الفصل السادس والأربعون
اتكأت بطرف جبيني على النافذة أشاهد الأمطار في الخارج التي لم تتوقف عن
الهطول طوال ليلة البارحة وأستمع للضحكات والأحاديث خلفي حيث المدفئة
التي تجعل من جو هذه الشقة مناقضا تماما لخارجها وجدتي تحاول إسماع قصي
حكايتها وهوا يتهرب بتغيير الموضع كل حين رغم أن ذلك يجلب له ضربة من
عكازها في كل مرة , كم يحاول احتواء من حوله .. أم وخالة وجدة جميعهن في
حاجة له وزادته شقيقة ولا أراه يتذمر ولا يسخط من وضعه ومسئولياته رغم
أني أراه شارد الذهن صامتا أغلب الأحيان وهذا أمر طبيعي فما مروا به هنا
ليس بقليل .. خوف وترقب وصراع مع من هوا أقوى منهم بكثير ويحاربهم
سافرت بنظري لآخر الشارع حيث شاب وفتاة يركضان على الرصيف محتميان
بمضلة من المطر حاضنا لكتفيها بقوة ونظري لم يفارقهما حتى عبروا الشارع
فضممت نفسي أكثر وملئت دمعتي عيناي وشردت في الشجرة البعيدة قليلا لتعود
لي تلك الذكريات التي لم تغادرني أبدا , ذكرتني بشجرة الحديقة وأرجوحتي بل
ذكراني باليوم الذي طلب فيه أواس أن أركبها وأن يدفعها بي واحتججت رافضة
لأنه كان قد رفع الحبل عن السابق وحين جلست تعلقت قدماي في الهواء ولم
أتمكن من ملامسة الأرض بهما لكنه لم يكترث لي وبدأ بدفعي عاليا بكل قوته وأنا
أصرخ أن يتوقف لأني شعرت للحظات أني سأطير منها وأسقط بعيدا من قوة دفعه
لي ولأني لا أستطيع إيقافها بقدماي على الأرض وهذا ما يبدوا أنه فكر فيه جيدا
بعد وقت لم يكترث فيه لصراخي المرعوب وما أن رجعت الأرجوحة بي للخلف
أمسكني محتضنا لي من ظهري ولازلت جالسة عليها وقال ضاحكا
" ضيعتِ على نفسك المتعة يا جبانة "
مسحت الدمعة في طرف عيني وقلت بصوت ضعيف
" أرعبتني ... أي متعة هذه التي تتحدث عنها "
ضمني له أكثر وقال " لم يكن هذا مخططي لكني وجدتك أخفّ مما
توقعت , أنتي ماذا تأكلين ؟ يبدوا عليا إطعامك بنفسي "
شهقت بصدمة فضحك ضحكة خفيفة ثم قبل خدي فأذني وهمس فيها
" أقسم يا دُرة أواس وحبيبته لو لم تدخلي حياتي وترجعي لي هنا لما
اكترثت بعد انتقامي من جدك إن عشت أو متّ فأنتي الشيء الوحيد
الذي أريد العودة من أجله "
ملئت دموعي عيناي وكنت سأتحدث بل سأحاول معه مجددا لكنه قال
من فوره بذات همسه " اششششش لا تعكري صفونا بذاك الحديث "
أنزلني بعدها منها واقفة أمامه ومسح عيناي بأطراف أصابعه ثم
قال مبتسما " تذكرين الآن ما قلتيه لي يوما هنا أليس كذلك "
مسحت طرف عيني أنظر للأسفل وقلت بخجل " توقف عن
تذكيري بوقاحتي في صغري يا أواس "
خرجت منه ضحكة خفيفة وأمسك وجهي بكفيه ورفعه له وقال مبتسما
" كنتِ تغضبين مني كلما رفضت تقبيل شفتيك وما أكثر ما كنتِ
تطلبين ذلك يا دُره "
شعرت بحرارتي اشتعلت فلكمته على صدره بقبضتي بقوة وقلت
" كنتَ ضربتني عليهما يا أحمق وكسرت لي أسناني كي لا أعيدها "
ضحك وقرب أنفه من أنفي وقال بهمس " في مرات قلية تغلبتِ عليا بعنادك
وبكائك وتضنين برفضي أني لا أحبك كما جدك ووالدتي وبينما كانت
بالنسبة لك شيء عابر وعادي كانت تصيبني بالجنون "
وضعت يدي على فمه وقلت بابتسامة خفيفة " يكفي , أنت كنت أوقح
مني فلستَ سوا فتى في الثالثة أو الرابعة عشرة وتفكر هكذا "
أبعد إحدى يديه وأمسك بها يدي وأبعدها عن شفتيه وقال بذات ابتسامته
" إذا أنا أحمل لك دينا كبيرا عليا الإيفاء به "
نظرت له بصدمة على ابتسامته الماكرة وانسللت من يده بسرعة
وركضت قائلة " أوفيته وبزيادة "
ولم أسمع إلا خطواته راكضا نحوي وفي لحظة كنت في قبضته مطوقا
خصري بذراعيه ورفعني عن الأرض قائلا " عليك أن تتحملي
نتائج أفكارك تلك "
قلت ضاحكة " يكفي أواس عمتك رأتنا المرة السابقة يكفينا فضائح "
قبضت على طرف الوشاح المحتضن لكتفاي ونزلت دموعي تباعا
فغطيت عيناي بيدي ولست أعلم أحجب هذه الدموع عن من ؟؟ عن
عائلتي التي تسعى جهدها لإسعادي وإدخال البهجة لي أم عن نفسي
التي تعبت من البكاء بدون فائدة ولا نتيجة
" دُرر "
رفعت وجهي ومسحت دموعي ونظرت للجالسة أمامي
وقلت ببحة " نعم جدتي "
وطبعا تجاهلت كل ما وجدتني عليه وقالت مبتسمة " هل أحكي لك
أنتي الحكاية التي يهرب منها شقيقك دائما "
قلت بابتسامة حزينة " بالتأكيد جدتي وسأكون سعيدة بذلك "
اتسعت ابتسامتها وقالت " سأحكي لك عن الرجل الذي كان يظهر للناس
في المقبرة ويضنونه جنيا وكيف اكتشفت حقيقته وتعرفت عليه "
قلت بابتسامة أجبر نفسي عليها كل مرة أمامها " جدتي هل هذا
واقع حقا ؟ أراها تشبه تلك القصة عن المرأة التي تظهر في الجبال
يظنها الجميع جنية "
قالت بضيق " لا تختلفين عن شقيقك أبدا ولا تريدون تصديق
أنها قصة حقيقية "
قلت مبتسمة " سأحكي لك أنا قصتها إذا واحكمي إن كانت
حقيقية أم لا "
قالت ببرود " أنا التي سأحكي لك أم أنتي ؟؟ "
قلت من فوري " حسنا آسفة "
قالت مغيرة القصة بأكملها " اسمعي اسمعي اتركينا من ذلك
حين كنت فتية شابة جميلة .... "
ثم وضعت يدها على يدي التي كنت أضعها على فخذي حيث
جالسة وقالت " أي عندما كنت في سنك ويدي كيدك هكذا
أصابعها بيضاء ورقيقة وجميلة "
نظرت ليدها المجعدة فوق يدي وقلت بابتسامة خفيفة
" حقا كنتِ تشبهينني الآن "
قالت من فورها " بل أنتي التي تشبهينني ذاك الوقت "
بقيت أنظر لها مبتسمة وقالت هي " وكانت عيناي خضراء جميلة
مثلك أيضا وقولي أني كاذبة "
قلت بضحكة خفيفة مبحوحة " لا طبعا فلازالت عيناك خضراء كما
هي حتى الآن فاللون لا يتغير "
ثم قلت بهدوء متسائلة " والدي في الصورة التي أرتها لي والدتي عيناه
لم تكن خضراء كانتا تبدوان بنيتان وأنا وقصي أخذنا لون العينين منكم "
هزت رأسها بنعم وقالت " حتى جدكما لون عينيه كوالدك "
