*
*
ومن هناك دخلت البلاد في نقطة محورية جديدة والصحف والقنوات
الإخبارية المرئية والمسموعة تعج بأخبار وفود البعض للدخول تحت
لواء ابن شاهين وفي أراضيهم , كان الدعم له قويا بسبب ما حدث في
خماصة خاصة من داخل الهازان وحيث أن من قرر الخروج واللجوء
له حياته مؤمنة بتلك المراقبة الدولية المكثفة حتى يصل رغم أن البعض
تم منعه بتهديد السلاح من قبل قبائله لأنه عند البعض يبقى التعصب
القبلي حاجزا إما أن يخضع لهم أو يُقتل بدم بارد .
أشار بإصبعه على الخارطة المعقدة التقسيم على الطاولة تحته وقال
" هذا هوا الرسم الذي طلبته للمدن الخمس سيدي ورسوم للمنازل
والمساجد فيها , وما كانت مدارس ومنارات تعليمية سابقا
كلها هنا وعيادة واحدة لكل مدينة منها "
قال مطر ونظره على الخارطة " هل جهزتم إحصائيات للمباني
وتقارير عنها كما طلبت ؟ "
قال الآخر من فوره " أجل سيدي وقدرنا الأضرار وقيمنا حالة
المنازل جميعها فأولئك الإرهابيين اتخذوا سياسة الأرض المحروقة
في أحد المدن الخمس وأحرقوا حتى الحقول قبل خروجهم منها "
رفع نظره بهما فوقه مكتفا ذراعيه على الطاولة تحته وقال
" المدارس في كل منطقة سيتم تجهيزها قدر المستطاع لتكون صالحة
للسكن مؤقتا وأريد ثلاث منازل في كل منطقة أن تستثنى وتجهز لتكون
مدارس مؤقتة وأريد عيادة متنقلة في كل منطقة من الأربع مناطق واتركوا
المدمرة حتى نرى ما يمكن فعله فيها , وفروا بعض الضروريات في تلك
المدن كما دونتها لكم في الأوراق فمن المحتمل أن تتوافد بعض العائلات
من مناطق غير التي في حوزتنا سنسلم لهم منازلا منها للعيش فيها ولو
مؤقتا حتى يرجعوا لمدنهم ومنازلهم ما أن نأخذها , ولا تنسوا أريد
تقييما وتقارير عن كل شيء يحدث بعدي هنا "
هزوا رؤوسهم بالطاعة وعادوا لمناقشة مشاكل تلك الخارطة ومنازلها
فبعد توافد سبعة عشر عائلة خلال يومين خمنوا زيادة عددهم خاصة
أن ما بحوزتهم الآن ثلاثة عشرة منطقة كاملة والدعم الدولي لهم قوي
من ناحية فتح الممرات للناس رغم استبعاد الكثيرين لنجاح الأمر لكن
ما يجهلونه أن بعضهم ذاق الويلات ولا تؤثر فيه جملة ( هل تذهب
وتضع نفسك تحت رحمة وحكم الحالك ؟ ) فهوا رأى أكثر
من ذلك بكثير .
وقف مطر وقال وهوا يطوي الخارطة " هذه سآخذها معي لحوران
لا تنسوا تدوين كل شيء وإعلامي بأي طارئ وستستقبلون أولئك
الصحفيين فما سينقل عن طريقهم من هنا ولقاءاتهم بالعائلات سيكون
له صدا كبيرا في الهازان خاصة في المناطق التي ستكون في خط
حربنا القادمة , أريد للناس أن تلجأ للدخول إلى هنا بدلا من أن تتوغل
في الهازان أكثر فرارا من القتال , لا أريد للناس أن تشرد بسببنا قدر
المستطاع وأعتمد عليكم في هذه الحملة وسأغادر مطمئنا فلا تخذلوني "
هزوا رؤوسهم له بكل ثقة وعزم على إرضائه فقال وهوا يخرج من
خلف الطاولة " سأرى بعض المشاكل هناك والأمور المستعصية التي
تستلزم وجودي وأرجع , كلها يومين أو ثلاثة فعليا أن أكون هنا
خلال وصول اللجنة الدولية "
وما أن وصل للباب حتى سمع أصوات من الخارج ففتحه وخرج
ووجد رجلا غريبا يقف عند مكتب من المكاتب التي خصصها
هنا لتسيير أمور ومشاكل المدن , نظر لهم وقال وهوا يغلق
الباب خلفه " ما الأمر ؟ "
قال الجالس خلف الطاولة مشيرا بالقلم في يده على مطر
" هذا هوا الزعيم ابن شاهين أمامك "
نظر له ذاك الرجل وقال " أنا من بلدة خضماء في شرق الهازان "
هز مطر رأسه بنعم مقتربا منه وتابع ذاك " شقيقي كان له أرض
في دَغانين في جبال أرياح قبل أن يستولي عليها الإرهابيين وشقيقي
توفي من عامين وهوا ليس متزوج ولا أبناء له ووالدي متوفى ووالدتي
عجوز كبيرة ولي شقيقتان غير متزوجات , لا أريد شيئا سوا إرجاع
الأرض بمنزلها لأعيش فيه "
نظر مطر للجالس خلف الطاولة وقال " ألم ندرس جميع هذه
النقاط وكيف تقومون بمعالجتها ؟ "
