اليد اليمنى بل اليسره وأمسكت بها يدها وشددتها لحضني
وطوقتها بذراعاي قبل أن تعترض أو تبتعد هاربة مني , ولأننا في وجود الجميع هنا
فلن تفعلها وتمنعني أعرفها جيدا , استكانت في حضني بلا أي ردة فعل فضممتها
أكثر وكأني بذلك أعوض أيام وأسابيع البعد عنها , ثم همست في أذنها قائلا
" من المفترض أن يكون لي مثل الجميع ولو من باب العدل "
لم تعلق بشيء ولم يبذر منها أي رد فعل سوا أنفاسها المتلاحقة القوية فأبعدتها
عني وأمسكت وجهها بيداي ولازالت تهرب بنظرها للأسفل فانحنيت لها
وقبّلت خدها المحتقن من البكاء وقلت هامسا " اشتقت لك "
ليشتعل وجهها احمرارا وتوهجتْ خديها بحمرة شديدة ولم يخرجني من تأملي
لها سوا همس عمتي سعاد بجانبي مبتسمة " لما لا تترك شيئا للمستقبل ؟
شقيقاتك الصغيرات أعينهن سيخرجن من مكانهن "
خرجت مني ضحكة صغيرة وأنزلتْ هي رأسها أكثر وابتعدت عني ووقفت
جانبا فنظرتُ لهن وقلت مبتسما " هيا أحضروا الحقيبة السوداء الكبيرة
لتروا هدايا والدكم "
فانطلقن راكضات تتبعهن صفاء قائلة " انتظرن لن تستطعن حملها
ستقع على أقدامكن "
*~~***~~*
طرق أحدهم الباب ودخلت منه دُرر بابتسامتها الحزينة الجميلة والتفتوا لها
جميعهم فدخلت وسلمت عليهن ثم اقتربت مني وقبّلت خدي قائلة بهدوء
" حمدا لله على سلامتك يا مشاغبة , لعلك تتوبي عن قيادة السيارة "
ضحكتُ وقلت " أنتي من أعلم أن حصتي منها ستكون الأوفر لذلك
لن أطلعك على تفاصيل الحادث "
جلست على طرف السرير وقالت " المهم أنك بخير ولن تعيديها مجددا "
ضحكن جميعهن واستأذنت زوجة عمي ولحقت بها عمتي وغدير المسكينة التي
تشرف على كل شيء هنا بعد أوامر عمي الحازمة كي لا تَتعب زوجته المصون
طبعا ولم يفكر في أن يقلل من ضيوفه المتناوبين على مجلسه أغلب أيام الأسبوع
نضرتُ لبطنها ثم رفعت يدي المجبّرة وقلت مبتسمة " كل ما أخشاه أن يأتي ابنك
ويدي هكذا ولن أتمكن من حمله ومؤكد لن تعطيه لي لأرفعه بيد واحدة "
ضحكت وقالت " أمامي أكثر من شهرين لألد ووالدتي قالت أن البكر
تكمل العشرة أشهر , أي أمامك الوقت بطوله "
جلست سدين في الكرسي المجاور للسرير وقالت مبتسمة " وأنا كيف سأراه ؟
لا دخل لي سأذهب لك يوما كل أسبوع "
ضحكتُ وقلت " أنتي سيكون لديكم طفل عما قريب فاتركي ابن شقيقتي لنا "
قالت بعبوس " تلك الحمقاء سلسبيل وكأنه لم تلد امرأة قبلها , من الآن قالت
كل من يريد رؤية ابنتي يراها وهي في سريرها , وحملُها ممنوع "
نظرتُ لدُرر المبتسمة وقلت " وأنتي لا تفكري في هذا فلا أنا ولا
سراب سنرضى لك "
ضحكت ضحكة صغيرة وقالت " لا تقلقي فقصي من الآن قال أنه
سيأخذه في جولة ما أن يفتح عينيه ليتعرف على العالم "
ضحكت وقلت " زوجوه إذا , هذا يبدوا سيتعبك وابنك "
ثم نظرتُ لسدين بنصف عين وقلت " لما لا تخطبوا له هذه الملونة
وتريحونا منها لتنجب له علبة ألوان "
نظرت لي سدين بضيق ويداها وسط جسدها وقالت دُرر ضاحكة
" وهل سيجد أفضل منها ؟ فلتوافق هي وسأعرض الأمر عليه "
حوّلت سدين نظرها مني لدُرر وقالت بضيق " هل تروني بضاعة
تعرضوها في السوق ؟ "
ثم نظرت لي وقالت بذات ضيقها " وأنتي لا تكرري هذا مجددا مع أحد
غيرها ويضن أنكم متضايقين من وجودي وتبحثون عمن يخلصكم مني
ألا يكفيني رمي على الرجال يا معتوهة "
ضحكت وقلت " ليس الجميع كقالب الثلج ذاك الذي تزوجته سابقا "
تأففت وقالت بصوتها الرقيق " لكني في نظرهم واحدة لا أتغير "
ثم تنهدت وأضافت بإحباط " وظهر كلام رغد صحيحا وثمة مريخي
يمشي هنا على الأرض لكنه فر مني "
نظرنا لها كلينا باستغراب قبل أن أنفجر ضاحكة وقالت دُرر
" أي مريخي هذا ؟ "
هفت بيدها على وجهها وقالت بحالمية " لا تذكريني يا دُرر لقد وجدت
مريخيا لم يحكم عليا بمظهري "
ثم ضمت يداها لصدرها وقالت بعينان مغمضتان " ما أوسمه وعيناه
الخضراء نظرتها قاتلة وكلامه كالسحر تماما "
ثم فتحت عينيها وتنهدت وقالت " وله هيبة في شخصيته تشبه أخي
إياس وأجزم أنه ممن تلقوا تلك التدريبات المستميتة "
تبادلت ودُرر النظرات وضحكنا معا وقالت هي بتذمر " نعم تضحكان
حالي يُضحك فعلا لكنت أمسكته من ثيابه وما تركته غادر "
قلت بضحكة " وتمسكيه من ثيابه ما ستقولين له ؟ تزوجني الآن "
رمت يدها وقالت باستياء " الأحمق لم يقل حتى سأرجع قبل الشهر
لأرى إن خرجت النتيجة , ألا يراه كثيرا ذاك المغفل "
هززت رأسي بيأس منها وقلت " سدين لا تسافري بخيالك بعيدا
وهوا لا يذكرك حتى التذكر "
تأففت وقالت " لا تزرعين التفاؤل في القلوب أبدا , سيأتي بعد شهر
وسأعرف أسمه هذه المرة وإن سرقت بطاقته مع محفظته "
ضحكنا عليها وقالت دُرر " سعيد حظ ولا يعلم عن نفسه "
حضنتها من ذراعها وقالت بسعادة " هذه هي التي تقدّر قيمة البشر
ليت من تربت معك مثلك "
دفعتها عنها وقلت ضاحكة " ابتعدي لا تسقط فصه من وجهك في
حلق ابنها وتخنقه "
ابتعدت عنها ضاحكة ووقفت وقالت مغادرة على صوت نداء عمتي لها
" أعلم أن العشاء سيخرج من تحت يداي طالما والدتي هنا "
وخرجت على ضحكتي وقالت دُرر مبتسمة " كم رائعة هذه الفتاة "
قلت مبتسمة " لن يعرفها أحد مثلي فلا توجد مثيلة لها فتحركي هيا
