جنون المطر (( الجزء الأول ))
الفصل الرابع
المدخل~
اهداااااء لكاتبتنا الراااائعة برد المشاعر
بقلم الغالية : نجـ"ـمـ"ـة المسـ☆ـاء
رَحيقُ الزهورِ ومسـكُ الخواطر .. وروحُ القصيـــدِ بها ألفُ شاعرْ
حنــانٌ ودفءٌ وهمــسٌ وخفقٌ .. وصدقٌ شــــذاهُ مع الدّم سـائرْ
سجايـاً تنامتْ وفيـــكِ أقـــامتْ .. كصرحٍ مجيدٍ تليــــدِ المـــآثــرْ
فخُطّي الحروفَ سلمتي ودمتي .. سناً في دُجانا وقَطراً تنــــاثرْ
فأنتـي الرُقـيُّ وكــلُ رُقِــــيٍّ .. سموتي وكنتي.."برد المشاعرْ"
*****
اليوم أعلنت غضبها من الجميع بعيدة عن الجميع ومستاءة حتى
من الكلام فلم تتحدث مع أحد ولم تخرج من غرفتها منذ أمس
إلا للضرورة , علمت من بعض ما سمعته منهم أن شقيقها كاسر
سيأتي اليوم أو في الغد , لم تسأل لما ومتى سيذهب لكنه الشيء
الوحيد الذي أسعدها بعد يوم أمس فكم كرهت معاملتها كطفلة لا
يحق لها اتخاذ قرار يخصها , وبّختها عمتها لأنها قررت ترك
الدراسة وقالت أمامها أن والدها يخطئ دائما وأنه رضخ لرأيها
ولم يفكر في مصلحتها التي لا تعلمها هي حسب كلامها وفي
النهاية هي من تخطئ ووالدها يشجعها وسؤالها الوحيد
( لما ليس العكس ؟؟ )
انقلبت على الجانب الآخر لتقابل النافذة التي تركتها منذ البارحة
مفتوحة ليوقظها ضوء النهار المتسرب منها واكتفت بإغلاق
زجاجها فقط , بحثت بعينيها في السماء عن الطائرة التي تسمع
صوتها بوضوح حين عبرت فوقهم , وهي طائرة مدنية بالتأكيد
فلا طائرات حربية تحلق هنا , جالت بحدقتيها السوداء الواسعة
في تلك السماء الملبدة بالغيوم وهي لازالت تسمع صوتها رغم
يقينها أنها لن تراها ليس بسبب تلك الغيوم السوداء المتلاصقة
ولا العلو الكبير لتلك الطائرة ولكن لأنها ما سمعت الصوت إلا
لأن الصورة سبقته لكنّ شيئا ما في قلبها ضل يتساءل ( ترى
من فيها من أين أتت وإلى أين تذهب ؟؟ ) وهي موقنة من أنها
قادمة من بلدان الجنوب متجهة حيث الشمال من اتجاه صوتها
كم شعرت أنها تحمل أمانيها تحمل حلما بعيدا جدا ولا تعرف
لما !! بل شعرت أن من على متنها تعرفه جيدا ولا
تعلم كيف ولا أين ؟؟
أغمضت عينيها برفق وشدت من احتضان الوسادة في حضنها
وعادت لحزنها من جديد ( لما لا يرون أني كبرت وأنه من
حقي أن أقرر وحدي ما أريد ؟ والدتي في عمري كانت حاملا
بي خرجت من أهل زوجها اللذين الله أعلم من يكونون وجاءت
إلى هنا , لقد قررتْ ونفذت وحدها وقال والدي بلسانه أنها فعلت
الصواب حينها فلما أنا لا أعرف مصلحة نفسي !! لما والدي في
نظرها يقف معي على الخطأ وليس يساندني فيما يرى فيه
مصلحتي ويريحني ؟ لما أدرس وآخذ من وقته ساعات لأخذي
وجلبي يوميا وغيري تركوا الدراسة والآخرون يركبون الحافلات
الصغيرة التي تقلهم ليومين فقط في الأسبوع وستأخذهم يوميا
للامتحانات فقط لأن المحروقات لا تكفي لنقلهم , أنا لست أفضل
منهم ولا أشعر بالراحة هناك وكرهت كلمة ( أنتي ابنة زعيم القبائل
ولستِ مثلنا ) فمن قال أني لست مثلهن أم لأن بنات أشراف قبيلة
صنوان يرين أنفسهن أفضل من الجميع سأكون مثلهن , ثم ها أنا
ظهر أني لست ابنته ولا شيء من ذلك بل كما يقول البعض مجهولة
النسب , وما يُهون الأمر شهادة والدي أمام رجال القبيلة أني ابنة
شرعية بزواج شرعي وموثق )
انقلبت للجانب الآخر مجددا فالتفكير في ذاك الموضوع يزيدها
أرقا وحزنا فكيف تقتنع برفض والدها شراع التصريح بسم والدها
الحقيقي وقبيلتها وقال أنه لا يعلم من يكون ذاك وأنه احترم رغبة
والدتها التي لا تريد إخباره ثم يشهد لها وهوا لا يعلم ؟؟ لا تصدق
ذلك ولم تقتنع به وترى رفضه تزويجها ورائه سر آخر فإن علمت
من تكون ستعلم أسباب كل هذا , سبب رفض والدها الإفصاح عن
الحقيقة وسبب رفض تزويجها حتى يصطلح حال البلاد , ولازالت
تذكر حتى الآن حين كان يلاعبها في صغرها قائلا ( يا حسناء
غزير وحسناء من شهدوا بالحسن لنسائهم ) ولم يقل أن من يقصده