قال ذاك بقلة حيلة " أخبرته سيدي لكنه يصر على رؤيتك "
قال الرجل مقاطعا ونظره على مطر " لا أريد أن تعطوها لي مؤقتا
أو تعدوني بحل مؤجل أريد صك ملكية لها فمعي أوراق ملكية
شقيقي رحمه الله "
هز مطر رأسه بحسنا ونظر للجالس وقال " أخبره بما لديك من أوامر
بفعله في مثل حالته هذه لنرى إن أعجبه ذلك أم لا "
هز ذاك رأسه بحسنا ونظر للرجل فوقه وقال " سيد جرير لدينا هنا
لائحة قوانين كاملة بخط الزعيم مطر وتوقيعه واستمع بنفسك كما
كنت أطلب منك , بما أن الأرض ورث لمتوفى ليس له ابن ولا زوجة
ولا والد ستكون ورثا بين والدتك وأنت وأخواتك ولن أسجل ملكيتها
باسمك ما لم يتم بيعها وتقسيم ثمنها شرعا ولكم حق الانتفاع بها لا
نقاش لأحد في ذلك حتى يشتريها أحد الورثة من الباقين أو يتنازلون
له عليها بحضورهم شخصيا , عليك أن تعلم كل هذا ويمكنكم
الانتقال لها فورا "
تحدث مطر ناظرا له وهوا منتبه لما يقول ذاك " هل يرضيك هذا
وهوا حكم الله قبل حكمي أو نجد حلا يرضي الجميع "
هز ذاك رأسه بحسنا وقال " لا نقاش في صحة ما قال وسأرى مع
عائلتي ما يريدون وسأجلبهم وننتقل هناك "
ثم غادر ذاك الرجل شاكرا لهما ونظر مطر للذي هز رأسه بيأس
قائلا " جربت إقناعه بسماعي فقط لكنه رفض إلا أن يراك
ويتحدث معك "
أمسك مطر خصره بيديه وتنفس بضيق قائلا " لن أستطيع التواجد
هنا دائما عليكم إيجاد حل لمثل هذه المشاكل كي لا تتفاقم "
*
*
شحب لون وجهه وكأن الدم اختفى منه ونزلت يده والسلاح لازال
فيها وهوا ينظر بصدمة ووجه مصفر للجالس على التراب بجانبه
فانقلب ذاك على ظهره للخلف في ضحك هستيري فنظر له بضيق
وهوا يستند بمرفقه على الأرض ثم رمى السلاح على معدته فقال
ذاك وهوا يمسكه " علمت أن صوته سيرعبك لكني لم أتخيل أن
تصمد هكذا ولا ترميه أرضا أو تركض باكيا "
قال تيم بضيق " أنت من كان عليك أن تنبهني لأستعد لكل
هذا الصوت وارتعاش يدي بسبب قوته , يبدوا أنك تريد
السخرية مني والضحك ليس إلا "
سوا عمير جلسته متربعا وقال وهوا يسحب مخزن السلاح
" بل تعمدت هذا فلن تخاف صوته بعد الآن فلو أني نبهتك من
البداية لخفت من توقع الأمر ولبقيت تخاف صوته حتى
تصبح عجوزا "
وتابع وهوا يضيف رصاصة جديدة واحدة كما في المرة السابقة
لضمان سلامتهما " كان بإمكاني جلب خوذة لك أو سماعات أذن
لكن ذلك سلوك هواة الرماية وليس رجال الحروب والمهمات
الصعبة "
وأضاف بجدية وهوا يسند يده الممسكة للسلاح على يده الأخرى
ينظر بين واحدة من خلال عين التصويب للجدار البعيد "عليك أن
تتعايش مع صوته وكأنه ذبابة تمر بجنب أذنك ثم سنتعلم على رماية
الأهداف بعدما اجتزنا شوطا جيدا في أخذ نبذة مبسطة عن
أهم أنواع الأسلحة وكيفية استخدامها "
قال تيم ببرود " في المرة القادمة أنت من سيرمي أولا "
فعاد ذاك الشاب للضحك مجددا فرمقه بنظرة قاسية ووقف وأمسك
خصره بيديه وقال ناظرا له تحته " أنت أين تكون والجنود يتدربون
صباحا فلم أراك معهم ولا مرة واحدة !! كيف يسمحون لك بالنوم
وغيرك يتدرب ؟ سأشي بك لرئيسك فورا "
حاول إمساك ضحكته لكنه لم ينجح وقال برجاء تمثيلي
" لا أرجوك لا تشي بي فأعاقب عقابا عسكريا مميتا "
قال تيم بحدة " إذا أين تكون وقتها إن كنت جنديا كما ادعيت ؟ "
وقف ذاك وبدأ بنفض يديه وبذلته العسكرية من التراب الذي
علق بهم قائلا " لأني لست جنديا هنا ولا تسأل سؤالا آخر
أو قصصت لك لسانك "
قال تيم بصدمة " وما تكون إذا !! وماذا تفعل هنا ؟ "
أمسك عمير بخصره أيضا وقال ناظرا له بابتسامة " هل تعرف
ما تكون القوات الخاصة التي تقوم بعمليات لا يقدر عليها
أحد غيرها مهما تدرب "
هز تيم رأسه بلا ونظرته ملئها استغراب وعدم فهم فنكش له ذاك
شعره الأسود الكثيف قائلا " ستعرفها مستقبلا بل وستكون
فردا مميزا فيها لن تنسى الناس أسمه بسهولة "
*
