تملّكت الفؤاد بدونِ علمي
فما أزهى الفؤادَ وانتَ فيهِ
*احمد شوقي
-
المملكة العربية السعودية – الرياض
السادسة مساءً
خرجت من الحمّام تترنّح بتعب
جلست بجانب ابنةِ خالتها وتأوّهت
قالت ابنةُ خالتها مغتاضة
: ما باقي الا ترجعين بحضني
ضحكت بخفّة , ثمّ قالت بخفّة
: يا كلبة قاعد اجاهد عشان تصيرين خالة
صمتت لثوانٍ , ثمّ قالت بتصحيح
: تصيرين عمّة اقصد
قالت مستغربة
: وش دخلني بزوجك عشان اصير عمّة !
لم تجبها
مضى وقتٌ يسير لتدخل خالتها الى الغرفة
نظرت الى ميلاف مطوّلًا , لتعتدل ميلاف في جلستها
جلست خالتها وقالت وملامحها متضايقة
: وراك ما علّمتينا من قبل !
لم تجبها , لتقول ورْد
: وش فيه ؟
زفرت والدتها بضيق
لتنهض ميلاف وتخرج من الغرفة
اقتربت ورْد وجلست بجانبِ والدتها
: يمّه وش فيك ؟
مسحت والدتها على شعرها , ثمّ قالت
: غيث جاي يخطبك
لم تتغيّر ملامحها لثوانٍ
تدريجيًا ارتفع حاجبيها , واتّسعت عينيها بصدمة
عُقدَ لسانها , وهي تستمعُ الى والدتها التي قالت
: ابوك قال له لو تبي خذها بعبايتها
ظلّت صامتة , لتدمع عينيْ والدتها
: غيث حسبة ولدي , والله معزّته من معزّة فيصل , بس...
قطعت كلماتها وزفرت
نهضت تترنّح , وصعدت الى الأعلى
دخلت الى غرفتها
نظرت الى ميلاف المستلقية على سريرها
اعتدلت ميلاف وقالت بقلق
: وش فيك كأن احد صافقك كف !
ظلّت صامتة
لتضحك ميلاف رغمًا عنها
: تعالي
لم تتحرّك , لترفعَ ميلاف صوتها
: الووو , وررد
اقتربت وجلست بجانبها
بشهقةٍ صغيرة قالت
: ميلاف جدْ !
ابتسمت ميلاف وامسكت بيدها
: واخيرًا !
قالت بارتجاف
: ميلاف !
ضربت ميلاف رأسها بخفّة
: هوو صحصحي , يقلع ابليسك متخرفنة عالآخر !
فاجأتها ورْد بعناق
قالت بنبرةٍ مهتزّة
: غيث خطبني ! غيث يبيني !
ضحكت ميلاف وهي تشدُّ عليها
بعد لحظات ابتعدت عنها
وهي ترتجف توتّرًا وارتباكًا
امسكت ميلاف بيدها وسألتها بخوف
: بتوافقين ؟
لم تجبها
حينها رنّ هاتف ميلاف
اجابت وهي تنظرُ الى ورْد
: هلا حبيبي
صمتت لثوانٍ , ثمّ قالت وهي تنهض
: زين نازلة
اغلقت الهاتف وقالت
: بنمشي , بتّصل عليك بعد شوي
لم تجبها ورْد , ونزلت ميلاف الى الأسفل
ارتدت عباءتها وودّعت خالتها المتضايقة
خرجت لتجدَ فيصل مع غيث في الخارج
قالت وهي تسيرُ ناحيتهما
: شلونك فيصل
: هلا ميلاف , الحمد لله وانتي ؟
: الله يسلمك بخير
ركبت السيّارة , وبعد ثوانٍ ركبَ شقيقها
قالت بغيض
: حلت لك القومة لمّا سألتها بتوافقين !
قال مبتسمًا
: اتركيها تفكّر وتستخير
قالت معترضة
: وش تفكّر , توافق غصب
زفر وقال
: والله حاس انّي بندم لأنّي طاوعتك
: اعوذ بالله فاول خير , الله يهنّيكم ويسعدكم
بسخريةٍ قال
: اللي يسمعك يقول بكرة بنتزوّج , والله ان ضغطتي على البنت يا ميلاف...
