.. لن أرتدي سوى الأبيض ..
بقلمي : عذاري
منذ أن توفي والدي - منذ ٣ أيام - و السماء لم تتوقف عن الإِمطار , و كأنها قررت مشاركتي الدموع في أوجِ أيام العزاء ..
توقفت في منتصف مطبخي الصغير و الذي يتوسط هذا الكوخ الخشبي , و وضعت بعض الماء الساخن في الإبريق و تركته يغلي على الفرن ، الذي يبدو بأنه سيوضع في مزاد علني للتحف الفنية القيّمة ; نظرًا لامتلائه بالألوان الناتجة عن الاحتراق و الانسكاب المتكرر لكل شي أطهوه تقريبًا , فأنا لازلت في السادسة عشر و لم أرِث من أمي - رحمها الله - فن الطهي ! .
تركت الإبريق فوق تلك الشعلة الصغيرة و استغرقت في النوم واضعةً رأسي على تلك المنضدة الخشبية التي تحمل آنيةً زجاجية مملوءة بالزهور البرية الأرجوانية , زهورٌ اقتطفها والدي المرحوم قبيل وفاته بساعات .
لم تذبُل أسرة الزهور تلك بالرغم من مرور عدة أيامٍ عليها ، و كأنها تعِدني بأن تزوّدني بذكرى أبي ما بقِيت حيّة !
نِمت و أنا أحلم بوالدي , و أحلم بأنه قرر أخيرًا بعد ١٠ سنوات أن يضع رأسي في حُجُرِه و يروي لي قصةَ ليلى التي قيل بأنها حدثت في الغابة التي تُجَاوِر غابتنا , و لكنّي استيقظت بضيق على صوت صفير الإبريق الذي يبدو بأن الماء فيه سينسكب للمرة الألف على الفرن مُحدِثًا بقعة صدأ ستزيد من قيمته في المزاد !.
أطفأت النار و بدأ باحتساء الماء الساخن مع القليل من السكر فقط , و عادت بي الذكرى إلى والدي .
منذ ١٠ سنوات و هو يتصرف بغرابة ، منذ ١٠ سنوات وهو يعاني من نوبات غريبة , فيقف بالقرب من الباب و يسألني برعب : من أنتِ ؟! , و في كل مرة كنت أضحك على تلك النوبة - التي حسبتها تمثيلًا - و أردُ قائلة : أبي توقف عن ذلك , إنه يبدو حقيقيًا للغاية ! , و لكنه لم يكن ليستمع إليّ , و يذهب للجلوس على إحدى الكراسي الخشبية و هو يحدق في الأرجاء و سرعان ما يستعيدُ صوابه .
و يومًا بعد يوم , و عامًا بعد عام , كان وضعه يزداد سوءً , و لكني كنت صغيرة , فظننت أن تمثيله يزداد جديّةً و براعة , فقد كان يسألني عمّن أكون و يظل على تلك الحالة و ذاك السؤال المعلّق لأيام ..!
و لكن قبل ٣ سنوات تقريبًا , استوعبت بأنه جادٌ في سؤاله و تصرفه , فذاك اليوم لم أُجِب عن سؤاله سوى بضِحكة , فدفعني بقوة على الأرضية محذرًا إياي من الاقتراب منه ; مدعيًا بأنّي سارقة و سآخذ كل ما يملك و أهرب ! .
منذ تلك الحادثة المشئومة و أنا أعيش في ظلامٍ داخل ظلام , ظلام الغابة السوداء ، ظلام كوخنا المُعتِم و الظلام الذي بدأ يكتسي وجه أبي ! .
لم أعد قادرة على تحمل الوضع , فقبل أسبوع لجَئتُ إلى القُرى المجاورة لنا , و قد سمعت بوجود شخص يدعى : طبيب .