*
كان ضحكهم وضجيجهم يملأ تلك الغرفة في ذاك المقر كعادتهم في
هذا الوقت من النهار يتبادلون أكواب الشاي بعد غداء تبع ساعات
شاقة من التدريب والتنقل , حرك الجالس على الأرض كوبه
وقال ساخرا " نخب من هذا ؟ "
ضحك آخر وقال " لم يتزوج أحد منا ولم يقع جديد في سحر امرأة
إذا هوا نخب انتصار ابن شاهين الأخير على ابن راكان "
قال الذي بجانبه ببرود " وتحتفل بذلك يا مسخرة قبيلتك ؟
قد تكون مكانهم قريبا "
رمقه بنظرة لاذعة وقال بنزق " هل ستنكر أنه سدد لكمة للجميع
وصدمة بقرار فتح ممرات للناس في الهازان لترجع لمدنها
ومنازلها "
جاء التعقيب الساخر من الجالس بعيدا يسند ظهره للباب المفتوح
" ذاك الرجل غبي , من هذا الذي يدخل مدينة قد ترجع لها الحروب
في أي وقت وتزحف الهازان عليهم ويرمونهم للحالك متشردين ؟
أو من هذا الذي يدخل في حمى رجل سيقاتل أهله وأقاربه
وعشيرته قريبا !! "
كان الصمت رد الجميع قبل أن يكسره الكاسر قائلا " لا تستهن
بالوضع في الهازان فأنت لم تجربه فحتى المناطق التي في
حوزتهم لم تعد آمنة والناس تفر من كل مكان وكل شيء "
غمز الجالس بجانبه بعينه وقال مبتسما " لا أحد يقترب من
نسيبه فيبدوا أنه بات في صفه "
نظر له الكاسر ببرود وذاك كان كل جوابه وعلق آخر ضاحكا
" أقسمت عليك أن تسأل شقيقتك ما أن تتصل بها إن كانت أجهزت
عليه وسلبت عقله أم ليس بعد لنكمل باقي الخطة ونهزمه في ليلة "
ضرب حينها الكاسر بيديه على ركبتيه ووقف قائلا ببرود " أبعد
سيرة شقيقتي عن لسانك أو نكهت باقي الحديث بشقيقتك أنت "
قال ذاك واجما " كنت أمزح يا رجل ما بك ؟ "
توجه جهة النافذة الوحيدة في تلك الغرفة قائلا " لم أمنعك من
الحديث عنه هو ولم يعنيني الأمر لكن شقيقتي عرضي فدس
لسانك في فمك أو قطعته لك "
وقف أمام تلك النافدة ورفع يديه مسندا لهما بجانبي إطارها ينظر
للسماء الزرقاء الصافية , هوا يعلم جيدا أن كلامهم ذاك مجرد مزاح
ويعرف تفكيرهم كما يعرف نفسه ويعلم أكثر أن انجرار الحديث ليصل
لشقيقته سينتهي بأن يمسها هي وهذا ما لن يرضاه أبدا ولو كان فيها موته
غاب بنظره في تلك الزرقة وذكرياته تأخذ لأبعاد كثيرة حتى نسى نفسه
وأين يكون وما يحدث خلفه حتى شعر بتلك اليد التي أمسكت كتفه
وصوت جعفر صديقه المقرب قائلا بابتسامة
" أين وصل ابن الزعيم شراع ؟ "
نزل بنظره وقال بجمود " باق هنا لم أصل لأي مكان "
ضحك ذاك ووقف متكأ على جدار بظهره مقابلا للواقف أمام
النافدة وقال مبتسما " قلها لغيري وليس أنا "
تنهد الكاسر بقوة وقال بضيق وقد غاب نظره للأفق البعيد " كل ما
وضعه المدعو ابن شاهين من شروط للمهادنة في كفة وشرطه
بإخلاء حقولهم وحقولنا من العاملين فيها في كفة لوحده , كدت
حينها أن أقفز عليه وأقطع لحمه بأسناني "
ضحك المقابل له وهمس كي لا يسمعه أحد " هل اشتقنا يا كاسر ؟
أتركها تشتاق لك قليلا يا رجل وستجد حلا بانقضاء العام "
أنزل يديه ودسهما في جيوبه وقال مغادر من عنده
" لن تفهم ما أعني مهما شرحت "
سار ذاك خلفه هامسا له جهة أذنه بمكر " أفهم أمرا واحدا هوا
أن نساء الحالك ذهبن بعقولكن يا جنود صنوان , وابن شاهين
عرف كيف يعاقبكم بالحرمان "
فأبعد الكاسر وجه صديقه بيده بضحكة صغيرة من كليهما وخرجا
معا منتقلان للغرفة التي تحوي الأسرة المخصصة للنوم لأخذ
راحة فترة ما بعد الظهر
*
*
رفعت غطاء الإبريق لما يقارب المرة العاشرة وهوا فوق النار
وقالت مغمضة العينين وهي تستنشق رائحة بخاره المتصاعد
" ياااااه على هذه الرائحة ! ما الذي وضعته فيه
سيدتي "
ضحكت غسق رغما عنها وقالت " من يسمعك لا يصدق
أنك كنت معي خطوة بخطوة "
أعادت الغطاء مكانه ونظرت لنار لموقد تتأكد من أنها لم تنطفئ
أو ترتفع وقالت " رأيت بعيني لكني لم أصدق أن هذه ستكون
النتيجة ضننت أننا سنشم رائحة شيء يحترق أو أن
