كاتب الموضوع :
عالم خيال
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: ابنة السماء..
الفصل الثاني {مبلغ الرجال}
مضت عدة سنوات على ججي وهي في تدريباتها اليومية الصارمة، وتقضي آخر ساعات النهار في التجوال على ظهر فرسها في التلال القريبة بحرية كبيرة بعد أن أصبحت أكثر مهارة في امتطائها واكتسبت ثقة مينار بها وبقدراتها.. وكلما ازدادت ججي اقتراباً من هدفها ونيل رضا أبيها عنها، ازدادت أمها حسرةً واكتسبت نظراتها مرارة رغم صمتها التام.. لم تجرؤ على الاعتراض منذ فعلت ذلك في المرة الأولى ولاقت رداً قاسياً من قادور، واكتفت بأن انشغلت بصغيرتها تينا التي سرعان ما أصبحت في الثامنة من عمرها وصارت تعاونها في أعمالها رغم صغر سنها.. وبينما فقدت ستينا ابنتها فاتي بعد زواجها ورحيلها لقبيلة أخرى مع زوجها، فإنها فقدت ابنتها الثانية أيضاً التي أصبحت بين ليلة وضحاها ابناً لم تنجبه قط..
كانت ستينا واثقة أن الأيام لن تطول بججي قبل أن تتملل من هذه التمارين القاسية وهذه الحياة الرتيبة، وستسعى عندها للتحرر من تلك القيود التي لا تناسب فتاة بعمرها.. لكن إصرار ججي ومثابرتها قد سببا لها قلقاً في البدء ثم ذعراً بعد ذلك.. بدا لها بوضوح أن ابنتها أكثر عناداً من أبيها، وأنها لن تتنازل عن هدفها أبداً ولن تتوانى عن تحقيق طموح أبيها المجنون بتحويلها لنسخة مشوهة من سيجان..
وفي يوم من الأيام، مع انتهاء النهار واقتراب الليل بشكل حثيث، وجدت ججي أباها يقتادها عبر المخيّم لجانب منه، حيث وضعت الماشية في سياج خاص بها بعد أن عادت من المراعي القريبة.. كانت ججي قد بلغت الثالثة عشر من العمر، وأصبحت طويلة كأبيها ونحيفة كأمها، لكنها لم تمتلك نعومتها وضعفها بل أصبحت أقوى ساعداً من كثير من الصبية الذين يماثلونها في العمر والذين بدؤوا تمارينهم في تلك السنة.. وأصبحت تقدر على حمل سيف سيجان بسهولة والتطويح به بدقة وثبات دون أن يسقط من يدها أو يخطئ هدفه بسبب اندفاعه القوي.. كما أنها تمتطي ظهر فرسها الغبراء كأفضل ما يكون وتعدو بها قاطعة التلال القريبة ولمسافات طويلة دون تعب.. وبعد إتقانها كل هذا، بدأ مينار تعليمها استخدام القوس والسهام ورمي الرمح وغيرها من المهارات التي يتقنها رجال الأكاشي إتقاناً تاماً..
وفي ذلك اليوم، تبعت ججي أباها بصمت بعد أن أنهت تدريباتها اليومية، وقرب موضع الماشية وجدته يناولها خنجراً متوسط الحجم في إشارة صامتة.. تناولت ججي الخنجر للحظة بصمت ونظرت إلى أبيها بشيء من الدهشة ثم نظرت تجاه الماعز الذي يتراكض في سياجه بكل نشاط.. فقالت بشيء من التردد "أأنت واثق من مقدرتي على هذا؟"
قال قادور بحسم "بالطبع.. إن لم تفعل، فأنت لا تستحق كل ما حصلت عليه.."
خفق قلبها بقوة لهذا القول.. هل فشلها يعني أنه سيجردها من كل ما منحها من مميزات؟.. ترعبها مثل تلك الفكرة أكثر مما يطلب منها فعله الآن..
تقدمت من البوابة الخشبية ودخلت متطلعة حولها، حتى وقع اختيارها على معزٍ صغير والذي بدا لعينيها مناسباً.. فاقتربت منه وجذبته من قرنه القصير وهو يضرب بأقدامه الأرض محتجاً ويدير رأسه محاولاً الإفلات من قبضتها.. لكنها لم تسمح له بالإفلات وهي تغادر به ذلك السياج مغلقة الباب خلفها.. وفي جانب بعيد، وبشيء من التردد، أجبرت الماعز على الاستلقاء أرضاً وهي تضع ركبتها على جسده لئلا يقاومها بينما أطلق ثغاءً حاداً وهو يركل بقدميه محاولاً الإفلات..
نظرت ججي للخنجر في يدها التي بدأت ترتجف، ونظرت لعنق الماعز بصمت وقادور يقف قربها.. فقال لها بلهجة آمرة "افعل هذا.."
شدّت ججي يدها على الخنجر وقربته من عنق الماعز، لكن عندما سمعت صوته المذعور وجف قلبها لذلك وأبعدت الخنجر وارتجافة يدها تزداد.. فصاح قادور بحدة "افعل هذا لو كنت رجلاً.."