نظرت ليدها فوق يدي وقلت بابتسامة حزينة " وأبنائي وأواس كيف
ستكون أعينهم ؟ أريدها كوالدهم تماما "
وسقطت دمعتي على كفها فأبعدت يدها عن يدي فرفعتُ نظري لها
وقلت قبل أن تتحدث " حلفتك بالله جدتي لا تُسمعيني جملتكم المعتادة
والدائمة بأنه تركني ورحل ولن يعود فلن يقنعني أحد بها "
تنهدت وقالت " تحبينه لهذا الحد يا حفيدتي ؟؟ "
نظرت للنافذة وقلت بحسرة وعينان غشتها ضبابة دموع " لن يفهم
أحد مشاعري اتجاه أواس ولا مقدارها جدتي مهما شرحت وقلت "
قالت بهدوء " حسنا حدثيني عنه كيف تعرفتِ عليه وما رأيت منه
جعلك هكذا ستصابين بالجنون من أجله "
مسحت عيناي ونظرت ليداي في حجري وبدأت أحكي لها حكايته منذ دخلت
حياته طفلة , كنت أحتاج لكل هذا أحتاج أن أتحدث ويسمعني أحدهم دون أن
يذكرني بواقعي وما صرنا عليه أنا وهوا , وكانت بالفعل تستمع بصمت دون
أي كلام وأنا أسرد حكايته وحكايتي معه التي لم تخلوا من الدموع التي أمسحها
كل حين والعبرات التي جعلت بعض الكلمات تخرج متقطعة فحضنت يدي
بين كفيها وقالت " وهل أنتي واثقة منه يا دُرر ؟ "
تدحرجت دمعتي مجددا وقلت بعبرة " كل الثقة جدتي كل الثقة "
تنهدت بحزن وقالت " إذا لا تفقدي الأمل ما لم يمت فذاك الشاب عانى
كثيرا وحكايته مؤسفة وبث مثلك لا أصدق أنه تركك بمحض إرادته "
نظرت ليديها المحتضنة ليدي وقلت بشرود " لو أعلم السبب فقط ؟
وهل لجدي علاقة به أم لا لأرتاح على الأقل "
تركت يدي وقالت " وما ستفعلين الآن ؟ "
مسحت دموعي وقلت " سأسافر مع قصي خلال أيام وسأبحث عنه
ولن أرتاح حتى أجده وأتحدث معه أو أوقن من موته لأرتاح
وقصي سيرجع لأخذكم بعدما تنهون أموركم هنا "
تنهدت وقالت " عساه خيرا يا ابنتي وأسأل الله أن يلم شملكما "
نظرتُ للنافذة وقلت بهمس حزين " آمين "
فشدت يدي ووقفت بمساعدة عكازها قائلة " وقفي معي هيا لتتناولي
طعامك كي لا يغمى عليك ككل يوم ولن ترضي بالذهاب للمستشفى
كعادتك دائما "
*~~***~~*
وضعت الصندوق لترفعه الخادمة ثم نزعت قطعة القماش الصغيرة التي
أربط بها رأسي ورميتها وجلست على الأريكة وقلت بتعب " انتهينا
أخيرا , كم هوا مرهق الانتقال من منزل لآخر "
جلست بجانبي تمسك ابنتها التي تحاول الهرب منها راكضة وقالت
" سنبيع تلك المزرعة ولن نضطر للانتقال لها مجددا "
تنهدت بضيق وقلت " ولازال إياس يصر على أن تأخذ كل واحدة
منا حصتها من ثمنها ولا أعلم سبب كل هذا العناد "
قالت بهدوء " لن نحتاج المال مثله وهوا رجل ونحن سنكون في
عصمة أزواجنا ولا يريد تغيير رأيه أبدا "
ثم رفعت ابنتها وأجلستها بجانبها بقوة وقالت بحدة " ندى توقفي
عن إتعاب الخادمة واجلسي هنا أو قسما ضربتك "
قالت بعبوس " أخبر بثام "
فضحكت حينها على ملامح رغد المصدومة وقالت هي بضيق
" انظري للفتاة ؟؟ كانت تهددني بعمها والآن ببسام "
قلت ضاحكة " كله بسبب تدليلهم لها وحين ستصبحان لديه
سيزيدها من هذا وأنتي الخاسر الوحيد "
أجلستها في حجرها وقالت " في منامه , كل هذا سيتغير وقتها
وعليه أن يشد عليها "
نظرت لها وقلت مبتسمة " أرى كلامك بدأ يتغير وتتقبلين حياتك القادمة "
تنهدت وقالت بحزن " وما بيدي غير التسليم يا سدين "
قلت بهدوء " بسام رجل رائع يا رغد وعليك أن تزيلي تلك
الظنون والهواجس من دماغك "
أعطت ابنتها هاتفها وضمتها بذراعيها وقالت بهمس " أرجوا ذلك يا
سدين فقد تعبت وأخشى من مصطفى جديد في حياتي "
قلت بذات هدوئي " فكري في ابنتك على الأقل فهي بحاجة لأب
ولأشقاء أيضا فهي ستكبر وتشعر بفراغ كل تلك الأمور من حياتها "
قالت بامتعاض " وما دخل الأشقاء الآن "
ضحكتُ وقلت " لست أعلم حتى متى ستهربين من الحديث
والتفكير في هذا "
ثم غمزت لها وقلت بهمس لا تسمعه ابنتها " طبعا حتى تجدي
نفسك في حضنه وتقتنعي حينها "
نظرت لي بغضب فلوحت بيداي قائلة بضحكة
" أسحب كلامي فلا تضربيني "
قالت ببرود " مزاحك سخيف هل تعلمين هذا "
قلت بضيق " وما سأفعل في نفسي فلم يبقى لي غيرك بعد
سلسبيل وترجمان فعليك تحملي ومسايرتي "
قبلت رأس ابنتها التي انشغلت بالهاتف وقالت " أن أتحملك مقبولة لكن
أن أسايرك فلا تحلمي بها , بابنتي أركض خلفك كالأطفال !! "
ثم نظرت لي وقالت " وأنتي ما قررتِ بشأن نفسك ؟ أراك
تتجاهلين الأمر وكأنه لا يخصك "
ماتت ابتسامتي حينها وقلت " قررت مسبقا وانتهى وبعد كل هذا المشوار
واقتناع إياس وتحملي لغضب أمي لأيام لن أتراجع يا رغد "
قالت بتوجس " وتصبحي مطلقة يا سدين "
قلت بلامبالاة ألعب بخيط قبعة بيجامتي بين أصابعي
" وما بها المطلقة ؟ كثر مثلي وأسوأ مني "
قالت من فورها " الأمر سيء لا تستهيني به يا سدين ونظرة
الناس لا ترحم "
قلت بجدية " قررت ولن أتراجع عن قراري يا رغد فلا أريد أن أندم يوما
على هذه الفرصة , ومن لم يتعلم من تجارب غيره يستحق ما سيأتيه "
ثم وقفت لينتهي الحديث عند هنا وصعدت لغرفتي لأستحم وأنام قليلا , لن
يفهمني أحد حتى لو ذكرت السبب وكلامه لإياس كان واضحا جدا يريد أن
يغيرني فيما بعد , لم أكن راضية يوما عما مرت به ترجمان أمامي لأرمي
نفسي في مطب مثلها فإن كانت هي لم تملك الخيار من البداية فأنا أملكه ولا
يمكنني وقتها أن ألوم إلا نفسي , لم أكن أريد خذل شقيقي بي ووضعه في
ذاك الموقف مع صديقه لكن إن طال الزمن وعانيت وتعبت معه واشتكيت
لإياس سيلومني لأني لم أخبره من البداية وبما أني أرى صداقتهما لم تتغير فأنا
لم أخسر شيئا , جلست على طرف السرير ورفعت هاتفي وجربت رقم ترجمان
في محاولة فاشلة جديدة ولم تجب طبعا فرميت الهاتف وتوجهت للحمام , إن
كانت أنا غاضبة مني هكذا فكيف بإياس ؟؟ يستحق ما أتاه ومتأكدة أنها
ستُخرج كل ذلك من عينيه