قبيلة والدتها فقط فنسائهم الأجمل بين قبائل صنوان جميعها لأنها
تنحدر من أقصى جنوب غرب البلاد وهم قبيلة غزير فقد عرفوا
بهذا اللقب لغزارة شعور أبنائهم وخاصة النساء فلا امرأة في
القبيلة شعرها أجعد أو طوله أقل من خاصرتها فلكل قبيلة من
اسمها نصيب وسميت لصفة متعاقبة فيها وهذا حال القبائل في
كل مكان من الأرض وضل السؤال الذي يحيرها ( من هي
القبيلة التي قال أنها اشتهرت بحسن نسائها وأنا فقتهن )
تنهدت بقوة وجلست تجمع شعرها للخلف فهي تكره الوصول
لهذه النقطة من التفكير لأنها ترهقها حقا وتجعل فكرة زيارة
تلك العجوز تكبر في رأسها أكثر رغم المخاطرة وصعوبة
الأمر عليها , مدت يدها للمذياع بجانبها ولأول مرة تفعلها فلا
أحد هنا يشغله سوا عمتها حين تجلس معها فهي برفقتها أغلب
الوقت فكل واحدة منهن وحيدة هنا وليس لها سوا الأخرى , وما
أن بدأ صوته يملأ سكون الغرفة وقفت وتوجهت للنافذة وفتحتها
ووقفت أمامها لتسمح للرياح الباردة أن تحرك خصلات شعرها
الحريري الطويل في حركة انسيابية لتداعب كتفيها وذراعيها
واكتسبت عيناها لمعانا غريبا من لفح ذاك البرد لحدقتيها السوداء
المظلمة , بل قد يكون السبب شيئا آخر يتسلل لأذنيها الآن فعلى
غير عادتها فتحت اليوم المذياع الذي تكرهه وتسميه بجالب
أخبار السوء والدماء , وعلى غير عادتها أرهفت السمع لكلام
المرأة فيه بإنصات وهي تتحدث عن شيء لم تعره يوما أي
اهتمام , فكل شيء في حياتها أصبح مخالفا لعاداتها القديمة
منذ لا تعرف متى ولا لما ؟ ضمت ذراعيها بيديها وحضنت
نفسها ورفعت عينيها للسماء ليزداد بريقهما ويزداد تطاير ذاك
الشعر المظلم مع حركة الريح الباردة التي جعلت من خديها
لهيباً أحمراً يروي فصول حكاية أخرى من الحسن , ثم جمدت
كصورة رسمتها أنامل لا تتقن الرسم سواها وزادت دقات قلبها
في نغمة لم تعرفها من قبل , وشيء من التوتر الغريب غزى
أطرافها وهي تستمع باهتمام لصوت المذيعة في ذاك المذياع
وهي تقول " يبدوا أن الاجتماع انفض بسرعة لم نتوقعها جميعنا
فهل حسم زعيم الحالك أمره سريعا أم رفض عروضهم
أم رفض الهازان طلبه ؟؟؟ "
أغمضت عينيها برفق ولازالت تنظر للأعلى فما تعلمه أن ثمة
تسوية ستتم بينهم واتفاق على مدينة العمران , إما أن يقدموا له
عرضا يرضيه بدلا عنها وسيكون باختياره طبعا أو يأخذها منهم
لأنها أصبحت بين قبضته الآن ويستطيع أخذها في ساعات قليلة
فقط فتلك المدينة يعرف الجميع أهميتها ففيها توجد مجموعة أنهار
شالوف الصغيرة وتصب في بحيرة رقراق في آخرها وتذكر
وهي طفلة حين زارتها مع والدها وأخوتها حين كانت تابعة
لصنوان وتذكر جيدا جمال تلك المنطقة الذي لا يصفه شيء
أنزلت رأسها لتعانق خصلات شعرها وجهها وأغمضت عيناها
بقوة وهي نفسها تستغرب حالتها هذه وتلك المذيعة تقول بصوت
يؤكد أنها تكاد تركض جهة أحدهم " يبدوا لحسن حضنا سنعلم
ما حدث في الداخل من زعيم الحالك تحديدا ولأول مرة تلتقطه
قنوات الأخبار لخروجه من الباب الرئيسي وليس الباب الخاص
بهم ... سيد مطر سيدي سيدي دقيقة نريد فقط ملخصا
لما توصلتم له "
ازداد رنين تلك الطرقات الغريبة في قلبها حتى أصبح يدوي في
أذنيها وارتجف جسدها ارتجافا خفيفا حين سمعت ذاك الصوت
الجهوري البارد المثقل بالكثير من الحزم والشدة مع رنة بحة
رجولية غريبة قائلا " اسألي غيري "
كان ذاك فقط ما سمعته وذاك فقط ما قاله وذاك ما جعلها تضع
يدها على قلبها وقالت برجفة وهمس " يا إلهي ما به
صوته مخيف هكذا "
وما لا تعلمه أن الاختلاف لم يكن في صوته بل في مشاعر الرهبة
لديها منه , التفتت سريعا جهة المذياع وكأنها ستراه وستلحقه قبل
أن يذهب وأنصتت باهتمام للتي أكملت حديثها مع غيره قائلة
" سيد عثمان هلاّ أطلعتنا على ما حدث في الداخل , لما
انفض الاجتماع بسرعة ولما خرج زعيم الحالك من
هنا ويبدوا مستاءً فمن ماذا ؟؟ "
