كاتب الموضوع :
ثريا ا ا
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: كهرمان / بقلمي
-
الفصل الثاني
. . .
استَسلمتْ ~
لمْ أعُد أعلمُ
بمنْ أثِقْ ..
لِذا ؛
خلقتُ قوقعَةً
تحفظُني مِن الجَحِيم
... وَالنَّعِيم ،
انتهيتُ لِلقَاعِ
هذا كُلّ ما أعِي
، لقدْ كنتُ
سَجِينةُ الظَّلامِ ...
~
تسلَّلَت أشعَّةُ الشمسِ إلی هاتفها بتطفُّلٍ أشعرَها بالضِّيق ،
أسهمَت في إظلامِ شاشتها خضمّ انشغالها بعملٍ مَا بِه ،
اضطُّرت معه إلی مضاعفةِ اﻹضاءة إلی المُستوَی اﻷخِير .
كَانت تجلِس وحيدةً ، كَما اعتادت بانتظارِ المُحاضرَة التالية .
أزاحت الخصلة السَّوداء ، التي انسلَّت أمام عينها تُداعب خدّها ، حينَ تنبَّهت للمُتطفِّل اﻵخَر .
المُتطفِّل ، الذي شاركَها الطرفَ اﻵخر من مقعدِها الخشبيّ الطَّويل ، مُعكِّراً عليها عُزلتِها.
أدارت رأسها ببطءٍ وتردُّد ... مع محاولتها إخفاء انزعاجِها .. الذي تراه غيرَ مبرِّرٍ .
كَان رجُلاً عملاقاً ، مسترخياً .. بظهره إلی قاعدة المقعد ، وجهه يطلُّ علی النَّاحية اﻷُخرَی .
لا ترَى منه إلا شعراً كثَّ فاحِمٌ لونَه ، وعنُقاً عريضَة مسفُوعَةٌ بالشَّمس ..
يظهرُ أنَّه لاتينيّ ؛ رُبَّما يكون برازيليَّاً ، أو مكسيكيَّاً ..
أو قد يكون إيطاليَّاً ... فـ هُم تغلبُهم السُّحنَة الشَّرق أوسَطيَّة !
لا ، هذا مُستبعَد ؛ إنَّه رجلٌ هادئ ، وأبعد ما يكُون عن العُنفِ ، والخبَاثة !
إذنْ ؛ إيطاليّ مُستبعَد ... حسناً ، ماذا عن إسبانيّ ؟
بهذه الأسئلة كَانت تحاول التَّروِيح عن نفسِها ،
تُحلِّيها بالصَّبر ، تُخفِّف من شدِّ أعصابِها .
لكن آلَ بها الأمر وهيَ تتناولُ حقيبتها ، وكُوبُ القهوة خاصتها ،
لتنهض ببُطءٍ شديد ، داعيةً الله ألَّا ينتبِه .
ما إن خطَت .. خُطوةً صَغِيرة ..
استوقفها الصَّوت الهادئ ، مخاطباً :
- مظهركِ تبدل كلياً . رغم أن طبيعتكِ علی ما عليها ، كما يبدو لي !
تصلَّبَت قدمَيها ، بذهُولٍ لم تشعر بنفسها معه ، استدارَت .
امتدَّت أناملها المرتعشة تزيح النّظارة السَّوداء ،
تدقِّقُ النَّظرَ في ملامِحه ، بمُقلتَين جاحِظتَين .
- هل ﻻ تزالين تعانين فوبيا المرتفعات كذلك ؟
كَيف .. ؟
كَيفَ من المفترَض ..
أن يكُون هنا .. ؟
عاد الصَّوت المغرُور ، يفرِض عليها أسئلتِه ... بهُدُوءٍ يثيرُ الجُنُون :
- هل أفترض أنكِ لستِ سعيدة برؤيتي ، يا صغيرتي !
بالحقِّ ، مالذي يفعلهُ هاهُنَا ؟
هل باتَ أستاذاً جامعيَّاً ؟
ﻻ يُمكِن !
ذلك المظهر الطَّائِش ،
ليسَ ﻷستاذٍ جامعيّ !
. . .
بِلا شُعُورٍ .. غاصَ مُبحِراً ..
في أعماقِ جوْهرتَي الكَهْرمَان ، الصَّافيتَين ..
نقاؤها كَصَفاءِ الزُّجَاجِ .. !
اشتاقَ لتحديقهِما به ، بخليطِ الجُنُونِ والجُرأَة ، الذي قلبَ كَيانه
.. ورافقَهُ طيفُه .. رُغمَ السِّنينِ ..
ألقی بالقُنبلة عليها ، بعدما صمَّمَ في قرارةِ نفسه ، ... هامِسَاً بـ لغتهِما اﻷُمِّ !
- اشتقت لك .
ردَّةُ فعلِها الحادَّة ، أربكَته من اﻷعمَاق !
تهاوَت جالِسةً علی عقبَيها ، وقد داهمَتها ارتعاشاتٌ عنِيفة .
لم يضع في احتِمالاته ، أن يبلغَ بها اﻻنفِعَال .. هذه الذُّروة !
ما كَانَ منه .. إﻻ أن قفز من مكَانه إليها.
ذراعاه معلَّقانِ في الهواء حولها ، ﻻ يجرؤ علی لمسِها .
يبحثُ عن حيلة .. للتَّخفيفِ عنها .
