لم يستطع أن يُبعد الذهول والصدمة من ملامحه , أخر شي توقعه بين ألف من البشر يحدث لخمسه منهم , وأن يكونوا هم من بين هؤلاء الخمسة , صدمه خطأ طبي فادح من مُستشفى مُهمل ,
..
تراءت على مُخيلته تلك اللحظة بل تلك الليلة الممطرة العاصفة عندما كان بعمر الاثنى عشر سنه وقتها استمرت العاصفة الهوجاء عده أيام على غرب السعودية كانوا يغطون بنوم عميق , وأجفله سماع صوت صُراخ والدته بدأت معها آلام المُخاض التي شهدها ثلاث مرات بحياته نهض بفزع وهو يرا والده يمشي معها بهدوء ويطلب منها التنفس بعمق لم يُقاوم ألم والدته ليلحقهم بمنامته القطنية صعد للسيارة ويرى والدته تتألم بشده ووالده يشعر بالارتباك والتوتر ليقف عند أول مشفى حكومي بسيط بطريقه وعلى قدر حالهم ذلك الوقت وهُناك حدث ما حدث من إهمالهم .
..
أجفله عن أفكاره وذكرياته صوت زوجته وأم طفليه هامسة باسمه باستغراب نظر لها من الأسفل للأعلى , برموده جينز مُهترئ بلوزه قصيرة بهتت ألوانها من الغسيل تُظهر تشققات بطنها ووركها الغائر , ترفع شعرها بمشبك كبير بطريقه مملة عشوائية , وجهها خالي من مساحيق التجميل , والهالات السوداء تُغطي أسفل عينيها
همهم بكلمات غير مفهومه ليتوجه لغرفه الجلوس ويستقر على الأريكة , ندم كثيراً على إخبارها لكي تأتي فلقد كان مرتاح بعدم وجودها لشهرين عند أهلها , يشتاق لمعاشرتها ولكن لا نفسيتها المُملة ولا هدوءها ولا شكلها يُساعده على ذلك , تطلع إليها بملامح عاديه , عبست ملامحها بحيرة
سيدرا : وش فيك حبيبي تعبان
كتم ضحكه كادت تخرج من بين شفتيه على لفظها التحببي , تنهد بملل وضجر : ما فيني شي عادي بس أرجوان ما طلعت أختي
وضعت كفها الناعم على فاهها وظهرت غضنه على جبينها
: كيف يعني مو أختك
برم شفتيه ونظر لها : يعني بدلوها مع بنت ثانيه بالمستشفى وهي موب أختي الحقيقية بس أختي من الرضاع , وضع رأسه بين راحتيه وأسند كوعيه على فخذيه رادفاً , الحمدلله أنه أمي رضعتها
زمت شفتيها بذهول وصمتت لا تعرف ماذا تقول فهم بحاله حرجه جداً ليأتي على بالها سؤال
: يعني أكيد بتدوروا بنتكم بس إذا لقيتوها بتعطوا أرجوان لأهلها
نظر لها بحده وهو لا يحتمل حتى رائحتها قائلاً بغضب
: أنا مالي أخت غير أرجوان وبس
عادت بجسدها للخلف بخوف من غضبه , لتنهض وترى أطفالها وعلى وجهها ملامح الحزن العتيق من تغيره معها فهي تحتاجه ولكنها عليها أن تبتعد , ضرب قبضته براحه كفه من حياته الضجرة , يستحق ما يقوله والده عن حياته ذو الفجوة العميقة , غبية الجميع يلاحظ إلا هي المُغفلة
***
تجلس على الأريكة ويستقر الحاسوب على حِجرها , جسدها يرجف بعنف , وعقلها ليس بالحاسوب , لم تتخيل يوماً أن والدها كان متزوج والأدهى أنه لديه أبنه أي أخت , غابت عنهم لسنوات وعندما تأتي إلى هُنا ستكون هي المُدللة وينتهي أمرها هنا , كم كانت تتمنى أختاً لها ولكن لا وألف لا , تسللت نظراتها لوالدتها التي تكمش جسدها على الأريكة بحزن لا يُغادر وجهها , تألمت كثيراً لحالها ولامت والدها كثيراً , كشرت عن براثنها من الآن لإخراج تلك الدخيلة عليهم قبل أن تدخل فهي لن تسمح بأي شي يمس مشاعر والدتها , سمعت همس جنتها مع عمتها
رشا بابتسامه ناعمة : كنت أنتظر لسنوات يحبني أدري انه حالنا يتحسن وأحسن من غيرنا بس أدري عبدالكريم ما عمره حبني كان يحترمني ويقدرني وبينا مودة بس مشاعره مو لي
عبست يارا ملامحها بحزن رقيق يليق بوجهها : حبيبتي أنتِ ما عليه يا قلبي والله ما رح تجي هالبنت وتكسرك رح أسوي الأقدر عليه وما أخيلها تسكن هنا
