*مواعيد البارتات / اثنين واربعاء
استفتحنا بالله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الأوّل.
-
-
غدًا القاك اغنيةً ,
يحنُّ لشدوها , قلبي
وكم سكرت حنايانا
وتاهَ البعد في القرب
فلم نعرف سوى النجوى
لنحيا الحبَّ , للحبِّ.
*فاروق جويدة
-
-
المملكة العربية السعودية – الرياض
التاسعة مساءً
نظرت بتمعنٍ الى الزجاجات الصغيرة الملونةِ أمامها
قالت العاملة بشيءٍ من الملل
: مدام هذا انسب لون للروج والمسكة
بغيرِ اقتناعٍ سحبت آخر وناولته لها , وقالت ببحّةٍ في صوتها
: هذا احلى
مدّت اظافرها , لتلوّنها العاملة بطلاء الأظافر عنابيّ اللون قانٍ
اقتربت اخرى وقالت وهي تجلسُ بجانبها
: فيصل قريب
همهمت , ثم سألتها
: حلو لون المناكير
نظرت اليه , وابتسمت
: كنت عارفة انّك بتختارينه
ابتسمت , ثم قالت
: اتصلتي على خالتي , كل شي جاهز صح ؟
مدّت الأخرى كفّها ورتّبت خصلةً رفيعةً من شعرها وقالت بمحبّة
: كل شي جاهز , يحترونك
ثمّ نهضت
: بروح البس عباتي وارجع
مرّت دقائق , لتعود وتقول
: ميلا فيصل برّى
نهضت بتثاقلٍ وهي تنفخُ على أظافرها
: يلا خلّصت
ارتدت عباءتها وخرجتا سويًا
ابتسم وهو يفتحُ الباب
قالت دونَ ان تقترب
: فيصل ابعد شوي , فيني ريحة مكياج وبخّاخات
ابتعد بهدوء
لتصعد بمساعدةِ الأخرى , أغلقَ فيصل الباب , وركب في مكانه
حرّك السيّارةَ وقال بنبرةٍ لعوب
: يصير نشوف نظرة اخيرة
قالت ميلاف ساخرة
: ردّي عليه ورْد
قالت ورْد بضحكة
: احوله لعبد الله يردْ عليه
زفرَ وقال
: تكفين لو تشوفونه كأنّه هو العروس , مرتبك ومستحي
ابتسمت ميلاف بخجل
قالت وردْ مبتسمة
: الله يوفقهم ويتمم لهم بخير
بهدوءٍ قال
: آمين
بعدَ دقائقٍ وصلت السيّارة الى الصالة
قال فيصل مبتسمًا وهو ينظر ناحية ميلاف التي نزلت بمساعدةِ ورْد
: كنت واعدك بهديّة مميزة بزواجك
قالت وهي تمسكُ حجابها خشية ان يسقط من ارتفاع شعرها
: تراني ما نستيها , ماني ماشية بدونها
جاءَ صوتٌ قريبٌ منها
صوتٌ ثقيلٌ ببحّةٍ خفيفة
قال بهدوء
: اليوم صعب تاخذيني كهدية , بعد يومين يمكن
بصدمةٍ كبيرة , وبلا تصديق
التفتت الى الصّوت
لم تستطع حتّى اطلاق شهقةً من قلبها
اهتزّ جسدها وكادت تسقط
الأخرى ورْد ايضًا كانت مبهوتة
امتدت يدُ فيصل لتدركها فورًا
اغمضت عينيها وكأنّها في حلم , تجزمُ انّه وهم وسيزول فورًا
,
,
المملكة العربية السعودية – المنطقة الشرقية
مطار الملك فهد الدولي
العاشرة مساءً
هبطت الطائرةُ الخاصّة على أرضِ المطار
نهضت المضيفة من مقعدها واقتربت منهما
قالت بخفوت
: تقدرو تفتحوا الأحزمة مس وجْد , تحبّي اصحّي مس دارين ؟
قالت بهدوء
: انا اصحّيها , رتّبي الهاند باق ونزلوهم للسيّارة
هزّت رأسها بطاعةٍ وابتعدت
التفتت وجْد الى دارين النائمة بسكون
انحنت اليها وقالت بهدوء
: دارين , دارين قومي وصلنا
مسحت على شعرها برفق
لتفتحَ الأخرى عينيها وتفركهما بخفّة
قالت بكسل
: وين وصلنا !
نهضت وجْد وقالت
: الشرقية , قومي
التفتت وجْد الى مساعدتها الخاصّة
: رويدة انتي اطلعي لبيتك من هنا
قالت رويدة المرهقة
: متأكدة ما تحتاجيني ؟
هزّت رأسها ايجابًا
نهضت دارين وفتحت مرآةً أمامها
رتّبت منظرها , وأخرجت قلمَ مرطب شفاهٍ زهري ولوّنت شفتيها
قالت وجْد
: خفّفي اللون , احنا بالسعودية الحين
قالت بلا مبالاة
: اي بالخبر عادي
حملت وجْد حقيبتها ومضت أمامها
لتتبعها بعدَ ثوانٍ
نزلتا من درجِ الطائرة , وفورًا فتحَ لهما السائقُ باب السيّارة , وهو يقول
: الحمد لله على السلامة
بطريقتها العمليّة المعتادة قالت
: الله يسلمك
,
,
ايطاليا – روما
التاسعة مساءً
مسحت على شعرها بحنوٍّ وقالت
: ان شاء لله ما نطوّل , انتي بتظلّين عند عمّك وائل لين نرجع
ابتسمت وعانقتها بقوّة
: تردّين لي بالسلامة يا بعد عمري
ابعدتها قليلًا وقالت بصدق
: وش لي بالحياة من بعد عمرك ! بسم الله عليك يا امّي , يا غِنا امّك
دخل حينها رجلٌ طويلُ القامةِ وقال
: ندى يلا يبه طلعَي مصّختيها انتي وبنتج !