واخطبيها لشقيقك "
قالت مبتسمة " وذاك يوم المنى لكنك تريها أمامك لديها مريخي ستقبض
عليه بعد شهر وشقيقي يبدوا وجد له مريخية أيضا وسيطرت على قلبه "
ثم نظرت حولها وقالت " سراب لم أراها ألم تأتي اليوم ؟ "
قلت من فوري " بل جاءت ولن تذهب "
نظرت لي باستغراب فقلت " سأحكي لك القصة من أولها وأمري لله
فلا تلوميني فقد سمعت ما يكفي ويزيد "
*~~***~~*
جلبوا الحقيبة يجرونها أربعتهم معا وجلس البقية ولم أجد مفرا من الجلوس ولو
قليلا فجلستُ في الكرسي المنفرد خلفي وكان بجوار كرسي آسر , كان نظري
على يداي اللتان أقبضهما ببعض في حجري وأشعر بجسدي لازال يرتجف
بأكمله فهل يرى المكان ووضعنا مناسبان لكل ما فعل ؟ هل كان عليه أن يسافر
ويبتعد ليشعر بكلمة الشوق التي لم أسمعها منه سابقا أم يفعل هذا ليبعثرني ويختبر
انفعالاتي وهوا أعلم الناس بما في قلبي له , سحبت الهواء لرئتي ونفثته متنهدة
بأسى ولعنت اللحظة التي طاوعت فيها ترجمان وعقلي الغبي هذا وأتيت , لكنها
كبيرة على نفسي أن لا أكون معهم اليوم , حتى إن لم يكن من أجل أني زوجة من
يُعدونه أبنهم فبيني وبينهم عِشرة طيبة مهما كانت قليلة , فلم أرى منهم إلا المعاملة
الحسنة وكأني فرد منهم وسيحز في أنفسهم أن لا أكون معهم في يوم كهذا اليوم
الذي يعدّونه عيدا لم يعيشوه في كل أعياد حياتهم , أوصلن الحقيبة لآسر الذي
انحنى وفتحها على صراخهن مبهورات بكم الهدايا فيها وقال عمي صابر
ضاحكا " لا تلمسن شيئا , دعوه يوزعها عليكم كي لا تكسروها "
وقفن فوقها أيديهن تتحرك بعشوائية من الحماس يمنعنها من لمس شيء وهوا
يحرك ما فيها برفق حتى أخرج علبتين وسوّى جلسته ومد إحداهما لعمتي
سعاد قائلا " هذه لك قبل أن تتحول لقطع "
ضحكت وأخذتها منه ووضع الأخرى على فخذه وبدأ بإخراج الهدايا وتسليمها
لهن بالأكبر فالأكبر ولست أعلم كيف يعرفها من بعضها بدون أن يكتب عليها
أسمائهن ! أعطى لصفاء وداليا ودلال وسمية الكبيرات فيهن هديتين كيسا وعلبة
صغيرة الحجم وأعطى للتؤمان هديتين ولم يبقى سوا الأربع الصغيرات الواقفات
حوله فجلس وأمسك الهدية التي كانت على فخذه وقال مبتسما " هيا باقي الهدايا
كل واحدة منكن وحظها لنرى ما ستخترن "
فقفزت على الحقيبة فورا كل واحدة تريد الأكبر بينهن على ضحك الجميع
واكتفيت أنا بمراقبتهم مبتسمة وهن يفتحن هداياهم وكل واحدة تقول أن هديتها
هي الأجمل حتى قالت إسراء مشيرة بإصبعها الصغير للهدية الموجودة
في يده قائلة " ولمن هذه ؟ "
ونظر الجميع ناحيته فضحك وقال " كل واحدة أخذت هديتها ما شأنكن بهذه "
قفزت عبير وقالت " هي لسراب بالتأكيد فهي من لم تأخذ هديتها "
شعرت بجسدي تيبس والأنظار قد تحولت منهم عليا أنا فهربت بنظري للأرض
سريعا وتمنيت أني غادرت ما أن سلمتُ عليهم ولا أكون في هذا الموقف فمؤكد
الهدية لشخص يعرفه قد تكون حتى والدتي ووضعوه الآن في موقف محرج
رفعت رأسي سريعا حين رأيت الصندوق امتد أمام وجهي ونظرت لآسر الذي
قال مبتسما ونظره على عيناي " كنت أود أن أعطيها لها وحدنا لكنكم
تفسدون كل شيء اليوم "
هربتُ بنظري منه للهدية أمامي وقلبي يكاد يخرج من مكانه ولا أعلم ما به لا
يهدأ ! وددت أن رددتها أن رفضتها أن قلت له كلاما كثيرا أحبسه في هذا الصدر
لكن ما موقفي حينها أمامهم ؟ مددت يدي ببطء وأخذتها وقلت هامسة ونظري
لازال للأسفل " ما كان عليك أن تحرج نفسك وتترك صاحبها
الأساسي بلا هدية "
سحبها من يدي على نظراتي المصدومة وقال ناظرا لي وبابتسامة " هاتيها إذا
لأعطيها لصاحبها الأساسي خيرا من أن أجدها عند إحدى الصغيرات فيما بعد "
وقفت حينها وأشعر بدمعتي ستفر من عيني امسكها بشق الأنفس فرغم ابتسامته
وهوا يقول ذلك شعرت بكلماته كالرمح غرسه في صدري وهوا يذكرني بما
فعلتُ بالسوار والخاتم سابقا , نظرتْ لي عمتي سعاد وقالت " ما بك
وقفتِ سريعا يا سراب ؟ "
انحنيت لحقيبتي وقلت وأنا أرفعها " سأزوركم في وقت آخر , لا
يمكنني ترك ترجمان أكثر من هذا وهي متعبة "
توجهت عبير نحوي وقالت ممسكة بيداي " ابقي معنا لقد أعددنا
الكثير من الكعك والحلويات "
وتوجهت إسراء جهتي أيضا وقالت ممسكة بعباءتي " ابقي معنا
قليلا بعد أرجوك "
كنت سأتحدث فقالت عمتي سعاد " خذي بخاطرهن على الأقل "
وبدأن باقي الفتيات يطلبن بقائي بالواحدة فقلت بإحراج " في وقت آخر
آتي يوما كاملا أعدكم بذلك "
وقف حينها آسر وقال " أنا سأكون في المجلس فابقي معهم "
وغادر من فوره والهدية لازالت في يده ونظري يتبعه ووقف عمي
صابر وقال " سأذهب له فأحضروا لنا حصتنا هناك لأنام بعدها قليلا
أشعر بالتعب "
وتحرك بمساعدة العصا الطبية فقلت قبل أن يبتعد " أنا من ستغادر يا
عمي فأخبره يدخل وكن مع عائلتك , لا تشعروني أني حاجزا بينكم "
وقف والتفت لي وقال مبتسما " كيف تفكرين هكذا يا ابنتي ؟ أنا كنت
سأدخل لغرفتي لأنام في كل الأحوال , وآسر متعب أكثر مني ومؤكد
سيغادر لمنزله "
وتابع طريقه قائلا " ابقي معهم فلستِ تضايقين أحدا "
وغادر من فوره وتحركتْ والدتهم قائلة " هيا نعد طاولة الكعك ونحتفل