فضَّلَ المخاطرة .. رغماً عن أنفِها ، حملها .. عائداً بها إلی المقعد الفارغ .
و ما استقرت جالسة ، هاله العنف البالغ ، للرَّفسة .. التي طرحته علی مرأی من طلاب الجامعة !
ظلّ يُحملِق بها ببلاهة ، ثُمَّ نهض بحِدَّة وسرعة علی كعبيه .
يواجهها بتهديدٍ ﻻذعٍ .. لم يكن ليريد أن يبدأ به يومه اﻷول معها .
- ما عادني البزر ، ياللي ترفسينه ويضحك لك . انتبهي مني يا بنت !
لفتَه التوتُّر الهائل ، الذي طرأَ عليها ، ونظراتها المتلصِّصة ، إلی اﻷناس حولهما .
فتسلَّلَ القلق إليه ؛ بعد أن أدرك الموقف الذي وُضِع فيه .
أحسَّ باﻷعيُن المُهدِّدة ، وهي تفتِك به من خلفٍ .. دونما حاجةٍ للالتفات .
موقفٌ ﻻ يُحسَد !
لا تنقصه المزيد من المشاكل فوق سمعته السَّيئة ، وسيرته المليئة بالمصائب !
ﻻ ينقصه التورُّط ... بقضيَّةِ تحرُّش !
رفع بصره المشتَّت إليها ، بتعجُّبٍ ، عندما أطبقت .. راحة يدها النَّاعمَة ، على رأسه .
أخذه الذُّهول !
هل تحاولُ إنقاذه ؟!
حركَةٌ صغيرَة وبريئَة مِنهَا .. إﻻ أنَّها ؛ ستُنقِذه من براثنِ مشكلةٍ جديدة ،
كَانت علی وشكِ فتح أبوابِها له .
انتشلت كَفَّها من شعرِه الغزير ، عندما انطلقت إلی المسامعِ جرس الجامعة ؛
معلناً عن بدءِ المحاضرة التالية .
ضمَّت حقيبتها إليها ، وتطلَّعت إليه ، بإشارةٍ ﻷن يفسح لها المجال .
- محاضرة وحدة ما بتأثر ، يا دودة الكتب !
عبَّرَ عن انزعاجِه بأسلوبٍ ساخِر .
بالمُسَمَّی الذي أطلقه عليها .. ؛
كان قد صرَّح .. عن مدی مراقبته لها عن كثبٍ ، لفترةٍ ليست بالقصيرة .
تمكَّنَ مِن لمح شبَح الرَّفض ، علی تراسيمِها الجامدة ؛ مع أنها لم تُبدِ أيّ ردَّة فعلٍ .
تجاهل ذلك ملقياً عليها عرضه : خلينا نغير المكان .
غزاهُ بعض اﻻرتياح .. حين لم يلمَح اعتراضاً هذه المرَّة .
وكأنَّ كل همِّها ، هو أن تختفي عن اﻷعينِ .. بأيِّ وسيلةٍ !
. . .
- أجل ... هذا هو شعرك اﻷصلي .
كان قد اختارَ مقهیً هادئاً .
وانتقى طاولةً مُنعزِلة ، في ركنٍ قصيّ .
استأنفَ مضايقتها ، لمّا لم يحرَ جواباً :
- حتی بلون شعرك خدعتيني !
انتصارٌ عظيمٌ اجتاحه ، حينما أخرجها من صمتِها المُلازِم ،
أخيراً ...ليجدها تطرح سؤالاً مقتضباً :
- عرفت قبل العرض ، واﻻ بعده ؟
فطن لمقصدِها ، فأجابَ رافعاً حاجبه اﻷيسر ، بخُبثٍ :
- قبل !
لم يعي .. إلَّا وبالماءِ المُثلج يرتطم بوجهه ، مبللاً إيَّاه ، مـغـرقـاً ..
صرّ علی أسنانه ، قابضاً كفه بقوة .
وبصعُوبةٍ جمَّة ، حاول تهدئة نارَ الغضبِ ، عبر كلماتِ التَّوبيخ :
- أظن كبرتي الحين ، فيفترض عقلتي .
جمع بكفه المياه المتقاطرة ، من ذقنه المشعر ، ثُمَّ أردف بعداوة :
- عرفت بعدين !
اشتدَّ غيظه ، وبه يراها تشتِّت نظرها في المكان ، غير آبِهة !
سألَ بنبرة مشبَعة بالاحتِقار : بعدك ترقصين ؟
- ﻻ تقول ترقصين !
أجابت وهي تلتفتُ إليه بقوَّة .
كانت إجابةً تشعّ حِدَّة وحرَارة غير متوقعة .. لكنها أشبعت رضاه الداخلي باﻹنجاز !
أمالَ طرف فمه بتهكُّمٍ : ﻻ تقولين التزمتي .
- اعتزلت .
هل يعقل أن التزمت حقاً ؟
مسحَ ثيابها المحتشمة بنظرة شكٍّ ، بالرغم من شعرها الظاهر :
- وش سبب اﻻعتزال ؟
ببساطة كان جوابها : كبرت !
رانَ عليهما الصمت بضع دقائق ، حتی أخرجها عن تأملاتها ،
إزعاج طرق أصابعه المستفزة علی سطح الطاولة .
- صراحة صادقة ، كبرتي !
ما أطلَّت بوجهها إليه ، انطلقت شرارات متطايرة من عينيها ،
قابلها بابتسامةٍ خبيثة .. بعدما غلَّفه مرَحٌ مفاجئ !
