بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رواية : طّيفُك يهوِي في الدَياجيرْ .
بقلم : حِرز.
لستِ التي تمنيتْ ! (1)
الأسِتانة (إسطنبول).
1 فبراير 1632م (10 رجب 1041ه).
في سردابٍ ما ..
تجلس في غرفة بسيطة على الطرفِ المُقابل لمقدمة سرير منخفض وصغِير بغطائين أحدهما أثقل مِن الآخر ووسادة.
تفتح عينيها ذات الأهدابْ المبتلة لتطرد ذِكرى ما ..
والشمس تنشر أشِعتها داخل الغرفة من خلال ثقوب النافذة الزخرفية, أشعة الشمس تجعل من عدسة عينيها كعسلِ دوار الشمس تماما, وتجعل من دمُوعها أكثرَ حرقة في عينيها, أشعة الشمس تلكْ .. ليستْ إلا دافع لإحتجاز الدمع بين زوايّا عينيها من ثمُ إنهمارها.
تنبهت من هذه الخَلْوة بنفسها لصوتٍ خارج الغرفة, عقدت حاجبيها بإستغراب ووقفت وقبل أن تخرج إجتذبت غطاء أبيض لفته حول وجهها.
تهتف وبعض القلق يتسللُ لقلبها من الصوت : أنت بدر ؟
كادتْ أن تخطي خَطْوة لكن فاجئتها قطرات الدمِ المراقة علَى الأرض, عقدت حاجبيها بدهشة وفغَرت فمها, رفعت رأسها وهي تهتُف بصوت أعلى ونبرة هادئة : بدر
بحثت في غرفته أولًا ولم تجده, ثم إتجهت للحمام, فتحتِ الباب ببطء بعد أن طرقته لتجدهُ يجلس على الأرض وبعض أدوات العلاج بقربه, والدماء تسيل من ثقبٍ في صدره ويحاول تمزيق ملابسه بواسطة مِقص, نظر إليها لثوانٍ ثم أشار إليها بالإقتراب وأنفاسه تدل على أنه ليس على مايرام.
إتجهت إليه وجلست وهي تثني ساقيها خلف فخذيها, فتحت أزرارَ البدلةِ العلوية ثم ساعدته في إنتزاعها بحذر وكذلك مع قميصه الأبيض الرقِيق لكنها قصته بواسطة المقص المرة لئلا يخسرا الوقتْ.
أنفاسها تتصاعد بخوف, تهدأ نفسها بأنه ليس وقت الخوف,نظفت الجرح وهي تنتفض في كل مرة خرجت آهة من فمه, حاولتْ خياطة الجرح لكن كمية الدماء الخارجة وخزت قلبها لتنظر إليه بخوف .
ينظر إليها بهدوء وصدره يعلو وينزل بإستمرارْ, أكملت الخياطة وقلبها لا يطاوعها على تركِه, لكن سرعان ما إبتعدتْ خطوات للخلف وهِي تشعرُ بتعكر في معدتها ودوار في رأسها, نظرت إليه بنفور بينما يرقب هو مساعدتها ثم وقفت وخرجت مسرعة وهي تلهث.
بلل شفتيه بلسانه وأغمض عينيه وهو يرفع رأسه للأعلى ويسنده للجِدار الذي هو مسند ظهره إليه, ثم أكمل خياطة جرحه بنفسه.
’
بدر .. سبعة وثلاثين سنة, متمرد وهوايته هي أكبر تمرداته .. فنان يصنع مشاعره على هيئة لوحات وصور لا يلتفت إليها سوى هواة الفن, لكنه بأجداده رجل عربي نجدي مقتدر وثري مُلفت.
بتول, تسعة وعشرين سنة.
.
.
.
يستلقي فوقَ سريره وغطاءُ السرير الأسود يمتد فوقَ ساقيه, وعن يمينه يجلس ثلاثة رجالٍ على كراسي, يهتف أحدهم وكان ذو لحية كثيفةٍ ناصعة البياض ويبدوا على وجهه الوقارْ : الحمد الله .. بالسلامة بدرْ .. أجر أجر
الذي يجلس عن يمين الشيخ وإسمه محمّد : عسى ما عرفوك ؟
يُشير بدر بلا ليردف محمد : لازم يشوفه حكيم .. مو أي جرح تداويه بنفسك
يهتفُ آخر والمسمّى بـعبدالله : راح نرسلك الحكيم .. يتأكد أن ما فيه خطر
يهزُ رأسه بالإيجاب ولا قدرةَ لديهْ لمناقشة أحد أو المكابرة, الشيخ يشير للرجلين بعينيه ليخرجا, ويهمسُ ما إن شهدَ خروجهما وهو ينظر لبدر : مين ساعدك ؟
يصمت لثوانٍ, ثم يشتت نظره وهو يزفر ليهمس بإجابة يُدرك أنها لن تنال إستحسان الشيخ : البنت يشيخْ
يهمُ بالوقوف ليتقدم بدر قليلا للأمام ويضع يدهُ فوقَ يده وهو يهتفُ بتعجبٍ من إنفعاله : يشيخ .. تفضل إجلسْ
يستند مرة أخرى , يجلس الشيخ بهدوء وهو يهمس بحدة : دّخلت هالكافرة القبو وماقلت شي عن هذا, لكن تتمادى أكثر من كذا ما راح أسمح
بدر بتعجبْ : وش هالكلام يشيخ ؟ كنت محاتج مساعدة أحد
يُقاطعه : عارف وجهة نظري بهالموضوع, إن كان ودك تمشي معنا بنفس الطريق ما تقرب الحرام, وش تسوي هالغريبة عليك في دارك ..
بدر يهمس بحدة : سمعت كل كلامنا هذاك اليوم ..
الآخر بإنفعال : قلت لك نسكتها
بدر بحدة : والقتل ماهو حرام فضل ؟
فضل يمسحُ وجههُ بكفيه, ينظر إليه ويهمس بنبرة هادئة : سويت مني قاتل .. أنا متى قلت نقتلها ؟ إن كان ولا بد ودها عند أهلك يا بدر !