اقتربت ابنته مبتسمة
: يعني انت ما بتشتاق لي !
زفرَ وقال
: انا لو عليّ ما اهدّج اصلًا
ضحكت وعانقته
داعب شعرها القصير جدًّا وقال
: النائب جوزيف وافق تحلّين محلّي لين ارد , تحت اشرافه واشراف عمّج وائل , ابيج تبيضين ويهي زين غناتي
: فدوة ويهك انا , ان شاء لله يبه لا تحاتي , اهم شي لا تخلّوني احاتيكم
برفقٍ مسحَ على وجنتها
: ان شاء لله حبيبتي , يلا لا تطولين ورانا
: اسكر جنطتي وعندي جم ملف اوقّعهم واطلع
ودّعاها وخرجا , وصعدت الى غرفتها بعدهما
نظرت اليهما من شبّاكِ غرفتها
ابتسمت حبًّا لمنظرِ امّها
التي عاشت نصفَ حياتها او اكثر في اوروبا
ولم تتخلّ عن حجابها الكامل , دون لونٍ او رائحةٍ او زينة !
ركبا السيّارة , وشغّلها السائق
لتختفي فجأة !
لم تعد ترى سيّارة ابيها الكبيرة بيضاء اللون !
رأت نارًا تتأجّج , نارًا كجمرةٍ سقطت في جوفها واحرقتها !
-
-
المملكة العربيّة السعودية – الرياض
الحاديةَ عشرةَ مساءً
سلّمت من صلاتها , وظلّت في مكانها تستغفر وتهلّل وتسبّح
مرّت دقائقُ لتنتبه الى صوتٍ مختنقٍ قريبٍ منها
التفتت بسرعةٍ اليها , ثم نهضت بفزعٍ وصعوبة لكبرِ سنّها
اسرعت اليها وهي تهتف
: سنا , سـنـا – التفتت الى باب الغرفةِ وصرخت – عايد وهـيّب دلــال
مرّت ثوانٍ لتدخل دلال بفزع
: عمتي شصـ...
شهقت حين رأت ابنتها
اسرعت اليها ورفعتها الى صدرها
: سنا , سنا بسم الله عليك , بسم الله بسم الله
ضربت وجنتيها بخفّة وهي تحرّضها ان تهدأ
كانت تتخبّط وهي تمسكُ بقلبها وتحاول التنفّس
دخل عبد الوهاب واسرع الى ماءِ زمزم الخاص بجدّته
اقترب من سنا وبلّل وجهها وهو يقولُ بصوتٍ مرتفع
: اعيذك بالله من همزات الشيطان ومن ان يحضروك , بسم الله الرحمن الرحيم لا اله الا الله
مرّت ثوانٍ حتّى سكنت بين ذراعيّ والدتها , لهثت حين حصلت على الهواء
تنفّست بعمقٍ ثم استرخت على صدرِ والدتها
مرّت ثوانٍ لتجهش بالبكاء
استغفرَ عبد الوهّاب بضيقٍ ونهض من مكانه
لماذا جاءتها الحالة ! مرّ وقتٌ طويل لم تشعر بشيءٍ من هذا القبيل !
دارَ في الغرفةِ لثوانٍ , ثمّ التفت اليها
قال بحزم
: قريتي الأذكار اليوم ؟
قالت بارهاق
: والله قريتها , وقريت وردي وتحصّنت
مسحت جدّتها على شعرها وهي تقول بحزنٍ وقهرٍ مكبوتٍ فيها
: بسم الله عليك يا بيتي , غدا الشر يا اهلي انتي
قالت وهي تمسكُ بقلبها
: قلبي يعوّرني يمّه
وضعت والدتها كفّها على قلب ابنتها وقالت بحسرة
: والله انا اللي قلبي تقطّع من حالك يا امّي
,
,
المملكة العربية السعودية – الخبر
الحادية عشرة مساءً
دخلت السيارة عبر بوّابةٍ كبيرة , سارت في ممرٍّ حتى وصلت الى ساحة كبيرة ينتصفها نافورة , لتتوقّف امام البوّابة الداخلية للمنزل
نزل السائق وفتح الباب
نزلت وجْد ومن خلفها دارين , التي ابتسمت بانتشاء
: مسا الخير بيتي الحبيب
لم تعلّق وجْد وسارت بخطاها القويّة بكعبٍ عالٍ
قبل ان ترتفع يدها الى البابِ فُتح
وأطلّت الخادمة المسنّة مغربيّة الأصل , بوجهٍ مبتسم
: اهلًا وسهلًا مس وجْد , الحمد لله على السلامة
دونَ ان تنظر اليها قالت
: الله يسلمك , عمّتي وامّي حصّة وين
: بالصالون ينتظرون حضرتك
قالت دارين بمرح
: هاي ثريّا
ابتسمت ثريا بمحبّة
: اهلًا مس دارين , ان شالله انّك بخير
هزّت رأسها بابتسامة
: الحمد لله
ثمّ تبعت وجْد
التي دخلت وابتسمت ابتسامةً صغيرة وهي تقترب من امرأةٍ كبيرة
انحنت اليها وعانقتها
قالت المرأة بحنو
