المنتدى :
ارشيف خاص بالقصص غير المكتمله
موت المآقي [ مذكرات طبيب حرب ]
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
مساء الطاعه
كتبت منذ زمن
[ عندما تسكن الأخلاق أقلامنا و يسكت الحياء جنوننا حينها فقط نفخر بأحرف كلماتنا ]
موت المآقي
[ مذكرات طبيب حرب ]
ليس لأحد أن يدرك
ماذا يعني طبيب حرب؟!
طبيب حرب
بين الركام و أنقاض المنازل ..
طبيب حرب
يلتحف أزيز السماء
و يفترش دخان الأرض ..
طبيب حرب
شاهد عيان
لأوجاع البشر ..
طبيب حرب
باتت كفاه تدرك طريقهما
وهو بعد
لم يكتب في هويته
طبيب
بل كتبت الحياة أنه
طبيب حرب ..
( الأول )
لن تعي يوما وجع الحرب
حتى تستطعم
علقمها
و مرارة الحياة تحت سقفها ..
رذاذ مطر و أرض بيضاء ، بقايا منازل و حطام زجاج ، صمت مرعب يقتله أزيز الطائرات و صوت الانفجارات ، و أنا تقتل روحي كل لحظة و ثانيه ، أقف في مكاني هذا أرقب الموت من حولي بالثواني ، أشعر أن كل شيء من حولي بات رماديا باهتا ، تنهدت بعمق و أنا أتقدم بخطوات بسيطه أرهف السمع و أدير رأسي لأبصر المكان بكامل بعده ، أرتكز على عكازة يساريه ، لأعاود الجلوس في مكان أنتظر جريحا اعتدت على تطبيبه كل يوم ، لا ليس جريحا واحدا بل العشرات وأنا من كل هذا ، أمارس حياة طبيب لم يتم عامه السادس الطبي ، فالحياة كفيلة بأن أتمت عامي العاشر بين زناجير الدبابات و قصف الطائرات ، بين بشر يموتون بين يدي و آخرون يتنفسون الحياة ، أما عائلتي فلا علم لي بها سوى أنها ما بين مجاهد و شريد و لاجئ غيبته الملاجئ و المحيطات ..
غسااان .
أيها الطبيب غساان .
قبل أن ألتفت برأسي لذاك المنادي ، استشعرت أنفاسه اللاهثة بقربي ، لأرفع أنظاري له و ملامح خوف تسكنها ، كفه اليسرى تمسد صدره و تحاول اسكات ضربات كالخيل الجموح ، أما يده اليمنى فهي قد امتدت مشيرة إلى اتجاه ما ، و يحاول التقاط حروفه المبعثره التي لم أسمع منها سوى رصاص و قلب .
خمس ساعات من الرعب الطبي و كانت أقصى ما مررت فيه حتى يومي هذا ، قص آخر خيط بهذه العمليه الناجحه إن شاء الله و لساني يلهج بالحمد و الثناء للإله الذي ربط على قلبي و اسكن الرعب الذي يبثه في كل مره خبر مصاب سيكون تحت يدي .
ليث .. جاء صوتي مرهقا ليسبقني بكفه التي أمسكت بذراعي قائلا : أنت تعب لأساعدك
لأجيب ب : جزاك الله خير
أسير ببطأ ، فأنا أكاد أن أفقد الشعور بقدمي ، لذا تركت ثقلي يسقط على رفيقي حتى وصلنا لغرفة في آخر الممر على الجانب الأيمن لأنقل اعتمادي لعكازي متحدثا : سلمت يا ليث
ليتركني معاودا لغرفة الجراحه ، لأتمم خطواتي وما إن تجاوزت الباب حتى أغلقته ، حقيقه المكان لم يكن غرفه بل مجرد بقايا ، فالمساحه كانت متران عرضا و ثلاث أمتار طولا أما البقيه من المساحه فقد التهمتها الأحجار التي لم تكن هنا قبيل يومان حين أطلق رجل أرعن الفكر قذيفة و كأنه يريد ارهابنا أن أنا هنا و أدرك أنكم تطببون الجرح ، حقيقه لم أهتم فقد كنت في هذا المكان و لم يصبني شدخ ، فأنا أدرك أن ملك الموت لن يتخطفنى حتى يأذن الله له فلم الخوف ، الموت قد يأتي بغته ، فالأولى أن أفكر بكيف سألقى ربي ، لا بكيف سيكون موتي ولا بمتى أموت ، فأنا أصارع الموت يوميا على سرير الجراحه ، ألهج بالدعاء لمرضاي ( يارب إن كانت الحياة خيرا له فهبها له و إن كان الموت راحة له فهبه له و أنت عالم الغيب و الشهاده ) ، خطوت خطوتات لأمد كفي اليمنى مستندا على الحائط و ببطئ أجلس على الأرض أمدد قدماي واضعا عكازي يساري ، استرخيت *و أنا أسند رأسي للخلف رافعا بصري للسماء نعم للسماء لم أنتم مستغربون فهذه الغرفه لا سقف لها سوى الزاويه اليمنى بامتداد قصير وضعت تحته فراشي البسيط المكون من بضعة لحف يجمعها شرشف ليجعلها صالحة للنوم عليها و هناك مخدة أظن أنها كانت في السابق لطفل و مجموعة لحف صغيره استطعت خياطة أطرافها ببعضها البعض ليتكون لي لحاف لا بأس بحجمه و الحمدلله على كل حال ، اليوم نسيم عليل و القمر برز بين طيات السحب رغم النهار ، وأنا أرسم ابتسامتي استذكر ذكرياتي ..