بعودتهما وحدنا فالرجال لا يهتمون لهذه الأمور "
وتحرك الجميع مبتهجين فابتسمت بحزن وتمتمت بإحباط
" نعم اسأليني أنا "
وقد تذكرت ذاك اليوم حين أعددت حفلا صغيرا بسيطا فقيرا في غرفته في
ذاك المنزل ولم يؤثر به ولا رؤيته له بعد خروجي بل وأرسل لي القلوب
التي أعددتها فيه وكأنه يريد إخراجها من منزله , انتقلنا لغرفة الطعام وكان
كل شيء مجهز فيها وشعرت بالفعل أني حرمتهم من تجمعهم معا واحتفالهم
رغم أن ذلك لم يبدوا على ملامح أي منهن وقد دخل العم صابر بالفعل لغرفته
ونام أما آسر فلا أعلم عنه ولم أسأل فقد أخذوا له طبقه وبعدها لم يتحدث عنه
أحد ومؤكد غادر , علا حينها صوت أذان المغرب فقالت عمتي سعاد
" بسرعة للصلاة لنضع العشاء "
وتحرك الجميع ولست أعلم كيف سنأكل بعد كل ما أكلناه ؟؟
*~~***~~*
وقفتُ فقالت ناظرة لي للأعلى " أين يا قصي ونحن لم نكمل كلامنا بعد ؟ "
نظرت لساعتي وقلت " دُرر اتصلت بي وعليا الذهاب لإحضارها
والطريق سيأخذ وقتا "
وقفت وقالت " وماذا بشأن ما ... "
قلت مقاطعا لها " فليذهب أرض الله واسعة , وما قالته دُرر لن أوافق
عليه أبداً , الرجل ما يزال على قيد الحياة وتريدون توزيع أملاكه
على من لا علاقة له به أبدا "
تنهدت وقالت " كما تريد , وعليك أن تُفكر في كلامي في حال جاء
والده أو أحد أخوته مطالبين بشيء مما ترك "
قلت بجدية " كل ما تركه بسم دُرر بيعا وشراء , ولا تنسي أنه سيكون له
بعد شهرين أو ثلاثة ابن منها أي أنه حتى إن قالت دُرر أنها تريد تقسيم ما
ترك بحكم الشرع فسيكون لابنه من بعده , ووالده حين سألته عن أواس وقت
بحثنا عنه لم يجلب سيرة هذا الأمر أبدا وكان ظاهرا عليه الحزن والغبن
على ابنه , فمن المبكر التفكير في هذا يا أمي "
تنهدت وقالت بحزن " كله من خوفي عليها يا قصي فما صدّقنا أن توقفت
عن البكاء ولو نهارا فقط ورأينا ولو شبح ابتسامتها , ولا أريد أن يكدر
عليها شيء آخر ويكفيها ما رأت منذ كانت طفلة "
قبّلت رأسها وقلت " حفظك الله لنا يا أمي , ومادمتُ حيا فلن أسمح لأحد
أن يمسها بسوء ولا تنسي أن السيد رِفعت صرّح بوقوفه معها دائما "
قالت مبتسمة بحنان " أجل ذاك الرجل شهم حقا وجاء في وقته وأسكتَ
غياث عنها على الأقل "
نظرت لها باستغراب وقلت " وما الذي قاله لها غياث ؟ "
قالت من فورها " لا شيء مهم ولا تكثر المشاكل معه يا قصي وهوا مغادر
غدا يكفي خالتك ما بها , واذهب لشقيقتك وأحضرها لقد أصبحت الساعة
الحادية عشرة الآن وأمامكما قرابة الساعة ذهابا ومجيئا وعليها أن تنام
مبكرا وترتاح كما نصحت طبيبتها "
تنهدت بضيق وقلت " من أجلك فقط يا أمي ومن أجل خالتي لكان لي تصرف
آخر في الأمر , وأرى فكرة سفره خير للجميع وأولهم دُرر التي أصبحت
سجينة غرفتها منذ جاء , وكنتُ صامتا من أجل خالتي فقط وما كنت
لأسكت عن الأمر طويلا "
ثم غادرت من عندها وخرجت من المنزل وطوال الطريق بالي مشغول بما طلبته
مني دُرر , لن أعجز عن إمساك ما ترك زوجها لكني حقا أخشى أن يكون يراقب
كل شيء أو يعلم بما جرى ويضن أنه لا أحد مهتم لأمره وأني استغللت الأمر لأستولي
على كل شيء , تنفست بضيق وكنت قد وصلت حينها بعد الثلث ساعة سيرا لأن منزلنا
في أحد أطراف العاصمة وهذا المنزل في وسطها , أوقفت سيارتي بعيدا عن المدخل
قليلا حيث كانت ثمة سيارة أخرى والعقيد رِفعت وابن شقيقته يقفان قربها وبابها مفتوح
وأعرف دُرر لن يعجبها أن تكون سيارتي هناك قربهما , اتصلتُ بها لتنزل لي وبقيت
أنتظرها وخرجت فجأة امرأة تتبعها فتاة لا بل كانت هي ... ! أجل هي شقيقته وابنة شقيقة
الذي التفت لهم سريعا ولأن النور كان قويا عند بوابة منزله رأيتها بوضوح وعرفتها
فورا أما سيارتي فكانت في جهة مظلمة لا يظهر من فيها , وقفتا معهما وكانوا يتحدثون
ولم أسمع شيئا رغم أن نافذتي مفتوحة ! فأفراد هذه العائلة يبدوا أنهم يتوارثون الصوت
المنخفض , سنّدتُ ذقني بيدي متكأ بمرفقي على أسفل المقود ونظري مركز عليها ولم
ينحرف عنها أنشاً واحدا , بعد قليل سمعت ضحكة خالها لشيء قالته هي ثم ضم كتفيها
وقبّل رأسها وقال شيئا فسحبها شقيقها منه وطوقها بذراعه وكثُر ضحكهم ثم توجهوا
لسيارتهم وركبوها ونظري يتبعها وكأنها مغناطيس فلم تأخذ عيناي فقط معها بل وقلبي
أيضا , يبدوا أن هذه الفتاة تحضا بمكانة عالية لدى رجال عائلتها من كلام خالها عنها
ومن موقفهم الآن , تنهدت بقوة ومررت أصابعي في شعري مراقبا سيارتهم وهي
تبتعد وكلامه يتردد في رأسي فلا يبدوا أن هذه الفتاة شيء سهل يمكنني الحصول
عليه بالتمني فقط وقد يجدوا ألف سبب ليرفضوني به وبسهولة
" قصي هل سنتأخر كثير "
نظرت بسرعة وفزع للجالسة بجانبي التي قالت مبتسمة " لم تشعر
بأني فتحت الباب وركبت وأغلقته طبعا "
قلت باستغراب " متى خرجتِ فلم أراك ؟ "
أشارت بإصبعها جانبا وقالت " من الباب الفردي الجانبي "
ثم أضافت بلهجة ماكرة " لو كنتُ سرقت سيارتك ونزلت ما شعرت بي "
شغلت السيارة وقلت عائدا بها للخلف " كنتُ شارد الذهن ولم أشعر بك "
قالت بعد ضحكة صغيرة " وعيناك ستلتهمانها وتنهدك كاد يصل لها "
نظرت لها بصدمة فقالت مبتسمة " لو كنتُ عمياء لكنت لاحظتك "