: هلا والله , اسفرت وانورت , نوّرتي بيتك يا بعد قلبي
قبّلت كفّها وقالت
: شلونك يمّه
: بخير يا يمّه بخير
التفتت وجْد الى اخرى واقتربت لتعانقها
: شلونك سُلاف
عانقتها الأخرى وقالت بمحبّة
: وحشتوني
قفزت دارين الى جدّتها وهي تهتف
: ماما حصوص اشتقت لك
ضحكت جدّتها وقبّلت ما بين عينيها
: وانا اشتقت لك
انحنت سُلاف وقبّلت وجنتي دارين
: شلونك
قبّلتها دارين
: هلا عمّه , شلونك
قالت سُلاف مبتسمة
: اشتقت لك
جلسن متقابلات , واقتربت احدى الخادمات لتأخذ عباءتهما وحقائب ايديهما
قالت سُلاف وهي تمدّ لهما القهوة
: شلون مشى شغلك ؟
هزّت رأسها
: وقّعت على اتفاقية مربحة , واخذت مناقصة
قالت الجدّة حصة باعجاب
: اللهم بارك , الله لا يضرّك مثل ابوك
تمتمت بزفرة
: الله يرحمه ويغفر له
قالت سُلاف متسائلة
: طيّب وكم بتطولين هنا ؟
: عندي معرض الاسبوع الجاي في باريس , وبعدها اروح لدبي , تعرفين ما ارتاح في السعودية كثير افضّل اظل بدبي
قالت دارين متملّلة
: ليش فاتحين بيت في الخبر اجل ! انا ملّيت من ذي السفريات
قالت وجْد بحدّة
: ما اقدر اساعدك بشي , انا مضطرة اسافر كثير بسبب الشغل ولازم تكونين معاي
تأفّفت الجدّة
: كل ما رجعتوا من سفرة تهاوشتوا على نفس السالفة , اقطعي الصوت بس وقومي غيري عشان تتعشون
ابتسمت سُلاف بمواساةٍ لدارين التي نهضت بتذمّر
خرجت من الغرفة لتقول سُلاف
: شوي شوي عليها وجْد , معاها حق البنت بعدها صغيرة على مرمطة السفريات ودوخة الراس هذه
: اتركك منها , عمّي احمد شلونه ؟
زفرت بهمٍّ وقالت
: زين شلون بيكون يعني , له يومين مع اخوياه باستراحه
: اتّصلت شيخة اوّل امس , قالت جاها تقرير من المانيا عن علاج جديد لحالته , نقدر ناخذ له موعد بس يطوّل شهور لين نقدر نودّيه
قالت سُلاف بيأس
: انا غسلت ايدي خلاص , لنا خمسطعش سنة نحاول نعالجه وما صار شي , استسلمي
قالت بحدّة
: ما في شي اسمه استسلمي , بيقوم ان شالله وبيتعافى
-
-
المملكة العربية السعودية – الرياض
التاسعة وخمسٌ وثلاثون دقيقة مساءً
فتحت عينيها , ولا يخطر عليها الّا انّه كان خيَالًا
رأت عينيه بحرَ العسل , عينيه حادّتا الرسم
تنظرانِ اليها بكثيرٍ من العطف
سألها بصوته الذي لم تسمع من قبلُ احدًا له مثله
: وش صار لك !
ضحكَ فيصل
: يا بجاحتك ياخي , وش بيصير لها يعني !
قالت ببحّةٍ تفوقُ بحّتها المعتادة , بشهقةٍ سحبت روحها من داخلها
: غـيـث !
قالت ورْد بصدمة
: غيث !!
التفت اليها وابتسم
: ورْد صح ؟
قالت بنبرةٍ متشتّتة
: لا
انفجر فيصل ضحكًا , ثم سألها
: مانتي ورْد ؟
باستدراكٍ قالت
: اي اي ورد
ابتسم والتفت الى ميلاف
اقترب ووثّق جسدها الذي هزُل من رؤيته بذراعيه القويّتين
ابتعد فيصل وادار وجهه عنها , لينزل الآخر الغطاء عن وجهها
قبّل جبينها بعمق
قال بحنين
: اشتقت لك
حينها اطلقت شهقةً منهارة , وانفجرت باكية
رفعت ذراعيها لتعانقه بقوّة , وهي تهتف بوجعٍ واشتياق
: غيييث , آآآه يا غييث
ابتسم فيصل قهرًا من بكائها
وقالت ورْد وهي تدافع عبرتها
: يا خبله مكياجك
نادت بألم
: اخووي , رجع اخوي , رجع غييث
مسح على رأسها وقال
: ميلاف , بس يا بعد اخوك , لا يخرب شكلك الحين , بس يبه هدّي
ابتعدت عنه ونظرت الى وجهه الحبيب
رفعت كفّيها لتتلمس وجهه , ابتسم وقبّل باطن كفّها
قالت ولا زالت مختنقةً بالبكاء
: جعلني فدا لذا الوجه , جعلني فدا لروحك يا روحي
قال بحنو
: بسم الله عليك , كبرتي وبتعرسين !
