المنتدى :
القصص المهجورة والغير مكتملة
احذر وأنت طيب
احذر وأنت طيب
لاح له من بعيد شبح طفل يختفي في نهاية الزقاق ، لم يبد أية حركة تنم عن نيته الجري وراءه وإمساكه . شعر انه لم يعد يهتم كثيرا وأحس بالملل والروتين كالدم الذي يجري في عروقه دون أن يحس به . قبل ذلك بقليل لاح له أن احدا كان يسترق النظر من خلال شباك خشبي في الطابق العلوي من تلك البناية على يساره . ومرة أخرى يداهمه إحساس بتدفق نشاط داخله يحضه على العمل الذي يعتاد عليه كل يوم ; الجري واللهاث والصراخ والتعرق ،مجرد إحساس باهت بعادة سيئة فرضها واقع لم يرغبه في يوم من الأيام . لم يعد يشعر بكل العتاد الذي يحمله على ظهره رغم كونه مصدر لحمايته من خوف مبهم يأتيه من الخلف. في اللحظة التالية فاجأته صرخة من ورائه فالتفت ببطء شديد مع تمييزه لصوت احد زملائه الذي تحرك بسرعة ودخل بالزقاق المقابل ، الا انه رجع الى مكانه وسار في الطابور الذي لا ينتظم كطابور التدريب او طابور المعسكر الصباحي .
ربتت يد على كتفه شعر بحنانها الذي اختلف قليلا عن حنان أمه التي تركها تبكي على شبابه الذي توقعت أن ينقصف على يد احد الحاقدين العرب الذين وهبوا حياتهم لإيذاء جنود الجيش الذين تلاحقهم الحجارة وتطوقهم كما تطوقهم دعوات أمهاتهم بالرجوع سالمين ...
... موشي ماذا دهاك؟ لماذا تبدو هائما كأنك على شاطئ البحر مع نتاشا وهي تدغدغ قدميك وتبتسم لك ببلاهة ....
أراد أن يرد الا أن شعورا بالغثيان اجتاحه ومنعه من الالتفات الى زميله شيلوك الذي بدا عليه الإعياء. قاطعه أزيز رصاصات انطلقت من مكان آخر داخل المخيم فارتعشت يداه وهي تتحسس زناد الاوزي الذي يلمع بالعرق وأحس بالخطر .. صرخ القائد عليهم .. انتبهوا .. ليركض أحدكم الى نهاية الزقاق ويتمترس هناك.
في تلك اللحظة انطلقت الحجارة من كل مكان ونبح كلب من مكان ما فحصل ارتباك ورأى احد زملائه وهو يركع على قدميه أمام الزقاق القادم من اليسار ورآه يطلق النار وقام جندي آخر برمي قنبلة صوتية في نفس المكان فأحدثت صدى مروع ثم بدأ الجميع يركضون داخل الزقاق فركض وراءهم ليلمح بطرف عينه شابا يدخل احد البيوت وهو يحمي رأسه بيديه ، ثم تجمع عدة جنود بشكل حلقة ورأى حركاتهم التي ميز منها الركل والرفس ، فركض اتجاههم بسرعة ثم أزاح احدهم ليرى شابا آخر ينزف من رأسه وانفه والجميع يضربه دون أن يصرخ .
يتخيل ماذا يفعل الناس داخل تلك البيوت التنكية في ظل منع التجول .. حصار داخل حصار .. أسطح الزينكو تثبت بالحجارة على أطرافها تحمي سماء البيت وطرق المطر مزعج وحرارة الشمس تلهب البيت في الصيف. هل كان أجداده يعيشون بهذه الطريقة في اوروبا ؟ هل كان الجيتو أفضل حال من هذه المخيمات؟
انبثق دم الشاب من عدة جراح في جسده ، تركوه ينزف ، لم يكترثوا لصراخه ، رجاهم كثيرا بعد أن قيدوا يديه وراء ظهره وتركوه على الأرض، لم يستطع احد من داخل تلك البيوت أن يخرج ويساعده بسبب شراسة الجنود وتوتر أصابعهم على الزناد . كان لديهم السرعة الكافية لقتل أي شيء يتحرك أمامهم .
