أسيــــاد الــــغرام
بعد خمس سنوات من الأن
حين تجمعنــا الحبيبة عدن..
لكِ بكل الحب..
***
بعد قسط من الزمن..
رؤية مستقبلية لأبطال قادمين, في عمق ماضيهم,,
قرية صغيرة في عمق الريف, لم تزل تحتفظ بركب الماضي مع لمسة من تقدم لم تؤثر قط على أصالتها الحقيقية وجمالها الفاتن, مزارع خضراء وأشجار وارفة, جبال عالية تكاد تعانق السحاب, منازل متناثر تجمع بين الغنى الراقي والبساطة العجيبة.
قوم عشقوا أرضهم فعشقتهم بالمقابل..
استيقظ ذلك الصباح كسولاً واستترت شمسه خلف سحاب أبيض عكس لونه الناصع على أشعتها التي عانقت قمم الجبال الشاهقات بحنان, وبالكاد نشرت ضوئها على الاراضي المنبسطة تحتها, الأرض الطينية والتي انتشرت رائحتها بقوة بفعل مطر الليلة الماضية ..
وهناك تحت الضوء الخجول لشمس بداية النهار, وقف ينظر لأرضه.. موطنه, منبع جذوره وأسلافه, أرض الاباء والأجداد .. موطن العروبة .. أصلها وفصالها..
ابتسم بفخر, عينيه تشعان ببريق شغوف .. فخور بكل ما يقع تحت عينيه, ملكه, وملك أبناءه ..
لقد عاش سنوات عمره كله في هذه الأرض الطيبة, والتي شهدت ولادته, زواجه, وولادة أبناءه الخمسة, كما فعلت مع أشقاءه وزوجاتهم ..
ساقته قدماه كعادته في نهار كل يوم جمعة الى المقابر, حيث تنهد مطولاً وهو يقرأ القرآن ويدعوا لأهل القبور بالثبات والنور والرحمة..
ووقف للحظات أمام قبر أخيه الصغير, العريس ولم يتمالك نفسه من الابتسام بحزن..
"اشتقنا لك يا عريسنا, سيجمعنا الله بك في الجنة ونزفك لحور عين بإذن الله يا صغير العزب وفجيعتها"
وتنهد مرة اخرى وهو يدعوا له بالرحمة .. ثم اقترب من القبر المجاور واتسعت ابتسامته بفخر واعتزاز وهو يهمس بتواضع
"رحمك الله يا جدي, رحمك وغفر لك وأثابك عنا كل خير يا منبع فخر العزب وشيوخها"
ورغماً عنه غامت عيناه تأثراً.. توفى الجد الشيخ قحطان العزب قبل عامين, توفي على سجادة صلاته وبيده كتاب الله, ولم تكن سوى صهباءه العنيدة هي من اكتشفته, وكادت من فرط لوعتها أن تقتحم عليه هو مجلس الرجال!!
وكأنها ستكون أول مرة ..
قهقه رغماً عنه وأصابعه تمسح رطوبة استقرت على رموشه ..
دائماً هي من تنتزعه من أكثر أفكاره سوداوية وتلقي به في غياهب الشوق, ليستعجل خطوات قدميه في العودة اليها.. نحو بيتها الذي أصبح دواراً عالياً يضج بأصوات أبناءه.. وفي العطلات بضجيج أباء أخوته جميعاً..
منزل دافئ, مليء بالحب والتفاهم, مليء بالعشق.. غارقٌ بالغزل..
-أبي قد وصل.
سمع الهتاف الثنائي من توأمتيه الشقيتين فرفع عينيه نحو شرفة الطابق الثاني من الدوار الضخم وابتسم لهما بحنان ليلوحا له بحماس ونظراتهما تلمع بشقاوة نادرة بعينين كعيني أمهما خصلات بلون الكراميل الغني, قبل أن تختفيا فيدرك أنهما تركضان لمقابلته عند البوابة, ليركض هو الأخر لملاقاتهما فترتميان على صدره العريض وتغيبان كلياً بينما يضحك ويهتف بهما:
-على رسلكما أيتها الشقيتان, ستقعان وتوسخان هذه الملابس الجميلة.
عانقتاه الصغيرتان اللتان لم تتجاوزا الخامسة من عمرهما بقوة وقالت احداهن وهي تتعلق بعنقه:
-ثوبي لن يتسخ أنا أحافظ عليه, ثوب عائشة اتسخ ببقعة طعام وماما أنبتها.
التفت قحطان لوجه ابنته أصغر التوأم وهمس لوجهها الذي عبس وشحب فجأة:
-هل أنبتك أمك؟
اومأت وهي تزم شفتيها بحسرة ليبتسم:
-لا بأس عليكِ صغيرتي, أنا سأهتم بأمك وستصالحك.