تكلَّمت تأمره باشمِئزازٍ ؛ ضاغِطةُ علی الحروفِ .. حرفاً ، حرفاً :
- شيـل عيـنك !
بوقاحَة .. بتمثيلٍ هازلٍ مُبتذَل ؛ تأوَّه مستدرِكاً !
ثُمَّ أشاحَ بوجهه ، يتظاهر اﻻنشغال بزخارفِ الحائط .. يهمهِمُ ويدندِن !
ممسكاً بكُوبِ قهوته بحرصٍ ؛
إذ من غير المستبعد ، أن تستغلَّه كـ سِلاحٍ أخير، بعد كأسِها الفارغ !
إلا أن وجدها تطرح بالذي كان معلقاً بأعيُنها .. مُذ وقعت عليه .
- وش تسوي بالجامعة ؟
- اللي تسوينه أنتي .
أجابَ بلهجة جافة على السُّؤال الغير مرحَّب ، ما جعلها تتراجع عن طرحِ المزيد .
ثُمّ وكأنَّما ينتقِم ، قام بقلبِ الطَّاولة :
- السؤال هذا مفروض يكون سؤالي ، أنتي اللي وش تسوين بجامعتي ؟
- بابا اختاره !
- بابا ؟!
ردَّدَ وراءها محملقاً ، علی كُلٍّ ؛ إجابتها السَّريعة دلَّت توقعها للسؤال ؛
واضحٌ أنها قامت بتحضيرِ اﻹجابة مُسبَقاً .
فضَّلَ التوقُّف عن التحقيق بهذا الشَّأن ، لما ظهرَ عليها من اﻻضطِّرَاب .
- تغيرتي حيل ..
- كيف عرفتني !
قالت ناقِمَة .
- أقصد ؛ صرتي أحلی .. من يوم قبل ستّ سنوات .
وافترضَ مُتأمِّلاً :
- الظاهر من الشعر اﻷسود . أبرز ملامحك ، ولون عيونك ..
أعرضت بوجهها .. بعصبيَّة كامِنة ، تتهرَّب من عينيه الفاحِصتَين .
- وش سويتي بحياتك من بعدي ؟
رمقَته باستِصغارٍ ، كـ رَدٍّ بديلٍ عن لسانِها .
- طيب وأنا ، تغيرت ؟
عادت بنظرِها إليه ، أخذت عيناها تطرِفان ، تحاول تأمُّله ..
لكن يبدو لم تقدر ، في ظِلِّ تحديقه الجريء ، فأزاحت بصرها .
تُجِيب ، بنبرةٍ توحي بالصِّدق :
- كنت ناسية ملامحك . لكن ، لمَّا شفتك تذكرت .
- نسيتيني ، يا وفاء ؟
أثارَ فزعَها ، بتلفّظه ﻻسمِها .
لكن تحدَّته ، متظاهِرةً بالتماسك :
- نعم ، نسيتك !
- قلتي ، ما راح تنسيني أبد .
- بس نسيتك !!
- قولي والله ؟
- نسيت شيء ، بأرجع الجامعة .
أصابته بإحباطٍ كبير ، بعدما اعتقدها تجيبُ عليه ، إذ كان بقمَّة تركيزه !
فتهادى إلی ظهرِ الكرسيّ ، يرمُقها باستِياء .
ألقَت أمرها بمنتهى البساطة :
- حطني قدام الجامعة ، وروح .
- ليه أروح ؟ بأنتظرك ، وأوصلك .
نظرته بامتعاضٍ ، ثُمَّ أفصحت بلا تردُّدٍ ، عن رغبتِها بالتخلُّص منه :
- يمكن أطوِّل ..
. . .
دلفَ إلی المبنی ، بعد أن انسحب من جماعة الرِّفاق .
وارتقی درجات السُّلَّم ، المؤدي للطابقِ المراد .
اتفَّقَ معها ، وحدَّدا ﻻلتقائِهما ، واحِدة من إحدی زوايا الحرمِ الجامعيّ .
غير أنه لم يكتفِ بانتظارها .. ؛ فـ ( الوفاء ) ﻻ يبدو من شيَمِها ...
على الرُّغم من أنه .. ( اسمُها ) !
استندَ بالقُربِ من القاعة التي أوصلها إليه ، منذ حوالي السَّاعة والنِّصف .
لن تجرُؤ علی اختراقِ هذا الحشد ، يظهر أن انتظاره سيطُول .
- ياللمفاجأة ، مالذي تفعله هنا ؟
- اختفيت بالفترة اﻷخيرة ، يا صاح !
صرفَ الشابَّين بإشارة تحيَّة ، وعاد باهتمامه إلی مدخلِ القاعة ؛ مُترَقِّباً .
لقد نفذ صبره ، ليس بمقدوره اﻻنتظار .
اقتحمَ القاعة ، ومسحها ببصره ، علی المواقع المحتمل وأن يقع عليها اختيارها .
هاهِيَ .. ! عثر عليها بسُهُولةٍ أكثر ممَّا تخيَّل !
غارِقةً في مقعدٍ ، علی أقصی الجانب من الصفوف اﻷمامية .
واضحٌ أنها اكتسبت خبرةً ، في اختيارِ مقاعد تُخفِيها عن العينِ المُجرَّدة .