غساااان
صوت ينادي باسمي سلب أحقيتي بالمغادرة إلى عالم صار في غياهب الماضي ، الصرخه لم تتكرر وهذا يعني عاصفة قادمه ، تنهدت بعمق وأنا أحوقل و أدعو الله في خلدي ألا يكون الأمر كمصيبه الأسبوع الماضي ، نهضت متوكأ على الجدار ، ساحبا معي عكازي ، مديرا ظهري لليمين أتمم خطوتي شطر الباب الذي قبيل الثانيه ، فتح على مصراعيه لأبصر روع يسكن ملامح أسامه ذاك الفتى الذي كان يوما ما لا يدعى إلا بمدلل آل زيد ، صارخا في وجهي برعب : لقد عادوا لقد عادوا
اختتمت جملته و أنا أسمع صراخ المرضى و صوت زجاج يتحطم و أشياء تتكسر .
اللهم أعني اللهم ألهمني .. أهمس بها و أنا أحث الخطى بصعوبه باتجاه الصوت ، لأقف مراقبا للذين التصقوا بالجدار بخوف يسكنهم و وهن يكسوهم ، ليقترب مني ليث و بهمس حدثني : قل أنك لم تخرج جميع الأدويه*
لأرفع سبابتي واضعا إياها على فاهي و كأنني أأمره بالتزام السكوت .
أبصر أولئك الرعاع ، ضحكاتهم و جنونهم ، متعمدين إثارتنا ، تشتد قبضتي و أنا أحارب انفجاري و أحاول كبح جماح غضبي ، راغما نفسي على التزام الهدوء و السكينه و في داخلي موج قد يجرف كل شيء و يرديني ومن معي أسفل سافلين ، لذا كان لزاما علي أن أبتلع قهري و وجعي ، علني أخرج مما يحدث حولي بأقل الخسائر ، كنت أتابعهم و أرتعب و أنا أشاهد زجاج الأدوية محطما يسيل منه سائل يحمل بين طياته حياة بإذن الله ، لكن الخوف كل الخوف أن يقوم أحدهم بحركة غل و حقد .
نظراتي تتبع خطواتهم و سجائرهم التي يطوحون بها بين كفوفهم ، رعبا بأن تلقى على أرض باتت مرتعا للأدويه المنسكبه ، فتتفاعل النار مع مكوناتها لتندلع ألسنة اللهب تأكل ما يأتي في دربها دون تردد ، لأتنفس الصعداء بتراجعهم حتى خروجهم من المكان ، و انحسار أصواتهم حتى اختفت .
حثثت خطواتي لأرى خسائر تركوها خلفهم ، يظنون أن القوة كل القوه ، بإرهابنا و زرع الوهن في روحنا و الخوف في مآقينا ، غير مدركين أنهم يهدوننا دروسا ، ننتظر فقط الوقت المناسب لتطبيقها .*
عاد الجميع لأماكنهم ، المرضي يعجلون برحيلهم ، و العاملين يعيدون للمكان روحه ، بتنظيفه و إعادة كل شيء لمكانه ، أما أنا و ليث فقد دخلنا لغرفة العمليات نحصد الخسائر التي كانت معدومه ، فقد اتضح لي أنهم لم ينتبهوا للباب الذي يقع على الزاويه و يوصلهم لها ، فقط هم عاثوا فسادا بغرفة الأدوية التي و لله الحمد الذي أوحى لأسامة بالأمس أن ينبهني ألا نكثر من وضع الأدوية سوى القليل منها ، تجنبا لما حدث بالأسبوع الماضي ، و انصعت لرأيه الذي لم يسمعه ليث .