قاطعته فورًا
: لا تتدخّل بيننا , الله بصير حماتها بطلّع عينها
انفجر ضحكًا دون ان يعلّق
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السابعة مساءً
دخلا الى المنزل معًا
تلاشى التّوتر بينهما تدريجيًّا خلال يومان
قفزت سنا حينَ سمعت صوتَ الباب
ابتسمت لرؤيتهما معًا
قالت بطفولية
: وش جبتوا لي
مدّ اليها عبد المحسن كيسًا
: خذي وعطي حضرة المفوّضة
دخلت الى المجلس قبلهما , وهما من بعدها
اتّجهت الى غِنا التي تجلسُ في نهاية المجلس
: تشربين كولا ولا ببسي
: ما ابي شي
قال عبد المحسن
: جيبي سنا خل تولّي ماهي كفو
رمت له سنا احدى العلبتين , ليعقد حاجبيه
: جيبي الكولا يا نصّابة
ضحكت وتجاهلته
جلست بجانب والدتها
: خذي ماما
اخذت والدتها قطعة حلوى منها وهي تنظرُ الى التلفاز
قال عبد الوهّاب وهو ينظرُ الى الملفّاتِ امامه
: متى ترجع محسن ؟
: الاسبوع الجاي ان شالله
التفتت اليه سنا فورًا , قالت برجاء
: ما شبعت منّك
استرخى في جلسته
: احمدي ربّك جيتكم اصلًا , وليتني ما جيت
قالت غِنا دون ان ترفع رأسها عن الهاتف
: ليتك
تجاهلها , لتقول سنا
: طيّب متى تجي المرّة الجاية
بزفرةٍ قال
: وش اسوّي جاي ؟! وش الفايدة يعني ! كلّها كم يوم ويذيع صيتكم في الرياض , انا واحد ما اتحمّل لو اسمع كلمة من احد افجّر فيه , خلّوني بعيد عن خرابيطكم
عاتبته والدته بعينيها , ليقول بواقعية
: جد والله , سلمت جدّتي فجّرت فضيحة من عيار ثقيل , عاد ليت بنتك ماكلة تبن ومنثبرة بايطاليا , لا جاية تورينا خلقتها وتستعرض
ضحكت غِنا باستفزاز
قالت سنا متجاهلةً حديثه
: وهّابي شتسوّي ؟
ببالٍ مشغولٍ قال
: اشتغل
قال عبد المحسن
: ذي القضية اللي عطاك ايّاها طلال ؟
هزّ رأسه ايجابًا , وقال
: والله ملخبطة ومهمّة , لنا فترة نشتغل عليها ومو قادرين نفكْ ولا خيط
ازدردت ريقها وعينيها على الملفّات
قال عبد المحسن
: اشوف
مدّ اليه احدها , وانشغل بالباقي منها
همّت بالنهوض اليه , وقاطعها هاتفها
اجابت بزفرة
: هلا رزان
: شتسوّين ؟
بالايطاليّة قالت
: احدهما يحمل ملفّاتِ قضية معقدة , اكاد انقضُّ عليه
ضحكت رزان , وقالت
: عدال يا المدمنة
: صدّقي انّي سأعود الى ايطاليا فقط من اجلِ عملي , اشعر بالملل !
: اشتغلي طيّب , خذي كورس قريب مجالك بس ينفع تشتغلين في بالسعودية
بعنادٍ قالت
: اريد ان اعمل كمفوّضة واترقّى ايضًا
قال عبد المحسن ساخرًا
: والله يمكن انها تشتمنا وما حنّا دارين
قالت وهي تنظر اليه
: اخرس يا احمق
قال تحسّبًا لما قالته
: كلي تبن
انفجرت رزان ضحكًا
لتبتسم غِنا , وتقول
: اخرق , طفلٌ ابله يحاول ان يردّ بأيّ كلمة
قال عبد المحسن
: ما الحيوان غيرك
هنا انفجرت غِنا ضحكًا
وابتسما والدتها وعبد الوهّاب
قال عبد الوهّاب دون ان يرفع رأسه عن ملفّاته
: يا اخي اتركها وش تبي منها !