لم تكن ججي تستنكر رؤية الماشية وهي تذبح وتسلخ، لكنها لم تفعله قط.. لم تواجه هذا الموقف بنفسها قط، وصوت الماعز ومقاومته يؤلمان قلبها ويزيدان الرجفة في يديها وهي تكاد ترفع ركبتها وتفلته من أسره.. لكن صيحة غاضبة من أبيها جعلتها تتجاوز ترددها في لحظة وهي تمسك رأسه بيدٍ وتدفع الخنجر نحو عنقه فتحزّه بأسرع وأقوى ما تملك.. بدأ الجسد الصغير تحتها بالانتفاض والدماء تغرقها، وبدأت الرؤية تغيم في عيني ججي وهي تشعر بالدموع تتجمع في عينيها وتسيل على وجنتيها.. لكنها لم تقدر على مسحها وهي منشغلة بما تفعله حتى تمكنت من إحداث جرح عميق وطولي في العنق، وظلت تمسك الجسد الذي انتفض انتفاضات قوية حتى همد تماماً ودموعها تتساقط عليه دون توقف..
لم يعلق قادور على دموع ججي التي حاولت كتمها قدر استطاعتها، ولما سكن جسد الماعز، قال لججي بهدوء "استخرج قلبه.."
نظرت له بعدم فهم، فقال لها بإصرار "افعل ما آمرك به.."
عادت ججي باضطراب إلى الجسد الصغير، فبدأت بشق صدره بشكل عشوائي بحثاً عن قلبه وهي تمسح دموعها بكم قميصها.. ولما عثرت عليه، قطعت العروق التي تتشبث به بإصرار، واستخرجته بيدٍ دامية ترتجف.. عندها قال لها قادور بصرامة "والآن، لكي تصبح رجلاً حقاً، عليك التهام هذا القلب حتى آخر قطعة.."
نظرت له ججي بصدمة كبيرة.. فهي رغم معرفتها بطقوس البلوغ التي يقوم بها فتية الأكاشي عادة، فإنها لم ترَ ذلك قط.. ولم تجربه قط بالطبع.. نظرت ليدها التي ترتجف والدماء تغرقها، ثم غمغمت بصوت حاولت تمالك رجفته "ألا يقوم الفتية بهذه الطقوس في الخامسة عشر من العمر؟"
فقال قادور بحزم "لكنك لست كأي فتىً آخر ولن تكون.. أنا أريدك أن تكون الأفضل.. أن تكون الأقوى والأشدّ بينهم.. لو قمت بذات التدريبات والطقوس التي يقوم بها بقية الفتية، فسيتضح الفرق بينك وبينهم بسرعة كبيرة.. لكنني سعيت لأن تبدأ باكراً، وتتقن كل ما يتقنه الفتية قبل أن يغادر أحدهم حضن أمه.. وبهذا، ستكون الأكثر تفوقاً بينهم بلا منازع.."
قربت ججي القطعـة الدامية من فمها، ولما شمّت رائحة الدماء القوية منها، غالبها غثيان شديد وهي عاجزة عن التصرف.. لو لم تنفّذ ما يطلبه أبوها، فلا تدري بمَ سيعاقبها جزاء عصيانها الأوامر، وربما يعْدِل عن فكرة جعلها رجلاً بالكامل، وهي لن تطيق أن تصبح مجرد فتاة..
تذكرت فرسها الجميلة الغبراء، وتذكرت الشعور الذي تتلهف عليه كل صباح بامتطائها والركض لمسافات طويلة وبكل حرية.. هل تتنازل عن هذا لتركب العربات الضيقة البطيئة مع بقية النسوة؟..
كان هذا التفكير جزءاً من الدافع الذي دفعها لإطاعة أبيها وهي تدفع القطعة الدامية في فمها، فاقتطعت قطعة بأسنانها وسارعت لابتلاعها وهي تقاوم الغثيان الشديد الذي شعرت به.. وإزاء النظرات الراضية التي حلّت محلّ الضيق السابق في وجه قادور، فإن ججي تشجعت أكثر وهي تقتطع قطعة أخرى فأخرى وتزدرد ما تقطع بسرعة ودون تردد.. وللدهشة انقضى الأمر بأسرع مما توقعت وهي ترى يدها خالية إلا من الدماء اللزجة والرائحة المنفرة.. لكن فرحة ججي بإنجازها لم تكتمل وهي تجد دموعها تسيل على خديها أغزر من السابق..
ابتسم قادور راضياً وقال مربتاً على كتف ججي "الآن، أصبحت رجلاً يا جام.. الآن أنا فخور بك أشد ما أكون.."
ابتسمت ججي ابتسامة مرتجفة، بينما قال قادور قبل أن يغادر "أكمل عملك بسلخ جلد هذا الماعز وإحضاره للمخيم.. سيكون هذا عشاؤنا لليلة.."
لم تملك ججي الاعتراض رغم أنها كانت تود الهرب من هذا المكان كله.. استاءت للضعف والتهاوي الذي شعرت به.. كيف ستقاتل أعداء أبيها إذا كانت تبكي لذبح معْزٍ صغير والتهام قلبه؟.. أليست رجلاً؟.. أليست من الأكاشي الأقوياء؟..
استمرت في عملها بصمت بعد رحيل أبيها رغم عدم خبرتها، وكادت تجرح نفسها عدة مرات حتى نجحت في جرح يدها اليسرى بين الإبهام والسبابة.. لكنها تجاهلت ذلك الجرح وذاك الألم وهي تستمر في عملها، حتى شعرت بمينار يقترب منها.. لم تلتفت إليه وهي مستمرة بما تقوم به وهو يركع قربها يراقب ما تفعله ويرشدها بكلمات بسيطة.. ثم قال لها مع مرأى الدموع التي أغرقت وجهها "لا داعي لكل هذا الذعر يا جام.. كنتَ ستمر بهذا عاجلاً أم آجلاً مادمت تنتمي للأكاشي، ومادمت قد عزمتَ على أن تصبح ما أنت عليه الآن.."