تطلعت لها رشا بهلع : لا والله ما تسوين شي خليها تجي حرام غابت عن أهلها عشرين سنه متخيله هالمده وكيف عاملوها العائلة الساكنة معهم ويمكن قسو عليها بالعكس رح أفرح إذا انبسط عبدالكريم
تنهدت يارا بعمق وهي غير راضيه , ستأتي وتُفسد نظام حياتهم , انتبهت لابنتها تُشاكس غزلان , نغزت بيلسان خاصرة غزلان بابتسامه قائله بنعومة كوالدتها
بطفوليه مُحببة :هبلونه الله وناسه بصير عندك أخت يا حظك
لوت غزلان شفتيها بغضب من كلامها : أقول اذلفي عني يا البزر أنا ما عندي أخت مالي غير أخ وهو عاصم بس
هزت يارا رأسها بعتاب لغزلان فهي لا ترضى على طفلتها الصغيرة أبداً , باغتهم دخول ذياب , لتهلي به يارا وترحب فهي حياتها كلها ولديها , ذياب وبيلسان , قبل ظاهر كف والدته وألقى السلام باحترام وسحب كف والدته
,
في أحد غرف القصر تطلعت له يارا بملامح مُتعجبة , ترى ثورته وغضبه خلال عينيه , غضب قديم كأنه بدأ يعود للحياة , مهما حاول إخفاءه عنها لا يستطيع , ولكن يستطيع إخفاءه عن الجميع , يملك حده عيني والده مثله تماماً يُشبه بكل شي , حركه كفيه المُشبكين خلف ظهره , تنهداته السريعة , كفه التي تتغلغل بأعماق شعره , تلك الشُعلة الغامضة التي تضئ حدقتيه البنية القاتمة , كأنها ترى ماهر أمامها , لماذا تشبهه هو يا ولدي ألم تجد غيره لتشبهه وتذكرني به , همست أخيراً بعد طول انتظار
: ذياب وش فيك يمه ليه معصب
تطلع لها بنظرات , رعشه سرت بجسدها من شعله حدقتيه , لتُطرب أذنها نغمات صوته الخشن بحده مُحاولاً عدم رفع صوته
: شلون مات أبوي
تنهدت بعمق , أما زال لا يسأم من طرح هذا السؤال , ظنت أنها تجاوزت هذه الأزمة منذ زمن , وقد ظنت الأمر أكبر من ذلك لتقول بهدوء
: قد قلتلك وأنت صغير ما تتذكر مات بسريره سكته قلبيه
عض باطن شفته السفلى , بل إنه يتذكر ويتذكر جيداً , وكأنه عاش هذا اليوم بالأمس , لتعود لذاكرته تلك الليلة عندما كان عمره عشر سنوات
..
كان طفل صغير يشهد شجارات والديه المُتكررة ولا يعلم السبب اختفى والده فجأة , وذات ليله كان يستلقي بسريره في قصر خاله , دخلت عليه والدته لتُغطيه باللحاف ليسألها بطفوليه
ذياب : ماما وين راح بابا تأخر
ابتسمت له ابتسامه لم يستطع تفسيرها بوقتها , لكنه يتيقن الآن أنها ابتسامه كره وحقد : بابا سافر بعيد ما رح يرجع
مد شفتيه الصغيرة ليسأل ببرائة : ليه ما رح يرجع
أصبح هذا السؤال يتكرر كل يوم لتخبره وقد ملت منه ومن طفوليته أنه قد مات بحادث سيارة
..
خرج من غمره ذكرياته على صوتها : يمه فيك شي مو طبيعي أنت من كم أسبوع
رمش بعينيه بحركات سريعة مُحاولاً تمالك نفسه : ما فيني شي يمه بس عشان توني ما تعودت على الشغل بالشركة
لا يمكن أن تكون والدته السبب أيضاً , سيُجن لو كان ذلك صحيحاً لديه ثلاث خيارات وقد احتار كثيراً , مات بحادث , مات بسكتة قلبية , مات مُنتحراً , أصبح يعلم أن خاله له يد بما حدث ولكن ماذا فعل له عليه أن يُقابل ذلك الموظف ويسأله بنفسه , لقد أصبح مُحققاً في القوات الأمنية الخاصة , فقط ليجد تفاصيل موت والده التي لا يعلم عنها شيئاً حتى الآن وبدأت الصورة تتوضح له تدريجياً ولكنها مُبعثره , وسيركب هذه البعثرة بنفسه , مَثّل ببراعة على خاله أنه يُريد ترك الشُرطة وبحثه عن عمل ليعمل بشركته و يستقر , وقد نجح بالخطوة الأولى و استقبله خاله بكل رحابه صدر, عمله بالشركه ظاهري فقط ليكون قريباً منه , ويستقصي ما يستطيع من معلومات , فوالده كان يعمل مع خاله , وقد بدأ حديثاً العمل عند خاله , وظن الجميع أنه ترك الشرطة
***