*~~***~~*
رفعتُ النظارة عن عيناي ورفعت بها شعري حتى استقرت فوق رأسي
ونحن داخلتان لمجمع التسوق وقلت ببرود " ظننتك كسبتِ مال ذاك العجوز
عمك وسنصبح ضمن الأثرياء وها نحن لازلنا نتسوق في ذات أماكننا السابقة "
قالت ببرود أشد " لا أعلم أفضل من هذا , ثم هوا فيه كل ما يناسب جميع
الطبقات فادخلي المحلات الراقية وانظري بعينيك لا مانع لدي "
لويت شفتاي بعدم اكتراث لما قالت وقلت ناظرة للجانب الآخر
" رجال شرطة !! ما بهم وكأنهم يلحقوننا "
قالت بسخرية " يبدوا أن التاريخ يعيد نفسه وقد تلتقي شخصا
آخر وتتزوجيه لاحقا "
قلت ببرود " نكتة سخيفة "
قالت بامتعاض " أنتي أسخف طبعا "
نظرت لهم بتركيز وقلت بهدوء " لا أصدق أن دُرر ستأتي قريبا
وأخيرا سنجتمع مجددا "
قالت بشبه همس " لم يعجبني صوتها أبدا , ثم أين زوجها عنها
ولما ستأتي وشقيقها فقط ؟ "
كنت سأقول شيئا ونظري لازال هناك فاصطدمت بأحدهم بقوة فنظرت
له فكانت امرأة انحنت لترفع الكيس الذي وقع منها ثم سوت وقفتها وقالت
" آسفة يا آنسة كنت أبحث بنظري عن ابني ولم أنتبه لك "
كانت بملامح جميلة وعينان زرقاء أجمل وملابس راقية جدا وفاخرة وقد
سبقها رجل مع طفلان أحدهما يرفعه في حضنه ووقف والتفتوا لنا فعدت
بنظري لها وقلت مبتسمة " لا عليك جاءت سليمة وأنا كنت أنظر
بعيدا فالخطأ مني أيضا "
قالت بابتسامة جميلة " جيد حادث سير بلا أضرار "
ضحكت ضحكة صغيرة واقترب منا الرجل وقال ناظرا لها
" سما حبيبتي هل من خطب "
فنظرت له وقالت " لا شيء نزار تصادمنا فقط "
ثم نظرت حولها وقالت " أين نزار يبدوا فعلها ولم يلحق بنا "
أمسك يدها بيده الحرة وقال ساحبا لها معه " كله من نتائج تدليلك له
فلا تنسي أنه أصبح في العاشرة ولم يعد صغيرا "
فنظرت لي سائرة معه وقالت مغادرة " آسفة مرة أخرى وكانت
فرصة سعيدة "
فلوحت لها بيدي مبتسمة وغادروا والطفل يقفز بجانب الرجل قائلا
" بابا هل ستشترونها لنزار ؟؟ أريد واحدة أيضا "
فأمسك الطفلة بيده الأخرى وشده بيده وقال مبتعدين " لن نشتري
لأحد وابق بجانبنا حتى نبحث عن شقيقك "
قلت ونحن نتابع سيرنا حيث اختفوا " اشرحي لي هذا ؟ قالت
أنها تبحث عن ابنها واسمه نزار ويبدوا ذاك زوجها واسمه
نزار أيضا فكيف ذلك ؟؟ "
قالت بلامبالاة " وما شأنك أنتي ؟ بقي أن تركضي خلفها وتستجوبيها "
تجاهلتها وقلت ببرود " تبدوا صغيرة في منتصف العشرين تقريبا
وزوجها ذاك كبير جدا عليها "
قالت بذات برودها القاتل " وما شأننا نحن , أم أنك غرتِ من اهتمامه بها
الذي يخرج من عينيه قبل كلامه وأفعاله أم من وسامته وعيناه الرماديتان "
قلت ببرود كبرودها " أنتي ما بك منذ يوم المزرعة ذاك أصبحتِ علبة
مثلجات بلا طعم "
لم تعلق طبعا فقلت " متى ستقررين أن تحكي لي ما قال لك هناك "
قالت بجمود " عندما تخبريني ما أرسل لك ردا على رسالتي "
قلت بضيق ونحن نصعد السلالم الكهربائي " لا تعلمي أفضل لك
كي لا يغمى عليك "
قالت من فورها " لا بأس نذهب للمستشفى وأخبريني هناك "
فضحكت لحظة ما وصلنا للأعلى وماتت ابتسامتي وأنا أنظر
للجانب الآخر بصدمة فضحكت سراب بجانبي وقالت بهمس
" يا محاسن الصدف "
فشددتها من يدها قبل أن ينتبه لنا وقلت متوجهتان للجانب الآخر
" كنت أعلم أن هذا اليوم سيكون سيئا هنا "
وصلنا المصعد ودخلنا له وضغطت زر الطابق الأرضي
فقالت بضيق " لما ننزل ؟ "
قلت ببرود " لأننا سنغادر "
قالت بذات ضيقها " كل هذا هروب منه يا جبانة ؟ "
تجاهلتها ونظرت لأضواء أرقام المصعد فقالت رافعة نظرها للأعلى
" أسأل الله يا ترجمان أن تكون نتيجة هروبك منه وقوع فيما هوا أسوء "
قلت بسخرية " هه من يسمعك يضنك رجل دين جبينه لا يفارق
سجادته , واثقة جدا من أن دعائك مستجاب "
وانفتح المصعد حينها وكان يقف أمامه .... هشام , فلويت شفتاي بضيق
لحظة ما دفعتني لخارجه ضاحكة وقالت بهمس " تلقي عقابك الآن "
تجاهلتها ونظرت له وهوا يقف في طريقنا يلعب بسلسة مفاتيحه في يده ولن
أفكر في الصعود مجددا والهرب طبعا فذاك لدي أسبابي وهربت منه أما
هذا فلا , قال بابتسامة جانبية ولازال يحرك سلسلته " جميل وجدتك أخيرا "
قلت ببرود " لم تخبرني أنك تبحث عني لكنت أخبرتك عن مكاني "
قال بذات سخريته " لا داعي لذلك فلن يصعب عليا إيجادك والنيل منك "
ضربت يد سراب التي تكزني بها لأسكت وقلت بحزم
" يدك وما تطال "
قال بجمود " سنرى وقسما أن تندمي على أفعالك بي "
قلت بسخرية " خفت منك هل تصدق ؟ وتلقى أنت أيضا عقابك
فهذه المرة لن أحلق شعرك بل سأنزع جلد رأسك "
وكزتني سراب وقالت هامسة " ترجمان الناس تتفرج عليكما تحركي
لا نريد مشاكل وقد يراه زوجك "
تجاهلتها وقال هوا بضيق " لا تضني أني خائف من زوجك الضابط
وعمك العقيد وسأعرف كيف آخذ بحقي "
أخفيت صدمتي من معرفته بهم وتابع هوا " لا أعلم كيف مجرمة
عمها عقيد في الشرطة ويزوجوها لضابط "
سحبتني سراب وأنا أصرخ فيه بضيق أكبر " لن أخاف منك ولست
أحتمي بهما ولا أحد ولا أحتاج لمن يجعلني أحطم وجهك "
سحبتني بقوة حتى ابتعدت بي قليلا عن باب المصعد جهة المصعد الآخر
قائلة بغضب " غبية أنتي أم مجنونة ؟ أقسم إن رآكما زوجك لحطم
رأسك قبل رأسه "
استللت يدي منها وقلت بحنق " لا أعلم ما جلبهما في طريقي
اليوم كلاهما وكأنه ينقصني تعكير مزاج "
وضعت يداه وسط خصرها وقالت بمكر " أنكري أن قلبك دق
وترقرق لرؤيته "
نظرت لها بصدمة ليس لما قالت بل للواقف خلفها فنظرت من فورها
للخلف ثم لي وغمزت وقالت بهمس مغادرة جانبا " هذه بتلك "
وابتعدت هاربة وكنت سأتحرك لكنه تقدم نحوي فورا ويداه في جيوبه فالتفتت
لصوت الباب الذي فتح خلفي وخرجت منه امرأة وطفلين فدخلته فورا وقبل