هدأ المكان و بات الظلام يتناثر في الممر و الغرف ، حتى استوطنهم سوى بضعة إنارات ما بين شموع و قناديل يدويه ، جادت بها الخاله أم أسامه ، تلك السيده العظيمه التي أهدانا إياها الإله في أحلك ظروفنا .
بعد أن اطمأننت على أحوال من تبقى من المرضى ، ابتسمت لشيء نسيناه في خضم الغوغاء التي حدثت في نهاية هذا النهار ، فيممت وجهي شطر الباب متجاوزا المدخل ثم مكملا خطواتي لليمين لأدور حول المبني حتى نهاية جداره الأيمن ، أرقب كومة بناء و باب حديدي وضع بشكل لن يوحي لأحد أن هنا بشر يسكنون المكان ، تلفت ذات اليمين و اليسار مطمئنا ألا أحد هنا ، لأقطع الدرب القصير بخفه استشعرتها بروحي رغم ألم قدمي ، خطوات بسيطه أوصلتني لمرادي حين تجاوزت الجدار المائل لأميل يمينا ما بينه و الباب الحديدي رافعا صوتي بعض الشيء بعد طرقي له : يا عم أمجد إنه أنا
و قبل أن أقول شيئا داهمني طوفان ممزوج بضحكات كادت ترديني أرضا إلا أنني ابتسمت و أنا أخفض رأسي لأبصر مآقي تسبح السماء فيها و خصل كذهب القمح ، امتدت كفي اليمنى تقرص وجنتها اليمنى و رأسي ينخفض لأقبل هامتها قائلا : أهلا بالأميره
ليباغتني صوت تزحف الرجولة على أهدابه : أهلا غسان
لألتفت بمحيا مرتاح القسمات : أهلا بك أمير
ليتداخل مع صوتي صوت سكنت الحياة فيه و عاث الزمان به بأهواله و أتراحه قائلا : حياك يا بني
اجتمعنا نحن الثلاثه برابعتنا أميرتي الصغيره ، طفلة أفقدتها الحرب تغريدها و يتمتها سوى أخ يدفع روحه حماية لها ، ليكون العم أمجد الرجل الذي آواهم حين وجدهم من بين جماعات تركت ديارها خوفا مما هو قادم لأرضهم ، أذكر جدا حين حكى لي حالهم و كيف أنه لم يستطع أن يتركهم حين علم أنهم لوحدهم ، كانوا للتو أطفالا ، حفر الخوف على ملامحهم و ماتت الحياة في مآقيهم ، أمير قد تمسك بأخته مرتعب ، يخاف الضياع و الفراق ، و ظل لفترة طويله لا يسمح بغيابها عن ناظريه ، أو حتى ابتعادها عنه ، فهو حتى حين علم أن العم أمجد رفيق قديم لجده إلا أنه لم يطمئن له ، فمازال في نظره في طور الاختبار ، أهو يستحق الثقة أم لا ؟! ، حتى اطمأن له و بات يأتمنه على أخته ، انتبهت لأمير يحادثني : كنت أراقب المكان من بعيد ، لم يهدأ لي بال حتى طمأنني أسامه أن الأمر انتهى بأقل الخسائر
هززت رأسي موافقا لحديثه : نعم الحمدلله ، انتهى الأمر على خير ، كانت خسائر طفيفه نسبة لخسائر الأسبوع الماضي
حمدا لله .. جاد بها العم أمجد و هو يناولني شرابا عشبيا لذيذا ، فقد كان يمتلك فيما مضى ، محلا للأعشاب التي يقوم هو بزرع بعضا منها و بجلب الآخر من الغابات و الجبال التي تكثر فيها ، كان محبا لعالم النبات ، باحثا عن فوائدها ، خاصة تلك التي تتكاثر في الغابات و الجبال و الوديان ، و قبل أن أرتشف منه ، انتبهت لأميرة الذهب ، لقب أطلقته على أميره في لحظة لعب طفولي أجبرتني فيه على النزول لعالمها ، لأرى بريق مآقيها و قفزاتها بملامح فرحه ، لهذا اللقب الذي منذ تلك اللحظه أصبحت أناديها به ، ابتسمت حينها لابتسامتها و نظراتها المترقبه ، ليقول لي العم أمجد : أميره أصبحت بارعه في عالم الأعشاب ، هي اليوم من اختارت شرابنا و قامت بنفسها بتحضيره ، هيا تذوقه و أعطنا رأيك .