تغمر المطبخ رائحة القرنفل القوية "
قالت غسق مبتسمة " وهنا يكمن السر في هذا الشاي يا حبيبة
التناسق في وضع المكونات بين العطرية وغيرها وبين القوية
وضعيفة العبق لتكون النتيجة النهائية تناسق واضح جدا في
النكهات , هكذا تكون طريقته وقد احتجت لوقت طويل لأتعلم
وضعها بمقاييس متساوية عن طريق العين فقط "
حركت الواقفة أمامها يدها بعشوائية وقالت بلهفة " عليا تذوقه
بسرعة قبل أن أجن فمعدتي تصرخ منادية "
ضحكت غسق مجددا وقالت بصوتها الرقيق الناعم
" هذا على أساس أنك لم تعتادي شربه هذا الوقت "
جلبت تلك منشفة وقالت وهي تنظف البقع الصغيرة المتناثرة فوق
الموقد " نحن نعتمد على شرب القهوة أكثر ونحتسيها في أي وقت
من اليوم أما الشاي فيقتصر على وجبات الإفطار أو في لقاءات
التسامر ليلا بين الرجال "
ثم رفعت نظرها بها وسألت " هل لديكم في صنوان تشربون
الشاي كثيرا ؟ "
نظرت غسق للأسفل ومررت إصبعها على حافة الموقد وقالت بشيء
من الحنين والحزن " أجل هناك يحبون الشاي كثيرا وعمتي من علمتني
طريقته الصحيحة بإضافة جميع هذه المكونات فالمرأة لدينا هناك تُعرف
بطريقة إتقانها له , وفي منزلنا لم يكن أحد يهتم لشرب القهوة سوا
شقيقي رعد ومنذ كان صغيرا "
هزت تلك رأسها بتفهم قبل الفهم وقالت في محاولة لتبديد ذاك الجو
الكئيب الحزين الذي كانت هي السبب فيه " على هذا الحال سيصبح
ساكني هذا المنزل أيضا من عشاق الشاي وسيتبعون عادات صنوان "
رفعت غسق رأسها ومسحت بطرف يدها جفنيها والدموع التي ما
كانت لتسمح لها أن تنزل وقالت وهي تتوجه لأرفف الخزانة الخشبية
" ساعديني إذا في جلب الأكواب , أنا لا أعرف سوا مكان أكواب
الماء وصينية التقديم "
تحركت حبيبة خلفها قائلة بابتسامة " أتركي تلك المهمة لي فثمة
طقم فاخر ورائع للشاي كان هدية من أحدهم للزعيم مطر ولم
نستخدمه لأننا نقدم القهوة للضيوف دائما "
وخرجت لبرهة ثم رجعت تحمل صندوقا أزالت من عليه الغبار ثم
فتحته وأخرجت طقم الكريستال الموجود به فأبدت غسق إعجابها
الفوري به وهي ترفع كل قطعة على حدا فلم ترى طقما في روعته
رغم أنهم كانوا يملكون أطقم فاخرة وعديدة في منزل والدها شراع
قامت حبيبة بغسله بحذر وحرفية وسكبت غسق الشاي الذي حضرته
فيه ببطء ثم سكبت منه في كوب وقالت " هيا أعطني رأيك به يا حبيبة "
شهقت تلك من فورها مبتسمة وقالت " بالتأكيد فهذه اللحظة
كنت أنتظرها منذ البداية "
ورفعت الكوب على ضحكة غسق المنخفضة الرقيقة وشربت منه
رشفة كبيرة ثم أغمضت عينيها بقوة وتجعدت ملامحها فقالت
غسق بخوف " إنه ساخن ما كان عليك شرب الكثير منه
اشربي الماء بسرعة "
هزت تلك رأسها بلا ولازالت ملامحها كما كانت عليه فقالت
الواقفة بجانبها بتوجس " هل هوا سيء ؟ أنا أصنعه من
أعوام وأجيده جيدا !! "
فتحت حبيبة عينيها أخيرا وصفقت بيديها أمام وجهها وقالت
بحماس ودهشة " بل رائع ولم أتذوق حياتي شايا مثله ولم
أتخيل أن يتغير طعمه بهذا الشكل "
ابتسمت غسق برضا ثم نظرت للخادمتين الأخريين الواقفتان جهة
باب المطبخ الواسع تراقبان منذ وقت وقالت " هل أسكب لكما منه ؟ "
قالت حفصة من فورها مبتسمة " شكرا سيدتي أنا لا أحب الشاي
ولم أتذوقه حياتي "
فنقلت نظرها لعزيزة التي قالت ببرود ناظرة للإبريق في يدها
" لا أشعر برغبة في شربه شكرا لك سيدتي "
ففهمت غسق فورا نظرتها وسبب ما قالت فسكبت منه لربع الكوب
ورفعته لشفتيها وشربت منه رشفة صغيرة ثم وضعتها في الصينية
وحملتها جميعها وقالت ما أن وصلت لهما " خذي القليل وجربيه
إذا ولا تحكمي عليه دون أن تتذوقيه "
وقد فهمت تلك الخادمة فورا أن الواقفة أمامها قد فهمت ما عنته
بحركتها تلك وأنها لا تتق فيما قد وضعته في ذاك الشاي وهي لم
تشرب منه ولم تتذوقه أبدا فأخذت الكوب منها هامسة لها بالشكر