بدر : حتى تفضحني عند أهلي ؟ لازم تظل هنا تحت عيني
فضل يقفُ ويهتف بحدة : الموضوع أصلا أنه ما يجوز تكون تحت عينك
بدر يعتدل في جلوسه, يهمس : تأكد أنها حريصة على نفسها أكثر مني ..
فضل : هالكافرة وش تفهم من العفة ....
يقاطعه بحدة : بتول ماهي بكافرة فضل يكفي أنها تصلي
فضل يتجاهل إسمها : اللي يهمني إنك ما تأوي كافرة وبس .. وإلا إن كانت بتعرف ربها مالي أقول شي ..
بدر يصمت قليلًا قبل أن يهتفْ : فضلْ أنا بحط عيني على أعراض الناس ؟ .... كف لسانك عني وعن هالغريبة ..
فضل قبل أن يذهب ويُعلن صوت البابِ عن غضبه : لا تحور بالكلام .. أنا قاعد أوصِيك وأنهيك عن السُوء, وأنت حر لكنها تظل غريبة وأنت منتْ بمحرم لها, وأنا ما أدخل بيتك وفيه منكرْ.
’
الشيخ فضل , عبد الله ومحمد, إخوة بدر بالدم.
.
.
.
" قلت لك من قبل؛ ممكن لو تزوجنا بغير شروط كنت تقبلتك, اللي ينفرني منك هو مجبوريتي عليك وأنا مادري ليه مجبور ماهو أنتِ"
يالله أنا لست راغبةً فيه, أنا مضطرة إليه وحسب, تلك البساطة التي ينطق بها جمله تُشعرني بالذُل.
.. ما فهمته في هذا القصر أني كوني إبنة غير شرعية لا بد لي من التخلي عن مشاعري وأدبي لأستطيع مجابهة هذه الإهانات ولأستطيع ترميم قلبي بعد كل كسر.
بدر حتى وإن حاول إخفاء إشمئزازه مني أنا ألحظ هذا ..
يقولها بكل قسوة قلب بشكل أو بآخر أنه لا يتقبل زوجة وُلدت أصلًا خارِج إطار الزواج, يقولها دون أن يُدرك قسوتها يقولها دونَ أن يدرك الحطامْ الناتِج عن قلبي والمتراكِم في قاعي.
وأنا أُردّد في داخلي أن شفقة البعض وإشمئزازْ الآخر لَن يؤثر فيّ, وإن لَحظت منهمُ الشفقةَ أو النفور أتعالَى وكأنّي إمرأةً طبيعية والجميعُ يصدق ويستغرب تأقلمي مع عَدم شرعيتيْ, بينما أوداجي تنتفخ! .. بينما أنا أشعر بالعروقِ في عينيّ تتضخم لمنع هذه الدموع ولتزايد الغصّاتِ والحَشَارجُ في عُنقي.
تقِفُ قرب النافذة المفتوحة, مُرتديةً ثوبَ نومِها الرقِيق, وتكادُ أن تسقط على الأرض لولَا يديهِ التي رفَعتها بعد أن دخل دون أتشعر به.
إتجه إلى الحمام لإستشعاره حرارة جسدها ليضعها على الأرض ورأسها على صدره ثم يقوم بصب الماء الباردِ فوقَ جسدها بإستمرار لترتعشْ.
بعد مرور وقتٍ ليس بقصير, كانت تدثر في فراشها وهو يقف بعيدًا عنْها ويرمِي الحطبَ في المدفئة هاتفا : الله يصلحك زينب .. كم مرة قلت لك لو حسيتي بحرارة لا تغتسلين بمويه حارة .. "فأبرِدُوها بالمَاءْ"
بعد أن أوقد النار إتجه إليها ليجلس بجانب بطنها ليراها تمسك بكوب الحليب الدافئ بين يديها وهي ترتعش.
يهمس بهدوء وهو ينظر إليها : اللحين يدفأ المكان .. إشربي الحليبْ .. فيه زنجبيل .. خلي داخلك يدفأ
إرتشفت من كوب الحليب ثم همستْ بإبتسامة : أنت سويته ؟
بدر يبادلها الإبتسامة : أنا سويته
زينب بضحكة : لو عرفت فاضلة أنك سويته ...
يقاطعها وهو يحاول منع إبتسامته من الظهور : عيب زينب
ينظر إليها بهدوء, تشرب من الحليب مرة وتبتسم إليه مرة, كأنها تتذكر الآن بعض الأشياء المضحكة ولا تذكرها تجنبا لكلمة عيب التي سينطقها في كل مرة.
زَينب ترفعِ بؤبؤ عينيها للأعلى وكأنها بذلك سترى شعرها وتحاول تهدأته بيدها اليسرى هاتفة : أوه من يدري كيف شكل شعري اللحين ..
بدر ينظر لشعرها الأسود الفاحم الخالي من أي إلتواءات ويهمس بهدوء : حلو .. يعني عادي ماهو مثل ما تتخيلين
بدت وكأنها تطلب رأيه في شعرها الناعم وهي قد نطقتها بعفوية تامة, تضع كأس الحليب جانبا وقد شربت أكثر من نصفه, بينما ينظر هو إليها بهدوء.
أحبها .. منذُ سنينَ طويلة وهي إلى جانبي كصديقة غالية, مرات عديدة تفتنني ولا سيما في مرضها هذا الذي يجعل كل جزء من وجهها باللون الأحمر وأمتنع عنها, حتى هي لا ترغب فيّ لإدراكها بأنها ليست التي تمنيت!.
تبتسم, تقترب منها بهدوء وتضع يدا فوق صدرِه, أنا والله أمتنع عن هذا القرب لأني أشعر بالغربة والخيانة .. وأنا أُقبلك .. ما أرى إلا رجلٌ آخر وأنتَ لا ترى فيّ سوى إمرأة لمْ تتمناها!.