عدت بنظري للطريق وأدرت المقود لافا بالسيارة في الطريق الآخر وسرت
قائلا ببرود " دُرر لا تستلميني , ما بك معي اليوم ؟ "
ضحكت وقالت " لم تخبرني أنها سدين , إنها فتاة رائعة يا قصي
لا يعرفها إلا من يحتك بها جيدا "
تمتمت متنهدا " نعم أعلم "
قالت بصوت مبتسم " كم تمنيتها لك اليوم وكنتُ يائسة بسبب الفتاة التي
أخبرتني عنها ولو كنت أعلم أنها هي لطلبتها من والدتها قبل أن أخرج "
زدت السرعة وقلت ونظري على الطريق " جيد أنك لا تعلمي , هل تري
الوقت مناسبا يا دُرر ؟ ثم أنا لستُ أعلم رأي الفتاة ولا موقف أهلها , وخالها
قال بلسانه أنها هي تحديدا لن يزوجوها بأي أحد "
قالت من فورها " وما ينقصك ليرفضوك ؟ "
ثم أضافت مبتسمة " وأنا أضمن لك موافقتهم فلا تتردد يا المريخي
صاحب العينين الخضراء "
نظرت لها باستغراب فقالت " لن أشرح شيئا فاخطبها وإن كانت من
نصيبك فلن يمسكها شيء ولا أحد عنك "
نظرت للطريق ولم أعلق فقالت بحزن " لا تضيع دقيقة لا تقضيها مع
من تحب يا قصي فالفراق أمر قاتل لا تعلم متى يفترسك بأنيابه "
شددت يدها وقبّلتها وقلت " لا تُريني دمعتك يا شقيقتي حلفتك بالله
أقسم أنها نار تحرق جوفي "
مسحت عيناها بقوة وقالت ببحة " سامحكم الله , تُقسمون جميعكم أن لا
أبكي أمامكم حتى حولتم ليلي لغمامة سوداء من البكاء والحزن وحيدة "
أوقفت حينها السيارة جانبا وشددتها لحظني وقلت بحزن " رأيتك في منامي
البارحة تنزعين الأشواك من ساقيك وترميها بعيدا فلا تيأسي من رحمة
الله يا شقيقتي "
تعلقت بثيابي وقالت بعبرة وبكاء " كيف يا قصي ؟ كلما فكرت في هذا من
دونه شعرت أنه المستحيل بعينه حتى يئست , أقسم أن كل ضحكة تخرج
مني أشعر أنها خنجر في قلبي وأنا أضحك وأعلم أنه يبكي في داخله "
ضممتها أكثر وتركتها تبكي وتتحدث في حضني , فمعها حق نحن نمنعها
من البكاء أمامنا كي ننقدها من دموعها وحزنها والنتيجة كانت أن أفرغتْ
كل تلك الدموع بعيدا عنا لا تجد حتى حضا تبكي فيه ويحتويها
*~~***~~*
استيقظت فجأة لأكتشف أني كنت نائما كل هذا الوقت هنا في المجلس على
الأريكة وفي ذات الوضعية التي اتكأت هنا عليها , والشيء الوحيد الذي تغير
هوا اللحاف الذي كان فوقي , جلست وحركت كتفاي بتعب ونظرت لساعتي
ثم وقفت قافزا ودخلت الحمام لكي أتوطئ وأصلي العشاء قبل أن يخرج وقته
أنهيت صلاتي وحملت الهدية التي جلبتُها لها ورفضتْها بظنونها السيئة ووضعتها
في جيب سترتي وخرجت من المجلس لأغادر لمنزلي فشدني صوت الحديث
والضحك في الداخل ومتأكد أن العم صابر نائم الآن فما سر كل هذا الضحك ؟
توجهت للداخل أمشط شعري بأصابعي ووقفت مكاني أنظر للتي تُعلِّم عبير كيف
تلعب بالأقراص وتطيرهم للأعلى بالقاعدة البلاستيكية المرفقة لها وكانت هذه
اللعبة ضمن الهدايا التي أحضرناها , كانت تعطيني ظهرها وكانتا وحدهما هنا
وباقي الأصوات تخرج من جهة المجلس العائلي , اتكأت على إطار الباب أنظر
لفستانها القصير بحمالاته الرقيقة , لذراعيها وكتفيها العاريان لخصرها ولشعرها
المقصوص مدرجا وقد صبغته وغيرت لونه وكان رائعا , أجل كل شيء فيها فاتن
ورائع , عضضت شفتي بقوة وتقدمت منهما وهي تقول لها " هيا افعليها لوحدك
واتركيني أذهب , ساعة تمسكيني ونحن نقترب من منتصف الليل "
قالت عبير وهي منشغلة بتركيب القرص على القاعدة " أخي آسر يأخذك
فابقي قليلا بعد "
ضحكت وقالت " أي أخوك هذا الذي سيوصلني "
اقتربتُ منها أكثر مبتسما وقد رفعت يداها للقرص الذي طار عاليا وتابعت
حديثها " تجديه نائم في منزله ويحلم أيضا ولا يعلم في أي أرض أكون "
ثم تراجعت خطوت للخلف متفادية له فأمسكتها من خصرها فشهقت
بقوة قبل أن تدرك أنه أنا فنظرتُ لجانب وجهها وقلت هامسا
" وماذا إن كنت أعلم في أي أرض تكونين ؟ "
ابتعدت عني سريعا ووقفت عند المكتبة المخصصة للتحف والتذكارات وكانت هنا
منذ امتلكنا المنزل وانشغلت بفتح درجها ويبدوا أنها تُخرج عباءتها من هناك والغريب
أن تضعها فيها ! أشرت لعبير بعيناي فحملت لعبتها من فورها وغادرت جهة البقية
ووصلت عند الباب وأنا أراقبها فدخلت ولوحت لي بيداها مبتسمة ثم أغلقته خلفها
فنظرت سريعا للواقفة هناك تشد حجابها الذي يبدوا علق بشيء ما فتوجهت نحوها
حتى وقفت جانبها وأمسكتهما من يدها فقالت وهي تحاول سحبهما
" أتركهم عليا أن أغادر "
استللتهما منها بقوة وفي حركة سريعة رميتهما فوق المكتبة على صوت شهقتها
المصدومة وقد نظرت لي بحنق فمررت يدي حول الجانب الآخر من خصرها
فانتفضت بقوة وهربت بنظرها مني فأحكمتُ قبضتي عليه قبل أن تبتعد
أشاحت بوجهها للجانب الآخر وقالت " لست خائفة فابتعد "
أرخيت يدي وقلت ممرا لها على خصرها " غاضبة إذا "
قالت مبعدة ليدي " وكلمة غضب لا تفي ما أشعر به "
وضعت يداي في جيوبي ولازلت واقفا بجانبها وقلت ونظري لم يفارق
جانب وجهها " لم أكن أعلم أن الغاضبون يزدادون جمالا هكذا ؟ "
أنزلت رأسها ولم تعلق بشيء ولم تتحرك فأخرجت يدي التي لن يجدي سجني
لها في جيبي أبدا ومررتها على خصلات شعرها المحتضنة لخدها وكتفها مبعدا
لها ليزداد اشتعال وجنتيها وليزيدها ذاك جمالا ورقة , انحنيت لكتفها وقبّلته برفق