تخطَّی الطُّلاب بعجلة ، واجتاز المقاعد .
أفزعها بهمجيَّته ، وهو يُداهِمُ عزلتها ، بلا إشارة أو تنبيه :
- وش مقعدك ؟ وين اتفاقنا ؟
أشعلت غضبه فيما يراها تتلصَّصُ حولها ، وتتصبَّبُ عرقاً .
- لما أكون معك ، الناس تنسينهم ، مفهوم ؟
- أنت تحرجني .. وخِّر عني !
هدَّدَ محذراً : ﻻ تخليني أسوي شيء ، يحرجك صدق .
- ليش جاي قسمنا ؟
همست بلا ترحيب .
- ومن الحبّ ما قتل !
هبطَ عن ذراع المقعد المجاور لها ، ينتقل إلی جانبها ، يغوص في أحضان المقعد العاجي .
أخذ يتأمل المكان ذو اﻹضاءة الخافتة ، والذي غمره الهدوء بعدما فرغ تقريباً .
وبعد فترة من السكون ... أدارَ رأسه إليها ، حائِراً .
يسألُ بلسانٍ ثقيل :
- عطرك فيه منوم ؟ فجأة نعست ..
ردَّت ببُرُود : ما أستخدم عطر ....
لم تكد تتمم جملتها .. حتَّی غطّ في النَّومِ ، بسُرعةٍ مدهِشة .
انتزعته جفلَةً مباغتة ، من غياهب النوم . راح يبحث عنها ﻻهثاً ...
الظَّلام يطغی علی القاعة ، داﻻً علی رحيلِ الشَّمس .
وَ لولا رائحتُها ، وصوتُ تنفُّسِها المنتظِم ؛ لَمَا أدركَ .. أنها ما تبرح قابعةً جانبه .
كانت نائِمة .. هادئة . أسدلَ أجفانه ، يتنفَّسُ الصُّعَداء .. بارتياحٍ .
أخرج هاتفه ، يطلّ علی الوقت ، نقرَ عدة نقراتٍ علی الشاشة ، وأعاده .
- .. وفاء ..
.. وفاء ..
لجأ لمُداعبةِ خُدُوْدُها النَّاعمَة ، بلُطفٍ .. إلى أن بدأت تتململُ بضِيق .
لاحظَ من شهقتِها الصَّغيرة ، مدی سُرعة اﻹدراكِ لديها فورَ الاستيقاظ .
كَادت تقِف علی المقعد من هلعها ، حتى همَسَ لها يُطمئِنها :
- حبيبتي هذا أنا ..
فعادت تغرقُ بمقعدها ، وأعماقها تُنفِّسُ عن تنهيدةِ راحَة .
- تعبت وانا أصحيك .
أتاه صوتها موبِّخاً .
- محد ماسكك ، كان رحتي .
- مابي أكون ناكرة للجميل !
أدركَ مغزاها ، فعاتبها بنبرة مزدرية :
- تسمينه جميل ؟
هذاك دين عليك ، يا حلوة !
ودين كبير ، بتسددينه يوم من اﻷيام .
ومباشرةً نهض من المقعد : يالله ، نوصلك .
لحقت به مُشِيرةً :
- أنا ساكنة قريب ، في سكن الجامعة ، أقدر أرجع مشي .
- وين أهلك ؟
سأل بلهجة باردة ، وقد كان ينتظر هذه اللحظة منذ زمنٍ .
- بابا هنا ، وماما في السعودية .
- ما دام البابا هنا ؛ وش داعي للسكن .
بان اﻻرتباك بصوتها من نبرته المستحقرة ،
في حين كان مولياً ظهره بينما تحذو خطواته :
- كذا أريح .
أوقف تقدُّمه ، يواجهها ، مُعيداً سؤاله بحزم :
- ليش ؟
- ﻻ تتدخل !
- يحق لي أتدخل ، لما أشوف بنت .. أهلها رامينها !
فاجأته بها تدفعه بعُنفٍ ، مهاجِمةُ بشراسَة :
- أهلي مو راميني !! ﻻ تتذاكى !!
ولا تتكلم ، وأنت مو داري عن ظروف الناس !!
- أي ظروف ؛ تخلي أهل يرمون بنتهم .. بالشارع ؟!
- أهلي ما رموني ، أنا اخترت ! أنا أبي أعيش وحدي !
أخرسها بقسوة :
- كذابة ، أنتي وحدة ماتطلع من بيت أهلها ، لو يجرونها .
تبين تقنعيني الحين إنك عايشه لحالك ؟
بالله كم بنت معك بالشقة ، خمس ؟ ست ؟
أثارَت شفقَته بالتوتُّر ، الذي لمَحه تحت إضاءة القمرِ الخافِتة ،
والمُطِلَّة عليهما .. من النَّافذة العرِيضة ، بالقُرب .
- خلاص ، مابي أعرف شيء ، امشي .
لكن ؛ وصله صوتها المُعترِف ، فيما تتبعه :
- نيتي أترك بابا يرتاح .. أكره زوجته ! هي طيبة ..
لكن .. أسوي لها مشاكل .. أكرهها ! بابا تعب مني ..
بابا طيب .. يحاول يتفهمني .. أنا النفسية !
دُهِشت به ، يقفز من فوقِ إحدی المقاعد ، ويجثو علی شيءٍ ، منادياً ، يحثُّها علی الاقتراب :
- تعالي ، شوفي وش لقينا ، كنز !