قالت غِنا
: اصمت انت الآخر
رفعَ رأسها وعقد حاجبيه
: تكلميني ؟
رفعت احد حاجبيها , ليقول
: قاعد ادافع عنّك لا تسبّين
قالت سنا محتجّة
: ابي اتعلّم ايطالي , ودّوني ايطاليا
قال عبد المحسن
: اخسي واقطعي
قالت رزان
: ذا عبد المحسن ؟
قالت بالعربية , وبحدّة
: رزان اكلي تبن
التفتوا اليها جميعًا
لتشتّت نظرها , وتقول رزان من بين اسنانها
: يا حيوانة , الحين وش يحسبوني قايلة !
قالت ساخرة , بالايطاليّة
: وما شأنك بظنّهم ؟ لم يكونوا يهمّونك !
ظلّت رزان صامتة
لتقول غِنا بجديّة
: اعيدي عقلكِ الى رأسك , وداعًا
اغلقت الهاتف ووجهها عابس
ان علم حمد ان رزان فقط تنظرُ الى غيره سيقتل نفسه !
,
,
فرنسا – باريس
الواحدة مساءً
رفعت كتفها لتثبّت الهاتف على اذنها , وهي توقّع على ملفٍّ بين يديها
قالت
: فتّح عيونك عدل يا محمد
: لا تشيلين هم طال عمرك
: دارين ما تطلع من البيت صح ؟
: بس للجامعة
قالت وهي تمسك الهاتف بكفّها وتمدّ الملفّ الى الموظف
: وعمّي احمد ؟
: طال عمره جمع اخوياه امس , من العشرة للوحدة ومشوا
: وسُلاف ؟
: ما طلعت الّا يوم سفرك
: تمام , يعطيك العافية
اغلقت الهاتف ودخلت الى مكتبها , ليرنّ الهاتف بيدها
أشغلت الخط , ثمّ اتّصلت بداليا
: هلا داليا , شلون الوضع ؟
: ابد كل شي تمام , قاعدة قدّامي الحين
: من حولها ؟
: بنات من دفعتها , اعرف اسماءهم كلّهم , ما في اسم من اللي نبهتي عنهم
: ما تماشي غير بنات دفعتها ؟
: لا , تطلع وتدخل معاهم للقاعات
: تدخلين كل المحاضرات انتي ؟
: بعضها ما يسمحون لي او يطردوني الدكاترة , لكن عندي قائمة الحضور
زفرت , ثمّ قالت
: تمام , بلغيني لو صار اي شي
: ان شالله
: يعطيك العافية , مع السلامة
اغلقت الخط
ونظرت الى اتصاله
انتظرته حتى انهاه , ثمّ اقفلت الهاتف بأكمله , وفتحت ملفًّا لتعمل
,
" الرقم الذي تّتصلون به غير متاح حاليًّا...."
اغلق الهاتف وتمتم
: سقط عني الذنب
اشار باصبعينِ للسائق , ليفتح له الباب
نزل من السيّارة , وانزل النظّارةَ عن عينه
واتّجه الى المبنى
في كل خطوةٍ يخطوها , يعودُ يومًا الى الخلف
يتذكّر الشهر الماضي
لا يعلمُ كيف وماذا حصل
كيف دخلت حياته , وكيف اقتحم حياتها
كيف بدأ الأمرُ بالرسائل الصباحية , او المسائيّة , او حتّى للعمل
واستمرّ لتصبح رسائل على مدار اليوم
ومكالماتٍ متفرّقة , لا يطيلونها لئلا يفسدوا سحرَ الرسائل
صعد الى الدورِ الرابع , وخرج من المصعد
سارَ الى مكتبها
لتقف الموظفةُ في وجهه
: سيّدي , السيّدة وجْد...