لم تعلق وهي تمسح ما سال من دموعها بكمها الملوث بالدماء، بينما أضاف مينار "رغم أن الوقت أبكر من المعتاد، لكن قادور يثق من أنك ستقدر عليه، ويثق أن هذا سيجعلك أقوى وأشدّ قلباً.."
غمغمت ججي محاولة تمالك نفسها "لا تقلق يا مينار.. أنا بخير.."
ربت مينار على رأسها بابتسامة راضية، ثم عاونها على التخلص من الأحشاء وتنظيف الجلد تمهيداً لتجفيفه ودبغه، وبعدها استخدامه في صناعة سرجٍ خاص لها بدل سرجها القديم الذي أصبح بالياً..
كانت ججي أقوى مما يتوقع الجميع، ورغم سنّها الصغيرة وقسوة ما يتطلبه منها ما تسعى إليه، لكنها كانت مثابرة وحريصة على عدم تخييب ظن أبيها بها.. كانت تسعى لتعويضه عن فقد سيجان، ولتنال كل المميزات التي حظيَ بها أخوها الفقيد في حياته، والتي لطالما حسدته عليها..
************************
في تلك الليلة، أقام قادور احتفالاً كبيراً في المخيم وأمر بالعديد من الماشية التي تخصه بأن تذبح وتشوى لإطعام القبيلة كلها.. كان هذا إعلاناً واضحاً لبلوغ ججي مبلغ الرجال، رغم صغر سنها عن السن المفترضة لمثل هذا وبتجاهل تام لكونها فتاة، ورغم سعادة قادور فإن الاستياء قد بدا بوضوح على كل رجلٍ من رجال القبيلة وشبابها وفِتْيتها.. لكن مع تدافع الصبية والنساء للاحتفال متجاهلين السبب الذي أقيم له، فإن بقية الرجال قد أرغموا على تجاهل ما يسبب لهم الضيق وانغمسوا في مثل تلك الاحتفالات التي نادراً ما تقام في مخيمهم وما تجلبه من سعادة وحبور بين أفراد القبيلة كلها لسببٍ أو لآخر..
ورغم أصداء الاحتفال العالية، فإن ججي بدت ببؤسٍ واضح وغمٍّ أوضح لم يغِب عن عيني ستينا التي انزوت في خيمتها رافضة المشاركة في ذلك الاحتفال.. ولما دخلت ججي الخيمة بحثاً عن ملابس تستبدل بها ملابسها الغارقة بالدماء، فإن ستينا قالت لها بصوت جاف وعصبية واضحة "هل أنتِ سعيدة لما أنتِ عليه الآن؟"
نظرت لها ججي بقلق، ثم اقتربت منها قائلة "لمَ أنتِ حزينة دائماً يا أماه؟.. ما الذي يزعجك فيما أفعله؟"
قالت ستينا بحنق "ما الذي يزعجني؟.. كل ما تفعلينه طوال النهار والليل.. حياتك كلها لا تعجبني يا ججي.."
ثم أدارت وجهها جانباً قائلة بغضب "لقد تجاوزت عن الأمر في البدء لأنكِ كنت صغيرة، وأنا لم أكن أستطيع معارضة قادور بشكل صريح.. لكنك الآن كبيرة بما يكفي لتدركي ما تفعلينه، ولتصححي هذا الخطأ العظيم.."
قالت ججي مقطبة "وما الخطأ فيما أفعله؟.. أنا لا أفهمك يا أمي.. أليس هذا أفضل مما لو كنتُ فتاة؟"
صاحت ستينا "أفضل؟.. أهذا ما ترينه حقاً أيتها البلهاء؟"
تزيد الغضب في صدر ججي لصياح أمها، فقالت بحدة بدورها "أجل.. أنا أراه أفضل بالتأكيد.. أليس هذا ما تمنيتِه طويلاً؟.. أتظنين أنني لا أدرك حسرتك لأنك لم تنجبي إلا إناثاً؟.. ألم تتحدثي أمام إحدى النسوة عن حزنك لما سيؤول إليه حال بناتك ورغبتك ألا يصبح حالهن مثلك؟.."
أخِذَت ستينا بقول ججي وهي تتراجع بظهرها للوراء وتنظر لثورتها بعينين متسعتين، بينما قالت ججي بحنق "كيف تريدين مني أن أسعى لأصبح ما تكرهينه أنت؟.. لقد فكرت طويلاً بكل ما أراه، وكل ما أسمعه.. أنا لست صغيرة كما تؤكدين أنتِ، وأدرك ما أسعى إليه بكل تأكيد.."
ونظرت لأمها بنظرة حازمة وهي تقول "كل ما أريده ألا أصير ما أصبحتِ عليه أنتِ وفاتي.."
نظرت إليها ستينا بمرارة وقالت بصوت متهدج "أنا لم أعنِ ما فهمته، ولست أكره وجودكن في حياتي أبداً يا ججي.."
