المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
مهما طال الزمان لابد من لقاء .. أرشيف
وقفت تراقب بعينيها اللامعتين أمواج البحر الهادئة تلامس بعضها بخفة كأنها تمرح مع انعكاسات الشمس الغاربة ، عندما هبت نسائم البحر العليلة لتعبث بتلك الخصلات التي أفلتت من قبضة الوشاح الذي استقر علي كتفيها بنعومة ..
ملامح وجهها الأربعينية ، ونظرة عينيها السوداوين حكتا قصة عشق لهذا المكان الذي كان دوماً مرتعاً لذكرياتهما، وعلي أنغام النوارس، وهدير المياه، حملتها أفكارها إلي خمسة وعشرين عاماً مضت عندما كانت هنا معه .. معه هو وحده وللمرة الأخيرة أيضاً .
يحيطها من الخلف بذراعين قويتين وقد استقرت كفاه علي بطنها البارز والصمت يلفهما من كل جانب .. سكون محمل بفيض من مشاعرهما المرهفة طغي علي الأجواء عندما أدارها إليه فجأة وهو يقول : داليا ، تعرفين أنني أحبك ، أليس كذلك ؟
أومأت برقة ليكمل هو وقد التحمت نظراتهما : وسأبقي كذلك إلي الأبد .. عزيزتي ، حتى وإن رحلت فيجب أن تعلمي أنني معكِ في كل ثانية ، بقلبكِ وعقلكِ ، وكل مكان حولكِ .
عصف الخوف بقلبها الصغير فسارعت تهمس وقد أنذرت عيناها بهطول الدموع : لماذا تقول هذا الآن ، محمد ؟
امتد كفه الأيمن يمسح برفق الدموع المنسابة علي خديها وهو يقول بصوت دافئ : إياكِ والبكاء ، صغيرتي ، حتى وإن كان علي ؛ فمهما طال الزمن ، لا بد من لقاء ..
اهتمي بنفسكِ وبصغيرنا ، وربهِ ليصبح رجلاً تهب المجالس لدي سماع اسمه ..
كتبت هذا البيت باسمكِ ووضعت فيه بعض المال ، وأوراقنا الثبوتية ، وورقة استخدميها لتسجيل آسر في سجل المواليد .. أريدكِ أن تسميه آسر .. آسر محمد .
مازالت تتذكر تلك الابتسامة التي ختم بها لقاءهما ذاك .. كانت أجمل واحدة رأتها تزين ثغره علي الإطلاق ، وكانت الأخيرة أيضاً ، فقد أنهي وجودَهُ حادثُ سيارة في اليوم التالي .
كان يعلم أن هذه نهايته تلوح له في الأفق البعيد ، وعلم أيضاً أنها لن تلبث طويلاً قبل أن تواجه سخط أهله الذين حرموها من رؤيته للمرة الأخيرة ورموها إلي الشارع بمجرد انتهاء وفود المعزين .. رموها شابة عشرينية ، تحمل في جوفها طفلاً أوشك علي القدوم إلي الدنيا رافضين الاعتراف به ، ولكن أحدهم لم يعلم أنه ضمن لها كل شيء قبل وفاته .
عاشت حياتها حتى بلغ صغيرها العامين تعتمد علي المال الذي تركه ، ثم حصلت علي عمل في شركة صغيرة ، تطور مع مرور الوقت لتصبح المالكة الأولي لها ، تديرها وابنها الذي كان نسخة والده في كل شيء ، حتى باتت من كبري الشركات التي تتنافس علي العمل معها المؤسسات ، ولكنها مع ذلك لم تغير أو تبدل شيئاً من ملامح هذا المنزل الصغير بشاطئه الرائع ، بل اعتنت به بوداعة كما تركه لها ..
همست بشوق : أما حان وقت اللقاء بعد ، محمد ؟ ربيته وزوجته وحملت طفله ، فماذا بقي ؟
لتجيبها هبة ريح خفيضة أثارت شعراتها التي تخللها الأبيض ، تحمل معها صوتاً حنوناً قادماً من البعيد يقول : ها قد حان ، صغيرتي .
شعرت بذراعين حنونتين تطوقانها عندما همس صوت يهيم عشقاً بهذه الواقفة أمامه : عليكِ العودة الآن أميرتي ، فلا أحب أن يهبط الظلام عليكِ هنا .
قالت وهي تداعب أصابعه البرونزية الدافئة : آسر ، صغيري .
ليضحك هو بمرحه المعتاد عندما يكونان معاً ويهتف : أما زلت صغيراً بعد كل هذا أمي ؟
نظرت إليه وتكلمت بابتسامة عذبة : حتى إن حملت أحفادك علي يدي ، فستبقي صغيراً في عينيّ ، بني . – صمتت لبرهة ثم أردفت – اهتم بنفسك وبأسرتك ، آسر ، واعلم أنني معك دائماً حتى إذا رحلت ، في قلبك وعقلك وكل مكان حولك ، وإياك أن تبكي حتى وإن كان عليّ .. فقط ادع لي بالرحمة أنا ووالدك ، صغيري .
تفحصت كل ثنية في جسده ووجهه كأنها تطبع صورته في ذاكرتها لتتخذها ذخراً فيما بعد ، بينما اكتفي هو بالصمت المتألم لمجرد التفكير في هذا ، أثناء سيرهما معاً عائدين إلي منزلهما الصغير وقد رسمت أقدامهما آثارها علي الرمال الذهبية اللامعة ..
حل الليل بسمائه المليئة بالنجوم التي تنافست لتظهر مدي بريقها ، عندما مشي بهدوء كعادته إلي غرفتها ليتفقد نومها .. أدار المقبض وفتح الباب بخفة ليراها نائمة وقد أحاطتها أغطية السرير البيضاء بهالة من النور ولم تقم تستقبله بين أحضانها الدافئة ليغلق عينيه ويتقدم ببطء إلي سريرها ..
فتحهما من جديد محاولاً السيطرة علي الرعب الذي غلف مشاعره ليراها كالملاك ، مستلقيةٌ وقد اختفت تجاعيد وجهها والتمعت وجنتاها تحت تلك الأشعة الفضية التي تسللت إليها من النافذة الشبه مفتوحة ، ليدرك أخيراً أنها رحلت إلي الأبد ..
أصبحت إلي جوار حبيبها أخيراً كما أرادت كل لحظة ..
داليا اللقيطة عادية الجمال التي تمكنت برقتها وبساطتها من أسر قلب محمد ، الغني الوسيم عريق النسب ، فتزوجها متجاهلاً اعتراضات ذويه كلهم ..
أمه التي احتضنته وسهرت علي راحته ، فهو في النهاية ابنها وأمانة زوجها ، آخر ما تبقي منه .
كانت أمه وأخته وصديقته وكل شيء .. كل شيء ..
رحلت ..
تركته وحيداً في هذا العالم ولم تبق لتنصحه في حياته مع زوجته وتربيته لابنه .
كادت العبرات تهرب من بين جفنيه ولكنه أمسك احتراماً لوصيتها ، واقترب يقبل جبينها مودعاً للمرة الأخيرة قبل أن يغطي وجهها وهو يقول هامساً : أوصلي سلامي له وأخبريه أنني تمنيت لو رأيته وعشت معه يوماً واحداً .. أخبريه أنني أعشقكما ، ولن أنساكما ما حييت .. في أمان الله ، أمي ..
~تمت~
|