تقدمت الى القائد ماهان . "سيدي دعهم يأخذوه الى المشفى" .
التفت إلي بحركة حادة ورأيت الشرر يتطاير أمام عينيه . أحسست بأنه سيضغط على الزناد ويفجر رأسي .
- هل جننت؟
- سيدي. لم نقتله هكذا دون سبب. اعتقد انه لم يؤذ احدا .
لم ارغب ببدء نقاش معه ، فهو معروف عنه العنصرية الشديدة التي امقتها كثيرا ، فالتزمت الصمت.
- الأفضل لك أن تمارس عملك وتدافع عن نفسك وعن رفاقك بدلا أن تجد نفسك في القبر او في مستشفى الإعاقات .ثم إن هذا ليس الوقت او المكان المناسبين للحديث . الآن مطلوب منك أن تنفذ الأوامر فقط .
أدرت رأسي الى حيث الشاب ملقى هممت أن احمله على ظهري وأرسله الى الطبيب الا أنني خفت العواقب . فرغم أنني يساري وأحب العيش بسلام الا أنني أواجه شتى الصعوبات ، اعرف أننا أعداء مع العرب والفلسطينيين ومطلوب مني أن أدافع عن حياتي ويمكن أن اقتل في سبيل ذلك – لكنني ارفض ذلك رفضا قاطعا ولا أتخيل نفسي وأنا قاتل احلم وتراودني كوابيس .... أنا لا أحب رؤية الدماء وأخاف أن اذبح عصفور صغير ... لا أكاد اصدق نفسي احمل بندقية للقتل واركض خلف أطفال صغار يستهدفوننا بحجارة صغيرة قد تتفتت قبل أن تصل الى صدورنا المحمية بالواقي ضد الرصاص . إنها مفارقة عجيبة ، لقد جن الناس وقادتنا على رأس المساطيل الذين يغيرون كل ما هو طبيعي. حياتنا هنا تعني حياة الآخرين وارفض قطعيا مقولة حياتنا او حياتهم ، بل يمكن أن نعيش سويا على هذه الأرض ونصنع سلاما ...
- موشي .. يجب أن نفرض الأمن داخل المخيم ومنع التجول ما زال مفروضا .. إذا استطاع هؤلاء الصبية كسره فستكسر هيبتنا ... فرقتنا هي الأفضل ولن نخسر سمعتنا بين الفرق الأخرى ... هل تفهم ذلك . هل تفهمون جميعا .؟
رأيت الجميع يهزون رؤوسهم بالموافقة .. أردت أن أجيب بشيء ما الا أن غصة مفاجئة منعتني . لا شك أنني غصت في أعماق نفسي طويلا لدرجة أنني لم انتبه الى سيارة إسعاف الهلال الأحمر التي دخلت رغما عن الجميع وحملت الشاب المصاب ورحلت .
لا أريد أن أعيش بعالمين .. أنا حائر.. مشاعري تتأرجح بين الشر والخير ، أرى الحل برؤية تختلف عما يراه الآخرون .. صراع البقاء يمكن أن يتسع لشعبين والقضية سهلة جدا تعتمد على عدم إقصاء الآخر .
" هؤلاء العرب ليس لهم أمان ، يعملون لدينا ويسرقوننا في نفس الوقت، لا بد أن تخيفهم وأكثر ما يرهبونه منا هو السلاح والجرأة في استخدامه " . ليتك يا أبي تعيش الآن لترى كم أنا احتاجك ، فكلماتك تلك لم تمنحني سوى الخوف من المجهول ، فكيف نسمح لهم بدخول بيوتنا وحدائقنا ومصانعنا ونحن نعرف أنهم لصوص؟ وماذا يسرقون؟ أننا في المقابل نسرق أرواحهم بسهولة لأننا نخاف منهم . نعم نحن نخشاهم كثيرا وبطولتنا أمامهم تنبع من الخوف وليس أكثر من ذلك .