ترفع يدها عن صدرِه وتجتذب أنفاسها من بين شفتيهْ, وبخلاف العادة نظرتْ فِي عينيه طويلًا .. قبل أن تستلقِي عَن يمينها بتجاهلٍ لَه هتفت : أعتذر, خلينا ما نفسد اتفاقنا
في الأمس وجه جملته المعتادة بأنه لا يتقبّلني, لم يساعدني الآن بدل أن يستدعي طبيبة ؟ لم لاينفر مني كعادته ؟ هل جبرًا لخاطري أم أنه إرضاءًا لضميره ؟!.
’
زينب .. ثلاثة وثلاثين سنة, زوجة بدر منذ سنين, فائقة الجمال مفتقرة للأدب وعديمة حدود.
.
.
.
هذا الشعر الذي كان ينساب كالحرير باتت ترفعه لأن عنقها يكاد أن يختنق لفرطِ ما تغنجت به وهو ملقىً على كتفيها .
كلما نظرت الآن لصورتها في المرآة تتعجب, لقد أوشك هذا الجسد على الفناء, فتنته التي تسببت في إزهاق أرواح تبدتت الآن.
إسمها تغيّر لمواراة الماضي والتخلص مِنه, بَهُت لونُ عينيها وذهبَ إمتلاءُ شفتيها, وتنرسم بعض الخطوط في كُلِ إبتسامة, سنة واحدة من الفساد والطيش مقابلَ ستةَ عقودٍ من التكتم على العيوبْ والفرارَ من زمانٍ ذاهب منقضي.
تخرج من جناحها لتتجه نحو جناحٍ آخر, تطرق بابه ثم تدخل لصالة الجناح ما إن سمعت إذن الدخول, وبدخولها إنحنت الخادمة الواقفة قرب الأريكة.
الأخرى تهز رأسها كناية عن الإحترام لبدر وهي تهتف : حفيدي بدر!.
الآخر الذي كان يقف خلف المرآة إتجه إليها ليقبل كفها ثم عادَ ووقف أمام المرآة.
تهتفُ بلهجة عامية مختلطة بالفصحى : بما أنك تهرب هذه الأيام من القصر أحببت أزورك هنا في وقت باكر
يبتسم إليها وهو يرتدي خاتمه, ثم بهدوء يرتدي معطفه ذو اللون البني الفاتح وهو يهتف : لُطف منك .. تفضلي إجلسي حتى تشربي قهوة الصباح معي
تجلس بهدوء وتراقبه كيف يجلس على مقعد ويرتدي حذاءه البوت هاتفة : زينب وين ؟
وأخيرا يقف ويجتذب العمامة ذات اللون البني الداكن والتي تحوي حجر الياقوت الأصفر في منتصفها؛ ليضعها فوق رأسه وهو يهتف : لسه نايمة
يتجه إليها ويجلس لتبدأ الخادمة بصب القهوة لكليهما.
يرتشف من القهوة بهدوء ويعقد حاجبيه ما إن هتفت : سمعت أنك تدخلت بحادثة جارية في السوق قبل أيام.
يضع القهوة على الطاولة وقبل أن يتكلم همست بهدوء وهي تأخذ فنجانها : ما راح أقول لزينب, تطمن ..
بدر يبتسم ويهمس بصبر : وأنا أخاف زينب .. أمي فاضلة ؟
تزفر قبل أن ترد بإنهاك : آه حفيدي .. أنا مهما حاولت أكون صالحة في عينك وعين أمير أعجز, للأسف اللي صار قبل سنوات أعدم ثقتكم في جدتكم .. لكن مافيه عتب عليكم بالتأكيد تفضلو تصدقوا والدتكم على تصديق جدتكم .. أنا أيضا كنت أصدق والدتي بعض الأحيان رغم معرفتي بأنها تكذب .. طبعا هذا ما يعني إنكاري .. أعترف إرتكبت بعض الذنوب فيما مضى في حق والدتكم ..
تنظر إليه لتستشف اللين من عينيه هامسة: لكن كفرت عن ذنبي .. والله يقبل التوبة إن شاء .. في المقابل الإفتراء وشهود الزور في حقي ليسوا قلة .. الله يسامحهم جميعا
يبتسم بهدوء ويرد: غيرتي الموضوع ؟
فاضلة تنظر للأسفل بهدوء : كنت أوضح لك كيف دائما ظنك سيء في جدتك
بدر بإبتسامة : حتى أثبت لك كيف ظني فيك حسن, أنا أطلب تصديقك على زواجي الثاني .. وأعتبر الزواج باطل بدونه !!
تنظر إليه بهدوء وبعض الخطوط الخفيفة تنرسم في وجهها لإبتسامتها إندهاشا من ذكاءه, والآخر تتسع ابتسامته لابتسامتها؛ لطالما شعر بأن إبتسامتها تبعث الراحة في النفس.
’
فاضلة .. تجاوزت عتي العمر, هناك نوعان من الجدات في القصص, النوع الأول طيب والآخر شرير , وهي الجدة المخالفة لهن.
.
.
.
تجلسُ على السرير وقرب الشرفة وهي تنظر بسكونٍ لزهرةِ ياسمين نبتت في الطرف الآخر من النافذة محكمة الإغلاق.
كيف نبتت هذه الزهرة هنا ؟ ما إسمُها ؟ لمَ هي مُنكسرة ومائلة بهذه الصورة ؟
حاولت مد إصبعيها من خلال الثقوب لإجتذابها لكنها تراجعت وهي تهمس بعفوية, بَتول : ليتني مكانك!.
إبتسمت إبتسامة ساخرة فيما بعد وهي تتذكر إحدى القصص المشابهة لأمنيتها!.
.
.
.
يترجل من خيله ويعقد طرف لجامه في المكان المخصص ثم يدخل للمنزل ومنه إلى القبو.
يعقد حاجبيه بإستغراب وهو يدفع الباب عندما أحس بأنه مفتوح, ليركله بغضب ما إن فُتح ثم يخرج.
يقف قرب خيله الأسود ويتلفت يمنة ويسرة لعله يدركها إن لم تكن قد غادرت هذا المكان فِي منتصف الليل .