ثم تشبثت بثياب ججي وهي تقول بصوت مرير "أنتِ سعيدة بما أنت عليه لأنك صغيرة، ولأنك بحماية أبيك وهو زعيم هذه القبيلة.. لكن الأمور لن تدوم هكذا لوقت طويل.. أتدركين ما سيحدث لو مات أبوك؟.. أتظنين أن رجال القبيلة عندها سيصمتون لما تفعلينه وهو وصمة عارٍ عليهم؟.. أتظنين أنهم سيسمحون لك بالاستمرار بهذه المهزلة بعد أن تصبحي امرأة يافعة وبعد أن تتناقل القبائل أخبارك بسخرية وهزء من رجال هذه القبيلة؟.."
وتدافعت الدموع من عينيها وهي تقول بحرقة "سيقتلونك يا ججي.. سيقتلونك دون رحمة في اللحظة التي ستفقدين فيها حماية أبيك.."
مدت ججي يدها ومسحت الدموع عن وجنتي أمها، ثم قالت بحزم "لا تحزني يا أمي ولا تقلقي.. لن أسمح بذلك أبداً.. ولن أتنازل عن كل ما حصلت عليه حتى الآن.."
أبعدتها ستينا بحزن عميق وقالت "افعلي ما تشائين يا فتاة.. لا سلطة لي عليك بعد الآن.."
زفرت ججي وهي تتطلع لظهر أمها المنحني، ثم استدارت وأنهت استبدال ملابسها ثم خرجت من الخيمة بصمت.. لم تكن بها أي رغبة للاحتفال في هذا اليوم بالذات، لكنها لم تشأ إغضاب أبيها أو تخييب ظنه.. فلتمضِ هذه الليلة على خير، والصباح كفيلٌ بأن يغسل خلافات الليلة التي تسبقه كلها..
ووسط المخيم، استطاعت ججي أن ترى النار العظيمة التي أشعلت وسطه والاستعدادات التي يقوم بها أفراد القبيلة للاحتفال بذبح الخراف وإعدادها للشوي وإعداد بعض الأطعمة والشراب الملائمة لهذا الاحتفال.. بينما جلس الزعيم مع الرجال الأكبر سناً في موقع قريب من النيران وعلى فراشٍ عريض فرش أرضاً وصفّت عليه الوسائد المريحة..
كانت الاحتفالات في المعتاد تضمّ بضع ألعاب يقوم بها الشبان على ظهور خيولهم في جانب مفتوح من المخيم، أو استعراض مهاراتهم في رمي الرمح، ورقصات حول النار تتنافس فيها الفتيات في إظهار رشاقتهن وقدّهن النحيل.. وفي هذه المرة، أرغمت ججي على المشاركة في لعبة رمي الكرة التي يقوم بها الشبان عادة ما بين الرابعة عشر والعشرين.. ورغم أنها تتلهف عادة للمشاركة في تلك المسابقات التي تبدو لها ممتعة، لكنها لم تكن تشعر بأي سعادة في هذا اليوم لهذه التجربة..
كانت تلك اللعبة تضمّ خمسة عشر شاباً في المعتاد، وتتمحور حول كرة من جلد الأغنام المدبوغ مخاطة بخيوط سميكة ومعبأة برمل لتتشكل بشكلها الكروي.. وعلى من يتمكن من اختطاف الكرة أن يرميها نحو أقرب منافس بقوة ويحاول إسقاطه من على ظهر حصانه، أما المستهدف فعليه أن يتفادى الضربة والسقوط بالتالي، أو يحاول التقاطها ويردها نحو غريمه بأقوى ما يملك.. والفائز من يتمكن من البقاء على ظهر حصانه للنهاية، ويُسقِط أكبر عددٍ من منافسيه.. ولا تنتهي اللعبة إلا بسقوط الجميع ووجود فائز واحد.. ولو طال اللعب لساعات لمهارة المشاركين في تفادي الهزيمة، يتمّ فضّ اللعبة بعد أن يستبدّ بالشباب الملل والتعب الشديد ليعودوا للنار مشاركين في التهام ما تمّ شيّه من لحوم واحتساء اللبن المختمر حاذق الطعم..
عندما تشكّل الفريق الذي سيشارك في اللعبة، فإن ججي كانت قد أحضرت فرسها الغبراء وبدأت امتطاءها استعداداً للمشاركة في هذه اللعبة.. ولما وضعت قدمها على الرِكاب ورفعت ساقها الأخرى لترفع نفسها فوق السرج، فوجئت في تلك اللحظة بشاب من الشباب المشاركين في اللعبة يدفع رمحه من الجانب الخشبي في كتفها بقوة حتى أسقطها من على ظهر الفرس بشكل أثار ضحك بقية الرجال.. التفت قادور الذي لم يرَ ما جرى لججي ورمقها بنظرة حانقة ظناً منه أنها قد تعثرت وسقطت بنفسها.. بينما نهضت ججي بسرعة ونفضت ملابسها بصمت دون أن تنطق بكلمة أو تظهر ضيقها.. وأسرعت تمتطي ظهر الفرس دون أن يحاول الرجال عرقلتها مع نظرات قادور المصوّبة تجاههم..