فتمسكت بالخشب أماها بقوة وقالت ببحة " ابتعد يا آسر , لا أريد لرغباتك
كرجل أن تكون ما يقربك مني فذاك يهينني حقا "
عدّلت وقفتي وقلت بجدية " إن كانت مجرد رغبة رجل لأفرغتها عند غيرك "
لم يخفى عني ارتجاف يديها لما قلت فابتسمتُ مراقبا ملامحها فلازال الحديث
عن الزوجة الأخرى يصيبها بالجنون , أبعدتْ يديها وضمت نفسها بهما
وقالت ورأسها للأسفل " قلها مباشرة أنك تفكر في الزواج "
ازدادت ابتسامتي وقلت " قسما بمن خلق سبع سماوات لم أفكر بذلك "
قالت من فورها " ولماذا ؟ "
حركت إصبعي نزولا على ذراعها وقلت مراقبا لها بابتسامة
" لست مقتنعا بالتعدد "
فقبضتْ على ذراعيها في حركة غاضبة وأبعدته عن أصبعي
وكانت ستتحدث فقلت " ولا بالطلاق "
ابتعدتْ حينها وقابلتني وقالت بضيق ناظرة للأسفل " أنزل عباءتي
وحجابي أريد أن أغادر "
اتكأت بكتفي على باب المكتبة الزجاجي وقلت ناظرا لوجهها الذي احتقن
من الغضب " لا يمكنني ذلك ولا حل أمامك سوا النوم هنا أو ... "
قاطعتني بحدة " أصمت ... لن أذهب معك تفهم "
قلت ونظري لم يفارق ملامحها " لما تحكمين على كلامي قبل أن تسمعيه ؟ "
رفعت نظرها بي لتظهر الدموع التي تخفيها تحت رموشها تصارع للنزول
وقد ملئت عينيها وقالت بحرقة " لأني متسرعة دائما ولا عقل لدي مثلما كنتُ
طوال الوقت جشعة ابنة شارع وكيس قمامة في وضع كالذي منذ قليل "
قلت بحدة " أصمتي يا سراب لا تنعتي نفسك بهذا فلم تكوني في
نظري هكذا أبدا "
رمت يدها جانبا وقالت بحرقة " لكن لسان غضبك قالها ولا شيء أصدق
من الرجل الغاضب يا آسر "
ثم أولتني ظهرها وركضت مسرعة لإحدى الغرف وأغلقتها خلفها بالمفتاح
فتنهدت بأسى وأنزلت عباءتها وحجابها وتوجهت لحيت البقية وطرقت
الباب مناديا عمتي سعاد ففتحته وخرجت لي فمددتهما لها وقلت
" لا تتركوها تذهب قبل الصباح "
أخذتهم مني تنظر لهما بحيرة فقلت مغادرا " هي في غرفة دلال الآن
ولا تنسي ما أوصيتك به "
وخرجت مغادرا المنزل وقاصدا منزلي ولا شيء معي سوا الهدية
التي لم يُكتب لها أن تنام عند صاحبتها وأنا من ظننت أنهما كليهما
ستغادران معي
*~~***~~*
مر شهر انغمستْ فيه دُرر مع قصي في محلات زوجها ومعرضه وكانت
تساعده طيلة الوقت حين يكون في المنزل بعدما انتقلنا لمنزل زوجها وبرغبة
وإصرار منها ولم يوافق قصي حتى بدأ ببناء أساسات لمنزل في حديقة هذا المنزل
الواسعة ومن ماله فهوا أصبح يعمل صباحا في مبنى المخابرات ذاته وباقي النهار
يركض خلف أملاك وتجارة دُرر وهي تساعده بكل طاقتها ومن دون أن تخرج من
هنا وأراها تهرب بكل هذا من حزنها وألمها رغم أنها لازالت تنزف الدموع دما حين
تنفرد بنفسها ليلا وأعلم كم كان صعبا عليها كل ما مرت به خاصة عودتها لهذا المنزل
وأراها تتسلح بقوة ضعيفة أمامنا فكم أخرجتها منهارة من البكاء من غرفتهما سابقا حيث
اختارت إغلاقها وتركها كما هي , وأعلم أن هذا المنزل لن يزيدها إلا تقهقرا لكن عنادها
تغلب علينا جميعا وحتى قصي الذي أكثر ما استطاع فعله هوا أخذ مفتاح الغرفة منها
وقد أقسم عليها أن لا تدخلها مجددا , وقد انتقلنا جميعنا لغرف الطابق السفلي ولم يعد
يصعد أحد للأعلى وقد أغلق قصي السلالم بسياج نحاسي حتى وقت الله وحده يعلمه
تنهدتُ بقلة حيلة مستغفرة الله بهمس واقتربت منهما بصينية الشاي ووضعتها على
الطاولة حيث أبعد قصي بعض الأوراق وقلت " يكفيكما إرهاقا لنفسيكما لا
يجب أن تلحقا على كل شيء دفعة واحدة "
قالت دُرر وهي مشغولة بما تكتبه " سنكمل جرد كل شيء يا أمي ثم نرتاح
فالبداية أهم شيء ولا أريد لتعب أواس كل تلك السنوات أن يضيع هذرا وبسببنا "
نظرتُ لقصي الذي بدأ بشرب الشاي وقلت " وأنت متى قررت أن نخطب
لك الغير معقدة التي لا تريد أن أعرف من تكون "
شرق بالشاي الذي أحرقه على ضحك دُرر عليه ثم نظر لي وقال
" أنا لم أخفيها عنكم وضننت دُرر أخبرتك "
نظرتُ لدُرر بصدمة فقالت مبتسمة " لا تغضبي يا أمي ظننته لا
يريد أن يقول "
وضعت يداي وسط جسدي وقلت بضيق " كل واحد ينتظر الآخر
ليتحدث هوا والنهاية ... ؟ "
وضع قصي كوب الشاي ووقف وتوجه نحوي وأمسك يدي وقبّلها وقال
" لا تغضبي يا أميرتي فما كنت أريد أن يُشاع الأمر وأنا لم أصبح جاهزا
بعد فهل سأخطبها وتقف تنتظرني "
قلت بجمود " من هي ؟ "
نظر لدُرر التي ضحكت ولم تعلق ثم نظر لي وقال " ابنة شقيقة
العقيد رِفعت التي أسمها سدين "
نظرت له بصدمة لوقت ثم نظرت لدُرر وقلت " سدين سدين لا غيرها ؟ "
هزت رأسها بنعم وقال قصي " ولا تقولي أنها لا تعجبك "
قلت بضيق " وهل عناك رأيي ؟ أراك قررت وأخذت رأي شقيقتك
أما أنا فأم أبناء الجيران "
ضحك وضمني لكتفه وقبّل رأسي وقال " ما عاش من ينزل من قيمتك يا
نور حياتنا لكن الأمر كان مجرد رغبة في نفسي ودُرر هي من اكتشفت
ذلك وحدها بأسئلتها التي لا تتوقف "
قلت من فوري " ولما الانتظار فلنخطبها لك فالفتاة طيبة وخلوقة
وتعجبني كثيرا وعائلتها أيضا "
غمز لي وقال " ولما لم تخبريني عنها سابقا مادامت تعجبك "
قلت ببرود " لأني أخشى ردودك السابقة التي كنت تتحجج بها لترفض
