كاتب الموضوع :
نها عبدالخالق العرجا
المنتدى :
القصص المهجورة والغير مكتملة
رد: روايتي الثانية: آهات عزفت على أوتار الألم/ بقلمــــي
وفي أحد المستشفيات الواقعة في حي الرمال بمدينة غزة
نظر الى ما حوله بوهن، سنواته تعدت الثمانين وما بقي بالعمر الا القليل، شعر بيد تحتضن يده ومن غيرها متأكد أنها زوجته سعاد، انها تذكره بتلك، لها نفس الملامح العيون والبشرة البيضاء والشفتين التي بلون الكرز وحتى الشامة التي في خدها الأيمن نفسها، ًعشر سنوات افتقدها، لم يتوقعها أن تفعل ما فعلت، فهي المدللة التي تطيعه في كل شيء، ولكنه لم يعلم أن الأم من أجل أولادها تضحي بأي شيء ولو كان روحها، قبلة على الجبين أيقظته من أفكاره العقيمة: الحمدالله على السلامة يا جدي شكلك بتدلع مشان تشوف غلاتك عند جدتي
تأوه بألم وهو يمسك كتفه: جدة حرام عليك ليه بتضربيني انتى عارفة اني حساس
ابتسمت الجدة على كلمات حفيدها، انه أقرب أحفادها الى قلبها، كلماته تشرح صدرها وتنسيها أحزانها، لوَّح حفيدها بكفيه أمام عينيها: جدة اعترفي سرحانة بمين، انتي عارفة جدي مخرفن ولا يمكن يفهم كلامنا
لم يكمل كلماته حتى صرخت الجدة: يا قليل الحيا في واحد بحكي عن جده هيك سدق اللي حكى عنك ما بتستحي
مثل الزعل والتفت الى جده: جدو سامع زوجتك شو بتحكي
تجاهله فهو انسان أرهقه الاشتياق لوردة أيامه، أقسم ألا يسامحها ولكن هل إن رآها ثانية سيسامحها
تنهدت الجدة بضيق عندما رأت ملامح زوجها المنزعجة، هي متأكدة أنه يتذكر من كانت بسمتها تنسيه همه، وصوتها يأسره: ان شاء الله تحسنت صحتك
أبى ذاك أن يمتزج الحزن مع كل شيء حوله، ضحك عندما تذكر البراء: جدي وجدتي اسمعوني لازم نجهز نفسنا ونعمل مقلب بالبراء
ابتسم الجد والتعب بادٍ عليه: الله يهديك يا ماهر انت بتتعبش من المقالب وكله ولا بالبراء ما برضى عليه
صوب ماهر نظراته نحو عيونه اللوزية وغمز له: ليكون بتحب البراء أكتر مني
ولابتسامة الجد ازدانت ابتسامة ثغر سعاد، فلطالما تمنت أن تبصر ابتسامته التى سرقتها الحياة منه: والله يا ماهر الك معزة خاصة عندنا
الا صحيح احكيلي كيف امتحانك اليوم
جلس على طرف السرير وتكلم بحماس: اوووه امتحان ولا أحلى الصراحة انتو عارفيني الدراسة
مو من اهتماماتي، قعدت بين أصحابي التلاتة ونقلت كل الامتحان بس في سؤال لقيت كل واحد حالل شكل رحت نقلته من البراء، لأني عارفه دحيح دراسة
الجدة مسحت على وجهها بقلة الحيلة: انت ما بتستحي شب طول وعرض وبتغش من صحابك يا جدة
قاطعها ذاك وهو يتأفف: اوووووه يا جدة مرة وحدة غشيت، كلها نقلت كم سؤال وانتي الله يهديكي عارفة انو انا بزنس ما عندي وقت لأدرس
يعلم الجد أن ماهر لم يدرس بسببه ولكنه رفض أن يقول هذا: اذا عندك بكرة امتحان روح عالبيت وادرس