أن يغلق نصف انغلاق أمسكه بيده وسحبه ودخل ليغلق خلفه وضغط زر الطابق
السادس ثم سند كف يده على الجدار ينظر لي بهدوء وصمت وتحرك المصعد
ونحن نتبادل ذات النظرات الصامتة وكأن كل واحد منا ينتظر الآخر ليتحدث
ولا يبدوا لي ينوي ذلك وما أن وصل المصعد حتى ضغط على زر الطابق الأول
ونزل قبل أن يكمل فتحه وهوا على حالته ونظرته الهادئة وكأنه يحاول سحبي
لمحيط عينيه أو هكذا شعرت فعلا وكم كرهت ذاك الشعور وكم هوا سيء
وقاسي على القلب فقلت بضيق " ماذا تفعل الآن ؟ ما قصدك بكل هذا "
فلم يتحدث ولم يزح عيناه عن عيناي ولم يغير من نظرته فقلت بذات ضيقي
" لا تقل لما خرجتِ لوحدك ولما لست في منزل عمي وما تفعلين هنا
لأني لن أبرر ولن أقول ولن تتحكم بي "
والحال ذاته وكأنه تحول لتمثال جامد ووقف المصعد حينها وانفتح الباب ولم
يغلقه وكان رجلان يقفان في الخارج فتحركت حين لم يكرر فعلته ويغلقه مجددا
ليصعد بنا للأعلى واجتزته دون أن يبدر منه أي رد فعل ولا حركة حتى صرت
خارج المصعد ودخل الرجلان من فورهما ويبدوا أنه لم يخرج ويلحق بي كما
ضننت فالتفتُّ من فوري ولازلت أسير لتتغير خطواتي للسير للخلف ووقع نظري
عليه وهوا واقف مقابلا للباب ولي يداه في جيوبه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة
خفيفة وما أن بدأ باب المصعد بالإغلاق حاصرا له وحده أمامي رفع يده ووضع
سبابته والوسطى على شفتيه ثم ضرب بهما التحية بطرف جبينه ولازال ينظر لي
وأُغلق باب المصعد بعدها وغاب عن نظري وأنا لازلت أسير للخلف بخطوات
بطيئة لست أعي أين تأخذني ولا متى ستتوقف أحاول تفسير أفعاله هذه وأنا من
توقعته سيزمجر بي غاضبا كعادته منتقدا لتصرفاتي وقراراتي , وما لم يعلمه أني
جئت هنا أقود سيارة لكان فجر المصعد بنا بالتأكيد , اصطدمت بأحدهم خلفي
فقفزت مفزوعة وكنت سأعتذر ففوجئت بأنها سراب التي قالت ضاحكة
" كيف كان الشجار ؟ جيد أن المصعد لم يتعطل "
نظرت لها بغيظ فقالت متراجعة للخلف " لم يكن قصدي ولم أكن
أعلم أنه خلفي "
ثم غادرت بخطوات سريعة وأنا ألحق بها حتى وصلت السيارة وكانت تُخرج
وردة حمراء من طرف ممسحة زجاجها الأمامية فاقتربت منها فمدت لي
بورقة صغيرة وقالت تمسك ابتسامتها " هذه تخصك وجدتها مع الوردة "
استللتها من يدها وقرأت ما كتب فيها فكان ( إن أمسكت بك شرطة
المرور سأسجنك بنفسي )
نظرت لها فمدت لي الوردة وقالت بذات ابتسامتها المكتومة
" وهذه لك , طوال حياتك محضوضة من بين ثلاثتنا "
أخذتها منها بقوة ورميتها أرضا فرفعتها من فورها وقالت بضيق
" مجنونة على الأقل راعي مشاعره حين يخرج ويجدها مدهوسة
بسبب إطار عجلات السيارات هنا "
لم أكن أفكر في ردة فعله ولا ما سيعتقد كل ما فكرت فيه بل وكرهته
شعوري ذاك حيال سياسته الجديدة التي لم أعرفها منه ( التقبل وعدم
الانتقاد ) ركبنا السيارة التي ضربت بابها بقوة وغضب وركبت هي
بجانبي وقالت بضيق " قسما أنه لا يعوض لكنك غبية دائما "
قلت بحدة " الغبية هي التي تصدق هذا وتنساق خلفه وليس سوا
مجرد ترهات "
ثم قلت تابعت وأنا أشغلها " وذاك ما جاء به هنا أليس يعيش
ويعمل هناك حيث مزرعته ؟ "
قالت تكتم ضحكتها " يبدوا اشتاق لك "
تأففت وغادرنا خارجين من هناك وقلت بضيق " نكدا عليا تسوقي
كنت سأشتري فستانا لزواج عمي "
قالت ببرود " وكيف ستحضرينه وهوا في منزل عمتك والدة زوجك "
قلت بتذمر " ومن قال أني ذاهبة هناك وأنه سيقيم حفل زواج من أساسه
لقد طلب مني الذهاب لها في منزل شقيقها لنأخذها لمنزله وغدا سيأخذني
لحضور حفل زفاف رغد الذي سيكون في منزل عمها وقسما لولا إلحاحه
عليا كي لا اخجل عمتي أمام معارفهم ما ذهبت "
قالت بهدوء " غريب عمك حقا لم يتزوج كل هذه السنوات
فما تغير الآن ؟؟ "
قلت من فوري " المهم أنه تزوج ولن يبقى وحيدا "
نظرت لي بطرف عين وقالت بمكر " ظننته لن يبقى وحيدا وأنك
ستعيشين معه أم تغير المخطط "
قلت ببرود " نعم سأعيش معك وأنكد عليك أنتي وزوجك ذاك "
قالت بذات البرود " نكتة سخيفة "
ثم تابعت بجدية " ترجمان عليك أن تبتعدي عن المشاكل وأن لا تستهيني
بذاك المدعو هشام فقد يسبب لك مشكلة لن تستطيعي مواجهتها وحدك "
أغلقت النافذة ليتوقف شعري عن التطاير على عيناي وقلت
" لن أخاف منه وليفعل ما يحلوا له فلا شيء لديه سوا التهديد "
تنهدت وقالت " لا أعلم لما لا تخبري عنه عمك وعن رسائل
التهديد التي تصلك من أيام "
قلت ببرود " لا أحتاج لعمي ولا غيره ليحميني من أحد "
*~~***~~*
وقفت أمام حقيبتي ونفخت مجددا , ما هذه الورطة أيعقل أني تزوجت اليوم وممن
من رجل لم أتوقعه حياتي والغريب سعادة ابنتي غدير بالخبر فهل رأت فيه هي
أيضا طوق نجاة لها ولم تفكر بي ولا بأن تكون والدتها في ذمة رجل آخر رغم
أني اشترطت عليه أنه إن وافق والد ابنتي ستكون معي وأن لا يحرمني من أن
تزورني في منزله وأبلغ شقيقي سالم موافقته في كل الأحوال , انفتح الباب
وسمعت صوت غدير خلفي قائلة باستياء " أمي حتى الآن لم تجهزي ؟ "
قلت ببرود " وبما سأجهز ؟ هل تريني من سنك "
اقتربت مني وحضنتني من ظهري قائلة " بل وأصغر , أقسم أن يجن
جنونه من جمالك "
خلصت نفسي منها وقلت بضيق " غدير عن الوقاحة الزائدة "
ضحكت وقالت " حسنا توبة هيا غيري ملابسك فابنة شقيقه قادمة
بعد قليل أم تريدي الذهاب هكذا بفستان المنزل "
هززت رأسي بيأس منها ثم رفعت الثوب ودخلت الحمام ولبسته أنظر لجسدي
بعدم اقتناع , صحيح أنه بسيط رغم أناقته وجماله لكني أرى نفسي حقا ألعب
دورا ليس لي , نظرت بعدها لوجهي في المرآة وسالت دمعتي على خدي , أين
أنت يا أواس ؟ قلبي ليس مطمئنا لكل مخططك هذا وعلى من اخترته زوجا لي