التزمت ججي الصمت ولم تعلق على ما جري متّبعة نصيحة مينار الدائمة لها بتجاهل إساءات بقية رجال القبيلة لها.. فكما وضّح لها مينار لاحقاً، لو أسرعت بالشكوى لأبيها عما يجري لها، فستظهر بمظهر الضعيف أمامه، وستكتسب كراهية مضاعفة من الرجال لو تدخل في أمورها.. وهذا ما لا تريده بأي حال في هذه الأوقات.. وفي الواقع، كانت معتادة على تصرفات الرجال نحوها منذ بدأت بتنفيذ طلبات أبيها ومنذ أعلنها ابناً له.. كان الغضب الذي يعمي عيونهم ويوغر صدورهم نحوها مفهوماً، فهم لا يقبلون بفتاة تمتطي ظهور الأحصنة مثلهم وتملك سيفاً مثلهم.. فكيف يمكنهم أن يقبلوا بأمر مثل هذا ليس له سابقة في تاريخ الأكاشي الذي يعتزّون به؟..
كانت في أوقات كثيرة تفاجأ بمجموعة من القاذورات تسقط على رأسها دون سبب، أو بمياه صقيعية تنسكب عليها في وقت مبكر من النهار.. وبينما وجدت سرجها ممزقاً شر تمزيق في أوقات كثيرة حتى أصبحت تحتفظ به في جانب خيمة أبيها، فإنها تجاهلت كل ما تمر به بصمت تام دون أن يعلم امرؤٌ بما يجري لها عدا مينار.. فهو الوحيد الذي يلاحظ ما تمر به ويعاونها بصمت على تجديد سرجها البالي وعلى تفادي أي مضايقات أخرى.. لكنه لم يقم ولا لمرة بالتحدث مع قادور أو مع الرجال عن هذا الأمر مفضلاً تركه لججي لتتدبر أمورها بنفسها.. وعلى كل حال، اعتبر مينار هذا خبرة ملائمة لججي لتنتبه لما يحاك لها وتستدرك أي مقالب قد تدبر ضدها..
بعد أن امتطت ظهر الفرس من جديد، جذبت ججي لجامها وركضت تابعة مجموعة الشباب تلك وهي تتلفت حولها حتى رأت ذلك الرجل الذي حمل الكرة ورماها عالياً وسط اللاعبين.. وسرعان ما اختطف أمهر اللاعبين الكرة من بين البقية، وكما توقع مينار الذي يراقب اللعبة من جانب المكان، وجّه ذلك اللاعب كرته بضربة قوية خاطفة نحو ججي أصابتها في رأسها وكادت تسقطها.. لكنها تشبثت باللجام والسرج بقوة واعتدلت متناسية الألم الذي ينبض في رأسها وهي تتلفت حولها بحثاً عن الكرة.. لكن شاباً آخر كان قد تناول الكرة قبل سقوطها ووجّهها في ضربة جديدة نحو ججي التي تفادتها هذه المرة وهي تدفع الغبراء للركض بعيداً عن ذلك الموقع حيث بقية اللاعبين يحيطون بها.. وبينما سقط أحد اللاعبين بضربة من آخر، وبعد أن أدارت ججي الغبراء مواجهة البقية، فوجئت بالكرة تنقذف نحو وجهها بقوة أصابتها بضربة على أنفها كانت من العنف بحيث أسقطتها أرضاً.. أصاب ججي دوارٌ عنيف وهي تعتدل جالسة بينما اللاعبون يركضون بخيولهم خلف الكرة التي سقطت خلفها.. وبينما تجاوزها بعضهم سعياً وراء الكرة، فوجئت ججي بأحد الشبان وهو يندفع نحوها بحصانه ويوقفه بحدة جاذباً لجامه بشدة.. رفع الحصان قائمتيه الأماميتين مطلقاً صهيلاً عالياً وعينا ججي تتسعان بذهول وهي ترى حوافر الحصان واضحة وقريبة منها.. ولو هوت تلك الحوافر عليها، فقد تدوسها مسببة لها إصابات خطيرة وربما تتسبب في قتلها مع حجم الحصان الكبير مقارنة بجسدها الضعيف..
ولما هوت الحوافر نحوها، والشاب على ظهره يبتسم ابتسامة متشفية، وجدت ججي يداً تجذبها من عنق قميصها فتبعدها عن ذلك الموقع الذي ارتطمت به الحوافر بقوة مثيرة الغبار بشدة.. بينما أوقفها مينار الذي سحبها وهو يقول للشاب القريب بغضب "ألن تكفّ عن هذه الألاعيب الخبيثة؟.."
قال الشاب بسخرية "لمَ تدافع عنها؟.. ألم تصبح (رجلاً) كما يقول الزعيم؟"
لم يعلق مينار وهو يسحب ججي خلفه ويجذب لجام فرسها لتبتعد عن موقع اللعبة التي استمرت وصوت الضحكات الهازئة يصل لسمع ججي بوضوح.. كان الدوار يُعشي عينيها والدماء تسيل من أنفها بسبب الضربة السابقة وهي تتبع مينار بوجه شاحب، عندما وجدا قادور يقف أمامهما قائلاً لمينار بصرامة "ما الذي تفعله؟.. لماذا تتدخل في لعبة يلعبها الشباب في كل احتفال دون أي مقاطعة من الرجال الأكبر سناً؟"
صمت مينار للحظة ملاحظاً الغضب في عيني قادور، ثم قال موازناً كلماته "هذه تجربة جام الأولى، وهو لم يعتد على اللعبة العنيفة هذه.. خشيت أن تدهسه الحوافر فلا يغدو قادراً على ممارسة تمارينه لوقت طويل.."
قال قادور بغضب "هذا لا معنى له.. كان على جام أن يتحمل مسؤولية أخطائه وتصرفاته.. تصرفك هذا يوحي للجميع أن جام ضعيفٌ لا يقوى على الدفاع عن نفسه.."