تكلم الآخر بأريحية قائلا " أما لما انفض سريعا فالسيد مطر ما
ترك مجالا للمقدمات والشروحات واختصر الأمر عليه وعليهم
بأن تكلم أولا وأنصت الجميع دون اعتراض , أما لما خرج من
هنا فوجّهي هذا السؤال له وليس لي فلست أعلم , أما أن يكون
مستاءً فلست أجزم بذلك فشخصيته هكذا ولم يحدث ما يجعله
يستاء والاستياء كان من نصيب زعيم قبائل الهازان "
قالت من فورها " الأهم لم تطلعنا عليه سيد عثمان وهوا
ماذا حدث في الداخل "
قال بنبرة وكأن فيها سخرية أو استهزاء " السيد مطر طالبهم
بالديجور مقابلا لها وأمهلهم حتى مطلع الربيع "
لتفتح الواقفة بجمود هنا عينيها على اتساعها وقالت
بهمس مصدوم " يريد ديجور مقابلا "
هزت رأسها غير مستوعبة ما سمعت ثم ركضت جهة الباب
تعدل من حدائها المنزلي في قدميها كي لا تقع وفتحته سريعا
لتقف فجئه وهي تكاد تصطدم بأحدهم أمامها رافعا يده وكان
سيطرق الباب للتو , أمسكت شعرها بيديها للخلف لتناثره أمام
وجهها بسبب ارتدادها المفاجئ وقالت بصدمة " جبران !! "
أنزل يده ومعها نظره وقال بهدوء " آسف لقد أرسلت لك
الخادمة وقالت أنها طرقت كثيرا ولم تفتحي لها ولم
تجيبي وكنت سأطرق للتو وأناديك لتخرجي "
جمعت خصلاتها خلف أذنيها بأصابع مرتجفة ومرتبكة
وقالت " لا عليك يا جبران الخطأ ليس منك "
رفع نظره لها ونظر مجددا للشعر الليلي الحالك الذي حُرم
من رؤيته لوقت طويل منذ علمت بحقيقتها , نظر للحسن
وهوا مكتمل أمامه لا يحجب شيء عنه أي تفصيل من
تفاصيله ثم سرعات ما هرب بنظره للأرض وقال
" جئت لأراك قبل أن .... "
وسكت عن تكملة جملته وعن قتل نفسه بالسلاح الذي اختاره
هوا رغم علمه أنه لا راحة من العذاب بعذاب أشد منه , غصت
الكلمات في حلقومه وتحجرت حين نزلت هي بنظرها لما يلبسه
بعينين تترقرق دموعا يراها حزنا كحزنها ذاك اليوم على فراق
أشقائه ليس أكثر من ذاك الشعور وليس كما يحمل هوا لها بين
هذه الأضلع , عادت بنظرها لعينيه التائهة فيها وقالت بعبرة
" هل ستذهب أنت أيضا ؟ "
نظر للأرض مجددا وقال بحزن " سيأتي كاسر وأذهب
أنا فبقائي أصبح موجعا لي يا غسق "
ركزت حينها نظرها فيه بصدمة ودهشة وفهمت أن والدها بلّغه
رفضها بالتأكيد وها هوا يخبرها الآن أن مغادرته بسبب قرارها
ذاك , هزت رأسها رفضا لِما سمعت ودموعها تغطي حدقتيها
السوداء وقالت بحزن ورجاء مكسور " لا تترك والدي يا جبران
فهوا يعتمد عليك في كل شيء , لا تجعلوني عبئا فوق ما أنا
عبء عليه ويخسرك بسببي "
قبض حينها على يديه بقوة وقد فقد السيطرة الكلية على حركة
عينيه ولم يعد بإمكانه إبعادهما عن هذه العينين الدامعة مهما حاول
وبعد صراع طويل مع نفسه رفع كفيه لوجهها وحضنه بهما برفق
وانحنى له وقبّل جبينها وقال بهمس موجع " هناك سيكون أفضل
لي حتما وأحترم قرارك يا غسق فقط عديني أن هذا قد يتغير يوما
وأن ثمة فرصة أخرى لي , عديني وأعيدي حب الحياة لي يا غسق "
رفعت حينها يديها وحضنت يديه المحتضنة لوجهها ورفعت نظرها
له وقالت والدمعة الأولى قد تدحرجت من إحدى عينيها
" لا تترك المنزل بسببي يا جبران , حلفتك بالله أن لا تفعلها "
قال بجدية وإصرار " عديني يا غسق أريد وعدا فقط
لأرجع يوما من أجله "
نظرت لعينيه بحزن شديد وتمنت أن حققت له ما يريد تمنت
حينها أن تنظر له كنظرتها لأي رجل آخر غير أشقائها أو
والدها ولكن مستحيل كيف لأي واحدة مكانها أن تتخيل فقط
أن شقيقها الذي عاشت معه سنين حياتها شقيقا لها تكتشف
فجأة أنه ليس كذلك وأن عليها أن تقبله زوجا وتنام معه
على سرير واحد كيف !! هذا جنون لا يمكنها حتى تخيله
أنزل يديه بخيبة أمل حين طال صمتها وفقد الأمل فيها وفي
العودة هنا قبل أن تتزوج وتغادر المنزل فهوا وهي وقلبه لا
يمكن أن يجتمعوا في مكان واحد لأن الغلبة ستكون للغبي الذي
أحبها ولحبها المدفون فيه ولن يقدر لا هوا ولا تجاهلها هي