ضحكت من بين ادمعها
قبّل جبينها مجدّدًا , ثمّ قال
: ادخلي الصالة الحين والبسي فستانك وعدّلي نفسك , ان شالله وقت التصوير بطلع لك
انحنى اليها وقال بهمس
: وبدخلك للقاعة بعد
شهقت بلا تصديق
ليبتسم حتى ظهرت اسنانه
ابتعد خطوتين , وقال
: يلا وردة دخليها
ابتسمت ورْد وابتعدت مع ميلاف لتدخلانِ الى الصالة
قال فيصل وهو يشدُّ على كتفِ غيث
: لا تتعشّم بضحكتها بوجهك الحين , تراها شرهانة عليك حييل
زفرَ وقال
: معاها حق , ولها حق في كل اللي بتقوله وبتتشرّه فيه , ولها حق تعرف كل شي
ابتسم فيصل
: الله يعينك , يلا تعال تأخّرنا
-
-
المملكة العربية السعودية – الخبر
الواحدة بعد منتصف الليل
خلف مكتبٍ خشبي باللّون البنيّ المحروق
بثوبها البيتي الطويل , بلون المحيط الهادي
يعكس روحها عليه
شعرها ملمومٌ باهمال
وتضعُ نظارة القراءة , تدقّق ملفًّا أمامها
سمعت طرقاتٍ على الباب
قالت بهدوء
: تفضّل
فُتح الباب وأطلّت سُلاف
قالت بخفوت
: شتسوين في المكتب بهالوقت !
انزلت النظّارة وأراحت جسدها الى الخلف
: اشتغل
اقتربت ووضعت امامها كوبَ عصيرِ الجزرِ الذي تفضّله
جلست على المكتب أمامها ومسحت على شعرها بحنو
: ارحمي نفسك , ما في حياتك غير الشغل !
ابتسمت بهدوء
: في دارين وامّي حصّة وانتي وعمّي احمد
ابتسمت سُلاف بعتابٍ خفيفٍ وقالت
: وعمّك غازي
نظرت اليها لثوانٍ , حتّى اختفت ابتسامتها وعادت الجديّة الى ملامحها
لتنظر الى اوراقها مجدّدًا
صمتتا لثوانٍ
ثم قالت سُلاف بتردّد
: بيطلع من السجن قريب
رفعت رأسها بصدمة
صمتت لثوانٍ بلا تصديق
ثمّ قالت بشكْ
: مين ؟
زفرت سُلاف , ثمّ قالت
: خالد
نهضت بجنونٍ ليرتدّ الكرسي من خلفها بقوّة
صرخت بهستيريا
: بأي حق يطلع ؟ على اي اساس !!
نهضت سُلاف وامسكت بيديها برجاء
: وجْد تكفين لا ينفجعون امّي ودارين الحين
سحبت يديها بقوّةٍ ودارت في المكتب بهيجان
التفتت الى عمّتها وقالت بغضب
: من قال لك ؟
: خوي احمد عسكري , يعرف السالفة طبعًا وسمع انّه بيطلع قريب
ضربت الجدار بقبضتها بقوّة
قالت بحرقة
: الله لا يكتب له عمر لين يطلع
زفرت سُلاف
واقتربت منها لتمسح على كتفها
: وجْد هدّي , في النهاية ما لنا شغل فيهم ولا لهم شغل فينا
التفتت اليها وعينيها حمراوتان بشدّة , تسبحُ فيهما دموعٌ عنيدة
وملامحها مشدودة
تأوّهت سُلاف وعانقتها
قالت سُلاف بوجع
: ابكي وجْد , ابكي يمكن ترتاحين شوي
ابعدتها بقسوةٍ وقالت
: ماهو انا اللي ابكي , انا ابكّيهم وما ابكي
خرجت من مكتبها الى غرفتها , وتركت عمّتها خلفها بحسرةٍ عليها
-
-
المملكة العربية السعودية – الرياض
الثانية صباحًا
قالت بلا تصديق وهي تنظرُ اليه
: يارب ما يكون حلم
ابتسم بحزنٍ وقال
: ميلاف تبين تصكّيني كف عشان تتأكّدين انّه ماهو حلم ؟
ضحكت باختناق وهي تحبسُ دموعها
ثمّ قالت
: ليتك جيت قبل اليوم , ما اقدر اخلّيك واروح , ودّي اكنسل الزواج بكبره
قال بصدمة
: اي عشان تصلّون علي بكرة , ماهو صاحي زوجك !
ابتسمت بخجل
مرّت دقائق , لتدخل خالتها
زفرت براحةٍ كبيرة وهي تنظرُ اليه
قالت
: يارب انا في حلم ولا علم
اقترب وقبّل رأسها
يشعرُ بكثيرٍ من الحرج والخجل
مسحت دمعتيها , ثمّ قالت
: يلا ميلاف الزفّة يمّه
قالت برجاء
: خالتي ما شبعت من غيث
ابتسمت خالتها بحنوْ وهي تضع كفّها على وجه غيث الذي تحب
: ان شالله تشوفينه وتشبعين منّه
دخلت ورْد مسرعة وهي تهتف
: ميلا...