في طرفٍ آخر, تتجول في السوق بهدوءْ وهِي ترتدي ملاءة سوداء رغم أنها رجالية قد وجدتها بين أشياءه, وفي كل مرة تلحظ أن أحدهم ينظرُ إليها كانت تشد الملاءة على وجهها لتخفيه.
تتأمل السوق, في جهة يقفُ بائع القماش الهندي خلف بضاعته وهو يناقش مع أحد المشترين أمور البلاد, وعن يمينه بائعُ الحبوب والبهارات, وعن يمين الآخر كانوا بضعة رجالٍ يلتفون حول طاولة خشبية منخفظة ويتبادلون طرف الحديث ويشربون الحليب المغلي, كم إشتهته بعد أن لسعها الهواء البارد.
ودون أن تلقي نظرة على باقي السوق إتجهت إلى نهايته, تابعت طريقها حتى خرجت من السوق لتفاجئ بيدٍ أحاطت فمها, وبذراعٍ أحاطت خصرها ويد هذه الذراع تُمسك بخنجر وتخفيه أسفل ملاءة بتول.
ميزت رائحته وشعرت بالإطمئنان ولو قليلًا, تمد قدمها لترفس ساقيه مابين ركبتيه ليسقط على الأرض ولشدة تمسكه بها وقعت في حجره ومازال الخنجر مصوبًا نحو بطنها !.
يقف بسرعة وهو يجتذبها, يهمس بهدوء : إذا وعدتيني نتفاهم بالكلام زي البشر من دون صراخ .. راح أرفع إيدي
تهز رأسها بالإيجاب ليرفع يده, تلتفت بغضب وهي تدفعه : كيف تتجرأ وتحط يدك عليّ
بدر : للضرورة أحكام, راح أتوضأ مرة ثانية عموما
تنظر له بحدة ليردف : إذا كانت الحكاية اللي قلتي لي إياها عن نفسك صحيحة .. فهذا يعني مالك مكان تروحيه ..
يُكمل دون تحمل لكتم غضبه : على أساس راح أساعدك توصلين لأهلك وفي المقابل راح تسكرين فمك ؟
بَتول تعقد حاجبيها : لا تستهين فيني .. أنا أعرف أنك كنت تسايرني
بدر يصمت قليلًا ثم يهمس بضيق : والله الحق عليّ اللي ....
تقاطعه بتعالي وهي ترفع سبابتها بتحذير في وجهه : لا تمن, أذكرك أني أنقذتك صباح الأمس.
.
.
.
يقف قرب الباب شبه المفتوح وينظرُ إليها بهدوء, لا يزال يتذكر كيف أنه أمسك بها وهي هاربة ظنًا مِنه أنها لصة, وبعد أن ظن أنها حرة عربية بكلمات سريعة منها عندما فهمت هي الأخرى أنه عربي بسؤالٍ عفوي منه إشتراها من ذلك التاجر حتى يبقيها عنده.
يدخل الغرفة ويتجه إليها بهدوء, بينما كانت تتجاهل النظر إليه وتنظر إلى الجدار عن يسارها.
ما إن وقف أمامها نظرت إليه بعينين محمرتين إثر إحتجاز الدمع بينهما, الهواء الذي يُحيط بجسدي بارد يختلف كليا عن أرض العرب الدافئة تلكْ, وبفقد الأحبة أحاط البرد بفؤادي أيضًا, هل هذا هو ثمنُ الحنينِ إلى الديارْ ؟ هل أعود وأهلي لموطني ليفاجئني بهذا القدر وكأنه يقول لقد هجرتموني سابقًا وهذا المقابل ؟! .. وهذه دمعة ملّت الإلتصاق بالأهداب وهوّت .. وفمي ويدي مقيدان لست بقادرة على مسح هذه الدمعة ولا التحجج بذرة غبارٍ إنحشرت بين جفنيّ.
ينزع القماش من فمها ثم يجلس في الطرف المقابل لها على السرير حيث مسافة لا بأس بها تفصلُ بينها وبينه.
تهمس بنبرة مخنوقة : مساعدتك اللي تلطفت فيها عليّ عشاني عربية .. تقدر تتراجع عنها لما أقولك اللحين أني كذبت عليك حتى تساعدني ؟
بدر بهدوء يستفزها : أعرف أن أصولك هنا, التاجر اللي شريتك منه شرح لي .
الأخرى بحشرجة : مو صحيح .. ملكك لي ماهو صحيح .. أنا قلت لك ألف مرة أني حرة ..
يقاطعها : تمام خلينا نصحح ملكي لك.
ترفع حاجبيها بدهشة وهي تهمس ودمعة أخرى تسقط من عينها : عفوًا ؟
بدر : بشكل آخر, أنا أطلبك لنفسي على سنة الله ورسوله.
تنظر إليه بدهشة للحظاتٍ طويلة قبل أن تهتف : أبدًا!, مستحيل أتزوج مجرم مثلك, من وين طلعت بهالقرار .. ما فكرت أني متزوجة ؟
بدر : بس أنتِ ملك يميني
بَتول بحدة : أنا ماني ملك يمينك أو غيره, قلت لك ملكك غير صحيح, وبما أنك قلت نصححه .. يعني فاهم أنه غلط.
بدر بهدوء : انتِ متزوجة ؟
بَتول بحدة : ما يعنيك
تردف بإستهزاء : وبإختصار .. أنا أرفض عرضك الخيالي بيهزادم (سيدي).
بدر وهو يقف : وأنا أعطيك فرصة تفكرين أكثر من مرة
تراقبه كيف يتجه إلى الباب لتهتف : وين ؟ تعال فك الحبال
يتجاهلها ويخرج لتصرخ متأففة بقهر وهي تضرب ظهرها مرارا بما خلفه, تصرخ بنبرة باكية : أنا ماني لعبة في إيدك وإيد غيرك, فكني إذا صرخت بصوت أعلى راح ألم اللي حولنا عليك
تصرخ : أوووووف ياربي
يعود بعد لحظاتٍ ويتجه إليها ممسكا بسكين ليقطع الحبال الذي عقدها بشدة, يهمس بهدوء وهو يرمي الحبال جانبًا : راح أطلع, إنتبهي تتحركي من مكانك .