أن يبحث عنك فورا فنصف موافقتي عليه من أجل هذا الأمر رغم يقيني من أنه
سيسيرني على نظام العسكرية حتى الكلمة بحسابها , مسحت دموعي حين طرق
أحدهم باب الحمام فخرجت ووجدت فتاة جميلة تقف بجانب غدير بشعر أسود رائع
وعينان جميلتان وابتسامة مشاكسة وقالت ما أن رأتني " ألم تجهز العروس بعد "
فشعرت أني تحولت لبقعة ماء من الإحراج فيالا سعادة حظك يا خديجة على آخر
عمرك تتحولين لسخرية ممن هم في عمر ابنتك أو يزيد بقليل , اقتربت مني
وحضنتني قائلة " أنتي أصغر بكثير مما توقعت , مبارك لكما
عمي رجل رائع ومحظوظة أنتي به "
ثم ابتعدت عني وقالت مبتسمة " أنا ابنة شقيقه واسمي ترجمان "
قلت بابتسامة صغيرة " سررت بمعرفتك يا ترجمان وكم حدثتني عنك دُرر "
قالت مبتسمة " أجل تلك المحتالة هربت مع ابن شقيقك لكنها قادمة
غدا وحسابي معها "
نظرت لها بصدمة , ألا تعلم بما حدث لصديقتها ؟؟ ودُرر قادمة هل
لتبحث عنه أم ماذا ؟ أمسكت يدي وسحبتني منها قائلة " تعالي يلزمك
بعض الزينة لتبهري زوجك "
تبعتها كالمخدرة لأن عقلي كان لا يزال يفكر في كلامها حتى أجلستني
على كرسي طاولة التزيين ورفعت لي وجهي فقلت " لا داعي لهذا يا
ترجمان هل تريدي أن يسخر عمك مني "
ضحكت حينها وقالت " لو رأيناه قبل يومين لن أكون ترجمان "
آخ يبدوا أن المجانين غير غدير كثر وهذه كما حكت عنها دُرر وأكثر , وبعد
صراع طويل معها وضعت لي بعض الماكياج ولم أتركها تثقله لي فبأي قلب
سأفرح وأتزين ؟ بالقلب المحترق على ابني الذي لم أنجبه أم بالقلب الذي يشعر
بالخجل من الجميع وأنا أفكر في الزواج بعد كل هذه السنوات ؟ لبست بعدها
عباءتي وقالت هي " كانت عمتي تريد المجيء لكن زواج ابنتها غدا
فرفض عمي مجيئها وتجديها الآن غاضبة منه "
قلت بهدوء " أنتي تكفي وزيادة "
قالت ضاحكة وهي تتوجه للباب " بالتأكيد وجهزي نفسك
لزياراتي الدائمة "
ثم خرجت لعمها وقلت لغدير " ألن تذهبي معنا أيضا ؟ "
أخرجت عباءة من حقيبتها وقالت " بالتأكيد فعمي رِفعت طلب
مني ذلك "
نظرت لها بصدمة وقلت مندهشة " غدير تلبسن العباءة !! "
قالت مبتسمة وهي تلبسها " والنقاب أيضا يا أمي "
قلت بسعادة غامرة " قولي قسما "
توجهت نحوي تفرده بين يديها قائلة " نعم وها هوا لتتأكدي "
ثم ضمتني قائلة " لقد تغيرت كثيرا يا أمي وسأترك الجامعة أيضا "
أبعدتها عني وقلت بصدمة " تتركين ماذا !! "
قالت وهي تلبسه " الجامعة والسبب هوا الاختلاط ولن أدرس فيها أبدا "
لم اصدق ما ترى عيني وما تسمع أذني فما كل هذه التطورات في الفترة
البسيطة التي لم أراها فيها , قلت باستغراب " غدير ما قلب حالك فجأة "
رفعت نقابها للأعلى وقالت مبتسمة " الله هداني للصواب هل ممنوع هذا
يا أمي أم خطأ ؟ "
هززت رأسي بلا وقلت " بالتأكيد ليس خطأ لكن دراستك .... "
قاطعتني قائلة " انسيها يا أمي الله أهم عندي فكم كانت تقنعني صديقتي
بالالتزام والآن تمكنت مني "
أمسكت وجهها بيداي وقلت بعينان تمتلئ دموعا " من ترك شيء
لله عوضه بأفضل منه يا غدير "
أمسكت يداي وقبلت كفاهما وقالت " ارضي عني يا أمي , وأقسم لك
أن كل ما فعلته سابقا كان بسبب زوجة والدي وابنتها "
هززت رأسي بحسنا ثم ضممتها لصدري وقلت بحنان
" لم أغضب منك يوما يا ابنتي "
ابتعدت عني ومسحت دموعها وقالت " لقد قبل والدي بأن أعيش
معك فهل يضايقك ذلك ؟ "
لم أصدق ما سمعت أذناي هل يكون ذلك بهذه السرعة !! حضنتها مجددا
وقلت ببكاء " ما أسعدني بكل هذا يا غدير وحمدا لله الذي جمعنا معا في
منزل واحد فقد كان اعتراض والدك أن منزل أواس يعد منزل رجل
غريب عنك "
قالت وهي تضمني بقوة وبضحكة خفيفة " البركة في زوجته "
ثم ابتعدت عني وقالت " هيا يا أمي ستتأخرين عن خالي سالم "
لبست حجابي وغطيت وجهي أيضا وخرجنا معا لنغادر في سيارة شقيقي
نلحق سيارتهم , حمدا لله على الأقل ستكون ابنتي معي وستبتعد عن زوجة
والدها وابنتيها وتعيش في راحة على الأقل , نظرت جهتها ثم أمسكت يدها
التي كانت تلبس فيها قفازا أسودا أيضا فاتكأت على كتفي وضمتني لها بقوة
فسبحان من يغير ولا يتغير كنت أعلم أن ابنتي فتاة صالحة لكن ظروفها
تحكمت بها , وصلنا بعد مسافة لا بأس بها ودخلنا سور المنزل وكانت
سيارته تقف أمامنا ويبدوا أنه فيها فأنوارها ما تزال مضاءة ليزداد توتري
واضطراب دقات قلبي , نزلنا من السيارة وحمدا لله أنه لم ينزل وقال
شقيقي سالم " سأنتظرك هنا يا غدير "
فتحت لنا الخادمة الباب بوسعه ودخلنا وكانت ابنة شقيقه تقف هناك
وقالت من فورها " تعالي لنأخذك لجناحكما فعمي لديه مشوار ضروري "
كنت سأتحدث لولا أوقفني الصوت الهادئ ذاك الذي كان محفورا في
مخيلتي من استغرابي له قائلا " غدير "
فأنزلت رأسي للأرض وأشعر بقلبي سيخرج من مكانه وكأنه لم يسبق
لي الزواج من قبل , هه وما علمني ذاك الزوج غير الخوف من جنس
الرجال أجمعهم , قال بعدها ولا يزال بعيدا عنا " سيجلب خالك ثيابك
وأغراضك غدا لا داعي لتغادري "
قالت حينها بسرعة " شكرا يا عمي لكن ذلك لا ..... "
قال مقاطعا لها " خالك غادر ووالدك تحدثت معه بنفسي وغرف المنزل
كثيرة اختاري منها ما يناسبك لا داعي لتأجيل قدومك هنا "
ولم نسمع بعدها سوا صوت غلقه للباب وترجمان راكضة خلفه قائلة
" هيه عمي نسيت أنك ستوصلني في طريقك "
ولحقت به دون حتى أن تأخذني لما قالت عنه أنه جناحي ويبدوا خيرا
فعلت , أنزلت الغطاء عن وجهي ونظرت للخادمة التي قالت مبتسمة
" سعيدة بوجود أنتما "
قلت بضحكة " ما أتعسك من خادمة ها قد عدت لك "
نظرت لي غدير باستغراب فوضعت يدي على كتفها وقلت
" وهذه ابنتي وستكون معنا هنا أيضا "