ماهر وهو ينظر بدهشة مصطنعة لليمين تارة ولليسار تارة: اووووه جدي انت بتكلم حدا هون
ومد كفه لجدته ضاحكا: اضربي كفك يا جدة شكلو جدي بدو يعلمك جامعة
وشهق باستنكار: لا تكوني يا جدة بتدرسي من ورانا
ضحكت العيون قبل الشفاه، فكلامه بلسمٌ يشفي الصدور فالجد نسي كل ما كان يفكر به: لا يا حلو أنا بحكي عنك
طرق باب الغرفة، توجه ماهر نحو الباب ليفتحه
رأى أمه وأبيه وأخاه جهاد وزوجته وأخته أية وأخويه لؤي وعلاء أشار بكفة يده: لو سمحتم ممنوع الدخول بس أمي وأبوي يدخلوا والباقي انصراف
أمسك لؤي يده ونظر له باستصغار: بتفكر نفسك ظريف
ودخلوا جميعا وسلموا على الجد والجدة، نظرت الجدة الى ابنتها أم جهاد التى تقف بجانبها وهمست لها: وين بنتك نهى
أم جهاد بنفس الهمس: اتصلنا عليها وحكت هيها بالطريق
تأمل الجد زوج ابنته أبو جهاد والابتسامة تزين ثغره، من يراه يقسم أنه ابنه صحيح أن الله حرمه من الأبناء لكن أبدله بأبو جهاد: غلبت نفسك يا بني
بادله أبو جهاد الابتسامة: تعبك راحة يا عم، كيف صحتك هسه
أية جلست بجانب جدها وطوقت عنقه بمحبة: جدي بنشيلك على رؤوسنا واحنا مبسوطين
اغرورقت عيناه بالدموع: الله يحفظك يا حبيبتي
صفر ماهر بمرح وهو ينظر لجدته بخبث: اووووه جدتي غارت، كيف حبيبها يتغزل ببنت وهي قاعدة
تأفف بانزعاج ووضع يده على رأسه بألم: يمه حرام عليك والله بيوجع
أم جهاد بتأنيب: احترم جدتك وجدك
قاطعهم طرق الباب ثانية زفر ماهر وهو ينظر الى الجميع: فوق كل اللي هان كمان جاي زوار لا والله هسه أنا هأقعد بحضن واحد فيكو
جهاد نظر الى زوجته ممازحا: لا ما بينفع انت دب
ماهر رفع حاجبيه بخبث: اوووووه بتفكرني مو فاهم لك أنا خبرة، بدك زوجتك تجي بحضنك
وهرب ليفتح الباب وزوجة جهاد تود خنق ماهر لأنه أحرجها أمام الجميع، ماهر وهو يقف أمام الباب مانعا أخته نهى وأولادها من الدخول، دفته نهى بضيق وكانت تحمل علبة شوكلاته وبوكيه من الورد الجوري، فهي خائفة على صحة جدها: ماهر بلا غلاسة بدنا نفوت
أزاح لهم ماهر الطريق بهدوء غريب وأمسك يد البراء وخرج من الغرفة، لم ينتبه لهما أحد توزعت نظرات نهى على الجالسين ووضعت علبة الشوكلاته على الطاولة وبجانبها بوكيه الورد الجوري واتجهت نحو جدها وقبلته على جبينه ويده: الحمدالله على سلامتك يا جدي ما تشوف شر
سحبها الجد من يدها وأجلسها جانبه ونظر الى عينيها العسليتين، فهو يعشقها فهي تذكره بالتي رحلت ولم تعد: الله يسلمك يا بنتي وين جوزك
لم يكمل كلماته حتى رأى طيفا بجانبه، التفت فرأى أحمد زوج نهى، قبل أحمد جبينه: الحمدالله على سلامتك يا عم
أية نظرت الى زوج أختها وهي تضحك بصوت مكتوم: أبو البراء ليه لابس الروب
التفت اليها أحمد وسألها بضحكة: ليه يعني، ليكون أول مرة تشوفيني لابسه
أية وهي تهز رأسها باعتراض هزات متتالية: لا طبعا بس انت جاي تزور جدي ولا جاي تشتغل