انحنت علی المقعد ، باحثةً عن الكنز ، فما ميَّزت الشاشة المضيئة ، صاحت منبهِرةً :
- WOW !!!
كان هاتفاً ، بأحدثِ إصدارٍ ، والجميع مهووسٌ بالحديثِ عنه .
حمَلَ الهاتف حالما قُطِع طلب اﻻتصال برنينه الصامت ، يهتِف منبِّهاً بنشوةٍ انتِصار :
- شفته قبلك !
- أنا لمحته قبلك من بعيد !
- اوص ، يا كذابة !!
كنتي تقصين لي حياتك ، ياللي تقل أفكار جزئية بحصة القراءة !
جذبت الهاتف : هات ! والله شفته وانا أحكي وسويت نفسي ماشفت !
استعاده منها ، مع صفعة علی رأسها : ﻻتحلفين !!!
- نتقاسمه ، يوم أنا .. يوم أنت !
تلاعبَ بحاجبيه شقاوةً : NO !
- طيب ، يوم واحد باﻷسبوع !
قطَّبَ ممثِّلاً التفكير : أشوف .
- يومين !
- خلك علی كلمة ، يوم باﻷسبوع .
عادت تختطف الهاتف بلهفة بينما منشغلاً باستكشاف محتواه :
- أشوفه شوي طيب !
- بالسيارة ، تعالي .
حمَلها من خصِرها الأهيفَ ، ينقلها للممرِّ الذي صارَ به .
ثم عانَى وهو يجتذِبها معه وبصرُها لا يفارِق هاتفهُمَا الثَّمِين .
. . .
تلك الشقيَّة ، هاقد ظهرت أخيراً .. !
لم يعثر لها علی أثر منذ أيام ، ليس لديه فكرة حتی إن كانت تداوم ؛ أم تتقصد التخفي واﻻختباء منه !
إنها تنوي المغادرة اﻵن بعد انتهاء محاضرتها .
اعترضَ طريقها ، مُعيقاً هروبها .
- وطحتي ، يا سراقة .
أصابها اضطراب واضح من رؤيته ، لكنها أظهرت أنَّها مُمثِّلة بارِعة !
تظاهرت بالدهشة ، راسمةً ابتسامة مُزيَّفة :
- Hi !!
Is that really you ?!
Long time no see !!!
- طلعي الجوال .
تصنَّعت الغباوة ، مُردِّدةً : جوّال ؟
وعادت تمط شفتيها ، بنفس الابتسامة المستفزة :
- ? Sorry, Can you speak please English
ضيَّقَ عينيه يتمعَّنها ، ثُمَّ علَّقَ هازِئاً :
- وين راحت السعودية ؟
- ! I'm not Saudi, I'm British
تغلبته الابتسامة ، وقام بدفع ظهرها بخفة ، لتكمل سيرها معه :
- شكلك يقول .. عاملة عملة بالجوال ، كسرتيه ؟
أقنعه صمتها بصدق ظنونه .
- كيف انكسر ، وليه هالجوال بالذات ، ليه مب جوالك ؟
- شكلنا ما سمينا عليه ..
غمغمت ببؤسٍ ، مطأطِئةً الرأس .
- جبتيه ؟
فتحت حقيبتها ، تدسُّ يدها ، ثم مدَّت له الهاتف ، مغلَّفاً بكيسٍ شفَّاف .
- الله ! من وين طاح هذا ؟!
هتفَ فيما يستلمه منها ، وصار يقلبه بين يديه ، بعد أن استخرجه من الكيس .
أجابت بنبرة التَّعيسة : طاح من الطاقه ..
نظر إليها بتساؤل :
- تعالجتي من الفوبيا ؟ أذكر إنك ما تناظرين من الطاقه حتّى !
- حطيته عند الطاقه ، علشان يتشمس ..
حملق بوجهها : يتشمس ؟
- طاح بكرسي الحمام ، بالمويه .
ارتسمت معالم القرف علی تقاسيمه ، ثم امتدت يداه عن طولهما بالهاتفِ والكيس ،
مُعلَّقان بأطراف أنامله المتقزِّزة :
- امسكي ، امسكي ! وغسلتيه ، واﻻ ﻻ ؟!
- ايوه ، روّشته .
- عينك قوية ، الله يستر .
حاولي كلما شفتي فيني شيء زين ، تذكرين الله .
تمتمت به ، ترُدَّ الإهانة : ليه ماتكون عينك ؟!
دافع بابتسامة جانبية : عيني باردة ، والدليل إنك للحين عايشة .
لكنَّه ارتبكَ لسببٍ مبهم ، وغيَّر مسار الموضوع ، قائلاً :
- عندك محاضرة ثانية ؟
تلقَّى إجابتها بعد سكوتٍ مُريب : ناظر حولك !
نظرَ حوله ؛ ليكتشف أنهما بمواقف السَّيارات !
فاستدركَ الأمر بارتباك :
- أوصلك ؟
. . .
تمنَّع عن مقاطعتها ، كانت منكبَّة ، منشغِلةً بإنجازِ أمورها الدراسيَّة .
اكتفی باختيار كرسياً ، يسمح له بمراقبتها ؛ في حينِ يصعب عليها ملاحظته ،
كَما اعتاد طوال اﻷيَّام السَّابقة .. قبل يقرِّر الاقتِراب .