قال بخفوت
: ششش
ابعدها من امامه بهدوء , ودخل الى المكتب
قالت بانزعاج دون ان ترفع رأسها
: ماذا هناك ؟
اغلق الباب , لترفع رأسها
صُدمت من رؤيته
لكنّها لم تغيّر ملامحها ابدًا
قالت بهدوء
: اهلًا
اقترب ليجلس امامها
قال بهدوءٍ هو الآخر
: متى كنتي تفكرين تجاوبين اتّصالاتي ؟
ببرودٍ وهي تعيدُ نظرها الى اوراقها
: ما فكرت اجاوب
: ليه ؟
ابتسمت نصف ابتسامة
: عشان لا اعرضك لإحراج وتضطر تكلّمني على انّي رجّال
: وجْد
رفعت رأسها , وقالت بجمود
: لا تبرّر شي , احنا – شدّدت على الأحرفِ وقالت - اصدقاء ونتفهّم بعض
ابتسم ببرود
: ما ابي ابرّر شي , رشا زوجتي وش ابرّر فيها ؟
شعرت انّ وريدًا انفجرَ في جسدها , ودماؤه تدفّقت الى ملامحها السمراء
ظلّت صامتة , تنظرُ اليه
اتّكأ بذقنه الى كفّه المرتاح على طاولةِ المكتب
: نتعشّى سوى اليوم ؟
قالت ببحّة
: لا
: ليه ؟
شعرت انّ غضبها يفورُ في رأسها
دون ان تجيبه ضغط على الجهاز الصغير
: رويدة جيبي ملف ادارة الانتاج
رفعت اصبعها عن الجهاز , قالت وهي تشتّت نظرها في الاوراق
: اذا ما عندك شي ثاني تفضّل , عندي شغل كثير
بنبرته تلك , التي تكرهها الى حدِّ ان تعشقها !
: وجْد !
رمت القلم بقوّة , ونهضت وهي تتنفّس باضطراب
: ضاري اطلع برّى , الحين
زفر وقال دون ان ينهض
: اجلسي
اراحت ذراعيها الى الطاولة , واعادت كلماتها بهدوءٍ حاد
: اطلع برّى
قال بحدّةٍ هو الآخر
: ليش معصبة ؟
دخلت رويدة , وصمتت حينَ رأت ضاري
قال ضاري
: حطّيه واطلعي
وضعته وخرجت مغلقةً الباب خلفها
فتحه وقلبه , ثمّ قال
: منكبّة على ذي الاوراق لك ثلاث ايّام , اتّصلت مليون مرّة ما جاوبتي , اجيك وتطرديني , معصّبة ومتنرفزة وقافلة معك , وتقولين احنا اصدقاء نتفهّم بعض , دامنا اصدقاء ونتفهّم
صمتَ لثوانٍ , ثمّ بعصبيةٍ قال وهو ينهض
: ليش معصبة اجل ؟ ليش !
فركت جبينها , وقد استنزفَ طاقتها لليوم
وجْد لا تتوتّر , وجْد لا تغضب ولا تصرخ ابدًا
وجْد لا يقفُ مخلوقٌ امامها ليسألها ويصرخ بها
قال مجدّدًا وهو يتخطّى طاولة المكتب , ليقف امامها دون حاجز
: ليش معصبة ؟
قالت من بين اسنانها
: لا تجبرني
ضرب الطاولةَ وقال
: ليش معصبة ؟
صرخت هي الأخرى , بالانجليزية
: قلب لك , قلب لك قلب لك
تابعت بالعربية وهي تتنفّس بغضب
: طول الوقت رسايل , ما تحمّلت السعودية بدوني وجيت باريس , مرسل لي بوكس للمطار , ترسل لي قهوتي في الخبر ومعاها ورقة , ويوم تكلّمني اتفاجئ انّ زوجتك معاك , وانّها متجهزة وبتطلع , وبأنّك تضطر تكلّمني على انّي رجال , ثم تقفل الخط بوجهي
رمت الملفّ الأزرق ارضًا , وقالت بجنون
: بعدين تجيني هنا وبكل وقاحة تقول رشا زوجتي ما ابرر فيها شي
ظلّ صامتًا , ينظرُ اليها بهدوء
حين افرغت غضبها , جلست على المقعد وهي تتنفّس بقوّة
اغمضت عينيها وفركت جبينها
ثمّ فتحتهما ونظرت الى وجهه
نظر الى عينيها لثوانٍ
ثمّ اولاها ظهره وخرج من المكتب !
,
,
المملكة العربية السعودية – الخبر
الحاديةَ عشرةَ صباحًا
مدّدت اطرافها بخمولٍ حين خرجت المحاضِرة
التفتت اليها احداهن
: دارين انا بروح اشوف اختي واشتري فطور , وش تبين ؟
: دونات واسبريسو
: اوكي , بجلس عند الدرج
هزّت رأسها دارين وهي تجمعُ اوراقها , ثمّ فتحت هاتفها لتقرأ رسالة وجْد
" اذا خلصت محاضرتك اتّصلي "
همّت بالاتّصال , لتشعرَ بأحدهم يجلسُ بجانبها
التفتت , ابتسمت بزفرةٍ وقالت
: هاي
قالت الاخرى بابتسامةٍ مستغربة
: وش فيك !