من كنت أعرضهن عليك طبعا "
ثم قلت متوجهة للباب " أمامك أسبوعان فقط وسنخطبها لك تفهم "
*~~***~~*
خرجت أمي فنظرت لدُرر وقلت بضيق " والحل الآن مع والدتك ؟ "
قالت مبتسمة " لو كنت أعلم أنها ستُعجل في الأمر لأخبرتها من البداية "
أمسكت وسط جسدي بيداي ناظرا لها بضيق فقالت بذات ابتسامتها " المنزل
وبدأت ببنائه ومهما طال الوقت فسينتهي ولن يأخذ أكثر من أشهر , عمل
ولديك وبراتب جيد أيضا هذا غير دخلك من العمل معي فما المانع يا قصي "
تنهدت وقلت " لا أعلم ؟ متردد يا دُرر وقلبي يقول لي أنهم سيرفضونني "
قالت من فورها " والسبب ؟ قل لي سببا واحدا يرفضونك به "
هززت رأسي بحيرة وقلت " شرط خالها ليس رجلا بوظيفة ومنزل
بل شيء لا أعلم كيف سيتحقق منه "
قالت بجدية " توكل على الله يا قصي ونصيبك لن يمسكه أحد "
تنهدت باستسلام وهززت رأسه بحسنا وقلت " أمري لله , فقط أقنعي
والدتك تؤجل الأمر أسبوعا ثالثا لننتهي من عملنا هذا "
قالت مبتسمة " لك ذلك واعتمد علي في إقناعها "
عدت للجلوس مكاني السابق وللأوراق التي فقدت التركيز معها تماما فما صدّقت
أن أبعدتها عن تفكيري المدة الماضية وها هما تشعلان شمعة الأمل الضعيف في
داخلي مجددا وكأنهما متفقتان علي وأنا من كنت متخوفا من زيارتي لمركزهم هذا
الأسبوع ولقائي بها وأخشى ما أعلمه جيدا وهوا أن رؤيتي لها والتحدث معها
سيشعلان قلبي أكثر مما هوا مولع بالتفكير بها , وزاد عليه توجسي وخوفي من
نتيجة العينة التي تركتها عندها حتى أصبحتُ أفضِّل الهرب من الذهاب لها
*~~***~~*
انحنيت من أعلى السلالم أنظر للواقفين في الأسفل مع عمي رِفعت وهوا
يقول لهما ببرود " رافقتكما السلامة لا زوجات لكما عندي "
خرج زوج سراب غاضبا بينما قال إياس بضيق " خالي وحّد الله , أقسم ما
تفعله بي ظلما , شهر كامل تحجزها لديك ولم أترك عبارة لم أترجاك
بها وشخصا لم أتوسطه عندك ولا تريد أن تتراجع أبدا "
قال عمي بذات بروده " عندما أقتنع أنا أنك عرفت قيمتها ولن تعاود
أفعالك تلك معها مجددا سآخذها لك بنفسي "
نفض سترته متأففا وغادر جهة الباب على صوت عمي الغاضب قائلا
" وكرر هذه الحركة في وجهي مجددا ولن تراني حتى أنا "
والنتيجة ضربة قوية منه لباب المنزل وكأنه يقول له خد هذه أيضا , نظر
حينها للأعلى ففررت هاربة كي لا ينوبني ما رأياه منه , دخلت الغرفة
وأغلقت بابها خلفي وقلت للجالسة على سريرها " طردة جديدة ومعتبرة "
رمت هاتفها جانبا وقالت " كل ما أخشاه أن تُنفذ أمي ما قالته "
اقتربت منها وقلت باستغراب " وما الذي قالته ؟ "
وقفت وقالت " قالت أنها غير راضية على بقائي مع رجل غريب عني في
منزله وأنها ستأخذني معها لمنزلها أو تأتي للعيش معي في منزلي وفي
الحالتين ستتحدث مع زوجها والقرار سيكون حسب ردة فعله طبعا "
قلت بحيرة " والحل الآن يا سراب ؟ "
قالت بجدية " لن أسمح لوالدتي أن تخبر زوجها وأكون السبب في طلاقهما
فكل ما يفعله من أجلها وما لاحظته في زيارتي لها أنه لا يريد أن تتركه "
قلت من فوري " إذا سيوافق على أن تأخذك للعيش معهم "
قالت بسخرية " مستحيل فتزكية آسر لي ستسقط حينها وهوا يبدوا
بالفعل لا يريد أن يدخل حياتهما أحد ولا حتى أنا "
تنهدت وقلت " ومن أين ستجدي لها حلا الآن ؟ "
نفضت بيجامتها متأففة بضيق ثم توجهت لحجابها ورفعته وتوجهت للباب
قائلة بغيظ " أذهب لمنزل آسر طبعا فلم يعد هناك حل غيره "
وتابعت وهي تفتح الباب وتخرج " وأعلم أنه لا يُصر عليا إلا للسبب ذاته
ولو كنت في منزل والدتي ما اكترث لأمري "
نظرت لها باستغراب حتى اختفت خلف الباب الذي أغلقته خلفها وهززت رأسي
بحيرة فلازلت أذكر ذاك اليوم الذي ذهبتْ فيه حين عادا من سفرهما ونامت هناك
وظننت أنهما تصالحا وأخذها لمنزله حتى عادت صباحا وفتحت مناحة طوال ذاك
اليوم والنتيجة بعدها أن أصرت على قرار عمي في منعها عنه ولم تذكر اسمه
ولم تجلب سيرته ولا بالخطأ رغم دموعها التي أشهدها في بعض الليالي تضنني
نائمة ولا أعلم عنها , قفزت على سريري وقلت بحماس " بالنسبة لي هذا منزل
عمي ولن أخرج حتى يرضى هوا , والحرب الحرب ضد شوقي لذاك الأحمق "
*~~***~~*
أغلقت باب منزلي الصغير أو بالأحرى كوخي وشددت معطفي الربيعي على
جسدي وياقته على خداي وغادرت للمرة الثانية هذا المكان الذي أصبح ملجئي
الوحيد وقبري الأول لكن خروجي هذه المرة كان مختلفا عن سابقتها , ليس لأقطع
نباتات في فكرة غبية من ذاك الرجل ولم يكن هوا سبب لخروجي بل بسبب الورقة
التي وصلتني من الوزارة وبتوقيع من الوزير نفسه وقد خرجت من مكتبه منذ أسبوعين
من التاريخ المدون فيها ووصلتني من خمس أيام وفيها طلب خطي أو بالأحرى أمر
منه أن أزور شخصين ذكر أسمهما فيها يطلبان رؤيتي , فمن أخبره بما حل بي ومن
منهما طلب منه هذا ؟ ولن أقول كيف علم بمكاني فإن لم يعلم هوا فلن يعلم أحد , ركبت
سيارة أجرى أوصلتني للمحطة فالسفر بالقطار سيكون أفضل من الطائرة , استقليت
القطار وجلست في مكاني بجانب النافذة وجلس بجواري رجل وما أن استقر في
مكانه حتى أخرج علبة سجائر وقداحة ومدها نحوي قائلا " هل تريد واحدة ؟ "