وممتنة ذات الوقت في قرارة نفسها أنها لم تتلقى عقابا منها على
ما فهمته من كلامها وتصرفها , خرجت من المطبخ تحمل
الصينية قائلة " حبيبة أجلبي الماء لغرفة عمتي "
ففعلت ذلك على الفور وقالت وهي تمر بهما عند الباب ناظرة
لعزيزة بمكر " ستندمين لأنك لم تحصلي من ذاك الشاي سوا
على ربع فنجان صغير يا بلهاء "
وخرجت ضاحكة على نظرات عزيزة الغاضبة وأدركت السائرة
أمامها وهي تنظر لشعرها المنسدل على كتفيها حريريا لامعا قد
ربطت وسطه بشريطه صغيرة ناعمة ولجسدها المتناسق في الثوب
الخمري اللون القصير نسبيا يكشف بعضا من ساقيها الناعمة البيضاء
وبأكمامه الطويلة الضيقة ( لن تليق بسيدي مطر إلا واحدة مثلك في
رقتك وحسنك ولباقتك مثلما لن يستحقك أي رجل غيره على وجه هذه
الأرض بما يحمل من معاني للرجولة والقوة , فكل واحد منكما مكمل
للآخر تماما ) كانت تلك الأفكار التي تدور في رأسها وهي تتبعها
متفرسة في كل تفاصيلها وفي أدق حركة لها حتى رفعها لطرف
شعرها بعيدا عن وجهها حتى كانتا عند باب الغرفة وفتحته غسق
ودخلت ملقية السلام بشبه همس ناعم وهي تتبعها فاستقبلتهما الجالسة
على كرسيها أمام الطاولة الدائرية في غرفتها حيث طلبت منها غسق
أن تنتظرها حتى ترجع لها , قالت مبتسمة وناظرة لما في يدي
المقتربة منها " ما سر هذه الرائحة العبقة الجميلة والغريبة ؟ "
وضعت غسق الصينية على الطاولة مبتسمة وقالت حبيبة مندفعة
وهي تضع إبريق الماء والكئوس " شاي لم ولن تتذوقي مثيلا
له سيدتي , أعدته السيدة غسق بنفسها "
ثم سوت وقفتها وتابعت بحماس ودون انقطاع وهي تشرح بيديها
عن كل ما تقوله " لقد طحنا أوراق النعناع والحبق والريحان وحتى
أعواد القرنفل والزعتر وعشبة الليمون وحتى إكليل لجبل وأضافت
المليساء .... "
وانطلقت تشرح وهما تضحكان عليها حتى قالت نصيرة " ما كان
عليك أن تصنعيه أمامها فتسرق منك فكرته "
ماتت ابتسامة حبيبة وقالت بإحباط " مستحيل لن أعرف قياسات
الأشياء ولو كتبتها في ورقة "
نظرت تلك لغسق فوقها وقالت مبتسمة " إذا دعاني أتذوق هذا
الشاي الذي ذهب بعقل حبيبة "
ضحكت حبيبة وقالت مغادرة جهة الباب " ستري بنفسك فمذاقه
لازال في فمي حتى الآن "
وخرجت وصوتها يصلهم وهي تردد " لا أعرف ما النكهة
الأقوى بينها فجميعها أتذوقها معا .... "
ضحكت غسق وقالت " كم هي طيبة هذه المرأة "
هزت نصيرة رأسها بنعم وقالت " تنشر السرور حولها دائما
رغم كل ما مرت به من أحزان في حياتها "
رفعت غسق الإبريق وقالت بحزن وهي تسكب منه في الكوب
" أجل سبق وأخبرتني أن زوجها ميت وزوج ابنتها
توفي من مدة قصيرة عند الحدود "
ثم سحبت الكرسي وجلست فرفعت الجالسة أمامها الكوب قائلة
" أسأل الله أن يعجل باليوم الذي تهنأ فيه بلادنا كغيرها "
ثم سمت بالله ورشفت منه رشفة صغيرة ثم نظرت للتي تنظر
لها مبتسمة تنتظر رأيها فيه وقالت بابتسامة عريضة
" أممممم ما هذا يا غسق !! "
ثم رشفت منه أخرى وابتسامة الجالسة أمامها تزداد سرورا
وقالت وهي تحرك الكوب ونظرها عليه " أين أنت يا ابن
شقيقي ليفوتك سحر يدا زوجتك هذا ؟ "
فماتت الابتسامة فورا على شفتي الجالسة أمامها وقد شعرت بقلبها
وقع من بين ضلوعها فضحكت نصيرة وقالت مدركة سبب كل
ذلك " كله أسبوع ويزيد قليلا فقط فلا تغضبي منه "
تحولت ملامح غسق للصدمة وقد علا ذاك الاحمرار خديها وقالت
ببرود " لو كان شخصا غيرك لصدقت أن يشك في تضايقي من غيابه "
قالت تلك باسمة " قد تكوني على الأقل منشغلة على سلامته فأنا لم
أخبرك أنه اتصل بالأمس وأنه بخير , ويبدوا أنك لم تستمعي
للأخبار لكنتِ عرفتِ السبب "
أبعدت نظرها عنها وقالت بلمحة حزن يشوبها الكثير من القهر
" لا أريد أبدا سماعها وأكرهها منذ صغري والآن أكثر "
ثم وقفت لتنهي ذاك الحديث فهي لا تريد حقا سماع أي أخبار عنه