هزّت رأسها نفيًا , ثمّ قالت
: دايمًا اشوفك حولي , لا تكونين موظّفة عند وجْد ؟
توتّرت للحظة , ثمّ قالت
: من وجْد ؟
قالت بمحبّة
: اختي , اشتقت لها
: متزوجة اختك ؟
: مسافرة
ازدردت ريقها , وابتسمت باضطراب
لتسألها دارين
: الّا صحيح وش اسمك ؟
قالت بهدوء
: هناء
ابتسمت دارين بلطف
: تشرفنا يا هناء , انا بطلع , تحبّين تجلسين معاي ؟
قالت هناء مبتسمة
: اوكي
خرجتا معًا من القاعة , لتعقد دارين حاجبيها وتتأفّف فورًا
سألتها هناء
: فيك شي ؟
: شوفي البنت البيضا اللي حاطّة زمام وشعرها كيرلي
هزّت رأسها ايجابًا
: شفيها ؟
: هذه اختي مشغلتها تلاحقني
قالت بذهول
: وش درّاك ؟
ابتسمت دارين
: وجْد عبالها انا ما اعرف الاعيبها , البنت ذي وراي من اوّل يوم داومت فيه , وترسل لأختي كل يوم وش سويت وش اكلت من كلمت مع من مشيت
ضحكت دارين بمشاكسة
: لو نيّتك شينة بتعرف ترى وبتنفيك وجْد
تجمّد الدم في اوردتها لثوانٍ , قالت بارتجاف
: لـ... – ازدردت ريقها , ثمّ قالت – لا ليه نيتي شينة !
ضحكت دارين وتقدمتها الى الأسفل
لتفرك هناء جبينها وتتمتم
: الله يستر !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الواحدة مساءً
انزلَ الهاتف بزفرةٍ متضايقة
لا تجيب على اتّصالاته منذ يومين
لو لم يتّصل بجدّتها لما علم انّها بخير !
التفت الى شقيقته التي دخلت الغرفة
: حمد ما بتنزل ؟
بضيقٍ قال
: ما لي خلق
اقتربت لتسأله بقلق
: وش فيك ؟
هزّ رأسه نفيًا
: ما فيني شي , اتركيني رغد
جلست امامه ارضًا
بحنوٍّ قالت
: رزان اكيد !
لم يجبها , لتقول وهي تمسكُ بكفّه
: حمد انا ما اعارضك وانت تدري , بس بعد ما تهون علي اشوف وضعك وما اقول شي , حرام عليك نفسك يا اخوي ! اللي ما يبيك لا تبيه , اللي ما يجيك لا تروح له , يمكن رزان ما هي في نصيبك , واذا جينا للواقع ترى كلام وعد وامّي صحيح...
قاطعها بهدوء
: رغد ما ابي اتكلّم في شي
نهضت وقالت بشيءٍ من الخوف
: ابوي يبي يزوجك
رفعَ رأسه اليها بصدمة
لتهزّ رأسها بخوفٍ من نظرته
: بيخطب لك نور بنت الشيخ علي
نهض بغضب
: وش يخطب لي !
دفعها جانبًا ونزل مسرعًا الى الأسفل
دخل الى المجلس , قال بنبرةٍ تخنقه حتّى لا يصرخ في حضور والديه
: يبه
بهدوءٍ قال
: هلا , اجلس يا حمد
جلس وقال بصبر
: وش السالفة ؟ وش تخطب لي ! هماني مالك على بنت الناس ؟
: يحل لك مثنى وثلاث ورباع
ضحك بغبنةٍ وقال
: انا ما ابي اعدّد ! بتخلّي التعداد واجب يعني ؟
بحدّةٍ قال والده
: اللي عندك خلها عندك ما لي شغل فيها , الله العالم متى تتزوّجها بعد عشر سنين عشرين سنة , براحتك , انا ابي ازوجك واجيب عروسك لبيتي واشوف عيالك من ام صالحة حنا نختارها لك
قال بلا تصديق
: يبه !