لمشاعره على جنون هذا القلب بها ولن يهزم أحد عناده
غادر بعدها وتركها تمسح الدموع من خديها كما مسح والده
الحلم من عالمه الملون وتركه باهتا بلا قيمة فكم علّق الآمال
على إقناعه لها لتوافق ومن ثم حين ستصبح له وفي حضنه
سيعرف كيف يجعلها تحبه وتراه زوجا وليس شقيقا , وعلّق
أملاً جديدا كاذبا في فرصة أخرى له ولها لكنه اكتشف أنه لا
شيء يحي الحلم الميت ويبدوا أن الأحلام المستحيلة لم تُخلق
إلا لتبقى مستحيلة للأبد كما لم يُخلق الأبد إلا ليكون أبديا
غادر من أمامها في صمت لا يشبه ضجيج قلبه المتيم ونزل
عتبات السلالم الأولى يدوس في كل خطوة منهم قلبه وحلمه
ويقبض يديه بقوة يمنعهما من ضرب خشبه بقبضته ليفرغ
شيئا مما يكبته ويحرق قلبه ثم تسارعت خطواته حتى أوقفه
الصوت الرقيق الباكي خلفه مناديا " جبران "
فوقف والتفت لها دون شعور وهي تقف أعلى تلك السلالم
ولازالت تمسح الدموع الغالية بكفها الذي لطالما حلم أن
يحضنه بكفيه أن يدفنه في صدره قبل أن تتبعثر جميع تلك
الأحلام بكلمة منها وقرار من والده , نظر لها بقلق وقال
من فوره " غسق توقفي عن البكاء وقلت وأعيد
وأكرر أنني أحترم قرارك "
نزلت أول عتبتين في السلالم ليصبح ما يفصلهما القليل
منهم فقط ثم وقفت مجددا وأمسكت بخشبه وقالت بغصة
" قد يكون ثمة أمل فكل شيء مرتبط بمشيئة الله يا شقيقي "
كانت كلماتها قاتلة أكثر من كونها باعثة للأمل في نفسه فها
هي وعدته وذكّرته في ذات الوقت أنه لازال شقيقها لكن قلب
العاشق لا يستطيع إلا أن يكون عاشقا فهوا كالبحر تماما يقبل
الزيادة دون رفض وإن نقص منه شيء فلن يؤثر فيه , نظر
لعينيها بابتسامة لم يخفيها وقال " لن آخذ من كلامك
إلا أوله وسأبقى على الأمل "
ثم تراجع خطوة للخلف وهوا لازال ينظر لها وقال بشبه
همس " لأني أحبك يا شقيقة شقيقي "
وغادر بعدها مُكْملا باقي عتبات السلالم وتركها خلفه تشهق
الدمعة والوجع وتبكي أول كلمة حب سمعتها في حياتها وكانت
من شفتي من رأته شقيقها طوال العمر رغم أن رسائل وثّاب
ابن خالتها مليئة دائما بكلمات الغرام إلا أن هذه سمعتها بصوت
رجل ولم تقرأها وتمزق الورقة وترميها وكأن شيء لم يكن
وليثه كان أي رجل إلا هذا إلا شقيقها الأكبر الذي أنقدها يوما
من مكر والدتهم بها وحرم نفسه من موتها راضية عنه وكم
كان يدافع عنها في صغرها والجميع يعلم أن من سيبكيها
سيكون عليه مواجهته لأن رده سيكون قاسيا
حائرة وضائعة ولم تعد تعرف كم سيدفعون أثمانا لراحتها
لرضاها ولتحقيق رغباتها فأول ما جال بذهنها هل هي حقا
أنانية كما قالت عمتها وهل ترى مصلحة نفسها فوق الجميع ؟؟
هل هي مخطئة في كل ما تراه من حقها ومن أجل راحتها
أغلقت فمها بيدها تمسك شهقاتها وقد عاهدت نفسها أنه ما أن
تعرف حقيقة أهلها ستقبل به , ستضحي من أجله كما ضحى يوما
من أجلها وترغم نفسها من الآن أن تتقبل فكرة أن هذا الرجل ليس
شقيقها , ركضت عائدة للأعلى ودموعها تنسكب على يدها لتوقفها
رؤيتها للشخص الذي كان موجودا ويسمع كل ما دار هنا وما
كانت إلا عمتها لتزيد قتلها بتلك النظرة التي رأتها في عينيها
نظرة لم تعرفها يوما من هذه المرأة الحنون المحبة لها , نظرة
تشبه نظرات زوجة والدها الذي رباها غير أن ما غلب على هذه
العتاب وليس الكره فهي لا تصدق أن عمتها قد تكرهها يوما
اجتازتها مسرعة لتدخل غرفتها وتهرب من كل هذا لكن كلماتها
سبقتها قائلة " نامي قريرة العين الآن يا ابنة أميمه بعدما كسرت
قلبه وأخرجته من المنزل وحققتِ رغباتك التي لا تنتهي "
وقفت مكانها حيث عتبة الباب ونظرت لها بصدمة ليس من عتابها
لها على ما حدث لابن شقيقها ولا من طريقة كلامها بل من مناداتها
لها بابنة أميمه وليس ابنة شقيقي كعادتها حتى بعدما علمت بحقيقتها
أنزلت غسق يدها من فمها وقالت بصدمة " عمتي لا تلو.... "
لكن تلك لم تعطيها مجالا بل نزلت السلالم وتركتها واقفة مكانها .