ارتدت حينَ رأت غيث
قالت والدتها وهي تمدّ لها عباءة
: خذي لفّيها على نفسك وادخلي
لبستها على استعجالٍ ودخلت
اقتربت من ميلاف وثبّتت طوقًا من وردِ الياسمين على شعرها
قالت ميلاف
: افف ما بغا يوصل
: توّه وصل
قال غيث مستغربًا
: ورد على شعرك ؟
قالت مبتسمة
: امّي انزفّت بالورد على شعرها , طبعًا ذا مطوّر ومزبرق مو نفس حقّين قبل , بس بغيت اشبهها ولو شوي
ابتسم بحنوْ , ولانت نبرته وهو يقول
: الله يرحمها ويغفر لها – التفت الى خالته – انتوا نفس اليوم تزوّجتوا صح ؟
بمرارةِ الفقدِ التي لا زالت في روحها , قالت
: ايه , ابوك وعمّك وانا وامّك تزوّجنا بنفس اليوم , وحملنا انا وهي بنفس السنين , انت اكبر من فيصل بثلاث شهور , وورد اكبر من ميلاف باربع شهور , وتوفّوا مع بعض ومعاهم اختكم الله يرحمهم ويغفر لهم , ميلاف عمرها اربع سنوات وقتها , وانت عشر
زفر , ورفعَ رأسه الى الأعلى
رغم انحصار ذكراهما في رأسه
الّا انّه يفتقدهما كثيرًا
دخلت احدى العاملات وقالت بلهجةٍ مكسّرة
: مدام يقولوا يلا
اخيرًا بخّت ورْد من العطر على نحرِ ميلاف التي صرخت بها
: مليون مرّة قلت لك اكره العطر يلمس جسمي
قالت ورْد التي توتّرت هي الأخرى
: انطمّي , عساس وقت غرابتك ومزاجيّتك
ضحك غيث , وقال
: خلاص انزلوا انتوا , وعطونا رنّة اذا دخل عبد الله عشان ننزل
قالت ام فيصل
: اعيذك بكلمات الله التّامات من شر ما خلق , استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه
اخيرًا نزلت مع ابنتها
مرّت دقائق ليرنّ هاتف ميلاف باسم ورْد
اغلقت الخط وخرجت مع شقيقها من الغرفة
نزلا الدرجاتِ بحذر
واقتربا من البوّابةِ الضخمة
اخذت نفسًا عميقًا
ثمّ أشارت الى العاملة لتفتح الباب
تأبّطت ذراع شقيقها , وفي كفّها الأخرى باقةٌ ناعمة من زهورِ التّوليب البيضاء
ارتفعت اعين الحضور اعجابًا وحبًّا
ابتسمت وهي تسيرُ دون ان تنظر ناحيةَ زوجها
لتطردَ توتّرها
المصوّرة كانت تسيرُ أمامهما , دون ان تفوّت ايّة التقاطةٍ جميلة
قالت بصوتٍ عالٍ
: وقفوا وأشّروا للحضور
توقّفا وأشارا بحركةٍ جميلة للحضور
قالت المصوّرة
: بوس راسها
التفت اليها ضاحكًا
: شكلها تحسبني انا العريس
حبست ضحكتها واحنت رأسها ناحيته
ومال اليها ليقبّل رأسها
قالت ورْد وهدبيها مثقلانِ بالدموع
: يمّه يجنّنون عيال خالتي مع بعض , شلون قدر غيث يترك ميلاف عشر سنين !
زفرت والدتها وقالت
: هذا هو رجع واكتملت اخته فيه
,
,
ايطاليا – روما
الرابعة مساءً
ببنطالٍ أسود , وقميصٍ عمليٍّ اسود
صافحت آخر المغادرين من الصّالة , وحمرةٌ خفيفة على انفها نتيجةَ بكائها
جلست بتعبٍ كبير على الأريكة
لا تزال تشكُّ في موتهما
كانا قبلها بدقائق فقط يعانقانها ويدلّلانها
كيف يرحلانِ ببساطة
كيف تنفجرُ تلك السّيارةُ اللعينة , وتأخذ ابويها معها
شعرت بخطواتٍ قريبة
رفعت رأسها ونظرت اليه بصمت
زفر ثمّ قال
: يلا غِنا , امشي معاي لبيتي
بنبرةٍ ميتّةٍ قالت
: شالفايدة ؟ انا بروحي وانت بروحك , ما بفيدك ولا تفيدني
: ماني هادّج بروحج , تروحين معاي لين عمّج يقدر يرد ايطاليا وتروحين عنده
بسخريةٍ نهضت
: ماني محتاجة احد
مسحَ على وجهه بصبر , ثمّ قال
: اللي تسبّبوا بالحادث يمكن ما يكتفون فيه ويكملون عليج
قالت بنبرةٍ مهتزّةٍ رغم حدّتها
: يا ليت , بدوا شغل لازم يكملونه , خلقوا الم لازم يختمونه , ما ياخذونهم ويخلّوني
دونَ ان تنتظر جوابه صعدت الى غرفتها
سحبت حقيبتها الجاهزة اساسًا , ووضعت حقيبتها الصغيرة على كتفها
حملت هاتفها ومفتاحها ونزلت
مرّت من جانبه وقالت
: بروح بسيارتي
تبعها وركب سيّارته مبتعدًا عن منزلها
اقفلت الابواب , وركبت سيّارتها لتبتعد هي الأخرى عن رقعة الوجع التي تلطّخت بدمائهما
-
-
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة مساءً
نفثت على كفّيها ومسحت على جسدها , ثمّ شربت من كوب ماءِ زمزم الذي قرأ عليه شقيقها
مسحت والدتها على شعرها , سألتها بحنو
: وش حاسّة ؟
وضعت كفّها على قلبها , قالت بوجعٍ في روحها
: روحي تعوّرني , احس قلبي يضيق فيني , احس الدّنيا كلها على قلبي
قالت والدتها بحسرة
: يا حسرتي على بنيتي , وش عشتي انتي عشان تضيق فيك الدنيا
حاولت التنفّس بعمق , ثم انفجرت باكية وهي تحيط جسدها بذراعيها الضعيفين
صرخت بوجع
: روحي تعوّرني يممه
بكت والدتها وضربت فخذيها
: البنت مسحورة ولا معيونة
بألمٍ اقتربت جدّتها وعانقتها
قالت الجدّة وهي تمسح على جسدها
: بسم الله عليك وعلى روحك , الله يعافي روحك يا امّي , بسم الله على روحك جعلها ما تشوف نكد ولا وجع
دخل عبد الوهّاب الى المنزل
القى السلام قبل ان يدخل الى الغرفة
عققد حاجبيه من صوتِ بكائها
دخل الى الغرفةِ وزفر
اقترب وجلسَ امامها
مسح على جبينها وقال بهمْ
: كسرتي ظهري
تشبّثت به وقالت
: روحي تعوّرني وهّابي , مخنوقة
عانقها وقال باختناق
: يا بعد روحي , وش اسوّي لك , والله ما عادني عارف وش اسوّي
قالت والدته
: نودّيها للشيخ ؟
قال بغضبٍ مكبوت
: ما ظلْ شيخ ولا مستشفى ما ودّيناها له
قالت ببكاء
: احس نفسي بموت
عضّت الجدّة على شفتها السفلى , وأشاحت ببصرها عنها
-
-
ايطاليا – روما
الخامسة مساءً
ظلّت تجوبُ شوارع روما التي تحفظها
بضياعٍ شديد تمرّ على ذاتِ الأماكنِ مرارًا
شللٌ اصاب قلبها , يخيّل اليها انّ الدماء لا تصلِ الى مخّها المجهد
مالكيْ قلبيها
في اقلّ من رمشةٍ منها اصبحا اشلاءً
تاجيها , نجمةُ ترفيعٍ على كتفيها
نبضٌ يحييها , عينيها الاثنين , ابويها !