: ما شرتنا في زيجتك الاوّلية , وانا وان سكت طول الفترة اللي فاتت لكنّك تخبر انّي موب راضي
نهض والده ليقطع الحديث
: بتتزوّج نور والّا مانت بولدٍ لي
خرج والده من المجلس , والتفت هو الى والدته مصعوقًا
ببرودٍ رفعت فنجان القهوةِ وارتشتفت منه
قال ببطء
: يمه قولي شي , ما بتجبروني وانا رجال بذا الطول !
وضعت تمرةً في فمها تلوكها ببرود , ثمّ قالت
: لا والله ما اجبرناك , خيّرناك يا يمّه
صرخ
: وش...
قطع صوته فورًا , استغفر بحدّة , ثمّ قال وهو يشدّ على اسنانه
: يمّه حرام تزوجوني غصب ! حرام عشان البنت , انا ما ابي غير رزان
ابتسمت والدته
: براحتك حبيبي , لمْ اغراضك واطلع وانسى انّ عندك اهل
ظلّ ينظرُ اليها بخيبةٍ كبيرة
مرّت ثوانٍ صامتة , ثمّ نهض وهو يقول بانهزام
: خسارة يمّه , جد خسارة
خرج من المجلس , ومن المنزل بأكمله
خرج الى الشارع يسير وكأنّ الدنيا على ظهره
ناداه احدهم , ليلتفت بصمت
قال جاره مبتسمًا
: شلونك حمد ؟ شلون الشيخ منذر ؟
هزّته سخريته من نفسه
الشيخ منذر !
والده الشيخ منذر
حافظ القرآن , امام الجامع , صاحب مجلّةٍ دعوية , يظهر اسبوعيًّا في برامج الفتوى
الشيخ منذر
سيجبره على الزواج او يتبرّىء منه
كم هو ناصعٌ جبينه الشيخُ منذر !
,
نظرَ الى ابنه مطوّلًا من الشبّاك
قلبه يؤلمه لحاله
من اين ظهرت هذه الرزان , التي هزّت وحيده عن آخره
استغفر بهمسٍ وهو يستعيذ من الشيطان
حتّى لا يندم على موافقته لسفر حمد قبل عامان
سافر حمد , سافر ابنه
ولم يعد بعدها
ضاعَ هناك
,
نظرت الى طيفه حين خرج
زفرت بهمٍّ وهي تضعُ كفّها على جبينها
كأنّ نبرته المنهزمة شطرت قلبها الى اثنين
وحيدها الذي وان تخطّى بطوله طولها , يبقى ذاك الطفل الذي دلّلته وحملته ودارته
يبقى الطّفل الذي تحميه من نفسه
وان كرهها , وان بغضها
لن تتركه لمتشرّدةٍ توجعه وهو مستلذٌّ بالوجع !
,
,
فرنسا – باريس
الخامسة مساءً
وضعت السماعة على اذنها
انتظرت لثوانٍ , ليأتي صوته مرحّبًا
: مس وجْد ! اهلا وسهلا
قالت ببحّةٍ وتعب , ادركهما فورًا
: فهد تعال باريس
قال بقلق
: وجْد وش فيك ؟ وش صاير
تماسكت بقوّة , وقالت
: تقدر تجي ؟
: سكري سكري , الحين اشوف
اغلقت الهاتف وتركته ليسقط في حجرها
مرّت ساعاتٌ وهي في مكانها
استصغرت نفسها حدّ الاشمئزاز
لامت نفسها ولعنتها الفَ مرّة
كيف سمحت للعوبٍ تافهٍ كضاري ليعبث بها
كيف اتاحت له الصعود الى برجها العاجي
كيف وهبته ابتسامةً لم يرَها سوى اهلُ بيتها
يا لعقلي الأحمق !
هل ظننتُ انّني انثى للحظات , هل نسيت عهدًا قطعته على نفسي
بسخريةٍ مريرةٍ زفرت
اهذا ما يقالُ عنه الذئبُ البشريُّ الذي اكتسح العالم قبل اعوام !