سألت السكان عمّا يفعله هذا الرجل بالضبط , فصرخوا قائلين : إنه كالسحر تمامًا ، يزيل المرض و يجبُر الكَسر و يشفي المعتلّ , التقطت الكلمة الأخيرة ( معتلّ ) و أنا اتجه نحوه قائلة : سيدي ، أظن بأن الحنان في والدي معتلّ , أيمكنك شفاؤه ؟ , نظر إلي بشفقة و إلى وشاحي الممزق و هو يقول : خُذيني إليه .
ذهبنا سويًة و أنا أخبره عن أبرز ما كان يفعله والدي طيلة السنين الماضية ، و ما أن رأى الطبيب والدي حتى قال لي : أيتها الصغيرة , إن والدك يعاني من ألزهايمر ! , علينا أخذه إلى المصحة .
لم أفهم عمّا كان يتحدث ! , و لا عن معنى ألزهايمر أو المصحة , و لكنّي أجبته بما اعتدت أن أسمعه من والدتي : لا نملك المال الكافي لفِعل ذلك .
هز رأسه بتفهُم قائلًا : لا عليكِ سأُرسل بطلب بعض الممرضين ليعتنوا به في منزله , قد يستغرق وصولهم أسبوع .
لم أعي معنى ممرضين و لكنها كلمةٌ قريبة لكلِمةِ : مرض , و أنهم أشخاص يزيلون المرض على ما يبدو .
مرّ أسبوع و أبي على حاله حتى أتى ذاك اليوم الذي خرج فيه من الكوخ بعدما تشبعت الأرض و الهواء من رائحة المطر , توجه نحو إحدى الصخور و هو يحدق خلفها و يمد يده مقتطفًا حزمة من الزهور الجميلة , التفت إلي قائلًا : عزيزتي , ضعيها في آنية على منضدة المطبخ .
توجهت إليه بخوف و أنا أمد يدي إلى يده لأخذ الزهور , و لكنه امسك بيدي الصغيرة و قبّلها قائلًا : ما أجملك !
ابتسم و امسك بيدي و عدنا إلى ذاك الكوخ الصغير . استلقى هو على فراشه و أنا ذهبت للاعتناء بالزهور . ظللت أحدق بها لساعتين تقريبًا حين سمعت صوت أبي مُناديًا : ليلى ، تعالي إلى هنا .
توجهت إليه و الدموع تملأ عيناي , لقد بدأ بتذكري أخيرًا !
جلست بجانبه و قد بدا وجهه شاحبًا جدًا , قال لي و هو يمسح على خدي : أتعلمين لماذا لم أحكي لكِ قصة ليلى قط ؟
هززت رأسي بالنفي ، فأكمل قائلًا : لأن تلك القصة تعرضت للكثير من التحريف , وهي ليست مسلّية كما تظنين , فالذئب لم يأكل الجدة أبدًا , و لكنه أكل والدتك ! . لم أكن أريدك بأن تحلمي بذلك أثناء نومك و تتوقفي عن التجول في الغابة كعادتك , هل فهمتي الآن ؟! .
ظللنا نحدق في أعين بعضنا البعض و نتشارك حديث العيون , ذاك الحديث الذي لا يتخلله كذبٌ أبدًا .
نمت بجانبه بشعورٍ لم يباغتني من قبل , و لكن هو كان قد نام إلى الأبد !
صحوت من تلك الذكريات و أنا أحدق في فستاني الأبيض , و أتذكر حديثي مع ذاك الطبيب بعد الدفن . سألته بعد فوات الأوان : ماذا يعني ألزهايمر ؟ , كيف يبدو الوضع ؟
فهمس لي بمواساة : لا أعلم .. و لكن الأمر أقرب بأن لا تتذكري شيئًا أبدًا , و كأنك تحدقين في بياضٍ طوال عمرك ! .
منذ أن قال لي ذلك , و أنا لا أرتدي سوى فساتيني البيضاء فقط , طالما هو اللون الذي سيتمكن أبي من رؤيتي خلاله ..
.. أسعدوني بتعليقاتكم ..