وعن غزواته وانتصاراته ولا عن أي قطر من البلاد وهي في غمرة
حنينها لعائلتها التي ربتها وشوقها الجارف لهم , من حرمت حتى من
سماع أخبارهم ولو عبر الهاتف , توجهت للنافذة القريبة منهما وقالت
وهي تفتحها " لماذا تحرمين نفسك من هذه المناظر ومن رائحة
الزهور والنباتات ونوافذ الغرفة واسعة وطويلة "
ثم أخرجت رأسها ونظرت للخارج مستمتعة بأصوات العصافير
المغردة وسط ذاك الهدوء وما أن أدخلت رأسها والتفتت لها وفتحت
فمها لتتكلم حتى جمدت مكانها وهي تنظر للواقف أمام الباب وقد
وقعت عينيها على نظراته المحدقة بعينيها فورا فشعرت بذاك الزلزال
يضربها مجددا وهي تقاوم بشراسة لتبقى هادئة وثابتة في الحضور القوي
لتلك العينين السوداء وتحت تلك النظرات الغامضة المسيطرة , خرج
تنفسها أخيرا متحررا من الاحتباس في رئتيها حين غير نظره منها
لعمته التي التفتت ما أن لاحظت جمود نظرات الواقفة عند النافذة
لشيء ما خلفها فتقدم منها حينها وقبّل رأسها هامسا " مساء
الخير عمتي , كيف حالك "
نظرت له فوقها وقالت مبتسمة " حمدا لله على سلامتك بني
متى عدت ولم يشعر بك أحد !! "
قال ولازال ناظرا لها وبصوت منخفض النبرة والبحة " منذ قليل
أخبرتني جوزاء بالأمس أنك تعبت اليومين الماضيين فكيف
تشعرين الآن ؟ "
قالت بضيق ونظراتها لازالت معلقة به للأعلى " جوزاء الثرثارة
تلك , لم أخبرك أنا فأسرعت هي لفعلها ! أنا بخير وما كان
عليها أن تقلقك وأنت بعيد عنا "
وانخرط معها في الحديث عن مرضها المفاجئ منهمك فيه تماما وكأنهما
نسيا وجود الواقفة هناك تحترق غيظا من تجاهله لها وهو من لم يكلف
نفسه حتى أن يحييها ويسأل عنها أيضا أو حتى أن يلقي السلام عليهما
معا ما أن دخل بل خصص كلامه كله مع عمته , وباستثناء تلك النظرة
عند الباب لم ينظر ناحيتها قط ورغم غيظها وغضبها كانت تخفي يديها
خلفها كي لا يظهر ارتجافهما وعيناها تتنقلان في تفاصيله من شعره
المبلل المسرح بإتقان وقطرة ماء تنساب منه على عنقه ببطء , وكما
هوا حاله دائما عندما ينزل من حمامه مباشرة قميصه مهمل التفاصيل
وزراه العلويان مفتوحان وكان يرفع أحد طرفيه بيده التي يضعها في
جيب بنطلونه ينظر لعمته تحته معطيا جانبه فقط لها , أبعدت نظرها
عنه وعضت شفتها بقوة تكتم غيظها وكل تلك المشاعر المتضاربة
( لما هوا بارد هكذا وجاف وقاسي وخالي حتى من المشاعر ولم
يتصدق ولا بابتسامة على عمته التي استقبلته بحب وحبور , بل
ولما هوا وسيم هكذا وشديد الثقة والرجولة , حضوره لا يمكن
لأحد تجاهله وكأنه يملأ المكان باتساعه ... )
شحبت ملامحها وقد أشاحت بها جانبا تنظر للنافذة المفتوحة حين
اكتشفت المسار الذي أخذته أفكارها وكرهته حقا , ارتجف جسدها
ارتجافه بسيطة ونظرت لهما فورا ما أن سمعت صوت عمته قائلة
" اجلس هيا وتذوق شاي زوجتك فلن تشرب مثيلا له ما حييت
ولابد وأن رائحته العبقة وصلتك ما أن دخلت من باب المنزل "
اشتدت حينها ضربات قلبها وهي تراقب ملامحه ونظره على إبريق
الشاي والصينية الموضوعة على الطاولة تنتظر تعليقه عليه ما أن
يشرب منه فرفع نظره من الإبريق لها فجأة فأبعدت نظرها عنه فورا
ترسم ملامح جامدة شديدة البرود كتلك التي يقابلها بها دائما وخصلات
شعرها تتطاير مع النسيم الداخل من تلك النافذة وقد تناغم لون خديها
المتوهجان مع لون شفتيها وذاك اللون الزهري في فستانها رغم
التفاوت الكبير في درجة اللون بينهم , قال ونظره لازال مركزا على
وجهها وانسدال رموشها الطويلة الكثيفة مخفيه حدقتيها بعيدا عنه
" تعلمي بأني لا أشرب وآكل شيئا إلا إن كان ساخنا جدا عمتي
وهذا الشاي يبدوا أنه برد ولم يشربه أحد "
رفعت نظرها به فورا وحدقتيها تقدح شررا غاضبا لتجده ينظر لها
بتهكم بارد وكأنه لم يقل شيئا بل وكأن البخار لا يتصاعد من ذاك
الإبريق حتى الآن فتحركت حينها تلعن نفسها لأنها ببقائها عرّضت