تنظر إليه بإستغراب, ماهذه التناقضات؟ .
.
.
.
ظُهرًا ..!
يجلسُ خلف مكتبه مرتديا ملابس النوم الأنيقة, سروال وقميص ذو فتحة واسعة وطويل من نسيج أطلس ذو اللون الأزرق.
تجاوز الخمسون, بعض الشعيرات البيضاء توزعت في شعره الداكن وفي لحيته الكثيفة نوعًا ما, والهالات السوداء المنتشرة أسفل عينيه المعبرة عن قِلة نومه تتنافر مع لون بشرته الأبيض, ومع ذلك لايزال يبدو شابًا.
يمسك بالغليون في يده ويرفع إحدى قدميه ليضعها فوق الكرسي بينما تسكن الأخرى على الأرض, يمسح بيده الأخرى على لحيته وهو ينظر للأوراق الكثيرة المتناثرة فوق المكتب.
يهتف بصوت جهوري وحاد ما إن طُرق الباب : إدخل ..
تدخل فاضلة ويُغلق الباب مِن خلفها, تتجه إليه وتقف أمام المكتب لتنحني إنحناءة بسيطة وهي تمسك بطرفي ثوبها متبعةً آداب تعشق الإلتزام بها.
يهمس بهدوء بعد أن تنهد : تفضلي أمي تفضلي
تتجه إليه لتقف بجانبه وهي تهمس : لا .. ما راح أزعجك أحمد
تنظر لحاله ثم تهتف : أنت مشوش في إيش إبني ؟
أحمد بهدوء : في أولادي .. وفاطمة .. وإنتِ طبعًا
وبخفوت : وهاجَر .. !
ينظر إليها ويود أن يستشف شيئا من تعابير وجهها, تنظر إليه بهدوء وتهمس : هاجر ؟
أحمد : أحيانا أحس أني ظالمها يمه .. وأولادي شايلين عليّ عشان أمهم.
يردف وهو ينظر للمكتب بشرود : أمير يعاتبني بعيونه .. وبدر يكرهني .. حتى جَوْداء تنفر مني.
يزفر ثم يكمل : لكني في الأول إعتذرت كثير كنت أبغاها تظل معي, هي اللي غلطت.
ينظر إليها : يعني أنا ما ظلمتها ...
فاضلة وقبل أن ينهي جملته : لا روحي أحمد, أنت ما ظلمتها.
تردف بحدة : وقسوة قلوب أولادك عليك هاجر سببها, ثق أنها قست قلوبهم على والدهم.
تنظر للأوراق وتهمس : لازم الدماء ترجع إلى مجاريها .. لازم تليّن قلوب أولادك.
ورغم أن آخر جملة نطقتها كانت تخص الحديث التي ستبدأ به الآن هتفت : إترك الموضوع هذا جانبا, قررت إلى مين راح تعطي خاتمك ؟
يترك الغليون ويعتدل في جلوسه, يزفر قبل أن يهتف : أمير
بعد أن كانت تنظر ليده كيف تضع الغليون إنتفضت لإسم أمير ونظرت إليه, تهمس بدهشة : هل أمير ؟
أحمد : أخوتي ما أعتمد عليهم العفو منكْ, ودخيل صغير .. وبدر ما أوثق فيه , أمير الوحيد اللي أعرف أنه مهما شال عليّ ضميره حي .. هو الأدين
بللت شفتيها بإرتباك ثم نظرت إليه : في رأيي .. أولا أنك لازم تسلم الأمور للأكفأ مش للأديّن, أمير وش يفهم من أمور التجارة والإدارة وغيره ؟ ثانيًا حفيدي بدر يصلح يكون قائد .. فضلا على أنه لازم يتعوض .. نصف عمره ضاع بجانب إمرأة لا يرغب بها مقابل رضاك عنه.
أحمد : ودخيل ؟
فاضلة بهدوء وهي تشعر بإقتناعه : بدر ما يرتكب خطأ مثل أنه يحرم أخوه من حقوقه, ورغم هذا إن كان فيه إمكانية لإعطاء دخيل مُلك .. كضمان إليه .
أحمد : كنت عارف إختيارك من الأول, أنتِ تلمحين تفضيلك لبدر يمّه .. حتى أنك ما وضعتِ دخيلْ من من الإختيارات .. مانتي متقبلته هو وأخته للآن صح ؟
فاضلة بإنكار : أبدًا, إعرف أني ما أفضل جميع أولادك على دخيل ورفيدة, أنا أرجح الأفضل لمصلحة العائلة.
.
.
.
تتجول في صالة القبو ولم تنزع ملاءته بعد, تتأمل لوحاته بهدوء.
ترفع الغطاء عن أحد اللوحاتْ, كانت لفتاةٍ يبدو أنها لم تتجاوز العشرين عامًا, من هذه؟
تغطي اللوحة وهي تفكر, كم من التساؤلات التي يجب أن أطرحها ليجيب عليها وكم من التساؤلات التي تبيّن إنعدام منطقية الرجل وكثرة تناقضاته ؟.
تتجه إلى الباب بهدوء وتخرج لتصعدَ إلى الأعلى, تتجه إلى باب المنزل لتجد أنه مازال مكسورًا كما تركته وكأنها دعوة للخروجْ.
تخرج, تتجول في السوق بهدوء وهي تشعر بخطواتٍ من خلفها وتتجاهلها, تتوقف فجأة عن الحراك ثم تتجه إلى أحد البيوت لتقف قرب جداره المتهالك وتنظر لرجلٍ ما, تشد شقي الملاءة على جسمها أكثر وتشد الجزء العلوي من الملاءة لرأسها وكأنها تحاول الإختباء بذلك.
تنظر إليه كيف يقف أمام بائع القماش وكأنه يتناقش معه في أمرٍ أبعد ما يكون عن البيع والشراء.
ربما يسأل عنها ويبحث كالآخرين من عائلتها ؟ ربما وضعه الله في طريقها ليدلها على عائلتها, لكنها تخافه !.
تنظر إليه بتردد, وبينما كانت تفكر هتف صوت مِن خلفها : مين هذا ؟!