رفعت يدي ثم أعدتها سريعا وأول ما ظهر أمامي صور دُره والدموع ملئت عيناها
الجميلتان تأخذ مني وعدا أن لا أدخن مجددا فيكفي نقضت العهد الأول ودخلت
الملحق تلك المرة , أدرت وجهي جهة النافذة وقلت " شكرا أنا لا أدخن "
لم يعلق بشيء وقد أشعل سيجارته وأخرج جريدة من حقيبته وانشغل بها وغبت أنا
بنظري للأشجار المتراكضة تسابق سرعة القطار وكأنها هي التي تتحرك وليس نحن
وذهب تفكيري مع من سأقابلهما بعد ساعات قليلة , الأول يمكنني مواجهته بما يليق
بدناءته وإجرامه لكن الثاني .... قبضت على يدي بقوة وأغمضت عيناي , أي قلب
سأواجهك به يا دُره ؟ كيف سأقف أمامك دون أن أحضنك أن أشم رائحتك أن أسكب
دموعي وعبراتي على صدرك وما الذي سأقوله وأبرر به ؟؟ لو تعلم أي مصيبة هذه
التي وضَعتني فيها يا سيادة الوزير ؟ والكارثة أنه ضِمن الخطاب تهديد صريح وواضح
بأنه سيكشف عن مكاني حال رفضت ذلك وقد يصل الأمر لأن احتجز كمصاب وخطر
على البشرية , اتكأت برأسي للأعلى وأغمضت عيناي برفق , هل ستَقدر عليها يا أواس ؟
هل ستطاوعك نفسك لتقول لها كلاما قاسيا كالذي تفكر فيه لتنساك للأبد وتعتقد أنك تخليت
عنها ولم تحبها من البداية وأن كل ذلك كان تمثيلا وعوّضتها بدلا عنه بأن تركت لها كل
تلك الأموال والعقارات , هل ستقدر عليها أنت وهل ستصدقك هي ؟؟ هل ترضى بأن
تُكرهها فيك للأبد وتترك الحياة وهي غير راضية عنك ؟ تنهدت بأسى مستغفرا الله
وأرخيت جسدي وجلستي على الكرسي فلا شيء قد يهون هذا الطريق وهذه الأفكار
التي لم تتركني من يوم وصلتني الورقة إلا النوم ... نعم أنام وأتوقف عن
التفكير في كل ذلك
*~~***~~*
دخلت غرفة المختبر بإنارتها الخافتة والستائر الزرقاء الغامقة التي تغطي نوافذها
الكثيرة لتعطيها لونا أزرقا غامضا غريبا ينعكس على الطاولات المصفوفة بترتيب
والمليئة بالأجهزة , توجهت لوجهتي الأساسية وفتحت جهاز حفظ العينات وأخرجت
أنبوب المصل ووضعته في جيب معطفي وأشعر بتوتر كبير , صحيح أني أقبَل
أعمال إضافية وقد أتلقى عليها بعض التعليقات والتوبيخ لكن كلها مدرجة في لائحة
التحاليل التي أقوم بها وبتوقيع مدير المركز وأسم المصاب كاملا ومَن كان مصابا
يُطبق عليه القانون لكن أن أجري فحصا لعينة غير مدرجة فهذا أمر لم أفعله سابقا
ولا أريد الانخراط فيه , فلولا طلب خالي رِفعت أن اقبلها وأنّ ثمة شخص من طرف
شخص آخر يعرفه سيأتي بها لي يومها وعليه أن لا يعرف أني أعلم عنه وأن خالي
من أخبرني لأنه خارج الصورة لَما وافقت أبدا , وما أراحني أكثر أنه شقيقها فلن
تكون امرأة ذات ماضي متسخ وتَلقت المرض بطريقة غير أخلاقية وهوا مستعد أن
يبعدها عن الجميع إن كانت مصابة فبهذا أكون أبعدت خطرها عن الكثيرين خاصة
أنها حامل وستلد في أحد المستشفيات أو العيادات وسيطلبون تحليل الدم الثلاثي , وإن
كانت سليمة يرتاح بالهم وتعيش حياة طبيعية هي وابنها , قبضت على الأنبوب وهوا في
جيبي وكل خطوة أخطوها مجتازة الطاولات أشجع نفسي فيها على التقدم , وكم أتمنى أن
لا يكون كذب عليهم ذاك المريخي أخضر العينين , تنهدت بأسى وقد لاح خياله مجددا
في ذاكرتي , ذاك المغفل لما لم يفكر في المجيء أبدا ؟؟ هذا لتعلمي فقط أنه لم يهتم
لأمرك أساسا , زفرت بضيق من هذا الجنون فعليا أن أستعد لمقابلته مجددا بعد أيام
قليلة وسيرى كيف سأعامله ببرود تام , ولا يفكر أن ينظر لي بطريقته تلك أو يتحدث
عن شخصيتي وسأهينه إن فعلها مجددا , اقتربت من جهاز الفحص متمتمة
" حمقاء ما هذه الأفكار الصبيانية الساذجة "
أخرجت الأنبوب وتوتري يزداد ونبضات قلبي تتراكض بجنون وكأنها حوافر
خيول تعبر أرض معركة وكل حواسي موجهة جهة الباب وكل ما أخشاه دخول
أحد المسئولين , ذاك المريخي المغفل يُفترض به أن يرفعني بين ذراعيه ويلف
بي حول نفسه على ما فعلت من أجله وما أتحمل من ضغط وتوتر , هززت
رأسي بقوة وسحبت الكرسي وجلست عليه متمتمة " أخرجيه من
رأسك يا حمقاء "
لبست القفازات البلاستكية الوقائية المخصصة وأخرجت جهاز الكشف من الدرج
والماصة ونظري مركز على الدائرة التي سأسكب فيها عينة المصل ولا أعلم لما
أشعر بكل هذا الخوف من النتيجة وكأني أعرف صاحبتها جيدا ؟ أو فقط لأنها
امرأة لا ذنب لها فيما حدث وتحمل مولودا أيضا , تنفست بقوة وسحبت المصل
بالماصة ووضعت طرفها على فتحة الجهاز وما أن بدأت الضغط عليها وقبل أن
ينزل المصل انفتح أحدُ بابي المختبر ومن رجفتي سقطت الماصة أرضا ووقفت من
فوري بعدما دفعتها بقدمي تحت الطاولة والتفتُّ للداخل وعضضت شقتي بقوة وأنا
أرى الدكتور عوني يتوجه نحوي , آخر شخص كنت أتوقع وأريد أن يكون هنا
ما الذي جاء به الآن وأنا تأكدت من أنه لم يدخل المركز اليوم أبدا ؟ اقترب
مني وقال واضعا يديه في جيوبه " أخبريني هيّاماذا حدث بشأن العينة "
كدت أبكي من خوفي وقد ارتجفت يداي بقوة فكيف علم بشأنها ومن أخبره ؟
هل كان يعلم بكل شيء من البداية وأنا ضننت كالغبية أنه لم ينتبه أحد ؟ قلت
بصوت بالكاد خرج من حنجرتي " أي عينة ؟ "
قال من فوره " التي أرسلتها لك مع صلاح , ألم يعطها لك ؟ "
شعرت وكأن ثمة من سكب ماءا باردا فوق جسدي المشتعل بل وشعرت بأني