تأخَّرَ الوقت ، و ﻻ تزال منخرِطة في تلك المهامِ المُمِلَّة ، مُنتظِراً .. وها قد بلغ الصَّبر حافتَه .
- مليت أنتظر ، متی تخلصين ؟
حدقت به مذعورةً ، تراه كالجبَل شامخاً فوق رأسها .
استعادت هدوءها بسرعة خارِقة ، قائلةً :
- مشغولة من فضلك ، ﻻ تقاطعني .
بسببك ؛ قصرت كثير ، هذا غير الغياب .
تجاهل كل ما قالته ، آمراً ببساطة : قومي معي .
- علی وين ؟
اعترفَ بانزعاج : قومي اجلسي معي .
تلفَّتَت حولها قلِقَة ؛ ثم ناشدته ، بخفوتٍ : تكفی روح ، مابي إحراج .
جرّ الكرسي الذي بجوارها يحدث ضوضاء عالية ، يجلس عليه بشكل صاخب ؛
كأنَّما يتعمد لفت نظر كل فرد بالمكتبة ، لمجرَّدِ معاندتِها .
- محد متعود يشوفني مع أحد .. إحراج .. بيستغربون ، بيناظروني ..
غمغمت وكفيها تخفيان نصف وجهها .
فتحلَّی بالصبر ، وحاول الردَّ عليها من منظورها :
- بسيطة ! خليهم يتعودون يشوفونك مع أحد ، ليه التعقيد ؟
اكتفت بالبحث ببصرها ؛ عمن قد يقع نظره عليها بالمصادفة ، فيقوم باﻻستهزاء بها .
وكأن كل من في الجامعة يتتبعها ؛ ليتقصدها بالسخرية !
سأل : تبينا نروح مكان معزول ؟
ودون انتظار الموافقة ، أرغمها علی الخضوع لطلبه بحركته الدنيئة مجدداً .
ﻻفتاً كل أنظار من في المكتبة هذه المرة بحقّ ؛ من شدة الصخب واﻹزعاج الذي تقصد تسبُّبَه .
وقعا علی المكان المناسب ، والمعزول تماما عن العالم .
مكان لم يعلم بوجوده من قبل ، إذ لم يكن من هواياته اﻻختباء !
حيث كان شخص عاشق للظهور ، واﻷضواء ، ولفت اﻷنظار ..
ولم يتوقع أن يضطر يوماً ؛ ﻷن يلجأ للانعزال ، بمثل هذه الطريقة .
- هاه حبيبتي ؟
وش رأيك ، مريح ؟
- الجوال ، صلحته ؟
ﻻ يدري ... لِمَ في كل مرة برفقتها ؛ يجب أن يشعر أنه يعاني من بطءٍ في الفهم ؟
أم هل يعود ذلك لعباراتها ، أو أسئلتها .. الغير منطقية ، أو في غير محلِّها ؟
قال يجلس بالقرب ، يستند للحائط :
- ﻻ ، ترحمي عليه . هذا عمره غلق .. بأرميه .
شهِقت قبل أن تهتف : ليه ترميه ؟! هات ، أنا أبيه !!
- وش بتسوين فيه ؟
- عندي فكرة ، بدل نصلحه ونخسر .. بنبيعه ونربح !
الجوال توه نازل ، محد متوقع يلاقيه بأقل الأسعار !
رمقها بنظرة جانبية متهكِّمة :
- طيّب ، وﻻ لقيتي من يشتري هالزبالة منك ، علميني علشان نتقاسم .
- ليه نتقاسم ؟
اعتدلَ ، إذ انحرف حديثهما إلی المنحی الممتِع ؛ بنظرِه :
- أظن الجوال جوالي ، قبل ما يكون جوالك .
شمخت بأنفها معترضة : صار جوالي ، تنازلت عنه .
- ذكريني ، متی تنازلت عنه ؟
- لما قلت تبي ترميه !
برَّرَ بالتواء : قلت يمكن . مابعد قررت ، مازال ينتسب لي .
للتوِّ يلحظ أنها تتحدث بجدية ، فقد تجهم وجهها ، تعبيراً عن اﻻنزعاج .
اعتقد طوال الحوار أنها تعبث معه !
مسَحَها بنظرة تأمُّلية شاملة ، تراسيمُ وجهها تتبدَّل كلياً حين تتحدث .
بل شخصيَّتها ككُلِّ تتغير .
تبدو أكثر فِتنة بالشَّعر اﻷسوَد الطَّوِيل ، سَاحِرة في كُلِّ اﻷحوال .. !
شقرَاء .. أو سمرَاء ، متكلِّمة ..
أو صامِتة ... كَما اﻵن .. !
إنَّها غاضِبة ، محتضِنةً ساقيها ، مُطرِقة .
أطرافُ خصلها السَّوداء تكاد تلامِسُ اﻷرض .
قرَّرَ مقاطعة سكونِها على حينِ غفلةٍ منها ، صائحاً باسمِها جاعلاً إيَّاها تنتفِض فزِعة .
- نعم ؟!!!
حرَّر عن ضحكةٍ صاخِبة ، حين أدهشته بالصَّرخة التي قاربت مستوی صيحته ،
كما لو لن تهنأ حتی تنتِقم !
غير أنه هو الذي لم يهنأ بالضحك ؛ إذ صُعِقَ بالحشرة الضخمة بين أصابعها التقطتها من زاوية ما ،
ليبتعد عنها مرغماً مصدراً صرخة خافتة كصيحةِ أنثی !