.
.
.
تجلس متربعة على أريكة في غرفتها وهي تمسك بكأس ماء ترتشف منه بينِ الدقيقة والأخرى, ويجلس قربها دخيل ويقرأ كتابًا.
يحنُ إلى ضرتي هاجَر رغم مرور تلك السنين ورغم ما إقترفته هاجرْ, يرفع دخيل رأسه ويسبح الله قبل أن يهتف بمعلومة, لتقاطعه بلهجة تشابه لهجة الجدة فاضلة : والدك إختار أمير
يعقد الآخر حاجبيه بإستغراب ويهمس : ما فهمت أمي ؟ إختار أمير عشان إيش ؟
تنظر إليه بهدوء, ترفع حاجبيها بعفوية وهي تضع كأس الماء فوق الطاولة الخشبية الرفيعة ثم تنظر إليه مرة أخرى وتهتف بهدوء : إختاره حتى يسلمه الخاتم, والقصر, وحتى ملابسك اللي ترتديها .
دخيل دون إهتمام كبير : توقعته يختار أخوي بدر.
تنظر إليه بدهشة وتهتف : كيف ؟ وش هالأريحية ؟ من المفترض تسعى حتى يعطيك أنت .. تقول توقعت بدرْ
تهمس بسخرية من حالها وهي تشتت نظرها عن ولدها : وجدتك ترجح بدرْ, تقول لازم يتعوض, وأساسًا أمير عينه ليست في الملك والمال ويُمْكن أن يرجح هو بدر أيضا .. وإن إقتنع والدك .. أول عمل يقوم به بدر هو طردنا من القصر.
دخيلْ دون إهتمام : ما يقدر حتى لو يبغى
يقف بهدوء لتهمس بتعجب : كيف تقدر تكون بهذا البرود ؟!.
يجيب : أمي فاطمة, أحب أذكرك أن الوضع هذا أنتو السبب فيه, أنا لايمكن أعيش حاليًا إلا بلطف من والدي .. وبعد وفاته لا سمح الله .. أنا أعيش برحمة من أخوتي.
تقف بهدوء وهي تنظر إليه وعيناها تنطق بالإعتذار, تهمس : أنا ما أقدر أقدم أي عذر إبني .. لكني رغم هذا أعتذر
يخرج ليتجه نحو جناحه ويدخله بهدوء تاركًا والدته تتبع خطاه بعينيها الحزينتين, يرمي الكتاب بحنق على الأريكة ويرمي بجسده فوق السرير.
يرفعُ جسده ما إن شعر بإغلاق للباب, تتجه من دخلت إليه وتجلس عن يمينه وكأنها تتسائل عن سبب غضبه بعينيها, يهمس بغيظ وعينيه تحمّر وقطرات العرق تتساقط من جبينه : رفيدة هذا مو عدل .. أنا اللي لازم أتعوض .. مايحق لي أي شي .. حتى أكون من ضمن الخيارات بين أخواني مايحق لي .. بدون أي سبب أنا لازم أنلعن طول حياتي لازم ***********
تضع يدها فوق كتفهِ وتهمس : إهدأ دخيل ..
’
دخيلْ , والذي لم يَختار إسمه عبثا وعشوائية وإنما إختاره والده ليصفه بالدخيل كما يظن, إبن لأحمد النجدي من زوجته الثانية وأخٌ لتوأمان وفتاتين, خمسة وعشرين سنة.
رفيدة أخت دخيل الشقيقة, عشرين سنة.
.
.
.
في العصرْ ..
تجلس على أرض الحمام وتضم ساقيها لصدرها وتدفن وجهها في ركبتيها, تشهق وتبكي بإستمرار وفي الخارج يقف الآخر يطرق الباب ويهتف : إطلعي مو زين كذا
من ثم يهمس لنفسه : وش البلا ذا!.
ترفع رأسها وتمسح وجهها بيديها لتسمع صوته : إطلعي يا بنت
تهتف بصوت باكي : كنت عارفة إنك تلحقني .. يكفي كذا إنت إنسان مريض, وش اللي تبيه مني ؟ إتركني في حالي أنا يكفيني همي ..
بدر بهدوء : إطلعي نتفاهمْ
تقف بهدوء وهي تلف حول وجهها الحجاب الذي كان ملقى على كتفيها, تخرج ليشير إليها بالتوجه إلى أحد المفارش البسيطة على الأرض, تجلس ويجلس الآخر في مقابلها وتحد بينه وبينها صينية حوت كأس ماء وفنجان قهوة.
رفع كأس الماء ومده لها لتأخذه وترتشف منه القليل ثم تضعه, يهمس بهدوء : إشربي القهوة
تنظر إليه بإستهزاء : مضياف ما شاء الله كثر الله خيرك
بدر يبتسم : بناءا على الجملة هاذي أنتِ هدأتي
يردف بجدية : إسمعي الكلمتين اللي راح أقولها بدون لا تقاطعيني, أنا أعرف أن طلبي لك يعتبر تسرع .. أعرف انه بعيد عن المنطقية .. لكن ما ودك هالأسر ينتهي ؟ حتى أنا مليت.
تضحك طويلا من دهشتها, تنظر إليه وهي تمسح عينيها من دموع الضحك : أنت تمزح صح ؟
تشير إليه بيدها وتهتف بحنق : أنت من أنت ؟ .. ليه أنا ممكن أقبل أتزوجك ؟ ليه أتزوج شخص أنا ما أعرف إلا إسمه ؟ وش يجبرني ؟
بدر وقبل أن ينطق بكلمته قاطعته : مافيه أي دافع من جهتي حتى أتزوج شخص يحبسني هنا بدون أي حق
بدر بهدوء يهتف وكلامه ذا مغزى : أنتِ أقوى مرة شفتها بحياتي بَتول, بيتي يحتاج زوجة بقوتك.
تعقد حاجبيها وتنظر إليه بهدوء, يردف الآخر : خلاص ..فكري هاليوم في كلامي, وإن أصريتي على رأيك ضلي هِنا حتى نلقى أهلك .. أو روحي لولد عمك, في المقابل م أبغى أحد يعرف باللي سمعتيه
تود لعن اللحظة التي ساقتها أقدامها نحوه , تهمس : أنت خاين.