أومأت برأسها إيجابا مبتسمة فقلت " ذاك الجناح كما كان سابقا ؟ "
أشارت بيدها وقالت " بالتأكيد تفضل "
وسرت وغدير تسير بجانبي وقالت باستغراب " أمي هل
تعرفين هذا المنزل سابقا ؟! "
قلت ونحن نتبع الخادمة " سأحكي لك كل شيء حالا فسهرتنا
الليلة طويلة وسننام معا "
مؤكد ذاك سيعود متأخرا ولن يبحث عني وغدا سيقضيه جله في الخارج
كعادته وليلة غد لكل حادث حديث فيبدوا أنه تجنب الوجود هنا الليلة عمدا
لنأخذ راحتنا أو لا أعلم فيما يفكر فمؤكد لا يريد زوجة وهوا رفض فكرتها
كل هذه السنوات وشهامة منه وافق عليا الآن وراضية أن يتركني هنا كشيء
لا حاجة له وأعيش مع ابنتي أو في غرفة مستقلة , قالت غدير " أمي كيف
تنامين معي ؟ وزوجك !! "
فتحت الخادمة باب الجناح وقلت ونحن ندخله " قد لا يعود باكرا
وما أن يأتي سأصعد للأعلى "
كانت ستقول شيئا لكنها انشغلت بنظراتها المبهورة للمكان فما كانت
لتحلم بأن تعيش هنا فكم كان يعجبها منزل أواس وتتمنى العيش فيه دائما
*~~***~~*
أريتها الفستان الذي تركته مفاجأة لها فقفزت بصرخاتها الطفولية الفرحة ولسانها
الذي يأكل الحروف سابقا أصبح يخرج كلمات مشفرة وأنا أضحك عليها رافعة
الفستان للأعلى فقفزت من تحتي ويداها ممدودتان للأعلى قائلة " ديموووو
فستاني أعتي لي فستان عروس ... لي لي "
أبعدته وعلقته عاليا على الخزانة وقلت " لا .. أعلم ما النتيجة ستطلبين
أن تلبسيه وسيتسخ طبعا "
عبست ودمعتها تنذر بالنزول وأعلم أنها إن فتحت فمها باكية فلن تغلقه
فأخرجت من الكيس الحداء والقبعة وقلت " وهذه أيضا "
فعادت للقفز مجددا فوضعت القبعة على رأسها وقلت " يمكنك اللعب بها
أما الفستان فلا وستلبسينه غدا "
قالت حينها رغد الجالسة على سريرها " سدين يبدوا أنك تريديننا
مسخرة للجميع غدا "
وضعت يداي وسط جسدي وقلت " ولما ستكونان مسخرة ؟ أقسم أنه
لن يجد هوا ولا أهله واحدة مثلك وإن حفي , وهم يعلمون ذلك جيدا "
أنزلت رأسها للأسفل تضغط قبضتيها في حجرها وأفهم جيدا موقفها فتوجهت
نحوها وجلست أمامها وأمسكت يديها وقلت بجدية " رغد عليك أن تكوني قوية
فالحياة تحتاج لامرأة تستطيع مواجهة كل ظروفها , وحلا أخبرتني بلسانها أن
والدتها لم تعد مستاءة للأمر وأنتي تحديدا لطالما تمنتك لبسام ليس لعلمها فقط أنه
يريدك بل لأنها لا تريد تفويتك على أحد أبنائها فمن لا يتمنى واحدة كالنسيم
الهادئ مثلك لابنه "
رفعت رأسها ونظرت لي بعينان دامعة وقالت بتوجس " خائفة يا سدين
خائفة من مواجهته هوا لا هُم , أخاف أن يسقط القناع ما أن أصير لديه "
أبعدت يداي وقلت بتذمر " رغد أخبرتك مئة مرة أن تتوقفي عن قراءة تلك
الروايات التي زرعت في دماغك هذه الأفكار , أين هذه يتزوجك لينتقم من
رفضك له ؟ تلك مجرد خيال يتخذه الكاتب مبتعدا عن الواقع ليسلي القراء
ولا يوجد رجل يتزوج ويربط نفسه بامرأة فقط لكي يلقنها
درسا هل هي فوضى "
قالت بهمس " أتمنى ذلك "
هززت رأسي بيأس منها ثم قلت " لا تنسي أن والده عمك وبكلمة منك سيربيه
على أي خطأ يصدر منه ولا تنسي أيضا شقيقك الذي لن يترك مجالا لأن يتكرر
ما حدث مع مصطفى وقال بلسانه ( رغد تحديدا سأراقب حياتها بعينان لا تغفل
لأن حقها يضيع وتسكت دائما ) ولا تنسي يا عروس خالك الذي هدده أنه إن
أبكاك فقط فسيرميه خلف الشمس "
ثم قلت بضيق " ليثهم وقفوا لمصطفى ذاك هكذا لكن لا بأس
تعلموا منه درسا "
نظرت للأسفل وقالت بهدوء " رحمه الله اذكروا محاسن موتاكم يا
سدين ولا يجدي ذلك الآن في شيء "
نظرت لندى التي خرجت من الباب تركض ممسكة القبعة على رأسها
وقلت وأنا أقف " سأذهب لأرى ما حدث في شجار أمي وسلسبيل "
قالت مبتسمة " لن تقدر عليها .. أمي وأعرفها جيدا وسلسبيل
تتعب نفسها فقط "
قلت مبتسمة " نعم أرنا ابتسامتك هذه كي تقابليه بها غدا ولا تنكدي
عليه فهوا يتزوج لأول مرة "
قالت ببؤس " نعم وهذا ما سأسمعه كل حياتي ( يتزوج لأول مرة ) "
نظرت لها بصدمة ثم انفجرت ضاحكة فرمتني بالوسادة فقلت أمسك
ضحكتي " لا لن تسمعيها إلا اليوم ومعي حق فأنتي جربتِ متعة
أول ليلة لكن هوا لا فلا تفسديها عليه "
قالت ببرود " ومن أجبره على الزواج بي "
قلت مغادرة جهة الباب " أجبره قلبه , كم أنتي محضوضة به "
وخرجت وتركتها فعليها أن تنام مبكرا كما أمرت أمي ولا أضع نفسي في
مرمى غضبها الليلة يكفي أنها لازالت حتى الآن تنظر لي بعتب وإن كانت
لم تعد تتحدث في الأمر , ما أن خرجت لوسط المنزل حتى انفتح الباب
ودخل منه إياس حاجبيه معقودان ويبدوا مستاء بالفعل فاقتربت
منه وقلت " ما كل هذا العبوس ؟ "
قال مغادرا من أمامي وأنا أتبعه بنظري " لا شيء "
وأوقفته ندى التي ركضت جهته لازالت تمسك قبعة الفستان فوق
رأسها فرفعها وقبل خدها وقال " هل هذا فقط ما أعطته لك منه ؟ "
توجهت بخطواتي نحوهما قائلة " بالتأكيد كي لا نجده صباحا قد
تغير لونه من لفها به في المنزل "
أنزلها حينها للأرض فأمسكت ذراعه قبل أن يتوجه للسلالم وقلت
" إياس ألن تخبرني ما يزعجك هكذا ؟ "
قال مغادرا وذراعه تنسل من يدي " بعض المشاكل الصغيرة لا تهتمي "
لكني تبعته فلا يبدوا الأمر مشاكل صغيرة أبدا فهل حدث شيء بينه وبين
ترجمان ؟؟ صعدت خلفه حتى وصل غرفته ودخلت معه قائلة
" لا تفكر في طردي لأني لن أخرج "
قال متوجها للخزانة " سأستحم وأنام وابقي جالسة هنا وحدك "
توجهت نحوه وأمسكت يده التي بدأ يخرج بها ثيابه وقلت " ما بك يا
إياس ؟ لن يكون ما وراء مزاجك هذا مشاكل بسيطة كما تقول "
تنفس بقوة وقال " التقيت بأمين منذ قليل "
قلت بتوجس " هل رفض تطليقي لذلك أنت مستاء ؟؟ "
رمى الثياب في الخزانة بقوة وقال " كنت أود تأجيل الحديث في هذا