فقدت تاجها المرصّع , فخرها بينها وبين ذاتها
تساقطت نجوم الترفيع من على كتفها , لينحني رأسها خجلًا
توقّف نبضها لتهوي الفًا , وفقدت بصر لؤلؤتيها السوّداوتان
اوقفت سيّارتها على حافّةِ الهاوية ونزلت تجرّ خطاها عنوة
مرّت ثلاثة ايّامٍ لم تبكي الّا بدمعٍ يسير , تحت ضغط المعزّين
لا زالت وان كانت تخجل , تشعرُ انّهما في مكانٍ ما
انّهما لم يموتا
اقتربت حتى شارفت على السقوط إنْ صرخ احدٌ من خلفها !
شعرت بالدّوار وهي تنظرُ الى الأسفل
هنا احضرها ابوها مرارًا , هنا درّبها على حملِ السلاح
من هذا المنحدر علّقها بحبلٍ ورما بها لتتمسّك وتجاهد حتّى تسلّقت
شعرت بوجع قلبها يستصرخ روحها , وعصارةُ معدتها تصعد وتنزلُ لتزيد من دوارها
صرخت حين لم تعد تملك على نفسها قدرة
: يـــــــبــــــا
صمتت لثوانٍ , ثمّ بحرقةٍ كبيرة , بألمِ الفقد الأعظم
بمرارة اليتمِ الحاذقة
ببكاءِ طفلٍ لا زال يختبئُ فيها , رغم مظهرها الرجالي , والسلاح الذي على خاصرتها
رغم شعرها شبيه الحليق , ورغم ملابسها التي لا تقتنيها الّا من قسم الذكور
لا زالت الطفلةُ حيّةً فيها
رغمَ انّ اباها دفنها , ظلّت امّها تغذيها
بحرقةٍ احرقتها كما احترقت السيّارة امامها , بنبرةٍ هزيلةً باكية , صرخت
: يـــــــــمــــــه
اجهشت بالبكاء وجثت على ركبتيها , ضمّت كفّيها الى قلبها ونادت بضعفٍ واحتياج
: يمه , يمّه ابيج , ردّي لي يمه...
اضاعت الاحرف العربية التي حفظتها مجبرة
اضاعت كلمات الايطالية التي تعشقها وتتّخذها لغةً ام
اضاعت الانجليزية التي تعلّمتها كواجبٍ رسميٍّ في عمليّةٍ سريّة
اضاعت الاحرف الفرنسية المدلّلة التي تزاولها كهواية
وبكى فيها اليتمُ الذي ادركته
طغت لغةُ اليتمِ السوداء
انصاعت كلّ لغاتِ العالم , نكّست احرفها بحزنٍ امام بكاءِ يُتمها الذي يحرقها
بكت يتمها , بكت فقدها ابويها
روحيها !
النّجمتين البارزتين على كتفيها.