عادت ابتسامتها لثغرها الناعم لتخطف قلبه فيضحك ويقبلها بين عينيها بمحبة ثم يحملهما الى الداخل حيث استقبل الهجوم الثنائي التالي من توأم الصبية الصارخ بفرح ويفعلان به الشيء نفسه فيتعلقان به من الخلف ليضطر للانحناء على ركبتيه وهو يقهقه معهما بمرح وأكبر التوأم يهتف به:
-هل أحضرت لنا الألعاب بابا؟
بينما الاصغر يصيح:
-أريد التدرب على الملاكمة لقد وعدتني أننا سنفعل حال عودتك.
تأوه بمرح وصاح بهما:
-كل ما تريدانه سيصل بعد صلاة الجمعة, والأن انزلا من على ظهري بسرعة.
ولكن الصغار الأربعة لم يكفا عن المشاغبة وظلوا متعلقين به حتى أتاهم الصوت الصارم الغارق في بحر من نعومة:
-يالهي.. اتركوا والدكم وشأنه, لقد وصل لتوه .. رباااه وكأنني وسط قطيع من القرود.
قهقه قحطان بسعادة حقيقية ورفع عينين متألقتين الى سبب سعادته في السنوات القليلة الماضية, وخفق قلبه بجنون وككل مرة يرها بها كانت تهاجمه الفصول الأربعة..
عينيها الزمرديتين, تألقتا كجوهرتين نفيستين وسط وجه كالبدر في كماله وضياءه, تحوطه ظلال قاتمة من أشعة الشمس تنساب بتدرجات مثيرة حتى خصرها, في ثوب منزلي يُفترض أن يكون بسيطاً وجاء فاخراً مبهرجاً, كانت ملكة المنزل, سيـــادة قلبه وروحه..
ورأت نظرته, وفهمتها وارتجف لها كل عرق ينبض, وتألقت الحمرة في وجهها حتى بعد كل تلك السنوات, ولم تجد سوى أن تتلعثم:
-انزلوا من على أبيكم انه لا يقدر حتى على النهوض.
رفع قحطان حاجبه الأيمن وهتف بمكر:
-من هذا الذي لا يستطيع حمل أربعة من الأقزام الصغيرة؟
وقبل أن تعلق كان ينهض واقفاً وعينيه تتألقان بسخرية بينما يقترب منها بخطورة هامساً:
-ماذا يا أم الثنائيات؟؟ هل تصفينني بالهرم؟؟
ابتسمت بفخر وعينيها ترتفعان بتلقائية لتغرق في سواد عينيه هامسة بلهفة:
-حاش لله يا شيخ العزب, أنت شيخ الشباب.
التوى فمه بسخرية وزمجر:
-هل تسخرين مني؟؟
التمعت عينيها بشقاوة وساعدته للتخلص من العصابة المتسلقة على كتفيه ثم أمرتهم بحزم:
-كل يذهب الى غرفته هيا, أنهوا واجباتكم حتى موعد الغداء.
زفر الصغار بحنق فصاحت بحزم:
-لديكن حلقة استماع للقرآن, لا اريد أن تشتكي معلمتكن.
ابتسم قحطان باستمتاع لرؤيتها تؤدي دورها الأمومي الحازم بفيض من حنان, وانتظر بصبر أن يختفي الصغار خلف باب جانبي لينقض على سيادته ويختطفها بقبضة حازمة استولت على خصرها الناحل وثبتتها في الجدار المقابل خلف أحد الأعمدة متجاهلاً شهقتها هامساً بغيظ:
-أنا هَـرِم؟؟
-وأنا أم الثنائيات؟؟
صاحت بغيظ أشد وهي تضربه بقبضتها على كتفه ليبتسم بشيطنة:
-لم آتي بشيء من عندي.. انظري لذريتك سيادة.
مطت شفتيها وهمست ضاحكة:
-لم اصنعهم بنفسي يا شيخ, فلا تحاول القاء اللوم عليّ.
-وهل أفعل؟؟
دافع عن نفسه ببراءة لتقترب محيطة وجهه بكفيها ملامسة ذقنه غير المشذب وهمست بشوق:
-لم تأخرت عن موعدك؟ لقد قلت أنك لن تغيب سوى يومين؟؟
ابتسم بحنان ومال ليداعب أرنبة أنفها بشفتيه:
-ولم اغب سوى يومين يا سيادة.
-وعشر ساعات..
اعترضت بدلال ليضحك فتعترض بقوة:
-أنها الساعات تلك التي تقتلني, لا تتأخر من جديد, أشتاق اليك يا شيخ, أشتاق اليك..
تأوه بحب وهي تميل لتغيب بين ذراعيه كلياً وتزرع دفئها بين ضلوعه تهمس بمدى شوقها وشغفها وتوقها اليه ليضحك بخفوت ويهمس في أذنها:
-حبيبتي, أنت تعين بأننا وسط الرواق, خلف عمود حجري كمراهقين؟؟
لمعت عينيها بحماس وتعلقت بعنق ليتأوه معترضاً:
-اووه هذا مثير للغاية يا شيخ الشباب لم لا تخطفني الى غرفتنا وحينها...
وتركت جملتها معلقة بتشويق بينما تطيل النظر الى عينيه تعب من ملامح وجهه التي تألقت لرؤيتها وانفرجت أساريره وهو يومئ موافقاً ليفاجئ معها بصوت معاتب