اغمضت عينيها تتذكّر حديثَ موظّفةٍ عندها قبل اعوام
" : البنت زي العلكة ياخذ الرّجال حلاوتها ثم يرميها ويدعسها "
تذكر انّها وبّختها امام زميلاتها
نهرتها على كلامها الجاهل , على الفاظها الغير لائقة
على الجملةِ الشوارعيّة !
قالت بخفوت
: آخرتك علكة يا وجْد !
استجمعت نفسها
اعتدلت في جلستها وهي تتنفّس بعمق
شهران او ثلاثة بعثر فيها ضاري مشاعرها
كل ما في الأمر اعجابٌ تافهٌ , قد زالَ اصلًا !
هي المخطئة منذ البدء
لم تنحنِ يومًا الى المشاعر , الى حبٍّ او اعجاب
ترفّعت دومًا , ربّما اصابها الفضول لمرّةٍ وحيدةٍ في حياتها !
تذكّرت حديث دارين التي رأت صورته في مقال
" : وجْد تعرفين ذا ؟
قالت بهدوء
: اشتغل معاه
قالت دارين بحماس
: يشبه باريش اردوج
عقدت حاجبيها
: من ذا !
في ثوانٍ فتحت صورته عبر هاتفها , ومدّته الى وجْد
: ممثل تركي
نظرت اليه لثوانٍ , ثمّ قالت بحذر
: كأنّ ضاري اوسم
قالت دارين وهي تنظر الى المقال مجدّدًا
: ضاري عربي , الجمال العربي واضح فيه "
دونَ ان تشعر بحثت عن الممثل ذاته
نظرت اليه مليًّا , ثمّ انتبهت الى نفسها
لتغلق الهاتف بتكشيرة
مرّ وقتٌ ليتّصلَ فهد
اجابته بهدوء
: هلا فهد
: وجْد لقيت حجز على بعد بكرة , تنتظرين ؟
: خلاص ما له داعي
: لا تلعبين بأعصابي !
زفرت , ثمّ قالت بهدوء
: شغلة بسيطة لا تشغل بالك , اذا جيت نتكلّم
بقلقٍ قال
: انتبهي لنفسك
: اوكي
ودّعها واغلق الهاتف
لتنهض وتجمع اغراضها خارجةً من المكتب
اعتدلت رويدة في وقفتها وقالت
: مس وجد اقلقتينا عليك كثير ! خصوصًا لما منعتي دخولنا عندك
: كنت اشتغل رويدة , ليش ما رحتي ؟
: ما قدرت قبل ما اتطمّن عليك
سارت من جانبها وهي تقول بعمليّة
: ما كان له داعي
نزلتا عبر المصعد
وخرجتا معًا من المبنى
فتح السائقُ الباب لوجْد
بعد ان اغلق بابها جلس في مقعده وابتعد عن المبنى
: هل الى البيت سيّدتي ؟
: نعم
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الرابعة مساءً
قال بلطف
: ابي اكلمها لا هنت يا عمّي , بسألها سؤال
التفت العمّ الى ابنه , مومئًا له ليناديها
نهض واقترب من الغرفةِ الأخرى
سمعَ بكاءَ والدته , ليدخل بقلق
: يمه !
التفتت اليه
: قول شي يا فيصل ! والله اعز غيث وانّه ولدي , بس غيث مريض مودّع ! ربّي بيسألني عن بنتي اذا عطيتها له
قالت ورْد بهدوء
: انا راضية
قال فيصل منكسرًا
: يمّه غيث بعد رجّال وعاش بالغربة عشر سنين يشتغل ويكدْ وما قرّب للحرام , هو بعد ودّه يفرح بنفسه ودّه يتزوج ودّه زوجة تداريه وتهتم فيه , ان ما عطيناه حنّا اهله من بيعطيه ؟
تأوّهت وهي تغطّي ملامحها الباكية
زفر فيصل , ثمّ قال
: ورْد البسي عباتك وتعالي , غيث بيكلمك
ارتبكت وقالت
: وش يكلمني !