صمت مينار دون تعليق، بينما قال قادور بحنق أشد "أنا وكّلتك لتدريب جام، ولم أخوّلك وصياً عليه.. تصرفك هذا يجعلني متشككاً في قراري بشدة.."
قلبت ججي بصرها بينهما وهي قلقة من غضب أبيها وما قد ينتج عنه.. وخشيت أن يقوم باستبعاد مينار من تدريبها وهو أمر ستكرهه بشدة، لذا أسرعت بالوقوف أمام أبيها محنية رأسها وهي تقول "اعذرني يا أبي.. لن أكرر هذا الخطأ مرة أخرى.. لن أجد أفضل من مينار لتدريبي والعناية بي، لذلك أرجوك لا تلُمه على ما فعله.."
نظر لها قادور بضيق شديد، ثم استدار قائلاً "سنرى بشأن ذلك.."
وابتعد عائداً لموقعه السابق، بينما وضع مينار يده على رأس ججي قائلاً "لم يكن هناك داعٍ للاعتذار.. قادور ما كان ليفعل ما تخشاه أبداً.."
وابتعد تاركاً ججي واقفة في موقعها والأصوات الصادرة عن القبيلة التي لم تتوقف عن احتفالاتها يصيبها بصداعٍ شديد وكآبة أشد..
جلست ججي جانباً تتطلع لرقص الفتيات حول النار وضحك الرجال وأحاديثهم في جانب المكان.. خايلها أن تلك الضحكات مصوبة نحوها، وأن ابتسامات الفتيات هي سخرية منها، ولم يبتعد عنها هذا الشعور وهي تدير عينيها جانباً وكأنها تهرب من النظرات المختلسة نحوها بينما جلس مينار قربها صامتاً يحتسي شراباً دافئاً.. فقالت ججي بعد لحظات بصوت متهدج "أنا آسفة لغضب أبي الذي وجّهه نحوك يا مينار.."
قال مينار بهدوء "أنتَ لست فتاة.. فلا تتحدث كذلك.."
استدركت وهي تخفض وجهها قائلة "آسفٌ لذلك يا مينار.. لقد غضب أبي منك بسببي.."
قال مينار ببساطة "لا يهمني ذلك.. ما يهمني أنك بخير، فلا أريد تأجيل التمرينات القادمة بسبب إصابات في جسدك.."
فسألت ججي بشيء من المرارة "لمَ يكرهني رجال قبيلتي بهذه الصورة؟.. ما الذي فعلته لهم؟"
أجاب مينار "إنهم لا يرونك إلا كفتاة، وقوانين الأكاشي صارمة في هذا الأمر كما تعلم.. ما فعله قادور بإعلانك ابناً سابقة لم تحدث من قبل، وهذا يثير غضب وكره الرجال للمخالفة الصريحة لكل ما اعتادوه.. ولأنهم لا يقدرون على الاعتراض بشكل واضح أمام قادور، فهم يصبّون غضبهم عليك وأنت الطرف الأضعف حالياً.."
فقالت بهتاف "لكني لا أريد أن أكون ضعيفاً.."
ابتسم مينار قائلاً "لن تكون كذلك لو أطعتني.."
نظرت له ججي بفضول، ثم تساءلت "لطالما دار في ذهني تساؤلٌ عجيب.. لماذا وافقت على طلب أبي الذي يعده الجميع جنوناً؟.. أنت لا تظهر غضبك من وجودي وتعاونني كثيراً.. فما السر؟"
قال مينار "لأنني لا أستطيع أن أعصي طلباً لقادور.. وأثق به كثيراً رغم جنون طلبه.."
ونظر لججي مضيفاً "ثم إنني أصبحت أتطلع لرؤية ما ستصبح عليه بعد عشر سنوات من الآن.. ولا أظنه سيخيّب ظني بتاتاً.."
ثم عقب وهو ينظر للنار من جديد "إلا إن قررت أنك سئمت في يوم من الأيام وقررت العودة لكونك فتاة.."
هتفت ججي بإخلاص "لن أتمنى ذلك بتاتاً.. ولمَ قد أفعل ذلك؟.."
ابتسم مينار وربت على رأسها قائلاً "أنا أثق بذلك يا جام.."
عادت ججي ببصرها للنار البعيدة وللفتيات الراقصات حولها، ثم غمغمت بوجوم "لمَ قد أتمنى العودة كفتاة؟.. ما الميزة التي قد أجنيها من البقاء في ظل رجل آخر والارتكان لحياة هادئة بين عويل الأطفال وأعمال لا تنتهي دون أن أملك اختيار ذلك؟.. أنا لن أكون امرأة في يوم من الأيام.."
لم يعلق مينار وهو يحتسي شرابه.. ليس المهم ما تريده ججي وما تسعى إليه.. المهم ما سيفعله الرجال في الأيام القادمة، وهو لن يكون أكثر رحمة ورفقاً مما مضى.. ولو كانت ججي قد واجهت مضايقات من بضع فتية عابثين، فما الذي ستفعله عندما تواجه غضب رجالٍ أكبر سناً وأكثر قوة؟.. إنه يترك أمر هذا للأيام ليرى ما سيحل بججي عندها.. وما ستقرره بنفسها في ذلك الوقت..