حتى يمر زواج رغد لكنك لا تصبرين أبدا "
قلت بإصرار " تكلم يا إياس هل رفض ؟ "
نظر لباب الخزانة الذي أغلقه بقوة وقال " بل سلمني ورقتك "
نظرت له لوقت بصمت تام ثم قلت " حسنا وما المشكلة ؟ هل
تشاجرتما بسبب هذا ؟ "
هز رأسه بلا ثم نظر لي وقال " ألا يزعجك كونك أصبحتِ مطلقة
وليلة زواج شقيقتك الأرملة "
هززت رأسي بلا وقلت بثقة " أبدا ولم تتحرك لي شعرة , فهل هذا
ما يكدر صفوك أم أنه قال شيئا أزعجك ؟ "
سند كفه على باب الخزانة المغلق ونظر للأرض وقال بشيء من الحزن
" بل لأني فشلت يا سدين فشلت في جميع القرارات التي تخصكم و.... "
أمسكت ساعده وقلت مقاطع له " لا يا إياس لا تفكر هكذا أنت لم
تخطئ يوما في شيء "
هز رأسه بقوة وقال " لا تحاولي التخفيف عني يا سدين ولا
تكذبي على نفسك "
شددت على ساعده بقوة أكبر وقلت " ذكِّرني بقرار واحد طائش وخاطئ
يخصنا ؟ أنت رعيتنا ونحن طفلات ولم نحتج يوما لأحد وكبرنا ولم يستطع
أحد قول كلمة في واحدة منا , زواج رغد من مصطفى هي من أصرت عليه
ووالدتي ساندتها وأنت كنت رافض له بالكلية وظهر كلامك كله صحيح فيما
بعد وزواجي بأمين لم يكن خاطئا يا إياس ولا قرارا طائشا فأنا وأمين
من عالمين مختلفين ليس لأنه هوا سيء ولا أنا ولا اختيارك له "
نظر جانبا لوجهي وقال " بل خطئي من البداية فما كان عليا
عرض الأمر عليه "
هززت رأسي بلا بقوة وقلت " أنت أردت لي الأفضل وهوا كما تظن به
وموافقته على قرارنا أكبر دليل بينما كان بإمكانه صنع مشاكل من هذا
وإثارة الشائعات والأقاويل , وهوا لم يوافق رغم عدم اقتناعه إلا لأنه
يحبك ولا يريد خسارتك "
أبعد يده عن الخزانة ووضع يديه في جيوبه ونظر جانبا متنفسا بضيق فقلت
ناظرة لعينيه " ليس العيب به يا إياس ولا باختيارك له وأقسم لو كان هوا من
طلبني بنفسه ما تراجعت في الأمر ولوجدنا لتخالفنا حلا لكن أن يكون قد أجبر
نفسه على القبول بي فهذا ما كنت لأرضاه لنفسي وأنت أكبر مجرب يا إياس "
نظر لي وقال " أنا لم اجبَر على ترجمان , صحيح أني كنت رافضا زواجي
بها بسبب طباعها لكني بعد زواجنا لم أشعر يوما أنها شيء فرض عليا
وأريد التخلص منه "
قلت من فوري " هذا لأنك أحببتها من قبل أن تتزوجها يا إياس "
أبعد نظره عن عيناي ولم يعلق فقلت " أما نحن فالأمر مختلف
فطمّني فقط أن علاقتك به لم ولن تتغير "
هز رأسه بنعم وقال " لا تخافي فحتى أمين لم يكن المخطئ فأنا من
وضعته في ذاك الموقف وحبه لي ما جعله يوافق رغم لومي عليه "
ابتسمت بارتياح وقلت " وهكذا لن يكون هناك متكدرا من كل هذا إلا والدتي "
خرجت منه ضحكة صغيرا فقلت بذات ابتسامتي " نعم هكذا فعليك
أن تسعد من أجل رغد فبسام الرجل الذي يستحقها "
تنهد وقال " آمل ذلك يا سدين فمن كثرة ما مررتن به بث أشك بالجميع "
مسحت بيدي على طرف وجه وقلت بابتسامة " لن تفخر فتاة بشقيقها كما
أفخر أنا بك ولو قالوا لي اختاري شيئا واحدا تريدين تغييره في شقيقك
لكان جوابي لا شيء , أنت إنسان رائع يا إياس وترجمان محضوضة
بك هي فقط مجنونة وعقلها متوقف عن العمل فتحملها "
ضمني لحضنه وقبل رأسي وقال " أسأل الله أن يعوضك خيرا يا سدين
ولازلت عند رأيي أنتي بالتحديد لن أزوجك إلا لرجل يقدر عقلك الكبير
ولا ينظر لمظهرك ومن سينجح في الاختبار فقط من سأوافق عليه "
ابتعدت عن حضنه وقلت مبتسمة " يعني من الذي سيعجب
الملك ويفوز بالأميرة "
لعب بغرتي بين أصابعه وقال مبتسما " نعم ... فقط لا يكون مثلك
فصوصه في وجهه والسلاسل في عنقه "
ضحكت وقلت " لا تخف فأنا أيضا لا تستهويني تلك الأنواع فهذه الأمور
وجدت للفتيان لا للرجال ولا أريد إلا رجلا تليق به الكلمة مثلك أنت "
مسح على شعري ثم فتح باب الخزانة قائلا " اتركيني أستحم وأنام
إذا ولا تخبري والدتي بما أخبرتك حتى ينتهي حفل الزواج "
*~~***~~*
نزلت إسراء راكضة من السلالم تضحك وترجمان خلفها بملابس
النوم صارخة " سأمسكك يا فطرة وسترين "
ضحكنا عليها أنا وعمتي سعاد وصفاء وخرجت إسراء للخارج
فورا فقلت قبل أن تلحق بها " تعالي أنا من أرسلتها لتوقظك "
توجهت نحونا قائلة بضيق " وهي انتهزت الفرصة طبعا
تلك المشاغبة القصيرة "
قالت صفاء ضاحكة " ماذا فعلت لك ؟ "
عدلت من بيجامتها بغيظ وقالت " شدت لي خداي بقوة , لقد
أفزعتني تلك الحرباء الصغيرة "
قالت عمتي سعاد مبتسمة " أنا آسفة لقد أصرت سراب وما
كنت موافقة أن تصعد لك "
نظرت لي بضيق فقلت بضحكة " دعيها مرة واحدة تأخذ بحقها منك
ثم نحن صرنا وقت العصر وأنتي لم تجهزي نفسك للذهاب مع خالك "
كانت ستتحدث لولا أن أوقفها صوت السيارة التي وقفت في الخارج
فقلت ناظرة للباب " هل هذه دُرر وصلت ؟؟ "
قالت عمتي " قد يكون آسر ؟ "
شعرت ببعض الارتباك وإن كنت حاولت إخفائه ولا أعلم حتى متى
سيسيطر حضوره ووجوده على انفعالاتي ؟ وأراه من ذاك اليوم في
المزرعة تجنب المجيء إلى هنا ولم أره أبدا , دخلت إسراء ووقفت
عند الباب وقالت قافزة " رجل وسيم تعالوا بسرعة "
فانفجرت أنا وصفاء ضاحكتين وقالت ترجمان " أنظروا للطفلة المنحرفة "
قالت والدتها بضيق " لا أعلم كيف دخلت هذه الأفكار لرأسها ومن أدخلها ؟ "
قلت ناظرة لها عند الباب " هل معه امرأة ؟ "
هزت رأسها بنعم وقالت مشيرة لترجمان بإصبعها الصغير
" وأجمل من صديقتك هذه "
فتحركت ترجمان نحوها وصرخت هي هاربة للخارج فرفعت حجابي
وتحركت جهة الباب قائلة " هذه دُرر بالتأكيد والذي معها زوجها "
خرجت وكانت هي بالفعل ومحتضنة ترجمان وتبكي بشدة بل وبانهيار
فنظرت للشاب الذي كان يقف عند سيارته وإسراء تقف أمامه وتتحدث معه
طبعا فهي لن تفوتها وهوا كانت عيناه على ترجمان ودُرر , مؤكد هذا شقيقها