*
*
*
ومرت الأيام تحيك بعضها وتنسج أسابيع تعاقبت وأصبحت شهراً
وتلاه آخران واستقبل الجميع بشائر الربيع الأولى وبراعم الأوراق
الصغيرة وأصوات عصافير السماء مبتهجة برحيل البرد والمطر
وشُحّ الغداء بسبب تحول الأشجار لأشباح من الأغصان اليابسة
مرت تلك الأيام صعبة على البعض في تلك البلاد وشبه جيدة على
الآخر وكما هي عليه على الكثيرين , الحالك كما حال الجميع هناك
ينتظرون قرارا حاسما لطلب زعيمهم الذي خنق به الهازان والهازان
يحصون الأيام على أمل أن يحدث شيء يغير ذلك القرار المجنون
في نظرهم قبل أن تنتهي المدة وإن كان بموت ابن شاهين , كاسر
أصبح ذراعا لوالده في مدنهم كما كان جبران وإن بالتدريج , بل
وأصبح مصدر تسلية لغسق بوجوده معهم ولو ليلا فقط في أغلب
أيام الأسبوع , رعد ورمّاح لازالا عند الحدود ويزوران منزلهم
وعائلتهم من حين لآخر ويستقران هناك خصوصا بعد قرار الحالك
وطلبه الغريب فقد زادوا من تعزيزاتهم ووجودهم هناك , أما
جبران فلم يروه من ذاك الوقت أو ذاك اليوم فقد اختار دفن
نفسه هناك كما دفن مشاعره وكما ينتظر إحيائها من جديد
غسق أنهت امتحاناتها للتو ولازالت عمتها في حالة جمود حيالها
ولا تبادلها الأحاديث إلا للضرورة أما هي فقد قررت قراراها
النهائي وأرسلته لجبران في ورقة مع رمّاح , الورقة التي تكاد
تتمزق لديه من كثرة ما يقرأنها كلما فتش أغراضه وأخرج شيئا
وكأنه لم يحفظ أسطرها فهوا يعتبر تلك الكلمات القليلة آخر أمل
له في العودة هناك ( جبران أنا موافقة فقط أعطني وقتا
واترك قراره بيدي أرجوك )
كلمات قليلة لكن معانيها كثيرة وكبيرة بالنسبة له خصوصا أنه
علم من والده عن الحديث السري والخاص الذي دار بينه وبينها
ولا يعلمه أحد كما هذه الورقة وما فيها فقد أخبره والده أنه وافق
بعد ضغط كبير منها وعلى أن يكون القرار في وقت زواجهم
بيدها هي وأن يكون كل هذا سرا بين ثلاثتهم , وما لا يعلمه أن
والده اشترط عليها أنه إن ظهرت حقيقة أهلها وكانوا خارج
قبائل صنوان وحدودها وطالبوا بها أن تعلم منذ الآن أنها ستُحرم
من أبنائها وأن أحفاده لن يتربوا إلا تحت سقف منزله وهي وافقت
ليس من أجل شيء إلا ذاك الشقيق الذي فعل الكثير من أجلها
وأصبحت تحاول غرس أفكار تخبر فيها عقلها قبل أن تجبره
بأن ذاك الرجل هوا مستقبلها ولن يكون إلا معه وهوا وحده
من سيكون والد أبنائها الذين قد تفقدهم يوما وتتركهم هدية له
وعلّقت أمالا كثيرة بأن أهلها قد يكونوا من هنا وتكسب على
الأقل أن تبقى تحت سقف هذا الرجل الذي تدين له بعمرها وهوا
والدها الذي لم ينجبها وأن يربي أبنائها كما رباها وربى أبنائه
حتى إن أصبحت بعيدة عنهم , وها هي على الأقل أصبحت تتقبل
ممازحة والدها لها في الأحاديث التي لا يفهمها سواهما وهوا
يحاول إحراجها بذكره لأبنائها وأنهم سيتربون في حضنه , وليست
تعلم هل باتت كلماته مستساغة لديها لتقبلها الفكرة ولو قليلا أم
أنها فقط أحبتها من حبها له ولأن مصدرها شفتي هذا الرجل الذي
لو طلب عينيها ما بخلت بهما عليه ولا ترددت في إعطائهما له
ورغم صعوبة الفكرة عليها إلا أنها لازالت تحاول ولم تيأس فلا
يفصلها عن تقرير موعد زفافهما إلا معرفة من يكونوا عائلتها
فهي لا تريد الزواج وهي بنصف نسب , لا تريد أن تبني حياة
وأسرة وهي لا أسرة لها , لا تريد أن يكون لها أبناء وهي لا
تعرف ما ستقول لهم حين يسألوها عن أهلها وما ستبرر لهم
حين يصلهم ما سيقول لهم الناس عنهم , أما في ذاك الثلث من
تلك البلاد فلازال مطر ينتظر حسم الهازان لقرارهم ليحسم هوا
قراره ولازال هدفه الوحيد الذي يطارده في يقظته ونومه هوا بلاد
واحدة تنعم بالسلام وتتقدم للأمام كغيرها , ولازالت جوزاء تنسج
من أمومتها المجروحة حقدا دفينا على صنوان كما تنسج الصوف
بين أناملها ببراعة وسهولة , ولازالت عمتهم الشبه مقعدة تحيط ابن
شقيقها بدعواتها حينما يسلم عليها من وقت لآخر بعيد جدا بالنسبة