نفسها لكل هذا وأنه كان عليها تجاهله والخروج ومعاملته كما عاملها
كجدار , ما أن مرت بهما حتى وقفت مكانها بسبب اليد التي أمسكت
برسغها لترسل موجات من القشعريرة في كامل ذراعها منتقلة لباقي
جسدها فرفعت نظرها به فكان لازال ينظر لعمته قائلا " سأطلب من
الطبيب المجيء لرؤيتك , ما كان على عمي أن يستمع لكلامك
ولا يجلبه "
كانت ستعترض فسبقها قائلا بحزم آمر " لا نقاش في هذا عمتي "
فتنهدت باستسلام قائلة " كما تريد بني رغم أنه لم يعد يلزم ذلك
وأشعر بأنني بخير "
شدت حينها يده أكثر على رسغها وكأنه يقول لها لم أنسى وجوده في
يدي إن فكرت فقط أن تسحبه منها , وكادت تخرج شهقتها للعلن حين
شعرت بإبهام يده يمر وسط كفها وقد نقله من رسغها في حركة ولمسة
خفيفة ثم ضغط به على باطنه فأنزلت رأسها للأسفل تخفي ملامحها
المشدودة والمتوترة فهي لم تجتز بعد ملمس أصابعه القوية على بشرتها
الناعمة ليجهز عليها تماما بالعبث ببشرة كفها في حركة لم تفهم مراده
ومقصده منها ؟ ثم عاد وأرخى من ضغط إبهامه عليه وعاد لتحريكه
ملامسا كفها بنعومة قائلا " لا بأس في أن نطمئن لن يحدث
شيء عمتي "
ثم تحرك وخرج من الغرفة ساحبا لها خلفه , ليس لأن خطواته
سريعة لكنها تعمدت فعلا أن تتخلف عنه فقال وهوا يجتاز بها
الممر الطويل " سخني الشاي حتى يغلي واجلبيه لي في مكتبي "
فزمت شفتيها بقوة تكتم غيظها وغضبها منه وهوا يطلبه بعدما
انتقده عمدا , وما أن وصلا نهاية الممر حتى ترك رسغها وتابع
سيره دون أن ينظر لها قائلا " أنا لا أشربه إلا من ناره للإبريق
لكوبي مباشرة لا تنسي ذلك "
وسار مبتعدا تاركا إياها مكانها تنظر له وتفرك باطن كفها بيدها
الأخرى ولم تزح نظرها عنه تستشعر نبضات قلبها المجنونة في
أوردة يدها جميعها تراقب قفاه وخطواته المتزنة حتى رفع يده
بجانب رأسه وقال ملوحا بسبابته " لا أريد أن أرى الخادمة
داخلة به عليا هناك "
واختفى عنها خلف الممر الغربي فأنزلت يديها وصرت على
أسنانها بقوة وهمست بغيظ " يالك من متعجرف "
ثم استدارت بقوة عائدة أدراجها متمتمة بغضب " ولما يخرجني
إلى هنا ؟ كان طلبها مني هناك وغادر , ثم ما في الأمر إن أخذته
له إحدى الخادمات لمكتبه وأصغرهن سنا تكبره بما يقارب
السبع سنين ؟ "
ثم دخلت الغرفة وتوجهت من فورها للطاولة بملامح واجمة من
القهر ورفعت الصينية قائلة بجمود بارد " عمتي إن كنت تريدين
كوبا آخر أسكبه لك قبل أن آخذه "
قالت تلك ونظراتها معلقة بها فوقها وبابتسامة " لا يحتاج يا غسق
فبالكاد سيكفيه لأنه لن يتوقف عن شربه حتى يفرغ "
نظرت لها بصدمة وقالت " وما أدراك أني سآخذه له ! "
خرجت منها ضحكة صغيرة وقالت وهي تتراجع بكرسيها حتى
قابلتها وقالت مبتسمة " متأكدة من ذلك من قبل خروجه بك من
هنا فهوا لم يرد قول ذلك أمامي مخافة أني لازلت أريد شرب
المزيد منه ومن اللباقة أن يتركك تأخذيه دون علمي "
شعرت بحجر كبير وقع على رأسها وتمتمت بعبوس
" لم أفكر هكذا !! "
ابتسمت لها بحب وقالت " أفهم موقفك يا غسق فأنتي لم
تعيشي معه لكني أعرف تفكيره جيدا "
ثم أضافت بمكر ونظرها على عينيها " كما أعلم أنه الآن
لا يريدك من أجل الشاي فقط "
نظرت لها غسق بصدمة ورغم توقعها للمواجهة معه إلا أنها
كانت تتمنى حدوث العكس وأن يتجاهلها تماما فضحكت نصيرة
وقالت " عليك أن تعلمي أمرا يا غسق بأن جميع الرجال لا يقبلون
بالهزيمة ومطر تحديدا لا يحب أن يخرج خاسرا وإن في جانب
واحد من الأمر يكسبه وبجدارة "
رفعت غسق يدها ومررت أصابعها في طرف شعرها قائلة بتوتر
" عمتي هل تتعمدين إخافتي منه أم ماذا ؟ "
ابتسمت لها بتفهم وقالت " لا يبدوا لي أنك تحتاجين من يخيفك منه
ومعلومة أخرى عليك تسجيلها عنه أنه أكثر الرجال نافذا للصبر
فخذي الشاي وسخنيه جيدا واحمليه له بسرعة "