كنت في مكان خال من الأكسجين تماما ورموني فجأة في أرض خضراء
سحبت الهواء لصدري بقوة وقلت ببحة " لا لم يعطها لي "
قال بضيق " وأنا من أكّدت عليه أن يسلمها لك لتدخل الجهاز مع العينة
الأخرى قبل أن تتلف عينة الدم "
ثم قال وعيناه نزلت ليدي الممسكة بأنبوب المصل الفارغ
" فلنرى عذره الآن لِما فعل "
أغمضت عيناي بقوة وكل شيء بداخلي يردد ( يا رب لا ينظر تحت الطاولة
يا رب لا ينتبه لها ) وتنفست بارتياح حين سمعت خطواته مغادرا وانهرت جالسة
على الكرسي حين خرج وأغلق الباب وكدت أبكي لا أعلم من خوفي وتوتري أم
من فرحتي , لففت سريعا بالكرسي جهة الطاولة فلا وقت أمامي لاستجماع أنفاسي
وقواي وإن سَلِمتْ في الأولى فلن تسلم في الثانية , رفعت الماصة وسكبت العينة في
الجهاز سريعا ونظرت لساعتي أراقب الشريط فيها , قد يستغرق الأمر حتى العشر
دقائق وهذا وقت كبير وليس في صالحي , وفي حال كانت نسبة الفيروس في دمها
كبيرا فسيصعد بسرعة , مرت الدقيقة تتبعها الأخرى فرفعت الجهاز أمام وجهي
قابضة عليه بيدي أراقبه بتوتر وخائفة أيضا من النتيجة فمصير امرأة وابنها معلق
بها , نظرت بتركيز لخطوط الجهاز ثم قبضت عليه بيدي بقوة واتكأت بجبيني
عليها وهمست برجفة " لا يا إلهي "
*~~***~~*
شعرت بيد هزت كتفي بقوة ففتحت عيناي أنظر بصدمة لكل شيء حولي وقد احتجت
وقتا لأستعيد تركيزي وأدرك أني لست نائما في ذاك الكوخ الفارغ الصامت البارد
نظرت بصمت للرجل الذي وقف مغادرا وكان يقول كلاما لم أفهمه ولم أركز عليه
ومؤكد قال أننا وصلنا فالقطار قد توقف عن السير , وقفت وغادرت مكاني وما أن
نزلت من باب القطار قابلتني اللافتة الكبيرة البعيدة التي تحمل أسم العاصمة مرحبة
بالمسافرين , المكان الذي لم أتخيل أن أرجع له مجددا ولا أن أزوره , أعلم أن هذا
اليوم لن يزيدني إلا ضياعا وبؤسا وحزنا لكن لا مفر لي منه لذلك سأتركك يا حبيبة
أواس لتكوني محطتي الثانية , خاصة أني لا أعلم حتى أين تسكن الآن وإن كانت مع
عائلتها في منزلي الذي أصبح لها أم في منزل غيره , ولا أحد يمكنني الذهاب له وسؤاله
ركبت سيارة أجرى لتأخذني لوجهتي المحددة ولم يكن الطريق طويلا حتى وصلت له
ونزلت هناك أنظر نظرة شاملة للمبنى , أجل هذا ما تستحقه والمكان الأنسب لأمثالك
من الأنجاس من البشر , اجتزت الباب وعبرت الممرات أتجنب النظر في وجوه كل
من مررت بهم بل وأجنبهم رؤية وجهي حتى وصلت لمكتب معين طرقت بابه
ودخلت ومددت الورقة للجالس خلف المكتب فوقف ما أن رآها وقال خارجا من
خلف طاولته " اتبعني فقد كنت في انتظارك "
ثم أجرى اتصالا بشخص ما وخرج وخرجت خلفه ودخلنا من باب آخر وممرات
وغرف أخرى وكأنه مكان منفصل عن كل ذاك المبنى , ألوان الجدران كانت مختلفة
والأثاث الخشبي الموزع هنا وهناك , حتى المقاعد والصالونات بألوان زاهية ربيعية
ومزهريات الورود قد ملئت الممرات , ابتسمت بسخرية وأنا أراقب كل ذلك فهل هذه
الشكليات ستعوضهم شيئا أو تعيد لهم الحرية والحياة ؟؟ كان يفترض بهم أن لونوا كل
شيء بالسواد ووضعوا أزهارا ميتة يابسة وبلا ألوان , وصلنا لباب معين فتحه وقال
" لديك نصف ساعة فقط "
ثم غادر تاركا الباب الذي فتحه بالمفتاح مفتوحا فدفعته ودخلت بخطوات بطيئة
للغرفة الصغيرة الخالية من الألوان الزاهية والأزهار الملونة كباقي ما مررنا به
استدرت يمينا ليظهر أمامي نصف الجدار الخشبي الذي يفصل الغرفة لنصفين وباقي
الارتفاع عبارة عن زجاج , نظرتُ بتمعن بل بصدمة للواقفة في الجانب الآخر خلف
ذاك الزجاج اللامع لا شيء يربط بينها وبين الجزء الذي أنا فيه سوا الثقوب المقابلة
لوجهها في ذاك الزجاج , تنقلتُ بنظري في ملامحها بصدمة لم أجتزها بعد , كانت
تلبس قميصا أبيضا فضفاضا لا معالم فيه يخفي تحته جسدها الذي أصبح نحيلا بشكل
مخيف وشعرها مغطى بقطعة قماش بيضاء مربوطة خلف رقبتها , لكن ليس هذا ما
لفت نظري بل شحوبها واسوداد وجهها وظهور بقع كالتقرحات المتجمدة حول شفتيها
ابتسمتْ ابتسامة باهتة ميتة مثلها وقالت " مؤكد يسرك رؤيتي في هذا الحال
والوضع يا أواس "
رفعت نظري لعينيها وما كنت سأقول ( كيف أسخر من حاضرك الذي سيكون مستقبلي )
بل كان ثمة سؤال آخر عليا معرفة جوابه منها الآن وفورا , لكنها قالت قبل أن أتحدث
" لن أقول ليتك ضربتني وجلدتني بالسياط ومنعتني عنهم لأنك فعلتها ولم تجدي معي "
لم أعلق على ما قالت ولم أفكر فيه من أساسه فكل ما كنت أريد معرفته كيف وصلت
لهذه المرحلة المتقدمة سريعا إن كانت إصابتها لم تتعدى الأشهر !! قلت بصوت
فارغ بارد أشعر وكأنه خرج من عمق بئر " منذ متى وأنتي مصابة يا وجد ؟ "
لتخرج الأحرف من تلك الثقوب وكأنها رماح يرمون بها هدفا أصابته دون أن تنحرف
ولو قليلا , تراجعت للخلف أستمع لكلماتها بصدمة ودموعها قد عبرت خديها في مجرى
محدد قد خطت خطين أسودان في تلك العظام , وبلا شعور مني فتحت الباب وخرجت
راكضا حتى غادرت المركز وأنا أدفع كل من مررت به وما أن كنت خارجه حتى
صرخت عابرا الشارع " دُررررره "
نهاية الفصل .... موعدنا القادم يوم الأحد إن شاء الله