ظهر التعجُّب في حملقتها به ، ثم انفرجت شفتيها عن ابتسامةٍ شيطانيَّة .
ماهذه اﻻبتِسامة ، لِمَ هذه الابتِسامة ؟ إنها تخطِّط لشيءٍ ما !
ﻻ ، ﻻ يمكن أن تفعل ، ﻻ يمكن أن تفعل .. إنها أرقّ من ذلك !
خيَّبَت آماله الراجية بها ، عندما بدأت تتقدم صوبه ، ببطءٍ شديدٍ جداً ، كأنها تُمثِّل الموتَ البطيء .
كاد يقفز ويفرّ هرباً ، غير أنها كانت اﻷسبق ، لتحاصره قبل يتحرك شبراً .
- راعيني مثل ما راعيتك .. تكفين !
توقفت حركتها ، تفكر بتأمُّل : ممكن راعيتني في أشياء ...
راح يومئ برأسه بغير وعي موافقاً ، لكن وجدها تكمل :
- لكن لدرجة تسميه دين ؟ لا ، ما يحق لك !
ما يحق لك .. مقابل أمور كثيرة ما راعيتني فيها ،
تبيني أعددهم لك ؟
وابتدأت بالعدِّ علی أصابعها :
- واحد ، كنت بتتركني لوﻻ تذللت وترجيتك ، اثنين ..جرحتني باستهزاءك فيني ...
ثلاثة .. قسيت علي ، وكنت علی وشك تضربني !
أربعة ، تحرشت فيني ، وخمسة ، حاولت تغتصبني !
كل هذا تقول إنك راعيتني ..؟
غمغم سريعاً ، محاولاً استغلال جانبه الذي تخشاه :
- شوفي يمين بالله لو يعدي هالموقف ، ما أتركك سليمة ، انتبهي مني !!
اقتربت بابتسامةٍ متحدِّية ، مدنية بالحشرة ذات اﻷرجُلِ المُدَلدَلة :
- وش تقدر تسوي يا قوي ؟! رجال طول وعرض ، يخاف من حشرة !
وأنا كنت تستهزئ في حالتي ....
تجمدت بغتة ، متراجعة ؛ كمن استيقظ من غيبوبة .
حدقت به بنظرات غريبة لم يفهمها : وش جری لك ؟ ما كنت كذا !
لم يستطع إبعاد عينه عن الحشرة ؛ خشيةَ أن تكون تخطط لفخّ ما .
- جاوبني ! كنت قدامي ، تحاصر خنفسانة .. هالكبر ، وتفنن في تعذيبها !
ايش جری لك ؟! من سوا فيك كذا ؟
لسانه شُلَّ عن الكلام ، لكن فضولها كان أكبر ، لتعود وتمد بالحشرة المعدومة الحيلة ، تجبره بها علی الرَّد .
- أحد احتجزك بغرفة ، وعذبك بالحشرات ؟
تنهَّدت مستسلِمة ؛ راثيةً لحاله المُزرِي . واستوت علی قدميها ، تبتعد لخطوات ؛
ثم رمت بالحشرة ، بأكبر رمية استطاعت .
عادت إليه تجده يتفقد ثيابه ، وينفضها بيدَين مرتعشتَين .
وما دنَت منه ، قبض علی رسغها بقوَّة آلمتها ، وأخذ يديرها حولَ نفسها ، يتفقَّد ثيابها هي اﻷخری .
ولم يسمح لها بالتحرُّك حتى تأكَّدت من خلوِّ حقيبتِها من أي كائناتٍ حشريَّة ،
ومضى بها بعيداً عن مرعَی الحشرات .
حيرتها ﻻ تنفكّ معلقةً بتراسيمها ، وعيونها الفضولية ﻻ تكف عن مراقبته ..
صار معكَّر المزاج ، بعدما كان يضحك ويعبث في مرح منذ دقائق قليلة .
التجهم والتكشير طاغٍ تقاسيمه ، في حين كانت ترسِمُ أكبر قدر ممكن من البراءة علی وجهها ،
خوفاً من تنفيذهِ وعيده .
- بتنتقم مني ؟
أظهر صوتها قلقاً واضحاً .
ظلَّ جامداً وكأن لم يسمع ، سبَّب قشعريرة جليَّة لبدنها .
فاختار أن يريح نفسها بقوله :
- هالمرة بأعتبره لعب وطيش ، لكن يا وفاء .. لو يتكرر ؛
أحلف لك بالله ! تتمنين الموت ، علی اللي بأسويه فيك .
- حاضر !
ردَّت فوريَّاً بطاعة غريبة ﻻ تناسبها .
رفع بصره إليها ، ليس هنالك أيُّما ندمٍ في عينيّ الفتاة !
عينان .. تظهران شخصاً أنانيَّاً ، ﻻ يعرف التفكير سوی بنفسه ،
كان كُلّ ما يقلقها ، الخوف من تهديدِه بإيذائِها !
. . .
- صديقة أحدهم هنا ~
- الصديقة الشرسة !~
- يا صاح ، ليت المشهد يعاد ، ﻻ أصدق أن فاتني !
رؤية متعب ملقی علی اﻷرض ، برفسة من فتاة .. آه ، منظر يريح القلب !
- متعب ، قم شف خويتك وش عندها ؟
لتوِّه يستيقظ من شروده ، علی تلميحات رفاقه السَّاخِرة .