لشخصين يعيشان في منزل واحد لأنها تعلم جيدا أطباع ابن شقيقها
وما صنع منه والده ولم تلمه يوما على جفائه نحو الجميع فهي
تعلم أكثر من غيرها أن شقيقها بجنونه الغير مسبوق قد صنع
منه آلة حرب أكثر من كونه مخلوقا بشريا والنتيجة كانت رجلا
بعقل متصلب لا يقبل ولا حتى المزاح , وعينا قائد لا تريان شيئا
غير أتواب الرجال وعمائم الحرب , وقلب محارب لا يعشق إلا
دوي المدافع والرصاص , فقد بنا منه بالفعل آلة حرب متجسدة
في رجل لم يعرف العواطف يوما , لم يهبها لأحد ولم يطلبها ولم
يرى نفسه يحتاجها بل مقتنع تماما أنها ليست للرجال , وعلى
هذا عاش وعلى هذا اعتادوا رؤيته والعيش معه
*
*
*
نظرت من النافذة لتتأكد مما سمعته وما أن رأت سيارة شقيقها
كاسر تدخل المنزل حتى ركضت من فورها خارجة من الغرفة
ونزلت السلالم ركضا وشعرها يتطاير مع قفزاتها عليه وتقابلت
معه عند الباب الداخلي فقفزت لحضنه وتعلقت به وضمها هوا
لصدره قائلا بضحكة " من يراك يضنني مسافرا لأشهر
وليس أيام قليلة لم أخرج فيها من حدودنا "
ابتعدت عنه ولكمت صدره بقبضتها وقالت بابتسامة حزينة
" كيف تغيب هكذا لأيام دون أن تراني وتخبرني كعادتك ؟ "
أمسك أنفها وقال مبتسما " لأني كنت في الحدود ولم
أخبرك كي لا أرى دموعك ككل مرة "
شهقت وقالت بصدمة " ماذا !! هل جد شيء هناك ؟ "
ضحك وحضن كتفيها بذراعه وقال سائرا بها للداخل
" جبران مرض قليلا وذهبت لأحضره لكنه رفض "
وقفت مقابلة له وقالت بقلق " ما به ؟؟ "
ضحك كثير ثم غمز لها وقال " حمى بسيطة ونزلة برد
بسبب تقلبات الربيع فلا تقلقي "
دفعته من كتفه وقالت بخجل من مقصده " أحمق إن
كنت أنت مكانه أو رعد أو رماح لقلقت "
قرب شفتيه من أذنها وهمس فيها " قوليها لغيري وليس
لمن أوصل ورقة منك له وأحضر اليوم واحدة منه "
وكزته بمرفقها وقالت بهمس وعينها على عمتها المتوجهة
نحوهما " أنت لا أحد يستأمنك على شيء أبدا "
ضحك ودس لها شيئا في جيب فستانها ثم ضمها لكتفه ينظر
مبتسما للقادمة نحوهم والتي قالت ما أن وصلت عنده
" عدتَ الآن ؟؟ "
نظر للتي تحضن خصره بذراعيها متكئة على كتفه وقبّل
رأسها وقال " نعم وشقيقتي المشتاقة دائما لم تتركني أرى
أحدا فها هي قد استلمتني من عند الباب "
أما هي فنظرت بحزن لعمتها التي لم تعلق بشيء ثم رفعت
رأسها له وقالت " أحمد الله أن لك شقيقة تشتاق لك
ولست كإخوتك "
قال مبتسما " أنكري أنك لا تشتاقين لهم مثلي تماما ؟ "
نظرت له بحب وقالت " أشتاق لكل من يغيب عنا منكم
وشقيقي شيء آخر طبعا "
قالت حينها الواقفة أمامهم ببريد " من يأتي ونراه
شيء ومن لم نره لأشهر شيء آخر "
نظرت حينها غسق للأرض بصمت وحزن من تغير
عمتها وغضبها الذي لن ينتهي وتابعت تلك بجدية
" أين جبران ؟ لا أراك أحضرته "
ضم غسق له أكثر ماسحا على ذراعها وقال " رفض
المجيء معي وقال أن حالته أفضل الآن "
قالت مغادرة من أمامهم " أتمنى فقط أن يرتاح بما
يفعله الآن ويرتاح غيره منه "
وغادرت وتركت خلفها أنامل رقيقة تمسح الدمعة قبل أن
تسقط ويلاحظها أحد وعينان أخرى تتبعها باستغراب وعدم
فهم , نظر كاسر لها وقال " ما بها عمتي تغيرت معك يا غسق ؟ "
ابتعدت عنه حينها وقالت " لا شيء أنت تتوهم فقط وهي
مستاءة من الجميع هذه الفترة "
رفع كتفيه بعدم اهتمام وقال " يبدوا ذلك "
ثم قال متوجها جهة السلالم " سأنام الآن إن جاء والدي
أخبريه أن جبران أصبح أفضل "
ثم صعد السلالم وتبعته هي بخطوات بطيئة وحزينة ونظرها
للأرض حتى وصلت غرفتها ودخلت وأغلقت الباب خلفها
وارتمت على السرير ثم أخرجت الورقة من جيبها ووضعتها
أمام وجهها ولا تشعر برغبة في فتحها ولا قراءتها , لا تعرف
متى ستقتنع بفكرة ما وافقته عليه , تشعر أنها كمن يلعب بمشاعر
غيره وهوا موقن من أنه سيخذله في النهاية , جلست تستغفر الله
بهمس وتتعوذ من الشيطان وكلها إصرار أن تحاول للنهاية , ثم