الجد بابتسامة رضا: الله يوفقك يابني
وقرص أية من يدها: وشو فيها لما يزورني ويشتغل بنفس الوقت، هادا رزقه ولازم يتعب مشانو
أية وهي تمسح يدها بتمثيل: جدو وجعتني كتير
التفت الجميع الى ماهر الذي يلهث وعلامات الانزعاج بادية على وجهه: اوووه كلكم هان يلا يلا كلو برا
نظرت اليه أم جهاد بطرف عينها: ليكون المستشفى مكتوبة باسمك لتطردنا
ماهر وهو يرفع يديه للأعلى: يا رب أصير مدير هالمشفى
وكأن القدر لم يشأ أن تنتهي هذه الجلسة إلا والحزن يكتسي ملامح الجميع، سعل الجد بشدة وأخذ يلهث، اقترب الجميع منه بخوف فهمس باسم تناساه الجميع منذ زمن: سارة نادولي سارة
أشار أحمد للجميع بالخروج، لكن سعاد أبت أن تخرج فهي خائفة على زوجها، وماهر أيضا أبى أن يخرج
وبعد لحظات قليلة
أمام الغرفة التي بداخلها الجد
نهى وهي تحتضن أمها: ماما هسه بصير بخير، لا تعيطي
أهناك أشد وجعا من تذكر الأحباب، في كلام من حولك: شفتي كان بنادي اسمها، يا ريت بعرف مكانها كان زرتها أول وحدة، حتى شقتها اللى كانت عايشة فيها، تركتها ورحلت بس أنا غبية قاطعتها أول زواجها زي ما الكل قاطعها
مسحت دموع والدتها، وفسحت المجال لدموعها أن تتناثر، علها ترتاح فسارة ليست خالتها ولا توأمها لا بل روحها، كن يلعبن مع بعضهما البعض، وتدافع كل واحدة عن الأخرى، إلى أن جاء ذاك الوحش الذي خطفها منها، نعم وحش فأفعاله تدل على ذلك: ماما ما تعيطي، مصيرنا بنشوفها
وكيف لها أن تنسى من كانت تخطئ وتناديها بماما، فهي التي ربتها مع ابنتها سرحت شعرها، ساعدتها على ارتداء ملابسها أوصلتها للمدرسة بنفسها في أول يوم لها بالمدرسة، ولم تنسى نظراتها يوم أن فارقتها: كلنا السبب حقيت منعناها تروح
وهل ستسمع لنا يا أمي وهل هناك قوة في العالم، تستطيع منع أم أن تتخلى عن فلذة كبدها: ماما انتى عارفة سارة عنيدة ولا يمكن تتخلى عن أولادها مشانا
وكالطير المذبوح كانت تبكي، وبصرخاتها المكلومة تهذي: راح عزوتي راح سندي، هو كان بخير، وبتكلم معنا كيف راح هيك بغمضة عين
سقطت على الأرض بانهيار فتلقتها أيدي البراء: ستو هو بخير ما تعيطي
وكيف لها أن تصدقه، وبأم عينيها رأت أحمد يستخدم جهاز الصعق الكهربائي ليعيد له نبضه الذي توقف
خرج ماهر والدموع حبيسة مقلتيه، هزته أمه بعنف: ماهر شو مالك، جدك فيه شيء احكي
أخفض ماهر رأسه ولم يتكلم، أهناك ما يقدر على قوله والذي بالداخل توقف نبضه، لم تستوعب أم جهاد ماذا حدث فقبل لحظات قصيرة كان والدها بخير، يتحدث معهم، يضحك معهم، لكن يبدو أن القدر سرقه منهم احتضن ماهر أمه التي تبكي، وجلس البراء على ركبتيه واحتضن الى صدره جدة والدته التي ما زالت الصدمة تكتسي ملامحها ودموعها تسيل بلا شعور، وشهقة مصدومة خرجت من فيه تلك، لتكتمل بذلك لوحة حزينة لترتسخ ضمن ذكريات هذه العائلة
|