عقد حاجبيه بتساؤلٍ وانزعاج ؛ فأشار له أحدهم بعينه ، إلی ناحية قريبة منهم .
مالذي تفعله الطفلة الحمقاء هنا ؟!!
ترك جماعته متجاهلاً تعليقاتهم ، يتجه حيث تنتظر .
كانت تقف مشيحة بوجهها إلی الجانب اﻵخر .
- وش تسوين هنا ؟
تمتم بغلاظة ، متبرِّماً .
فالتفتت إليه ترفع رأسها ، بتلكما العينينِ ذات البراءة الزَّائفة .
- أنت اللي وش تسوي هنا ، أنا من أول هنا .
تجاهل ردّها الملتوي : وش تبين ؟
- أنت اللي وش تبي ؟ أنت جايني !
- امشي ، امشي .
ربَّت خصرها يدعوها للسَّير .
قطع التواصل معها في اﻵوِنة اﻷخيرة منذ آخر حادثة ، لرغبةٍ في نفسه ؛
جعلته يتجنب اﻻحتكاك بها بالفترة الحالية .
- ﻻ تقولين اشتقتي !
قال هازِلاً .
طأطأَت برأسها ، مُعترِفة :
- ضجتك ، وفجأة هدوء ..
الحين ، أحس إني وحيدة صدق .
- وحيدة صدق ؟ أصلاً أنتي وحيدة صدق !
قال بسخرية قاسية ، ﻻ مراعياً .
- ﻻ أشوفك مرة ثانية تطلعين قدام الجماعة .
هاتي جوالك ، من رنة تلاقيني عندك .
أخرجت له هاتفها . ثم تابع ، فيما يعيده إليها ، بعدما فرغ منه :
- مفهوم ؟
الناس هذول ، حتی لو شفتيهم بالصدفة ؛ اختفي !
- ليش ؟ ممكن يصيرون أصحابي بعد .. فرصة ، وأنت صاحب الفضل !
- تحاولين تنرفزيني أنتي ؟!
- ﻻ ، أتكلم جد . ليه زعلان ؟ قصدت البنات !!
- وﻻ البنات ..
- ليش طيب ؟!
نطقَ بثبات :
- خربانات ، ما يناسبنك .
ويفضل ماتفكرين تكونين صداقات .. كذا أنتي حلوة .
- ما كتبت اسمك ؟
- ايش ؟!
انحنی بفضول ، يطلّ علی شاشة هاتفها ، فيما منشغلة بكتابة الاسم على رقمِه ،
ليُدهَش مِمَّا تخُطَّه أنامِلُها .
رفعت رأسها إليه ، تقرأُ له بابتِسامة حقِيقيَّة :
- ! The Window Man
أوَّلُ ما طرأَ بباله هو أن يخلّد هذه الذكری .. لتُفاجأَ بالفلاشِ يُضيئ في وجهها ..
في التقاطة لأوَّلِ ابتِسامة لها .. !
- ليش تصور ؟!!
عنَّفته بعصبِيَّة .
- أصور حبيبتي !
عيب ؟
- ما أحب أتصور ، احذف !
لم تمنَحه فرصة ، قافِزةً تهدف إلی خطفِ هاتفه ، بينما يرفعه عالياً بنفسٍ مرحة ،
متحدياً إيَّاها بالوصول إليه .
- لو سمحت ، احذفه ، من فضلك .. Please ..
يبدو فضّلت اختيار طريق التملُّق ، إنها ترجُوهُ باحتِرَام !
- ماني حاذف !
- بأزعل ، والله !
- ازعلي ، أنتي شي مب مضمون ، واحتمال بأي وقت تطيرين .
أما الصورة ؛ بتعيش معي ﻵخر العمر .. بدون ما يطرأ لها فكرة الخيانة .
تراخَت ، تغمغِم : تقصد إني .. ممكن أخون ؟
رفع كتفيه بانهِزام ، يُخبِّئ هاتفه بجيبه :
- أتوقع منك كل شيء ، إﻻ الوفاء .. يا وفاء .
راقبَ أسارِيرُها ، رغبةً في معرفةِ دواخلها .
لكن لم يرَی ، سِوی .. تلك البرَاءة الَّلعينة ، وَالمُخادِعة .
- ! Hey , The Window Man
! Don't judge a book by it's cover
رفع حواجبه مشدُوهاً ، ثم أرغمته جدِّيتها علی الضَّحِك :
- ! OK, OK, My Sweetheart
~
... كنتُ
سَجِينةُ الظَّلامِ ~
( وجدتَني ) أرتدِي السَّوادْ
أختبئُ بعيداً ..
... في الخلفِ
الحياةُ مزَّقت قلْبِي
لـِ أشلَاءٍ ..
( أخذتَ ) يَدي بيدِك ..
وبدأتَ بتحطِيمِ الجُدرَانْ
وغلَّفتَ قلْبِي بالقُبُلاتِ
مُتجاهِلاً دُمُوعِي ،
وَ ... بُكَائِي
ظننتُ حياتِي زالَتْ
مُخلِّفةً ( قلب ) كَسِيرْ
وَ ... بقايّا رُوحْ
؛ حتَّى أتيتَ ( أنتْ )
وعبرتَ في طريقي
.. هدَّأتَ من رَوعي
ثُمَّ ( غلَّفتَ ) قلْبِي ..
... بالقُبُلاتِ ~
* * *
|