: بيسألك سؤال , انا وابوي في المجلس مو لحالك
بارتجافٍ ارتدت عباءتها , ثمّ ذهبت الى المجلس
قالت بنبرةٍ خافتة
: سم
صمتَ لثوانٍ , ثمّ قال
: شلونك ورْد ؟
بخفوتٍ قالت
: الحمد لله
قال وهو يقف
: اسألك بالله , قدّام ابوك واخوك , ان كنتي موافقة شفقة نلغي الأمر , وان كنتي موافقة كزوجة لك حقوق وعليك واجبات , نتوكّل على الله
صمتت لثوانٍ , وقد اكتساها الخجل
ودّت لو تهرب
لكنّه سألها بالله ! وينتظرُ جوابها
قالت بوضوح
: ماني موافقة شفقة , مانت عاجز لا سمح الله عشان اوافق شفقة , ماهو انا اللي ارخص ولد عمّي وارضى فيه شفقة
ابتسم بخفّة , ثمّ قال
: تعرفين وضعي يا ورْد , اكذب عليك ان قلت فيه علاج , بتعيشين معاي متوقعة كل شي , ومنتظرة كل شي , انا مريض بالشين ويومين بالاسبوع ما اتحرّك من سريري لأن الجرعة تكون قوية , انتي راضية ؟
بلعت ادمعها , وقالت ببحّة
: راضية
زفر وجلس , ثمّ قال
: الله ييسر ما فيه خير
اشار اليها فيصل لتذهب
حينها التفت الى عمّه وقال
: وش تامرون عليه ؟
ربت عمّه على كتفه
: ما نامر على شي يا ابوك , البنت حنّا بنجهزها , والعرس نسوّيه مختصر وفي البيت
قال برفض
: ابد , مثل ما فرحت ميلاف تفرح ورْد , ومثل ما انزفّت ميلاف قدّام صديقاتها وحبايبها تنزف ورْد
ابتسم فيصل
ليقول ابو فيصل
: اخاف عليك ما تتحمّل الجهد ذا
: اتحمّل لا تشيل همّي – تابع بنبرةٍ هزّت عمّه – بس لا تطولون , ما عندي وقت طويل
قال عمّه بتأثّر
: قدّامك العمر ان شالله يا يبه , ان شالله باسبوعين يخلّص كل شي
التفت الى ابنه وقال بضحكةٍ مبحوحة
: يخلصون يا فيصل صح ؟
ابتسم فيصل بوجعٍ وقال
: يخلصون يبه ما عليك
نهض حينها غيث وقال
: اجل انا امشي , تارك ميلاف لحالها
زفر عمّه ولوّح مودّعًا
ونهض فيصل ليفسح له طريق الخروج
خرج مودّعًا ايّاهم , واتّجه الى المنزل
دخل ونادى
: ميلاف
نادته من المطبخ
: تعال
ذهب اليها
جلس على الطاولةِ وقال
:بعزمك على عرسي بعد اسبوعين
التفتت مبتهجة
: احلف !
ابتسم وهو يقضم من التفاحة
: حيّاك الله
بسخريةٍ قالت
: اشوف اذا كنت فاضية
رفع كتفيه بلا مبالاة
: اذا ما قدرتي ما هي مشكلة
ضحكت , وجلست على المقعد امامه
قالت بعد ثوانٍ , وبحذر
: وين بتسكنون ؟
: بدوّر شقّة
باستعطافٍ قالت
: وتتركني لحالي !
: ذا اللي باقي تسوّينه ! تبيني اجيب زوجتي واجي لبيت الرّجال ؟
بسعادة قالت
: فديت المنطوق , يقول زوجتي يا ناس !
ضحك محرجًا , ثمّ قال
: عطيتك وجه ترى , وش شايفتني لا يكون انتي الكبيرة ؟
ابتسمت , ثمّ قالت
: عبد الله يقول خلكم هنا انت وزوجتك , واذا رجع تطلعون
رفع احدَ حاجبيه , وقال
: يعني انتي مقرّرة عني وماخذة راي زوجك !
: وش اسوّي طيّب ! تبي تتركني بروحي يعني ؟ انت ضميرك يرضى ! ما شالله يبي يهد اخته ويروح يعيش مع بنت الناس ولا عاد يدري عنّي....
قاطعها بذهول
: ميلاف ! مسكتي الخط تراك
قالت باستدراك
: اي والله مسكته ! المهم بتظلّون هنا , فاهم
: الله كريم , انا بنام شوي
بحنوٍّ قالت
: نوم العافية حبيبي
,
,
الى الملتقى
-
سبحانك اللهم وبحمدك , اشهد انّ لا اله الّا انت , استغفرك واتوب اليك.