مدت أناملها للورقة ورفعتها وفتحتها ببطء ونظرت للمكتوب فيها
كان خط جبران لكنه يبدوا متعرجا قليلا ومتغيرا ففهمت فورا
أنه كتبها الآن وأن حالته ليست أفضل كما قال لكاسر , تتبعت
بحدقتيها الأسطر تقرأها ببطء ( اشتقت لك غسق واحتجت الآن
تحديدا لشرابك الساخن ذاك عندما أصاب بالزكام , بل يبدوا أن
رؤيتك كانت سبب شفائي , كلمة واحدة منك تفصلني عن
منزل والدي يا غسق وسأصبر لآخر العمر مادمتِ
وافقتِ أخيرا .... أحبك )
قبضت عليها بيدها وضمتها لصدرها بقوة تمسح دموعها باليد
الأخرى وتشعر بضياع لم تشعر به حياتها ( ليثك تفهمني يا جبران
ليثك ترحمني وترحم نفسك قبلي , يا رب ألهمني للصواب لأفعله
يا رب لا تجعلني أندم يوما على أي قرار أقرره )
انفتح حينها باب الغرفة فجأة ودون استئذان أو طرق فانتفضت
بجزع تحاول إخفاء الورقة ومسح دموعها وما كان الداخل سوا
عمتها التي اقتربت منها ومدت يدها لها وقلت بجدية " أعطني
الورقة التي خبأتها في جيبك "
أمسكت غسق جيبها بقوة وقالت " هذه أمور تخصني
عمتي ولا أريد أن يراها أحد "
قالت تلك بحدة " أعطها لي أو أريت سابقاتها لوالدك ولكاسر "
نظرت لها بصدمة وقالت " أي سابقات ؟ "
كتفت ذراعاه لصدرها وقالت " رسائله السابقة طبعا ابن خالتك
المتيم , من تركتِ جبران وهجّرته من هنا لأجله "
*
*
*
رفع بيده إحدى الأوراق الموضوعة أمامه على مكتبه ينظر لها
بتمعن وأصابع يده الأخرى تتحرك على جبينه وقد سقطت بضع
خصلات من شعره الأسود الناعم بلمعته الواضحة الغريبة وهوا
يستمع لأحد الجالسَيْن أمام مكتبه يقرأ ورقة في يده قائلا
" الحقل الثالث للشعير أنتج العام مائتا شِوال وبعد موسم الحرث
والغرس بقي أكثر من ثلثي الكمية , أي أصبح بإمكاننا ملء ثلاث
مخازن كاملة في قُرى ذِمار , وإن استثنينا منها ما سيطحن ليغطي
مع القمح ما سيوزع على القبائل سنوفر ضعف كمية العام الماضي
فِزقين أنتجت خمس مئة شوال من القمح ومئه وخمسون من الأرز
هذا إذا ما استثنينا الحقول التي جرفتها السيول بسبب مطر آخر الشتاء
رغم أن الخسائر قلّت عن العم الماضي لإتباعنا فكرتك في جبال
الرقاع إلا أن باقي الحقول تضررت , هذا بالنسبة لحقول الشعير
والقمح والأرز أما الفواكه ...."
وواصل حديثه حتى أنهى جَرده لمخازن مئونة المدن التي في عهدتهم
ووضع الورقة على الطاولة ثم رفع نظره للجالس خلف المكتب في
صمته المعتاد وقال " وهذا العام كما أشرت سنقتطع جزئا أكبر
للمحاربين في الحدود خاصة جهة الشرق أما باقي الحقول سيبدأ
القطاف فيها قريبا وأهالي القرى ينتظرون فقط أوامرك "
هز حينها رأسه بحسنا ونظره لازال على الورق أمامه
فتابع قائلا " وثمة أمر آخر سيدي "
أشار له بأصابعه التي كانت تحتضن جبينه ليتابع دون أن يرفع
نظره به فقال " حقول الرمان في قرية حَجور لازالت تتعرض
لتسلل ذاك الفتى المدعو ( تيم ) ولا يجب السكوت عنه أكثر
فكيف يحفر خندقا يُدخله للحقل ويسرق من هناك
ونتركه يفعل ما يريد "
رفع حينها رأسه لتعانق تلك الخصلات طرف جبينه وقال بنبرة
باردة جامدة " قلت اتركوه هل سأكرر كلامي مرتين "
نظر ذاك للأرض ملتزما الصمت وتابع مطر حديثه بحدة شقّت
برود نبرته المبحوحة " قلت إن تخطت سرقته لكميته المعتادة
فأمسكوه أما إن بقيت كما هي فلا أحد يعترض طريقه وليس
من مصلحتكم أن أكرر كلامي مرة ثالثة "
هز حينها رأسه مطأطئا له للأسفل وقال " حاضر سيدي "
ثم وقف قائلا " هل تأمرني بشيء آخر ؟ "
هز رأسه بلا مشيرا له ليغادر وما أن خرج حتى تحدث عمه صقر
الثالث في الجلسة من لم يُسمع صوته إلا الآن وقال " إن كنا
سنسكت عن كل يتيم يسرق من الحقول سينتهي المحصول على
أيدي اللصوص , وصِغر سنه لن يكون سببا لتسكت عنه يا مطر"
فوقف حينها المقابل له وجمع الأوراق التي كانت أمامه وقال
مغادرا بها وبذات نبرته الباردة " ليس السبب ما ذكرت "
وغادر المكتب تاركا الباب مفتوحا بعده بل وترك عمه يهز رأسه يئسا