-
-
المملكة العربية السعودية – الخبر
العاشرة صباحًا
فتحت عينيها ببطءٍ حينَ غزّت رائحةُ القهوةِ رأسها
نهضت بخفّة ونظرت الى ثريا
قالت بهدوء
: صباح الخير
ابتسمت ثريا , وأجابت بحنوْ
: صباح الخير مس وجْد , السّت حصّة صاحية من ساعة , تقهوت وتنتظركم على الفطور
سألتها ببحّة
: دارين صحيت ؟
هزّت رأسها ايجابًا
: تاخذ دُش , ومس سُلاف في المشتل , والسّيد احمد يكون وصل الآن
هزّت رأسها ايجابًا
: عشر دقايق وانزل
انسحبت ثريا بهدوء
رفعت الكوب وارتشفت منه وهي تفكّر بنهم
منذُ ثلاثةِ ايّامٍ لا تنام
لا تأخذ كفايتها من الرّاحة
ان خرجَ من السّجن قد تقتله بيديها , لتريح قلبها المتّقدِ منذُ خمسةَ عشر عامًا
زفرت ونهضت من مكانها
,
بعد عشرةِ دقائق , دخلت الى صالةِ الطّعام
ابتسمت حين رأته على كرسيه , الذي هو جزءٌ منه
اقتربت من خلفه وانحنت , لتقبّل وجنته
قالت بخفوت
: صباح الخير
التفت اليها وابتسم بمحبّة
: يا هلا وغلا , الحمد لله على السلامة
مسحت على كتفه , واتّجهت الى جدّتها لتقبّل رأسها قبل ان تجلس على رأس الطاولة
: الله يسلمك , شلونك ؟
شرب من كوب العصير امامه , وقال
: الحمد لله , لزّموا الشباب ورحت معاهم الاستراحة
دون ان تنظر اليهِ قالت
: عسى ما تعبت ؟
زفرَ وقال
: اكيد صعب , بس استانست
ابتسمت بهدوء , ثمّ التفتت الى دارين
: دارين وش مشروعك اليوم ؟
: بروح للمشغل , ويمكن انزل السوق
: الغي , مايا ارسلت مسج تبيك تروحين التدريب
تأفّفت , ثمّ قالت بطريقةٍ مضحكة
: وجْد وش هوس الخيل اللي عندك , كل قرية ندخلها في العالم تدخّليني نادي
ضحكت , وهي من النوادر , ثمّ قالت
: اعوّض نقصي فيك , ما عندي وقت اركب خيل , انتي ما عندك شي
قال احمد بضحكة
: يعني عشانها فاضية ما غير تطربق على الخيول ؟
بزفرةٍ قالت
: تسوّي شي ينفعها , افضّل انها تركب خيل وتسبح وتقرأ , على الاسواق والمشاغل وذا الكلام الفاضي
قالت الجدّةُ قاطعةً حديثهم
: غازي جاي يزوركم , محد يطلع
وضعت الشوكةَ في فمها , ثمّ ببرودٍ قالت
: عندي شغل
قالت جدّتها برجاء
: عشان خاطري يا وجْد , عمّك مشتاق لك يبي يشوفك
بسخريةٍ قالت
: مشتاق لي ؟
قبل ان يجيبها احدٌ قالت
: بطلع المكتب اشتغل , ان جا بسلّم عليه واطلع , ويمكن اطلع للرياض عندي شغل في الامن
رفعا سُلاف واحمد رأسيهما فورًا
قال احمد بتردّد
: وش عندك
لم تجبه
حمحمَ ثمّ قال
: لا تروحين , ما بتقدمين ولا تأخرين , الموضوع منتهي
قالت الجدّة مستغربة
: وش صاير ؟
لم تعلّق , واكملت طعامها
قالت سُلاف لوالدتها
: ما في شي يمّه
قال احمد بصبرٍ نافذ
: لا في , خـ...
قاطعته وجْد بحدّة لتلفت انتباهه الى دارين
: عمّي !
نظرَ الى دارين وصمت
وضعت دارين حبّة زيتونٍ في فمها , ونهضت وهي تقول بلا مبالاة
: شلون تتكلّم والبزر ذي معانا ! خلاص قمت خذوا راحتكم تناقشوا بخططكم ومؤامراتكم
ابتسم احمد , وقال
: انتظريني بجي العب معك سلة بعد شوي
هزّت رأسها ايجابًا وصعدت الى الأعلى
قالت الجدّة
: قول
قال بزفرة
: خالد بيطلع من السّجن
صمتت لثوانٍ , ثم قالت بغصّة
: طلعت روحه ان شالله
نهضت وجد من مكانها , وقالت
: بطلع للرياض واشوف
قالت جدّتها بارتجاف
: لا تروحين , ان طلع خل يطلع , بيظل ذنبه يلاحقه , ما بتقدرين تمنعين العفو عنّه ولا بتقدرين تظيعين مفتاح زنزانته , خلْ يولّي
ضعفت ساقيها , لتجلسَ مجدّدًا
قالت بنبرةٍ مهتزّة
: ما راح اقدر اتنفّس ان طلع
شدّت سُلاف على كتفها , وقالت بحنوْ
: يتهيئ لك , العمر مشى وخلّص , لو ما كنتي بتتفّسين كان ما قدرتي من يومها , ماهو الحين
صمتت لثوانٍ , ثمّ نهضت وقالت بهدوء
: عن اذنكم
صعدت الى مكتبها , لتقول جدّتها بحرقة
: عسى غصّتنا بقلوبهم
-
دخلت الى مكتبها
أغلقت الباب واراحت جسدها اليه , واغمضت عينيها
ارتجفت , واحمرّ انفها النافر
بسبابتها وابهامها اليمنيين , شدّت على بداية انفها ما بين عينيها
تحاول تبديد الرائحة التي تغمرها اذا ذُكر اسمه
تحاول تشتيت الصراخ الذي يملأ اذنيها كلّما اغمضت عينيها على ذلك اليوم
اطلقت زفرةً قاسيةً مرتجفة
وفتحت عينيها واعتدلت في وقفتها
بتحدٍّ لنفسها اوّلًا , قبل اي احدٍ آخر
اتّجهت الى طاولتها لتنظرَ الى ملفاتها
متناسيةً الأمر , الذي هو جزءٌ منها
,
,
ايطاليا – روما
الثانية مساءً
دخلت مبنىً كبير , سارت في ممرٍّ طويل
قبل ان تدخلَ الى قاعة واسعة , امامها تمامًا مسرحٌ ضخم
ومقاعدٌ كثيرة منتشرة في القاعة
استمعت الى أنين الكمان وهي تقترب الى المسرح
التفت اليها من على المسرح ما عدا واحدة
نهضت احداهن وعدّلت نظّارتها
قالت بخفوت لألّـا تقطع خلوة الكمان وبكائه
: غنا , آسفة لما حصل لوالديك
اومأت بخفّة , وقالت بنبرةٍ ميّتة
: شكرًا لك استاذة هيلان
مرّت دقيقة , ليتوقّف الكمان عن نشيجه
رفعت صاحبة الكمان رأسها ونظرت الى غنا
تبادلتا نظراتٍ صامتة
يتّضح بكاءُ قلبيهما , وعناق روحيهما عن بعد
حمحمت الاستاذة هيلان ونهضت وهي تقول
: نحن سنخرج الى استراحة الغداء
نهضن الفتيات وخرجن من خلفها
لتصعد غنا الى المسرح , سحبت الكرسي وجلست عليه عكسًا
اتّكأت بذقنها الى خلفيته
قالت ببحّة
: شلونج
اجابتها الأخرى بهدوء وهي تضعُ كمانها ارضًا
: حال اي وحدة تتيتّم للمرّة الثانية
صمتت غنا لثوانٍ , قبل ان تسأل بوجع
: رزان
همهمت الأخرى
لتقول غنا
: اثّر فيج موت خالتي اكثر ولّا موت امّي ؟
ازدردت ريقها , ثمّ قالت
: امّي ما اذكر الّا مرضها , ماتت وانا صغيرة ما كملت سبع سنين , خالتي قضيت معاها عمري كامل
صمتت لثوانٍ , قبل ان تقول بغصّة
: ماتت يوم ميلادي الستة وعشرين
ضحكت غنا وهي تداري ادمعًا لعينة عن عيني رزان المدقّقة
مرّ وقتٌ حتّى قالت غنا بتساؤل وهي تشير بحاجبيها الى حقيبة رزان
: شهالملف ؟ شكله غريب !