تحركت من فورها متوجهة جهة الباب ومتمتمة بعبوس
" لما لا تذكري لي عيوبه دفعة واحدة لأجمعها في دفتر واحد "
*
*
فتح الباب بعد طرقتين خفيفتين ودخل يحملها بذراعه تلتف إحدى
ذراعيها الصغيرتان حول عنقه والأخرى تمسك بها قطعة الحلوى
الكبيرة التي أحضرها لها معه وقت عودته فجرا من الحدود فمنذ
أصبحت هذه الطفلة في منزلهما تعلقا بها بجنون وقد غادر للحدود
تاركا قلبه معهما هناك وما أن عاد اليوم قرر أن يزوره بها قبل أن
تأتيه أي أوامر من مطر ويغادر مجددا , توجه نحو طاولة الذي كان
ينظر لهما مبتسما وأجلس زيزفون فوق الطاولة أمام الطبيب وقال
" ها هي ذي التي أخبرتك عنها وما أن علمت أنك أفضل الأطباء
في الأطفال حتى وثقت بخبرتك فأنت قد أفلحت حتى في
التخصصات الأخرى "
وقف ذاك مبتسما ولف حول الطاولة ناظرا للتي تنظر له بحيرة
وتوجس وقد قبضت بيدها الصغيرة على كم قميص من أصبحت
تناديه ( بابا ) من أيام فمسح عكرمة شعرها وقال مطمئنا لها
" لا تخافي يا زيزفون لن يؤذيك "
قال الطبيب هامسا ولم يلمسها " ما بها ! مما مذعورة ؟ "
نظر له وهمس بحزن " كما تعلم فقد شهدت منظرا مأساويا
ومن حينها وهي تخاف وترتعب حتى في نومها ليلا "
اقترب منها الطبيب بحذر ومد يده ماسحا على شعرها يراقب
عينيها الزرقاء الواسعة الوجلة وقد ترقرقت الدموع فيها منذرة
ببكائها الوشيك فتصرف سريعا بخبرة طبيب غزا الشيب رأسه
في تلك المهنة ممرا إبهامه على العرق النابض المتوتر في
عنقها وقال مبتسما لها " كم أنتي فتاة جميلة ومطيعة "
وسرعان ما هدأ تنفسها واتزن وتدحرجت تلك الدمعة اليتيمة من
رموشها ولازالت محدقة فيه بصمت فعدل جلستها على الطاولة
وقال " جميل اجتزنا مرحلة الخطر "
قال عكرمة وأصابعه عادت لتمسح على شعرها الحريري القصير
" أريدك أن تشخص حالتها مقارنة بالأوراق التي أعطيتها لك "
عاد لطاولته وقال وهوا يفتح الدرج " انقلها لسرير الكشف إذا
سيساعدني أكثر , وأبقها جالسة "
حملها من فوره وأجلسها هناك يطمئنها بكلمات يكرر ويعيد لفضها
حتى ابتسمت له فقبل خدها بحنان وقال مبتسما " الطبيب راض
عنك وقال أنك فتاة مطيعة فلا تثبتي له العكس "
فاقترب منهما الطبيب ضاحكا وقال ما أن وصل عندهما
" أتمنى ذلك حقا "
وأخرج مصباحا صغيرا من جيبه فحص به نظرها ثم اختبر سمعها
بثلاث أجراس صغيرة بمقاسات مختلفة ومن دون علمها ثم كشف
يدويا على حلقها ورقبتها ثم غادر الغرفة لغرفة مشتركة مع غرفته
وعاد بعد قليل يحمل صندوقا صغيرا وضعه على الطاولة بجانب
السرير وقال " سنجري لها اختبارا سريعا بالأدوات البسيطة
التي لدي فأنت تعرف حال البلاد ووضع الطب فيها لكن
هذا الاختبار سيساعدنا كثيرا "
هز عكرمة رأسه موافقا وتنحى جانبا فأخرج الطبيب من الصندوق
ثلاثة أوراق تحمل رسومات أحدها لفتاة صغيرة والأخرى لكرة
والثالثة لشجرة كبيرة خضراء وعرضها أمامها على الطاولة
قائلا " أين صورة الكرة يا زيزفون ؟ "
وكرر عكرمة بعده وبعد محاولة أخرى من الطبيب رفعت
أصبعها الصغير وأشارت لصورة الكرة فقال الطبيب بحماس
" جيد يالك من فتاة ذكية "
فأعلنت عن أولى ابتسامة له لحماسه الذي أكد لها أنها أصابت
في اختيارها , أبعد صورتي الشجرة والكرة وترك صورة الفتاة
ووضع معها ثلاث أوراق أخرى كل ورقة تحمل لونا وقال ناظرا
لعينيها المركزة على الأوراق أمامها على الطاولة
" ما لون فستانها يا زيزفون "
طرق عكرمة على الطاولة بأصابعه فرفعت رأسها له فكرر عليها
السؤال لتركز على شفتيه فنظرت للأوراق ثم رفعت رأسها له
مجددا فكرر السؤال لها فنظرت لهم من جديد لوقت كان يطول
تدريجيا حتى رفعت إصبعها وأشرت به على الورقة الصفراء
فصفق لها عكرمة بحماس وسرعان ما خبأت وجهها في خصره
تحضنه بقوة فمسح الطبيب على شعرها وقال ناظرا له
" أجري حديثا وإن قصيرا معها أريد أن أرى نطقها "
*
*