منه لأنه لم يكلف نفسه عناء توضيح السبب له ورغم أنها عاداته منذ
عرفوه لكن أملهم في تغيره يبدوا لا يموت , بينما نظر من تابع طريقه
بخطواته الثابتة سالكا الممر متوجها للخارج ونظره على وجهته للأمر
من منظور آخر تماما , فتى في الحادية عشرة يحفر خندقا صغيرا يدخله
للحقل ويسرق رمانتين فقط يوميا وحتى قشورها تختفي فهذا ليس لصا ولا
عقل فتى طبيعي في ذاك السن يوصله لتلك الطريقة , ولم يرى فيه مطر
سوا أنه شيء يجب أن يُترك هكذا للمستقبل فسيكون رجلا يستحق
إعطاء فرصة له بدلا من زجه الآن في السجن وتدمير ذاك
المستقبل خاصة وأنه ابن ذاك الرجل ( شاهر كنعان ) تحديدا
*
*
*
أصابع نحيلة مجعدة بالكاد تمسك بتلك العصا التي تسندها
على الأرض وبقع بنية متفرقة على ذالكم الساعدان المكشوفان
من كمين لفستان رفعا للأعلى قليلا , تتنهد بين الفينة والأخرى
وعيناها الشبه مغمضتين تنظران لأوراق تلك الشجرة التي بدأت
تورق بسرعة وكأنها تسابق الربيع , لازالت تملك ذاك السواد
القاتم رغم مرور السنين على هذا الجسد إلا أنها عينان سوداء
واسعة تعرف حسنها في صباها دون أن تسأل عنه , وكيف لا
وهي تنتسب لهذه القبائل الجنوبية وكيف إن كانت والدتها تنحدر
من قبائل إزميم من جهة الأم , أنزلت نظرها للطبق المصنوع
من السعف الموضوع أمامها يحوي تمرا وكوبا من حليب المعز
ثم قالت بصوت مرتفع منادية لأحدهم من بعيد " روحاء تعالي
الذباب شبع من الحليب , ألم أقل خذيه لا أشتهيه "
لتخرج من أحد أبواب الغرف الطينية في ذاك المنزل القديم امرأة
تظهر من خلف تلك النخلة الصغيرة المغروسة وسطه وهي تنزل
فستانها الطويل المصنوع من الكتان بعدما فتحت ربطته التي كانت
ترفعه بها للأعلى كي لا يعيق طوله حركتها وهي تعمل وقالت وهي
تسرع بخطوات مَصدرها شبشبها المصنوع من الجلد الصناعي
" قادمة يا أمي "
لتصل لها في ظرف ثواني وجلست أمامها وشربت ذاك الكوب
دفعة واحدة ومسحت فمها بظهر كفها ثم مسحته في فستانها وكأنها
تحكي حكاية من حكايات تلك المدن القديمة وبساطة عيش أهلها
تخللت ملامحها ابتسامة صغيرة وهي تقول " لم أترك له شيئا "
لتعقب الجالسة أمامها بشيء من السخرية " من ؟؟ زوجك "
لتجعل تلك الابتسامة تموت في مهدها فهي تدرك أنه لم يكن
محض سؤال عادي ولا مزاح فلا تجلب والدتها سيرته إلا لتنتقد
حياتها معه فقالت مغيرة مجرى الحديث " لم أصطد تيم اليوم في
الشارع لأعطيه نصيبه من الخبز ونجح في الهروب مني "
تنهدت الجالسة أمامها تقبض بوهن على عصاها التي رافقتها لسنين
وقالت " جميعهم سيحملون إثم ذاك الفتى , وزوجك واحد منهم
وأخشى أن عقاب الله سيكون في الدنيا قبل الآخرة وعلي يديه "
تنهدت روحاء بقلة حيلة فها قد ساقت نفسها لموضوع زوجها
مجددا رغم موافقتها لوالدتها في هذه النقطة بالتحديد وهوا الفتى
اليتيم ( تيم ) وما يلقاه من عائلته , وقفت ورفعت طبق السعف
من أمام والدتها وتحركت بخطوات بطيئة فأوقفها صوتها قائلة
" عندما يرجع زوجك ليلا أخبريه أن يرسل في طلب ضرغام "
فوقفت مكانها والتفتت لوالدتها بنظرة مصدومة وقالت
" وما تريديه من ضرغام يا أمي ؟ "
وقفت هي الأخرى ليظهر انحناء ظهرها وتحركت بخطوات بطيئة
مستندة على عصاها لتصل لأحد الغرف وقالت قبل أن تدخلها
" أريد مغادرة الجنوب وسأدخل لمدن صنوان ولن أرجع "
ليقع الطبق من يديها وتتدحرج حبات التمر منتشرة أمامها من
هول ما سمعت وما قررت والدتها
المخرج ~
بقلم الغالية : lulu moon
ظلمة ايام حياتي كليلك يا وطني <br>
ولم يزينها سوى اهلي .. <br>
فابيx قمري وأخواتي نجومي .. <br>
وزادها بهاء معنى اسمي ..<br>
رحماك رحماك ربي.... <br>
لمن شرف في الحياة اعطوني ..<br>
رحماك لأمي....<br>
رحماك لوطني...<br>
رحماك لكل شهداء بلدي ...<br>
مع تحياتي الحارة <br>
لولو😘
نهاية الفصل الرابع
موعدنا مساء الجمعة إن شاء الله ودمتم في حفظ الرحمن جميعا
....... أحبكم في الله