أرتشف عدة رشفات ، و أقلب نظراتي يمنة و يسره حتى لاحت ابتسامتي دليل اعجابي ، حينها قفزت تعانق أخاها فرحا بنجاح أول تجربة لها ، أحاديث متنوعه خضناها بصوت منخفض ، شيء من الأخبار التي يأتي بها أمير من مصدر لا علم لنا به ، لكنه موثوق ، فحتى الآن لم نرى شيئا خلاف ما يصل إلينا عبره ، أما العم أمجد هذا الرجل الطيب فقد كان جالسا في آخر المساحة التي يمكن أن أطلق عليها حديقة داخليه ، فالزرع يتناثر بشكل غريب ، ينبت من بين الحجر ، و تلك الفتحات المختلفة في أماكنها و اتساعها كافيه لترسل خيوط الشمس فتستسقي منه الوريقات الخضراء حاجتها ، أما الماء فقد كان العم له طرقه الخاصه بتوفيره .
آيات عذبه تتلو على مسامعنا ، ترسلنا لعالم قصصي جميل ، سورة يوسف ، سورة عشقت سماعها خاصة بصوت القارئ مشاري العفاسي ، حين يأخذوني على حين غفلة مني لتلك الآي ، أنغمس في دروسها و عبرها ، أستسقي مبادئ منها و أنهل أعاجيب القصص ، التي قد لربما تلقي بي الحياة بشيء منها ، و لما لا فقد كانت لي حكاية مع صديق غيبته الحياة عني و اسمه يوسف .
انتبهت على توقف الصوت ، فاستعدلت بجلستي ، مخفضا رأسي الذي كنت أسندته للجدار و رافعا إياه للأعلى و مغمضا مقلتاي ، لألتفت باتجاه العم قائلا : مالأمر يا عم ؟
هدوء عم المكان ، و كأننا نصغي لشيء لا ندري ما هو ، ليجيب بصوته العميق : عد للمشفى يا فتى ، لا أحبذ عودتك بين خيوط الظلام و هدوء الحياة .
هززت رأسي موافقا له ، لأقف مستندا للحائط و أمير يبتسم لي رافعا عكازي ، همست له بالشكر و أنا أرقب ذهبيتي التي غطت في نوم أدعو الله أن يكون هانئا لا يعكر صفوه شيء ، ألقيت السلام و قد جاورني العم ، تتبعني نظراته حتى غبت عند الزاويه ، و قبيل أن يخطو خطوة واحده للخلف ، كان هدير رصاص قاتل ، أطار أجسادا كانت في مرمى بصر العم أمجد .
إنها البداية فقط
أرض عمرتها الحرب بالخراب
و قطعت أوصال الحياة
تشتت الأهل
و تفرق الولد
فما عادت الديار هي الديار
و لا الحياة هي الحياة
كل شيء بات باهتا لا روح فيه ..
.
.
.
.
.
لا تسألوا عن شيء ، فأنا مجرد إنسان نذر روحه لعمله ، يبكي قلبه ليل نهار ، بلا عبرات فقط صياح روح مخنوقه ، تتلمس الضياء في خضم الحياة الداميه المريعه ..
شيء من القادم البعيد
جراح .. جاء صوت عمر مناديا لي ، لأتنهد بعمق و أحاول أن أستل الثبات بنبرة صوتي : لم يجدوه ، بحثوا كثيرا و لم يصلوا لشيء يرضيني ، أنا أستشعر وجوده صدقني ، أشعر به هو مازال حيا لم يمت ، إنني أفكر جديا أن أكون ضمن البعثه الطبيه ضمن ح...
قطعت كلمتي بصرخة مكتومه ندت عن عمر : جراااح إياك ثم إياك أن تفعلها و تفجع قلب أهلك بك ، لن أسمح لك أبدا ، إلا أن يوافق والداك ، أتدري ماذا يعني أن تسافر من الكويت حتى تركيا لتدخل سوريا ؟! ، إنها حرب يا صاح أتدرك ماذا يعني أن ترتحل لأرض حرب ؟! أتدرك ذلك ؟! دع عنك هذا الجنون ، سنعمل جاهدين للبحث عنه ، علنا نصل إليه .
العذوب
|