************************
في اليوم التالي، وبينما كانت ججي تحمل سرجها متجهة للموضع الذي تنتظرها فيه الغبراء، وبعد أن تجاوزت صفّ الخيام القريبة من خيمة الزعيم، فوجئت بقدم تركل ظهرها بقوة وتسقطها على وجهها سقطة عنيفة.. تمالكت ججي نفسها وهي تنظر خلفها، فرأت عدداً من الفتية ممن لا يتجاوز عمر أكبرهم أربعة عشر عاماً وهم يقتربون محيطين بها بابتسامات هازئة.. حاولت ججي الوقوف لتتلقى ركلة من آخر أسقطتها أرضاً من جديد، فرفعت رأسها وهي تقول بحنق "ما الذي تبغونه مني؟"
أجاب أكبرهم سناً بسخرية "لا شيء.. أتينا لرؤية الفتاة التي سبقتنا في اختبار الرجولة.."
قالت ججي بحنق "أهذا ما يغضبكم؟.. ألأنني حصلت على ما لم تحصلوا عليه بعد؟"
قال الفتى بابتسامة ساخرة حاول إخفاء غضبه الواضح بها "استكمالاً لاحتفالات الليلة الماضية، نريد اختبار رجولتك المزعومة.."
فقالت بحدة "أنا لستُ أقل مهارة وخبرة من أي فتىً منكم، فلماذا تقومون بتحقيري بهذه الصورة؟.. لا تعتبروني فتاة ضعيفة أبداً.."
قال الفتى ضاحكاً "إذن أنتِ تعترفين أنك فتاة.."
لم يكن هذا ما عَنَتْه، ولم يكن هذا ما تريدهم الانتباه إليه في جملتها، وهذا أثار حنقها بشدة.. فقفزت على ذلك الفتى رغم أنه بضعف طولها وأسقطته أرضاً وهي تقبع على صدره، ثم وجهت له لكمة قوية بغلٍّ شديد بعد كل تلك الإهانات والمعاملة السيئة التي تحمّلتها سنواتٍ طوال.. ولم يكن الأمر يزداد هوناً مع مضيّ الوقت..
وجدت يداً تجذبها من شعرها القصير لتقف، ورغم ألمها الشديد، لم تتوانَ عن ركل الفتى الذي تحتها بقدمها في فكه بقوة، ثم استدارت ودفعت الآخر بجسدها بشدة.. وبعد أن أفلتها الثاني وهو يسقط، أسرعت تركله في بطنه بينما تقدم منها اثنان وحاولا إيقافها.. فأمسك أحدهما بذراعيها من الخلف، بينما وجّه لها الثاني لكمة قوية أتبعها بأخرى حتى سال الدم من أنفها.. ولما همّ بأن يلكمها مرة ثالثة، أوقفه أحد رفاقه وهو يهمس "مينار قادم.."
تجمد الفتية بشيء من القلق وهم يرون مينار يتقدم من موقعهم، وتوقعوا أن يثور غاضباً في وجوههم لما يفعلونه، لكنه سار بصمت حتى حمل سرج ججي الذي سقط أرضاً، ثم ابتعد به وهو يقول "لا كسور يا شباب.."
وغادر بصمت بينما الفتية ينظرون لبعضهم البعض بتعجب، ثم قال الفتى الذي يواجه ججي بسخرية "يبدو أنه تخلى عنك أخيراً بعد أن عنّفه الزعيم بسببك البارحة.."
وجد ججي تركل بطنه بقوة وهي تصيح بغضب "من قال لك أنني بحاجة للمعاونة؟.."
وأرجعت رأسها للوراء بقوة لتضرب الفتى الذي يمسك بها على أنفه، فصاح متألماً وهو يتخلى عنها ويمسك أنفه.. فاندفعت ججي بعد أن تحررت نحو الفتى الآخر وهي تطوح قبضتها بقوة، بينما اندفع بقية الفتية نحوها محاصرينها دون أن تملك فراراً من حصارهم..
وبعد وقت طويل، رأى مينار ججي تسحب قدميها نحوه بتعب واضح والدماء تسيل من أنفها وهي تمسحه بكم قميصها.. ولما وصلت لموقع مينار الذي كان يعتني بحصانه، زفر وهو يقول بضيق "ما الذي فعلوه بك؟.."
رفعت ججي يدها تلمس جرحاً سطحياً في خدها وغمغمت "بعد أن قاومتهم بشدة، حاول أحدهم إصابتي بخنجره بكل خسّة.. ولولا أن منعه أحد الفتية لكان أصابني بجرح أكبر.."
بحث مينار عن قماشٍ نظيف لتنظيف جرحها، فغسله بالماء وبدأ تنظيف الجرح قائلاً "من حسن الحظ أن الجرح سطحي.."
ثم ناولها القماش لتنظف الدماء التي سالت من أنفها، وعاد للاعتناء بحصانه ووضع السرج على ظهره.. فغمغمت ججي وهي تجلس جانباً بتعب "هل خشيتَ من غضب أبي لو تدخلت في ذاك العراك؟.."
تساءل مينار "وهل أنت غاضب لأنني لم أتدخل؟.."
هزت رأسها نفياً وعلقت "أريد أن أنهي أموري بنفسي.. لا أريد أن يعدّوني ضعيفاً بعد الآن.."
فقال مينار "ولهذا لم أتدخل.. وليس خوفاً من أبيك.."