له ذات العينين وإن اختلفت ملامحهما , شعره أسود ناعم وكثيف ليس كلون شعر
دُرر , توجهت نحوهما وأبعدتها عن حضن ترجمان التي تحاول تهدئتها وفهم ما
بها وما أن ابتعدت عنها حتى ارتمت في حضني تواصل بكائها وكانت ملامحها
متعبة جدا وهالات خفيفة قد ظهرت تحت عينيها وكأنها ليست دُرر تلك التي النظرة
الواحدة لوجهها تنسيك بشاعة كل شيء حولك , ضممتها بقوة وقلت ودموعي
بدأت بالنزول " يكفي يا دُرر ما بك تبكي هكذا يا شقيقتي ؟ ماذا حدث لك "
ولا فائدة ولا جواب لديها سوا النشيج الباكي والعبرات المتلاحقة فاقترب منا
شقيقها ووضع يده على كتفها وقال ناظرا لها " دُرر يكفي ستمرضين
وأنتي بالكاد يمكنك الوقوف "
نظرت له باستغراب من كلامه وأبعدتها ترجمان هذه المرة وقالت وهي
تسير بها جهة باب المنزل حاضنة لكتفيها " تعالي ادخلي قبل أن
تسقطي علينا "
وكان نظري يتبعهما وكنت سأدخل خلفهما فأوقفني صوته قائلا
" اهتموا بها رجاءا فهي متعبة "
التفت ونظرت له فقال " رقمي لديها واتصلوا بي إن طرأ شيء
ولتكن في أعينكم رجاءا "
هززت رأسي بحسنا دون كلام فغادر جهة سيارته وركبها وانطلق من فوره
مغادرا , لو أعلم ما بها وما سبب ما هي فيه ؟ يبدوا خائفا عليها بالفعل , كم
أنتي محضوضة يا دُرر ظهر لك عائلة يحبونك بالفعل والأهم شقيق تستندين
عليه ليس مثلي تتلقفك الظروف من كل جانب , هززت رأسي بقوة واستغفرت
الله ودخلت حيث كانوا يجلسون وسط المنزل ولازالت دُرر في حضن ترجمان
ولازالت على بكائها وصفاء تقف فوقهم ممسكة كوب ماء وعمتي سعاد تمسح
بيدها على كتف دُرر وتحدثها فاقتربت منهم وجثوت على ركبتاي وأبعدتها
بعدما أخذت كوب الماء من صفاء وقلت وأنا أقربه من شفتيها " دُرر
تعوذي من الشيطان وتوقفي عن البكاء واشربي الماء هيا "
همست بشفاه مرتجفة مسمية الله ثم شربت منه جرعتين صغيرتين
وقالت ببحة " خذوني لأي سرير لم يعد يمكنني الجلوس "
وقفت بها ترجمان وساعدتها لنوصلها وقلت " سنتصل بشقيقك قبل
أن يغمى عليك يبدوا تريدين المستشفى "
قالت بهمس متعب وهي تسير معنا بصعوبة " لا داعي لذلك سأكون بخير "
أجلسناها على سرير صفاء وتبادلنا أنا وترجمان النظرات المستغربة من حالها
ومما لا شك فيه أن ذاك الزوج الثالث سبب انهيارها فلا شيء أبكى ثلاثتنا غير
جبروتهم , رن هاتف ترجمان فأجابت عليه قائلة من فورها " لن أذهب
معك يا عمي , دُرر هنا ومتعبة قليلا "
سكتت لوقت ثم قالت " لا أعلم هي وصلت للتو ولا يمكنني تركها "
أغلقت بعدها هاتفها والغريب أن عمها رغم إلحاحه عليها ورفضه أي عذر
لذهابها قد وافق الآن سريعا ما أن أخبرته بالسبب !! نظرت لدُرر المغمضة
عينيها ودمعتها تنزل من طرف عينها ثم نظرت لترجمان وقلت بهمس
" هل نامت أم مغمى عليها ؟ "
غطتها وقالت " بل نامت ويبدوا أنها لم تنم من وقت وانهيارها الآن
جعلها تنام دون شعور منها "
اقتربت منها ونزلت مستندة بقدماي على الأرض وأمسكت يدها وقلت
بحزن باكي " ما بك يا دُرر ؟ ماذا حدث معك جعلك هكذا يا شقيقتي "
شعرت بيدين أمسكتا ذراعاي وأوقفتاني وصوت ترجمان قائلة بهمس
" لنتركها تنام وترتاح ونزورها هنا كل حين حتى تستيقظ ونفهم منها "
ثم خرجنا ثلاثتنا وأغلقت صفاء الباب واقتربت منا عمتي سعاد قائلة
" ما بها هل هي بخير "
هززت رأسي بحيرة فقالت ترجمان مغادرة جهة السلالم
" سأتحدث مع عمي ليسأل زوجها "
*~~***~~*
منذ أكثر من ساعتين وأنا جالسة على هذه المنصة نظري شارد لكل شيء إلا
وجوه الناس الكثيرين هنا فلا أريد رؤية تلك النظرات الساخرة من تغيير قراري
والزواج بمن رفضته سابقا ولا تلك النظرات التي تحسدني على زواجي بشاب
وأنا بابنتي وأرملة كانت على وشك الطلاق وقد تزوج زوجي عليا , لا أريد رؤية
كل ذلك فلا ينقصني إحباط وكآبة , الشخص الوحيد الذي كانت تراقبه نظراتي كل
حين هي والدتي التي لا ترسل عيناها سوا النظرات الحنونة السعيدة بما أنا فيه الآن
فلن يشعر أحد هنا بما تشعر به هي الآن اتجاهي ولا حتى شقيقتاي المنشغلات مع
الضيوف رغم فرحتهما الغامرة وسعادتهما من أجلي , ندى ما تزال مختفية وكلما
سألت سدين عنها قالت أنها موجودة وستأتي ولم أراها اليوم أبدا خاصة أنها ستلبس
الفستان الأبيض الطويل الذي كانت تتحدث عنه في نومها طوال الليل والذي سبق
ووعدها إياس أنه سيشتريه لها في زواج سلسبيل وسدين لكن سلسبيل تزوجت بلا
زواج وسدين يبدوا لن تتزوج بزوجها الحالي , فمن كان يتخيل أنها ستلبسه في زواج
والدتها ! كم هذا مضحك حقا , زوجة عمي وبناتها تصرفوا معي بشكل لم أتخيله ولا
في أحلامي , كن سعيدات حقا ومبتسمات ولم يبدوا على ملامح والدته أبدا أنها كارهة
لوجودي ولزواجه بي رغم أنها لم تحدثني المدة الماضية أبدا , وهذا أفضل ما حدث
لي الليلة فكم خفت من ردة فعلهن وخاصة والدته , نورس الوحيدة التي كان سلامها
لي متحفظا ويبدوا أنها حتى بعدما تزوجت لازالت غاضبة بسبب زواج إياس من
غيرها وإن لا سمح الله طلق إياس ترجمان فستندم شديد الندم على زواجها بالتأكيد
شعرت بأحدهم صعد من الجانب واقترب مني ثم انحنى جهتي وسمعت همس
سدين قائلة " بسام سيدخل الآن , على الأقل ارفعي رأسك وابتسمي قليلا "
شعرت بقلبي بدأ بعزف سيمفونيته المجنونة وبدأت بقراءة الفاتحة بهمس كما
أخبرتني سلسبيل أنه ما فعلته حين دخل عليها زوجها وأن هذا أراحها كثيرا
انفتح الباب البعيد المقابل لي بوسعه فوقفت دون شعور مني ولو تركت العنان
لساقاي لهربت من هنا ولا أعلم ما بي فلم أخف وأتوتر في زواجي السابق هكذا !!
فهل السبب أني كنت أعرفه وأتحدث معه أم خوفي من ردة فعل بسام هوا السبب
نهاية الفصل .... موعدنا القادم مساء الأربعاء إن شاء الله