أصاب حجر احد الجنود بجرح بسيط في يده ، لا اعرفه كثيرا ، قالوا انه جاء من روسيا جائعا شبه عاري ، أخذوه الى الجيش وقالوا له إن حياته في ميزان عدالة إسرائيل وهي تدافع عن نفسها أمام الجميع . لم أر احدا من الجنود يهتم به كثيرا ويحجم أكثرهم عن الحديث معه .. نعم نحن جيش واحد نقاتل أعداء كثر الا أن الجيش ينضح بالعنصرية لا يبتعد في ذلك كثيرا عن باقي مرافق الدولة ...
"هيا بنا يجب أن نصل الى الطرف الآخر من المخيم ، هناك فرقة مشاة أخرى تعبر إلينا الآن ، سوف نلتقي بهم في منتصف الطريق" . اطعنا الأمر وبدأنا بالسير الحذر أصبحت رؤوسنا ورقابنا وأعيننا تؤلمنا لأننا نتطلع الى كل مكان وبسرعة فائقة خوفا من العدو المجهول .. أعصابنا يلفحها التوتر ، اقتربنا من الزقاق الأخطر والأطول في هذا المخيم لا بد أن نعبره بسرعة . خرج منه الجنود قبلي بقيت أنا ويوسي الذي يحمل جهاز اللاسلكي الثقيل على ظهره ، اقتربت من نهايته المظلمة ، رأيت الجنود أمامي يعبرون الزقاق المقابل دون أن يعيرونا اهتماما ، في هذه اللحظة بالذات أصابني الخوف .. لم اعرف السبب أدركت الآن سبب عدم خوفي من البداية .. وأدركت أن العدو لا يفرق بين جندي يرفض الخدمة او القتل او الإيذاء وبين الجندي الذي يطلق النار متعمدا القتل ...لمعت أشعة الشمس واخترقت عيني ... رأيت خيالا وأنا أحاول فتح عيني المحترقتين بأشعة الشمس حاولت أن أضع يدي أمام وجهي وشعرت بألم شديد وسمعت صرخة تبعتها صرخات من ورائي ورأيت يوسي ملق على الأرض وعشرات الحجارة تصيب جسده الذي بدأ في الارتجاف ، رجع الجنود من أمامي وحاولوا الوصول إلينا الا أنهم وقعوا في نفس الكمين الذي نصب لنا . بدئوا يطلقون النار في جميع الاتجاهات ...
" موشي أطلق النار، أطلق النار أنت الوحيد الذي تستطيع إنقاذ الموقف أوقف سيل الحجارة القادم من أمامك" وكأن صوتا آخر انطلق من اللامكان أمرني برفض الأمر ... لا بد انه صوت الضمير ...لم اعرف ماذا افعل.. تخلل ضباب ابيض عيناي مختلطا مع أشعة الشمس ...الا أنني رأيت ظلالا لم أميز تضاريسها ولم افهم منها شيئا ...وحرارة لاهبة أحرقت جزءا مني ... و
"حاول موشي أن يختار حمل زميله المصاب والركض به اتجاهنا ... سقط على الأرض عندما أصابه حجر في ركبته ، رأى الدماء تسيل من فم زميله ورأى قنبلة حارقة يلوح بها احد الشبان قبل أن يرميها اتجاههم ،فوقف على رجل واحدة وأطلق رصاص رشاشه دون تردد مباشرة اتجاه الأجساد " .... وانتهى تقرير القائد .
وفي نشرة أخبار التاسعة مساء وعلى شاشات التلفاز ... استشهاد فلسطينيين اثنين في مخيم الأسود وجرح عشرة أشخاص بإطلاق نار عشوائي اتجاههم مباشرة من أفراد وحدة عسكرية حوصرت داخل احد الأزقة ....
سمير الأسعد
فلسطين
|