ابتسمت ججي ابتسامة مشوهة مع الورم الذي بدأ يتكون في جانب وجهها.. في كل مرة يجد مينار وقتاً للحديث معها، تشعر ججي أن تعبها وحزنها لمعاملة الآخرين لها تتضاءل وشيء من الأمل يغزو نفسها.. إنه رغم قسوته عليها يشجعها، ويبثّ فيها بعض الأمل بأن ما تفعله لن يكون بلا طائل.. وأنها يمكن أن تصبح أفضل ببعض المثابرة والحماس، وهذا جلّ ما كانت بحاجة إليه في مثل هذه الأوقات..
************************
مع حلول تلك الليلة، اضطرت ججي للعودة لمنزلها بعد أن حاولت إلهاء نفسها والبقاء خارجاً أكثر وقت ممكن.. رغم أن أبويها كانت لهما شكوكهما بما تحصل عليه من مضايقات من شباب القبيلة، لكن ما جرى اليوم لا يمكن أن يغفلا عنه مع آثاره الواضحة على وجهها.. وهكذا، وقفت ججي أمام أبيها بوجه متورم وكدمة واضحة على عينها وجرحٍ في خدها.. نظر لها قادور بصمت دون تعليق وإن لمحت نظرة غير راضية في عينيه، بينما قالت أمها بارتياع "ما الذي جرى؟.. كيف أصبِت بهذا الجرح؟.. من الذي فعل ذلك؟"
وأسرعت لتنظيف الجرح الذي عادت الدماء تسيل منه بعد أن أهملته ججي طوال ساعات ذلك النهار، بينما قال قادور بصرامة "من الذي فعل بك ذلك؟"
قالت ججي بشيء من التردد "هو مجرد خلاف مع بعض الفتية في المخيم، وقد حاول أحدهم إنهاءه باستخدام خنجره.."
قالت ستينا باستياء "أي صبي يرفع خنجره في وجه.........."
ابتلعت الكلمة التي كانت ستقولها مشيرة لججي بأنها فتاة، وقد أدركت أن قادور لن يفوّت الكلمة بتاتاً.. بينما قال قادور "ولمن كانت الغلبة؟"
نظرت له ججي بقلق وصمت، فقطب متسائلاً من جديد "لمن كانت الغلبة يا جام؟"
زفرت ججي، ثم قالت بضيق "لم أتغلب عليهم.. فقد كانوا أكثر عدداً مني......"
ضرب قادور بيده على ركبته باستياء، فأسرعت ججي تقول "لو كان الأمر بالقوة أو المهارة، لتغلبت عليهم.. لكن لم يكن الأمر عادلاً وهم يفوقونني عدداً ولا يتوانون عن العراك بكل خسّة.."
قال قادور باستياء بالغ "أنت لم تبلغ مبلغ الرجال بعد.."
تشجعت ستينا من بين ضيقها لتقول بجرأة وحدة "هل تسخر منها؟.. أم من نفسك؟.. من ينظر لفتاة لم تتجاوز الثالثة عشر ويطالبها بأن تكون رجلاً؟.."
قالت ججي بحنق "أمي....."
بينما هدر قادور "اصمتي.. لا شأن لكِ فيما يخص جام.. اهتمي بأمر ابنتك تينا واحفظي لسانك لسلامتك.."
أحجمت ستينا عن قول المزيد، فيما قال قادور وهو ينهض "ما جرى دلّني أن وقتاً طويلاً سيمر قبل أن تصل لما أريده لك وأنا لا أملك الصبر الكافي لذلك.. لذا، سأدفعك بقوة أكبر لأحصل على نتائج أسرع.."
نظرت له ججي بعدم فهم، بينما تساءلت ستينا بقلب مقبوض "ما الذي تعنيه؟"
قال بجفاء "لا شأن لك.. اصمتي وسترين ما سيجري.."
وغادر المكان، بينما وقفت ججي مترددة فيما عليها فعله.. فأمسكت ستينا كتفيها قائلة بصوت مرتجف "ججي.. ارفضي ما سيطلبه منك أبوك.. أرجوك.. أعلني أنكِ ما عدتِ راغبة بأن تكوني كالرجال.."
قالت ججي بضيق "أمي.. حتى متى ستحاولين إقناعي بذلك؟"
قالت ستينا بصوت متهدج "لأنني أخشى عليك يا ابنتي.. أخشى مما ستصبحين عليه، وأخشى من المصير الذي ينتظرك.. لمَ لا تفهمين ذلك؟"
قالت ججي بحزم يتجاوز سنوات عمرها "مهما جرى لي، فسأسلك هذا الطريق لنهايته.. أريد أن أكون هكذا يا أمي، وأريدك أن تقتنعي أنني لن أكون شيئاً يخالف هذا أبداً.."
نظرت لها ستينا بمرارة وهي تتخلى عن كتفها، ثم تنهدت وهي تخفض رأسها قائلة "يؤلم قلبي ما تمرين به يا ججي.. لكن كيف أقنعك بسوء ما تسعين إليه؟.."
قالت ججي بلهجة قاطعة "لن تتمكني من ذلك يا أمي.."
ثم أضافت "ولا تنادِني باسم ججي أبداً.."
نظرت لها ستينا بغمّ شديد، ثم أدارت بصرها جانباً دون أن تعلن موافقتها على ذلك.. كيف يمكنها أن تعلن عن إلغاء هوية ابنتها والإقرار بهذه الحياة المشوهة التي تعيشها؟.. هذا ما لا يطيقه قلب الأم بتاتاً، حتى لو كان البديل أسوأ من هذا بمراحل..
************************
|