سحبته رزان ونظرت اليه
قالت
: كان في خزنة امّي , استلمته يوم ميلادي
قلبت في الأوراق دون قراءة
قالت غنا بشرود
: فهمت احساس موت الأم , بس مو فاهمة احساسج بموت اللي تعتبرينها امّج وربّتج
سقط نظر رزان على كلماتٍ جعلت عينيها تتّسعان بصدمة
لم تستطع نفث شهقتها , لتسعل بشدّة
نهضت غنا ومدّت لها الماء
: بسم الله عليج , شربي شربي
ارتشفت منه , ثم وضعت كفّها على رأسها بلا تصديق
قالت غنا وهي تقترب من الملف
: شنو !
اغلقته رزان فورًا ونهضت تلملم اغراضها بتوتّر
: ما في شي
صمتت لثوانٍ وتوقّفت عن جمع حاجياتها , التفتت الى غنا وابتسمت بانهزام
: يمكن يجي يوم تفهمين موت اللي ربّتك
ضحكت غنا بسخريةٍ مريرة , وقالت
: اوصلج لمكان ؟
حملت حقيبتها على كتفٍ دون الآخر , وربطت سترتها الى الحقيبة
وتأبّطت حقيبة كمانها الحزين
: لا بتمشى , انتي وين رايحة ؟
: القسم
باستغرابٍ قالت
: مو عطوك اجازة ؟
قفزت من على المسرح , وقالت بنبرةٍ جرحت روحها
: ما ابي اجازة , ابي اشتغل ابي مهمّة اموت فيها
قفزت رزان من خلفها , وقالت بهدوء وهي تسير من جانبها
: لا تستعجلين , بتموتين اوّل وآخر
خرجتا من المعهد
لتقفانِ بصمت وتنظران الى رجلانِ امامهما
ابتسم احدهما , وقال بالايطاليّة
: اخبرتك انّهما هنا
قال الآخر وهو يقترب من رزان , بالعربية
: نصاب انا داري من قبله انّي بلقاك هنا
اقتربَ ليقبّلها , واشاحت بوجهها عنه
اقترب الآخر من غنا
عانقها , لتزفر وتسدل جفنيها المرتجفين , لتداري ادمعها
قالت رزان بضيق
: ما له داعي جايين هنا
تجاهلها ونظرَ الى غنا , قال بأسف
: عظم الله اجرك غنا
فتحت عينيها وابتعدت قليلًا , لتقول ببحّة
: يزاك الله خير
سحبتها رزان وهمست بحدّة
: لا تطولين مع ذا المتشرّد
نفضت ذراعها منها وهمست بحدّة هي الأخرى
: شوفي وضعج
فتحت عينيها بصدمة
: انا وحمد عاقدين ! بيننا نكاح شرعي !
رفعت كتفيها بلا مبالاة وقالت
: ما افهم بهالامور , اذا بتنصحين لازم اشوفج بالنفنوف الابيض جدّام الناس
ابتعدت عنها مع حمد , وقالت
: انتي مقرفة
تجاهلتها , والتفتت اليه
قالت
: اعذرني مارليينو يجب ان اذهب الى القسم
لامس شعرها القصير وقال بحنوْ
: تبدين متعبة
رفعت كتفيها ببساطة
: رحلَ والداي , الَا اكونُ متعبة ؟
ازدرد ريقه , لتقول ساخرةً وهي تخفي بركانَ غضبها
: هل فرحت لموتهما ؟ ايعقل ان تتجرّد من انسانيّتك وتفرح لموتهما فقط لأنّهما يعارضان علاقتنا !
قال بصدمة
: ايمكن ان افرح لذلك ! غِنا ماذا تقولين !
زفرت وفركت جبينها بقوّة , ثمّ قالت
: اعذرني , يجب ان اذهب
تجاوزته وركبت سيّارتها , لتبتعد عنه
,
,
الى الملتقى
-
اللهم انّ اعوذ بك من أن اضِلّ او أُضل , او اظلِم او اظلّم , او اجهَل او ان يجهلَ عليّ.
سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله , والله أكبر.
-
-