تُردف وهي تشهد على وجهه علامات الإستنكار : أنت تخون هالدولة, كيف أوثق فيك ؟
بدر : أنا ما أنكر أني ضدها, لكني ما خنتها زي ما تقولين .
يردف ويدرك أنها لاتصدقه : نجد ما تدخل تحت إطار الدولة واللي سمعتيه كان يخصها, هذا يكفيك ؟
تشتت نظرها عنه وتهمس : ما يهمني, أتركني في حالي .. ارحمني !.
قبل المغرِب ..
إجتذبت إحدى الطاولات المنخفضة من الصالة ووضعتها في غرفتها, إستعارت دون علم بدر ورقة وحبر وشمع أحمر, لتجلس خلف الطاولة وتكتب فوق سطح القرطاس ببطء وهدوء ومر وقت ليس بقصير وهي تكتب, أغلقت الرسالة بالشمع الأحمر دون ختمٍ أو ماشابه, لتقف أخيرا وهي تخرج من الغرفة, أعادت الحبر ورمت عود الشمع, وخرجت من القبو لكنها عادت سرعان ما تذكرت أنها يجب أن ترتدي الملاءة.
إرتدتها, وأخفت المكتوب في كم ثوبها ثم خرجت من القبو ومن المنزلِ كله, يقف مرافقي بدر في طريقها والذي كانو سببا لإمساك بدر بها في كل محاولة, حتى أنه تعمد ترك الباب في المحاولة الثانية ليفهم ما إن كان هناك أحد تود مقابلته.
تنظر إليهما بحدة وتهمس : ماذا ؟
يهمس أحدهما لتنظر إليه : مجبرون على مرافقتك إلى المكان الذي تودين الذهاب إليه أو منعك.
تزم شفتيها بغضب وتهمس ناظرةً إلى الأرض : شبيه الرجال, كيف تراجع عن وعده بهالسرعة
ينظران إليها دون فهم لتهتف بهدوء : رافقني
تمشي بهدوء ويقف أحدهما عن يمينها والآخر عن يسارها, تأفف بضيق من وجودهما وتشعر أنها ستختنق من قربهما هذا.
وصلوا بعد وقتٍ قصير للسوق, وقفت قرب أحد البيوت وهي تبحث بعينيها عن جادْ إبنُ عمِها, تتنهد بهدوء عندما لم تجده, تنظر بطرفِ عينيها لمن يقفان خلفها ثم تهمس وهي تنحني للأرض : أوه ..
ينحني أحدهما قليلا ويهمس : ماذا يجري يا سيدة ؟
تهمس بهدوء وهي تحفر في الرمل : وقع قرطي ..
ترمي الرسالة ثم تخفيها بالرمل وملاءتها تمنعهما من رؤية ما يجري, يقف أحدهما أمامها لتهمس بهدوء وهي تثبت قرطها الذي لم يقع أصلا في أذنها : وجدته
تقف بهدوء وتهمس : فلنعُد ..
لمحت شيئا ما من خلفِ كتف المرافق لتدقق النظر وهي تتقدم خطوتين, جاد يجلسُ خلف أحد طاولات الشاي المنعزلة, ينزع عمامته ليضعها فوق الطاولة وهو يشد شعره بيديه بضيق.
تعقد حاجبيها ولا تزال تنظر إليه, تنظر للأرض بهدوء طويل, ثم تتراجع عن تلك الخطوات التي توهمت أنها خطتها إليه وإلتفتت, لتفاجئ ببدر يقف خلفها.
تبتلع ريقها بسبب نظراته الغريبة خشية أن يكون متواجد منذ زمن ولمح دفنها لشيء في الأرض, لكنها إطمأنت ما إن همس : ما راح تروحين ؟
ترفع سواد عينيها للأعلى بتململ ثم تنظر إليه وهي تهمس : أف .. لازم ألتفت وأشوفك وراي ؟
يهمس بإستفزاز لها راجيًا أن تتبعه : أعتقتك .. روحي إذا ودك
تنظر إليه بجمود, غير أنها لو ذهبت فسُتدمر كل شيء حاولت جاهدة لبناءه, كيف يعتقها وهو لم يملكها ؟ .. يلتفت ويمشي لترافقه وهي تهتف بينما تنظر له : أنت كيف تحط عتقي أو إمتلاكي حق لك ؟ أنا ماني جاريتك .. تسمع ؟
بعد مرور ساعتين ..
تجلس على السرير وقرب النافذة ذات الثقوب في غرفتها وهي تنظر لما خلف ثقوب النافذة الزخرفية, كلما نظرت فيها تذكرت أنها تعيش في سردابٍ الآن.
تلف الوشاح الأبيض ما إن فطنت لتواجد بدر, رغم أنها غير مهتمة أو مقتنعة بالحجاب فهي تساير بدر.
تنظر للباب ما إن طُرق, تتنهد, تصمت قليلا ثم تهتف وهي تنظر للنافذة مرة أخرى : تعال بدر
يُفتح الباب وتطل منه فتاة وهي تهتف بإبتسامة جميلة : أقدر أدخل ؟
تلتفت بسرعة ما إن سمعت صوت فتاة, تقفُ بهدوء وهي تهمس بقلق : نعم ؟ مين أنتِ ؟
تدخل وتغلق الباب,تبتلع ريقها وهي تتأمل الغرفة, ثم تنظر لبَتول وتجيب بإبتسامة : جوداء أنا ..
تضم شفتيها قبل أن تردف : يعني .. بدر يكون أخوي
تُلقي نظرة خاطفة على مظهر جوداء, وما يلفتها هي الأقراط التي رغم حجمها الضئيل جدا كانت ملفتة, تنظر في عينيها وتهتف بضحكة : بدر .. اللي هو أخوك .. أرسلك تخطبيني مثلًا ؟
جوداء تصمت قليلا وهي تنظر إليها بجمود وصدمة, بعد لحظات قليلة تلاشت إبتسامتها التي كانت تكشف عن بياض أسنانها, لتبتسم مرة أخرى بمجاملة وهي تهمس : ايه يعني تقدري تقولي كذا
بَتول تبتسم بمثل إبتسامة جوداء : بس أنا قلت له أني لسه أفكر, قدومك كان باكر جدًا.
جوداء بهدوء : اكرميني فنجان قهوة بالأول وبعدها نتكلم.
تخرج بهدوء وهي تغلق الباب لتنظر إليه كيف يجلس خلف إحدى لوحاته, تتجه إلى المطبخ وهي تتمتم قاصدة عرض جوداء شرب القهوة بدل أن تعرض هي وقاصدة لحبس بدر لها بدل مساعدتها : أخذ الأمور بالمقلوب متوراث عندكم
بعد وقتٍ قصير كانتا تجلسان في الغرفة وترتشف كلا منهما كوب القهوة وهي تفكر في الكلام الذي سوف تقوله للأخرى, جوداء تهمس بهدوء وهي تضع فنجان القهوة الذي كان في يدها اليمنى فوق الصحن الذي تواجد في يدها اليسرى : ما أفهم ترددك
بَتول وبأسلوبها الساخر كالعادة تهتف : فعلا يا أختي, جد أنا ليه مترددة المفترض أوافق فورًا حبسه لي سبب كافي يخليني أموت عليه.
جوداء : أنا أقصد من ناحية ظروفك .. أنتِ وحدك وهو في نيته يستر عليك وتستري عليه
بَتول : لا أنا ما أعرف وش نيته
جوداء : ما أمدح فيه لأنه أخوي لكنه فعلا إنسان جيد .. يعني لو غيره وش كان ممكن سوى فيك ؟ أصلا أنتِ لو مو عارفه أنه رجال يخاف الله ما ظليتي عنده وجاهدتي حتى تهربي, أنا واثقة أنه احتجزك عنده لأنه خايف عليك من الناس اللي برا وأنتِ بنت لوحدك .. وبينما كان ناوي ياخذ أجر بحمايتك أظنه مال لك ووده يتزوجك ..
تتمتم : تحليلاتك جدا منطقية !
تبتسم إبتسامة صفراء وهي تشعر بالضيق وتعتبر هذا الاسلوب في الحديث همجية, تهمس : أنا أشوف بدر يستاهل أنك تفكري تتزوجيه قبل لا يطلبك هو
تنظر في عينيها بحدة وتهمس : منظورك يخصك ماني متلهفة لأخوك هالكثر, قولي لي وش ممكن يجذبني له أصلًا ؟
جوداء بهدوء : إنسان مُتعلِم .. محافظ وملتزم .. ويملك ثروة .. إضافة إلى الجاذبية اللي فيه طول وسمار وعرض
بَتول : كلام فارغ, هاذي أحلام التافهات .. مو صفات فارس أحلامي أنا .
تبتلع ريقها وهي تشتت نظرها بدهشة من هذه الوقاحة, تنظر لبَتول ما إن هتفت : بعدين أنا أساسًا مقررة من طفلوتي ما أتزوج أبد, ما أعرف أنام مع أختي على نفس السرير كيف ممكن يشاركني السرير رجال ؟
ترفع حاجبها الأيسر وهي تهمس بخفوت : جد ؟
بتول تهز رأسها بالإيجاب, بينما نظرت تلك لكل شيء ماعدا بتول وهي تفكر.
.
.
.
تدثر في سريرها الوثير بلباس النوم وتقرأ كتابًا, ترفع عينيها بهدوء وتهمس ما إن طُرقَ الباب : تفضل
تدخل وصيفتها المصرية بخطواتٍ هادئة وتتجه إليها, تقف أمامها وتنحني بهدوء ثم تمد ورقة وهي تهمس : من بَتول !
فاضلة تضع الكتاب جانبا بدهشة وهي تأخذ الورقة بإندفاع هاتفة : كنت عارفة إنها ما تخلت .. أساسا بدر قال أنه سيتزوج
تقرأها وصدرها يرتبك بتنفسه, تغلق الورقة وهي تعض شفتها السفلى بنشوة ثم تهمس وهي تنظر بشرود : الله يا كريم ! ..
تنظر للوصيفة وتهمس : إذن حفيدي كان يقصدها صفاء
تهمس الأخرى بإبتسامة : ليه الإندهاش هانم ؟ , إختياركم دائما موفق !
تفتح الورقة مرة أخرى لتنظر إليها وهي تهمس بهدوء : نعم لكننا , ما توقعنا هذه السرعة.
تردف بضيق وهي تنظر إلى صفاء : لكن للأسف صفاء, إختيارنا موفق في البنت الي تتناسب مع أولادي .. لكني حتى الآن ما نجحت في إختيار واحدة تقف بجنبي
تنظر للورقة بهدوء وتهمس : هاجَر خانتنا .. فاطمة أدرات ظهرها في أول فرصة .. هِيفي كذلك .. هل نضعُ بتول عثرة أخرى في طريقي ياترى ؟
صفاء : عارفه هانم .. الجميع يتخلى عنك .. آمل أن تتمكن بتول من دخول القصر .. وتوقف بجانبكم.
تهمس بهدوء : هذه المرة ما نخطأ .. نفعل اللازم حتى نتجنب الخيانات
تشير لها بالإنصراف لتنصرف, تقف بهدوء وتتجه لمكتبها, لتجلس وتعيد قراءة رسالة بتول بهدوء.
بعد وافرٍ من التحايا كتبت :
"لا يخالجنك شك في أني ما زلت ملتزمة بوعودي ولكن ما منعني من إطلاعك على ما يجري هو أن إرسال الرسائل بهذه الطريقة عسير.
إختلف الكثير ولم يسري أي شيء كما تأملنا, لكن على الأقل النتيجة التي تمنيناها لم تتغير, بدر عرض الزواج .. رسالة واحدة لا تكفي للشرح؛ لذلك أطلب منك زيارتي في أقرب وقت . "
.
.
.
.
.
.